2

النسخ

1

2 2

3 ياسين الحاج صالح الفظيع وتمثيله م داو الت في ش ك ل س وريا الم خر ب وت شك ل ها الع سير 3

4 جميع الحقوق محفوظة الطبعة األولى 2021 صندوق بريد: 25-5 الغبريي بريوت لبنان هاتف: ترقيم دويل: منتدى المرشق والمغرب للش ؤون السجني ة ]مرشوع بتوقيع أمم للتوثيق واألبحاث[ إن اآلراء الوار د ة يف هذه الم ط بوع ة التي كان إن جاز ها ون رش ها ب د ع م م ن»م ع ه د الع القات الث قافي ة الخار ج ي ة«)ifa( )الم م و ل م ن و زار ة الخارجي ة األلاني ة( إن هذه اآلراء ت ع ر ح ر ا ع ن و ج ه ة صاح ب ها وناش ها وع ل ي ه فهي ال ت ل ز م بأي ش ك ل م ن األش كال الم ع ه د وال ت ع ك س بالر ورة م قار ب ت ه الم ؤ س ساتي ة م ن الم سائ ل م و ضوع الب ح ث والر أ ي. أي اد ب ي ض اء: ل و ح ة الغ ال ف ب ر ش ة : ع ز ة أبو ر ب يع ة ت ن ض ي د و إ خ ر اج: ه ش ام س ال م ح س ن خ ش اب الغ الف : إل يس ار الر ش ع يني ت ح ر ير و ت د ق يق: ص الح الچ يالين إش ر اف: ق ل م د ار الج د يد. 4

5 5 إلى سميرة دوم ا وإلى لقمان الشريك في اختبار الفظيع

6

7 ف ه ر س الك ت اب مداخل 9 لقمان والفظيع 17 إنتاج الفظيع الحب والتعذيب واالغتصاب واإلبادة 23 عالقات التعذيب السياسي ة 43 الس ن ة التدم ري ة: صيدنايا التحو ل العنصري اإلبادة 75 قبر للمرء جميع ه: تبد الت موت السوري ين وتغي رات حياتهم 107 تمثيل الفظيع مسالك حيال الفظيع 121 تحديق في وجه الفظيع 143 الكلوم والكلمات: في تمثيل األزمة وأزمة التمثيل 157 تعبير: الكلمات والعنف والدموع 191 ع رفان 209 7

8 8

9 مداخل الفظيع يجمع بين نصوص هذا الكتاب االنشغال بالفظيع: بما تخر ب شكله بعنف ما بالعنف المخر ب لألشكال كما بعوالم م خر ب ة خ ب ر ها ما ال ي حصى من السوريين خالل ما يقارب اليوم العقد من الزمان عوال م حياة تتزاحم فيها تجارب القسوة الرهيبة من تعذيب وسجن ومن فقد األحب ة ومن تدمير بيئة العيش ومن تجربة اللجوء وتشتت الشمل مسبوقة في حاالت كثيرة باالقتالع والتهجير. تتناول بعض النصوص ت ح ط م األجساد وبعض ها ع م ل م ح ط مي تلك األجساد وسنن عم ال الت حطيم وبعض ها مستجد ات الموت السوري وبعض ها الص و ر عن األجساد الم ح ط م ة ولكن كل ها تروي أطراف ا من سيرة عنف م ح ط م ي غ ي ر األجساد والعمران تغير ا منكر ا شنيع ا ومقلق ا. بل أكثر من هذا: بل غ من شناعة هذا التغي ر المنكر أن جعل م ن نالهم»الفظيع«من أحياء غير معروفين لنا ومن أشياء غير معروفة لنا... حت ى لتبدو الكائنات التي أدركها الفظيع غير ممكنة مستحيلة مثاالت من عالم مواز جحيمي. فقدان الشكل شكل األجساد وشكل بيئات الحياة وشكل سوريا 9

10 هو دعوة إلى التشكيل موج هة إلينا نحن مجتمع الفظيع... دعوة أن نستعيد شكلنا أو أن نتشك ل في صور أقبل للحياة. وبقدر ما إن الثقافة الفكر واألدب والفن هي عالم من التشكيل من صنع األشكال فإنها المجال الممكن لالستجابة لنداء عالم تلب سته الفظاعة وتجر د من شكله عالم مسلوخ الجلد ألن يحوز جلد ا وشكال. نصوص هذا الكتاب تنظر في شكلنا الم خ ر ب وتتطلع إلى أن تكون مساه م ة في تشك ل مغاير لنا. مقاالت/فصول يتوز ع الكتاب على قسمين متساويين تقريب ا. القسم األول من الكتاب يحيط بإنتاج الفظيع ومنتجيه فيما يعتني القسم الثاني بتمثيل الفظيع بكيفية التفكير فيه والتعبير عنه بما نول ده من أشكال استجاب ة لتحد ي التجريد من الشكل وكذلك بامتناع التمثيل وتعث راته وفشله. من حيث هو محاولة لتسمية ش رطنا فإن مفهوم الفظيع ذاته ال ي ر د إال في القسم الثاني. تجربة الفظيع تسبق التفكير فيه وتمثيله لكن لعل نا ال نمتلك هذه التجربة فنطويها دون أن نشتغل على تمثيلها واستيعابها ودون تحكيمها أو»أخذ رأيها«في أدواتنا وطرقنا في التعبير والتفكير. لم يعد مسلك ا مثمر ا من طرفنا ونحن سلف ا في العام العاشر من اختبار الفظيع أي من تقد م ف ق د شكلنا أفراد ا ومجتمع ا وبلد ا وثقافة أن نثابر على طرق التعبير والتمثيل وأدواتهما السابقة التي توس لنا بها خالل هذا العقد وأن ال نعمل على تطوير مجال التعبير/التشكيل/التمثيل. 10

11 طرقنا القديمة غير حس اسة لتجاربنا الجديدة المهولة. بل هي ت ط ب ع الهول عبر إدراجه في لغة وأساليب وتعابير سابقة له فتثلم الحس بالفظاعة بدل أن تشحذه. يتطل ع هذا الكتاب ألن يكون مساهمة في وعي الفظيع في زمن قريب من وقوعه يتطل ع ألن يحف ز غضب ا أخالقي ا وألن يدفع نحو اإلبداعية والعدالة. في القسم األول من الكتاب أربع مقاالت تعني األولى الحب والتعذيب واالغتصاب واإلبادة بما يجمع المدركات الثالثة األولى من تجاوز للحدود رضائي في حالة الحب وإكراهي في التعذيب واالغتصاب وما يجمع التعذيب واالغتصاب واإلبادة من تجاوز حدود الفرد فالمجتمع فاإلنسانية. وتهتم المقالة الثانية عالقات التعذيب السياسية بإظهار أن التعذيب هو العالقة السياسية األساسية في سوريا األسد طوال نصف قرن وبالتالي على أن كل كالم في السياسة ينبغي أن يبدأ من هنا. أما المقالة الثالثة الس ن ة الت دم ري ة ف ت ف ك ر في تعميم نظام معسكر التعذيب في تدمر على سوريا بعد الثورة وتقابل بين نمط القتل األسدي وكل من شقيق يه النازي والستاليني وت رجع االستعدادات اإلبادي ة للنظام إلى تحو ل الطائفي ة بعد الثورة السوري ة بات جاه عنصري. وتتناول المقالة الرابعة قبر للمرء جميعه التغي رات الكبيرة في موت السوريين بالتوازي مع تحو الت حياتهم بعد تمردهم على الحاكمي ة األسدي ة. هذه الفصول األربعة تتكل م على إنتاج الفظيع ونظامه. وفي القسم الثاني أربع مقاالت/فصول تتكل م على تمثيل الفظيع وإمكانيته: 11

12 المقالة األولى مسالك حيال الفظيع تعمل على تعريف الفظيع وتمي ز بين أربعة سبل مختلفة للتعامل مع خبرة الفظيع: الغضب واإلدانة الصمت واالنسحاب»اإلبداع«والعنف. تنظر المقالة الثانية تحديق في وجه الفظيع في النقاش السوري حول الصور الفظيعة وتنحاز إلى وجوب أن تتاح الصور للعموم بخاصة إن كنا ال نعاني مباشرة من واقع الفظاعة وهذا ألن ثقافتنا التحر رية المأمولة ست بنى على تجاربنا المدمرة الراهنة. يفك ر النص الثالث الكلوم والكلمات في تمثيل تجاربنا وأزماتنا ويمي ز بين وجهين للتمثيل التعبير المت صل بالتجارب والتشكيل المتصل بالتراث. وتنظر المقالة في تمثيل تجاربنا في إطار تصو ر أوسع للتمثيل يشمل التمثيل السياسي وتمثيل األعمال بدخول وعائدات... أم ا المقالة/النص الرابع واألخير: الكلمات والعنف والدموع فتحاول اإلجابة عن سؤال ماذا يحدث حين تفشل الكلمات وتنظر في قضي ة حر ية التعبير من زاوية مختلفة زاوية موت التعبير أو قتل القدرة التعبيري ة أكثر من قمع التعبير. سياسة المعنى هذا الكتاب محاولة لتوفير عناصر إضافي ة من أجل نموذج نظري ي مث ل»سوريا األسد«وي عر فها. وفيه كما في كل أعمال مؤل فه الكثير من السياسة. السياسة شرطنا ومصيرنا وما يتصل بها من تجارب مدخل م حت م إلى تجديد القول إلى تحريف ما سبق قوله وإلى تجريب أقوال جديدة. في مواجهة تجربة الفظيع النازعة لشكلنا إنتاج األشكال المعاني 12

13 والمفاهيم والتمثيالت والتعبير هو ميدان أساسي للصراع الصراع من أجل المعنى. أكثر من ذلك ي ظهر العقد الفائت أنه ليس هناك سياسة في ما ي ظن أنها السياسة في سوريا )وربما في نطاق أوسع حولها(. بقدر كبير تنحل السياسة المتعارف عليها في التعذيب والحرب التعذيبي ة من طرف الحكم األسدي وح ماته وفي الدين وأهله و»الجهاد«)وهو تعذيب وتغييب وليس حرب ا فقط( عند اإلسالميين وفي خنق الذات وأشباه الذات عند المعارضة التقليدي ة )التي أنحدر من أوساطها(. ثم ة سياسة في المقابل في الصراع من أجل المعنى في أن نسم ي ون عر ف ما خبرنا فال ن فصل بين المعرفة وبين التجربة أو بين المعنى والعناء. الرابط بين المعنى والعناء هو األرضي ة األصلح لتمثيل تجربتنا وص نع داخل ثقافي مغاير أو جمهوري ة معان تتجد د. صحيح أنه ال يتحت م لمن لم يكونوا شركاء في اختبار العناء أال يكونوا شركاء في إنتاج المعنى لكن يقتضي األمر جهد ا للتمث ل وحس المشاركة وهو ما يفتقده المرء في تناوالت خبراء سوريا والشرق األوسط ممن يتقاسمون في ما بينهم تأويل الشأن السوري في الغرب. هذا الكتاب يفك ر بنفسه ضد هؤالء وضد نوع المعرفة الذي يقد مونه. ال يريد القول فقط إن معرفة أخرى ممكنة وإنما كذلك أن المدخل إلى معرفة سوريا هو تجارب السوريين األشد للقسوة الفظيعة. عبر محاولة رسم بعض أوجه عنائنا األحدث والتفكير في تمثيله وتوليد المعنى منه نجعل من المعنى مجال صراع أساسي ونعمل لتطوير سياسة مغايرة سياسة المعنى. من شأن هذه السياسة أن ت سعف في تمل ك السوريين تجربتهم وت د ر جها في مسع ى تاريخي 13

14 لتغيير شكل سوريا من العنف والتعقيد من الفظيع وانعدام الشكل إلى التفكير المتجد د المنتج للمفاهيم واألشكال. تمثيل تجاربنا كركن ركين لسياسة المعنى يضعنا في موقع أقوى من أجل التمثيل السياسي والتكل م عن شأننا بأصواتنا. طروادة ليس معلوم ا إن كانت طروادة وجدت بالفعل يوم ا وما إذا كانت حربها التي استمر ت عشر سنوات مثل حربنا إلى اليوم قد وقعت بالفعل لكن اإللياذة واألوديسة خلقتا واقع ا أقوى من التاريخ. األساطير اإلغريقي ة والمسرح اإلغريقي وغير قليل من الفكر اإلغريقي يمد جذوره في سيرة حرب طروادة التي خلقها هوميروس )ليس معلوم ا إن كان شخصي ة تاريخي ة هو اآلخر(. هذا مثال كبير ال ي جارى. ولكن ليس القصد مجاراته بل التمث ل به. هناك مثال أقرب إلينا: الهولوكوست إبادة النازيين لليهود وهو اليوم أسطورة مؤس سة ليس إلسرائيل وحدها بل بصورة ما للغرب المعاصر. الهولوكوست»دين مدني» في الغرب المعاصر يستجلب درجات من الح ر م على م ن ي نك ره أو يشك ك فيه ألنه دين مشر ع مثل اإلسالم لكنه قبل ذلك وإلى جانبه مبحث هائل ال يزال ي كتب فيه وي قلب فيه النظر. هذا مثال تتعذ ر م جاراته كذلك لكن ال يتعذ ر تمثله. فرضي ة التمث ل ربما تفيد بأن تجربتنا خالل نحو عقد تجربة مرجعية وتمثيلنا لها مدعو إلى أن يكون مرجعي ا يشتبك معها يرويها وي فص لها ويجعل منها منعطف ا في الحساسي ة والتفكير والحكم وما تتواتر الدعوة إليه في متن الكتاب من ثورة ثقافية ثورة في التعبير والتمثيل في المعنى هو استجابة للصفة المرجعية لتجربتنا الطروادية وجهد الحتواء فشل الثورة السياسية واالجتماعية... ولعل 14

15 األصح أن مرجعي ة التجارب تضيع أو ال يبقى منها سوى ذكرى مختلطة أللم غامض حين ال يكون تمثيلها مرجعي ا يخاطب أعماق األنفس ويثير فضوال متجد د ا ويحف ز األذهان إلى أن ترجع إليه خالل عقود وأجيال. ياسين الحاج صالح برلين 21 تموز

16 16

17 لقمان والفظيع مساء يوم 2 شباط 2021 وصل تني من لقمان رسالة تقول: "هل لك بنظرات أخيرة على الفظيع قبل وضع الل مسات اإلخراجية األخيرة وت رك ه لمصيره ككتاب". "الفظيع" هو هذا الكتاب الذي بين ي دي القارئ. لقمان ي ضيف: "في الصفحة 84 مالحظة آم ل أال تفوتك". وي خت م: "على أن سالم". ألقيت النظرات األخيرة على الفظيع في اليوم التالي واعت نيت بالجملة الم عن ي ة لكن لسبب ما لم أرس ل رد ا يتضم ن الجملة السليمة. وفي اليوم الذي بعده كان لقمان قد أعد م في سي ارته بست رصاصات وهذا على طريق عودته من زيارة ألصدقاء في الجنوب إلى مسكن العائلة في ضاحية بيروت الجنوبي ة. قتلة لقمان معروفون إلى درجة أن عائلت ه رفضت تحقيق ا تقوم به السلطات اللبناني ة التي يشغل القتلة فيها موقع ا نافذ ا. في لبنان حزب اغتيال معروف له تاريخ في تصفية خصومه وخصوم الحكم األسدي في سوريا وله تاريخ أحد ث في قتل السوري ين ي رج ح له أن يكون أعمق أثر ا وأوسع ن طاق ا. ومثلما في دولة األسدي ين طوال فوق نصف قرن من تاريخها سار قتل الناس 17

18 وإعدام الحقيقة متعانق ين مثل حبيب ين ال يفترقان. في "كاتم الصوت" الذي كان آخر ما رأى لقمان من العالم يلتقي صنع الموت بقتل الص وت. مصيره مثال ناطق على ذلك العناق السام. الفظيع نموذج لتحطيم األجساد والعمران البشري ولت حطيم الحقيقة كنتاج لم داولة ح ر ة بين بشر م تعد دين. ال توج د الحقيقة خارج المداولة وخارج التعد د خارج أجساد تتحر ك وتتحاور بحر ية وأمان. خارجهما هناك االغتيال وهناك "الحقيقة" التي تقوم على االغتيال: افتداء حذاء ما. القتل الحقود للقمان يندرج ضمن نموذج الفظيع هذا الذي يتقص اه الكتاب في قسم يه قسم أو ل يتناول تحطيم األجساد وقسم ثان يحاول التفكير في تسمية وتمثيل تحطيم األجساد. يبدو هذا مبعث تشاؤم فالفظيع ال يستسلم للتمثيل: ي قتل لقمان ليقول إنه ال يزال في ريعان شبابه إن محاولة وصفه وكتابة سيرته سابقة ألوانها وإن م ن يفعل ي م ت. لكننا نعلم وكان لقمان يعلم أن الفظيع ال ينتظر أن ي سم ى ليستسلم مثلما نعلم أن تسميت نا له جزء من ص راعنا معه صراع كان م كل ف ا على الدوام كان اشتباك ا مع التعذيب والقسوة والخسارة كان الموت أفق ا دائم ا له. لقمان برهن على ذلك في حياته وفي موته. نحن ن روي لدينا قصص رهيبة ت رو ى. لكن هذا ال يعني قبوال بت قسيم عمل ي مليه الحذاء السيد: نحن نروي وهم يقتلون. هم يقتلون كي ال ن روي ونحن نروي كي ال ن قتل وال ن قتل لكن وقت ضرب اليد التي ت مس ك بكاتم الصوت آت. هذا الكتاب كان م هد ى إلى غائبة امرأتي سميرة الخليل غي بها أشباه لحزب االغتيال في لبنان وشركاء له في هدر الحياة 18

19 البشري ة على مذبح أساطير ميتة وم ميتة. والكتاب اليوم م هد ى إلى لقمان سليم شريك لسميرة في اختبار الفظيع الذي لم ي نج ولن ي نجو منه أحد في سوريا ولبنان إن هو نجا. ياسين برلين 16 آذار

20 20

21 القسم األول إنتاج الفظيع 21

22 22

23 ال يبدو أن هناك شيئين أكثر تباعد ا من الحب والتعذيب. الحب ي وح دنا مع غيرنا في عطينا قوة وثقة والتعذيب ي فر قنا عن أنفسنا فيكون أشد ما ي ضعفنا ويكشفنا. في الحب نخرج من نفوسنا إلى حبيب نمتلئ به وفي التعذيب ي الحقنا إلى داخل نفوسنا عدو يعمل على تفريغنا وتجويفنا. فيما عدا أن الحب والتعذيب عالقتان بين طرفين أو هكذا يبدوان للوهلة األولى إال أنهما على طرف ي نقيض في كل شيء آخر. لكن بين هاتين العالقتين ما هو مشترك وما ي ض يء ع ل ي هما مع ا: محو الحدود بين طرفي العالقة المباشرين. الحب الحب والتعذيب واالغتصاب واإلبادة في الحب نتخل ى عن حدودنا نسمح للمحبوب بعبور الحدود إلينا والدخول في عالمنا ويسمح لنا المحبوب بعبور الحدود إليه والدخول في مجاله. ال أتكل م على الحدود الجسدي ة ولكن أيض ا على حدود الفضاء الشخصي. الحب هو هذا االم حاء لصنف ي الحدود 23 مقاالت إلى سميرة )*( المقالة الخامسة من ثماني مقاالت رو سها الكاتب باسم زوجته المغي بة سميرة الخليل ون شرت عام )*(

24 وت ش ك لنا مع الحبيب في كيان واحد ت مث له غالب ا الس كنى في بيت واحد. وبقدر ما يزول الفرق بيننا يبرز الفرق بيننا نحن االثنين/الواحد وبين غيرنا بما في ذلك أسرتانا السابقتان. نصبح نحن واحد ا بعدما كنا اثنين وننفصل في اآلن نفسه عن وحداتنا السابقة أو نخرج في الحب من وحدتنا إن كنا م نفصلين سلف ا عن وحدات سابقة. من لطائف الحب اليومي ة ما يتداوله الحبيبان من نمائم عن معارفهما وحت ى عن أفراد أسرتيهما بمن فيهما أم يهما وأبويهما مما ال يجري تداوله عادة حتى مع األصدقاء المقر بين. ومن تعث رات الحب المؤلمة أن ت فشى هذه األسرار الصغيرة أو أن يستغلها أحد الحبيبين ضد اآلخر حين يحدث أن تتداعى عالقتهما وت عاود حدود جديدة االرتسام بينهما. ومن توت رات الحب أن نخاف من زوال حدودنا مع حبيب كي ال ننكشف ضعفاء فنقترب نحوه خطوة ونرجع خطوة أو ال نسمح بزوال حدودنا إال ألوقات محدودة لحظات الجنس مثال فتصير هذه اللحظات بالذات رمز ا للحدود ال لزوالها. الخوف من الحب على هذا النحو أو كره الحب شائع. وأعلى ذرى الحب تت صل بما يتكرر في أغنية الحب العربية: الذوبان الزوال التام للحدود بين الحبيبين. وهذا ال يقتصر على أوقات االتحاد الجنسي بل هو مما يمي ز الحياة المشتركة المديدة بين شريكين متحاب ي ن أيض ا. في كل حال الحب تجاوز متبادل للحدود وزوال متبادل لآلخري ة. و»الذوبان«فقدان التحك م بالنفس وضياع الحدود هو ما يخشى بعضنا الوقوع فيه وبخاص ة في الزمن المعاصر حيث يحمل كثيرون من ا حدودهم أينما ذهبوا كأن هم سالحف تحمل دروعها معها )وإن نكن اليوم سالحف متعج لة( وحيث يكاد يزول الحب لمصلحة 24

25 عالقات التعاقد العقالني بين أفراد. نريد الحب ونخشى الذوبان. الت ع ذيب في التعذيب زوال للحدود أيض ا يتجاوز فيها المعذ ب حدود المعذ ب أو المعذبة بما يمس بهذه الحدود وبالتكامل الجسدي للضحي ة. المعذ ب الجالد القائم بالتعذيب يطارد المعذ ب إلى داخل نفسه يعمل على أن ي فرغ هذا الداخل أو يحتل ه أو يدم ره. إزالة الحدود في التعذيب ف عل انتهاك عنيف وقد يكون مميت ا. تموت الضحي ة حين تفقد حدودها كل ها ويزول كل حد بينها وبين عالم األشياء. االنتهاك قسري من جهة يجري ضد إرادة المعذ ب وهو من جهة أخرى غير تبادلي. المعذ ب والمعذبة ليسا شريك ين في عالقة التعذيب ما يجعلها»ال عالقة«أو»ضد عالقة«إن جاز التعبير رابطة تدمير. يكون المعذ ب في وضع انكشاف شديد موشك على فقد ملكي ة نفسه جسده أو جسدها هو ساحة المعركة. يقاوم يحاول حماية حدوده بالتحم ل. ال يكاد يصدق أنه هنا أن ه وقع هذه الوقعة التي ال تنعكس. لكن عليه أن يصد ق كي يخوض المعركة موحد ا وينجو بما يمكن من جسده وداخله. يعرف أنه إن»انهار«تداعت حدوده ضي ع نفسه وقد ال يجدها من جديد يوم ا. في الحب يفقد فردان كيان يهما ليصيرا واحد ا في التعذيب قد يفقد المعذ ب أو المعذ بة كيانه يباح لفرد أو أفراد آخرين كأنما يرهنون سالمة كيانهم بانعدام سالمة كيان الضحي ة. باالستناد إلى الخبرة السوري ة خالل جيلين قد يمكن التمييز بين ثالثة صنوف للتعذيب وثالثة انتهاكات للحدود: تعذيب تحقيقي أو استجوابي تعذيب إذاللي/انتقامي وتعذيب إبادي. 25

26 التعذيب التحقيقي يلعب على حدود المعذ ب ينتهكها ويهدف إلى إثارة»حرب أهلية«في داخله نزاع بين غريزة البقاء الفردي وااللتزامات العليا للفرد ككائن اجتماعي حيال جماعة رفاق وشركاء. تتراوح مآالت هذه»الحرب في النفس«بين تضحية المعذ ب باألعلى والغيري فيه لمصلحة األدنى واألناني )بقائه( أو بموته حماية لما نسم يه في العربية سريرته موضع السر منه. هذا ما كان يتعر ض له أعضاء المنظ مات السياسية المعارضة التي يريد النظام إبادتها كمنظمات دون إبادة أعضائها بالضرورة. جريمة المعذ ب هي انحيازه السياسي المعارض للنظام انتسابه إلى مجموعة معارضة وليست فعال محدد ا قام به كفرد. لكن هنا انفصال بين جهاز االعتقال والتعذيب وهما واحد وبين جهاز الحبس شبكة السجون. بعد التحقيق أحيل المعتقلون الذين تعر ضوا لتعذيب تحقيقي حصر ا وكنت منهم في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته إلى»سجون عادية«كانت العقوبات الجسدي ة فيها محدودة. على أننا كنا ن شغ ل في السجون موقع ا معزوال عن غيرنا تديره أجهزة االعتقال والتعذيب ذاتها. السجون هي بمثابة مستودعات محروسة ن رك ن فيها ألزمنة غير معلومة أم ا المقر ات األمني ة التي تقوم باالعتقال والتعذيب فهي بمثابة مصانع. والمنتوج كما سيقال في الفصل المقبل هو السلطة. غرض الجال د أو باألحرى»البرنامج«الذي ينضبط عمله به هو أن ي سود على المعذ ب يجتاز حدوده ويقيم في داخله ويتجو ل بحر ية ي فر غه ويستولي على»دخيلته«. وجهد المعذ ب هو أن يحول دون ذلك أي أن يحمي ذاتي ته داخله األهم. 26

27 هناك صنف آخر من التعذيب التحقيقي يعمل على إبادة المعن ي ين تنظيم ا وأشخاص ا. وفي جيلي هذا كان من نصيب اإلسالميين بخاص ة. هنا يتجاوز األمر إثارة حرب أهلية في دواخل المعذ بين إلى احتالل دائم لمن لم يمت منهم. وهنا كانت ت محى الحدود بين التعذيب التحقيقي والتعذيب اإلذاللي. ومن هذا الصنف األخير أكثر التعذيب الذي خبرناه في سوريا: تعذيب انتقامي إذاللي غارات تعذيب مستمر ة وعشوائي ة مع ا ال تبالي بحدود المعذب وال داخله وال مصيره تضعه في»حالة استثناء«دائمة ال يستطيع توق ع ما يحدث له وال يتوق ع منه جهاز التعذيب شيئ ا. جريمة المعذ ب هنا أيض ا ليست شيئ ا محد د ا فعله وليست حت ى موقفه السياسي المعارض بل هي انتماؤه )نص قانون صدر في 7 تموز 1980 على إعدام كل منتسب إلى اإلخوان المسلمين أي ا يكن ما فعله أو لم يفعله(. ال شيء ي جدي المعتقل هنا وال ينفعه استسالم. يمكن أن يتعر ض المعتقلون لتعذيب عشوائي يومي لسنين طويلة العقدين األخيرين من القرن العشرين بكاملهما دون أن يكون متاح ا للمعذ ب أن يستسلم وينهي عذابه ومع هامش عريض من التسامح بموت المعتقلين. التعذيب في معسكرات تعذيب مثل سجن تدمر أيام حافظ وسجن صيدنايا في سنوات بشار من هذا الصنف الذي أرج ح أن يكون مقصوده صنع ذاكرة ال ت نسى موج هة نحو ما يتجاوز المعذ ب نفسه من ردع وترهيب الس كان كل هم. جسد المعذب المنكمش وكلماته المتقط عة هما بمثابة لوحة إعالن تخاطب من يراه كي يصير التماهي به ممتنع ا. 27

28 التعذيب بهذا المعنى عالقة سياسي ة ليس من يجري تعذيبهم غير ضحاياها المباشرين. هذا هو الحال على األقل في»سوريا األسد«التي هي دولة اعتقال وتعذيب منذ قيامها مطلع سبعيني ات القرن العشرين اقتضت أن تكون أجساد المحكومين مباحة لها بال حدود.»البرنامج«هنا هو تجاوز حدود المجتمع مما كان محسوس ا من ق ب ل سوريين كثيرين في أواخر سبعينيات القرن العشرين ومطلع ثمانينياته قبل أن يجري تطبيع تجاوز الحدود وتراجع استهوال أي انتهاك مهما يكن فادح ا أو انحصاره في دوائر أضيق. أتكل م على معسكرات تعذيب ألن هذا هو ما يجري هناك أساس ا. لم نعرف في سوريا معسكرات عمل قسري مثلما عرفت ألمانيا ((( النازية وروسيا الستالينية ولم نعرف»معسكرات الغرب لة«يجري فيها تجميع كل الناس في منطقة ما قبل االحتفاظ بمن تريد السلطات قتل هم أو تعذيبهم مثلما فعلت روسيا في الشيشان في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. لكن معسكرات التعذيب األسدية تقارب معسكرات القتل النازية من حيث إن تركيز السجناء فيها قد ي مهد لقتلهم الفوري أو بعد حين. سجن صيدنايا هو معسكر اعتقال ومعسكر قتل في آن. سجن تدمر في العقدين األخيرين من القرن الماضي مثله. وفي الحالين هناك استمرار بين جهاز االعتقال والتعذيب التحقيقي المفرط الحد هنا وبين معسكر التعذيب الذي يقضي فيه المعتقلون سنوات قد تتجاوز العشرين وهذا رغم االنفصال المكاني بينهما. التعذيب ال يتوقف بعد التحقيق يستمر حت ى موت المعتقلين أو ((( المقصود: Filtration Camps 28

29 خروجهم بعد سنوات طويلة م حط مين. والسؤال الذي ي ثار في هذه الحالة: لماذا يجري تعذيب وإذالل من ي رج ح أن يعدموا بعد حين هذه المفارقة استوقفت بعض دارسي الجينوسايد ويبدو أن التعذيب في مثل هذه الحالة م وج ه نحو الجالدين يروم إشراكهم في االنفصال التام عن المعذ بين والتماهي التام بالقاتل. الغرض المرج ح هو»التشريط المناسب لمن يقومون باإلذالل كي يستطيعوا القيام بما يفعلون«بحسب فرانز شتانغل الذي كان آمر ا لمعسكر ي اعتقال سوبيبور وتربلنكا النازيين على ما أوردت إيفا فوغلمان في بحث لها عن»االغتصاب أثناء الهولوكوست النازي : انكشافات ودوافع«. ))) أي أن الغرض هو ضمان تحول القائمين بالتعذيب إلى محض معذ بين اختصاصي ي تعذيب أك ف اء في التعذيب ي ستنف دون فيه وال ي جيدون غيره ما من شأنه أن يشد هم إلى من يوف ر لهم األجساد الالزمة للقيام بما هم أهل له. وتنسب فوغلمان إلى بريمو ليفي قوله في شرح الشيء نفسه:»يجب الحط من شأنهم ]المعذ بين[ قبل قتلهم من أجل تخفيف الشعور بالذنب عند القاتل«. ))) عالقة التعذيب ال ت قتص ر بالتالي على تفريغ المعذ ب من ذاتي ته بل هي ت فر غ الجال د أيض ا تجعل منه قو ة جلد وتعذيب ال أكثر. على أن التعذيب يمكن أن يكون إثبات ا للقو ة وجسارة القلب مما ال يقدر عليه رجال مخن ثون أو»طنطات«كما كان يقال لنا نحن ))) راجع صفحة 25 من: Rape: Weapon of War and Genocide, edited by Carol Rittner & John K. Roth, Paragon House, ))) المصدر نفسه والصفحة نفسها. 29

30 المعتقلون اليساري ون في سجن تدمر عام إنه فعل رجولة انتصار على رجال آخرين )وإن يكونوا ع ز ال وال حول لهم كحال المعتقلين جميع ا( وانتماء إلى الطرف القوي المنتصر حتم ا الذي يخطئ/ ي ج رم من يواجهه وعليه أن يدفع ثمن أخطائه/ جرائمه. وهو ما يلقى التعزيز من م عذ بين آخرين يروون بطوالتهم ويتداولون النكت عن رعب المعذ بين وت فل ت أجسادهم منهم فضال عما ي لقونه من مكافآت وترقيات وتقدير من وكالة التعذيب العام ة: الدولة. ففي كل حال التعذيب عالقة ثالثي ة: المعذ ب والمعذ ب المباشر ووكالة التعذيب. ويبقى ما تقدمت اإلشارة إليه من كون التعذيب عالقة سياسية تستهدف عموم السكان هو الجوهري وهو ما ي سو غ الكالم على»سوريا األسد«كدولة تعذيب. وهناك ضرب ثالث هو التعذيب اإلبادي إذا جاز التعبير حيث ي قتل المعذ بون بالجملة ويوضعون في شروط من الجوع والمرض واالزدحام والرعب واإلذالل وتلو ث الهواء في زنازين خانقة كريهة الرائحة تجعل من الموت راحة. تقوم بالتعذيب اإلبادي آلة تعذيبي ة تجمع بين أنشطة االعتقال والتعذيب والقتل ونقل المقتولين ودفنهم في مقابر جماعية غير معلومة المواقع فضال عن التوثيق ورفع المعلومات إلى جهات أعلى. وتشمل اآللة اإلبادي ة فروع ا أمنية وم شاف وسجون ا م ستحد ثة أو أقدم وهي جزء من التحو ل اإلبادي للنظام بعد الثورة في ربيع هنا صار التحقيق واإلذالل يندرجان في إبادة تتجاوزهما. وجريمة المعذ ب هنا هي ما يكونه وليست ما يعتقده أو ما فعله. في حاالت كثيرة يكفي انحداره من منطقة ثائرة حتى ي عتقل وي عذب وربما ي قتل. 30

31 ومن خصائص التعذيب اإلبادي أنه منظ م ومستمر وال ي ترك لقرار وكاالت التعذيب المباشرة. فلديها على األرجح توجيهات للعمل بكل الطرق على إبادة الثائرين والمشتبه بهم ويبدو أنها تحوز تفويض ا بأال تقف عند حد. وترقيم جثث الضحايا وتصويرها وتوثيقها مثلما نعلم من تقرير سيزار )55 ألف صورة سر بها عام 2013 شخص كان يصو ر الجثث المرق مة بأمر من جهات عليا( تؤش ر على صناعة قتل (( ( منظ مة. وبينما يتجاوز التعذيب التحقيقي حدود المعذ ب والتعذيب اإلذاللي حدود المجتمع فإن التعذيب اإلبادي يتجاوز حدود اإلنسانية ويخرج عن المقياس اإلنساني. هذا التعذيب جزء من م رك ب إبادي هو ما يسمى الجينوسايد عادة. فإذا كان كل شيء ممكن ا في معسكر االعتقال على ما قالت حن ة آرندت وجعلت من ذلك مبدأ أساسي ا للتوتاليتارية فإن الوجه اآلخر للمعسكر هو الحرية الكاملة لدولة اإلبادة توس عها في التعذيب والقتل دون حدود. ا نتهاك حدود المعتقلين يقتضي أال يكون لوكالة االعتقال والقتل أي حدود. ولعل من المناسب في هذا المقام استحضار التمييز الذي أقامته سامنثا فلسياتوري بين الموت تحت التعذيب والموت بالتعذيب. تقول الباحثة اإليطالي ة إن الموت في الحالة األولى أثر جانبي ))) يراجع في هذا الشأن تقرير هيومان رايتس ووتش:»لو أن الموتى يتكل مون«المتاح على موقع المنظمة المذكورة. تراجع أيض ا مقالة غارانس لوكين المنشورة في الغارديان بتاريخ 1 تشرين األول/أكتوبر 2015: «They were torturing to kill: inside Syria s death machine» المتاحة على موقع الصحيفة المذكورة وكذلك كتابها: Operation Caesar: At the Heart of the Syrian Death Machine, I.B. Tauris and Co. Ltd, London

32 للتعذيب بينما هو نتاجه المقصود في الحالة الثانية. ))) التعذيب في هذه الحالة الثانية هو منهج للقتل مثل المجازر والقصف بالبراميل والسارين يجمعها مستمر اإلبادة. القتل تحت التعذيب ال يقتضي اإلبادة حتم ا. في عهد بش ار األسد جرى التحو ل من التعذيب اإلذاللي في عهد أبيه إلى التعذيب اإلبادي ومن الموت تحت التعذيب إلى الموت بالتعذيب. كان هناك تعذيب إبادي قطاعي في عهد األب )سجن تدمر والمذابح بخاصة مذبحة حماه 1982( صار تعذيب ا إبادي ا معم م ا في عهد االبن. ا قترنت اإلبادية باإلفالت المضمون من العقاب على ما تكر س منذ الصفقة الكيمياوي ة في أيلول 2013 )بين الروس واألميركيين وبإلهام إسرائيلي. ))) وتقضي الصفقة بنزع سالح النظام الكيمياوي دون أي تحف ظ على قتل محكوميه بوسائل أخرى بل حتى بالكيمياوي نفسه كما تبين مرار ا بعد ذلك(. وفي أشكاله الثالثة يحط م التعذيب اللغة التي يعي المعذ ب نفسه ي عب ر عن نفسه من خاللها. يحل محلها الصراخ وهو مشترك بيننا وبين الحيوانات حين ن ختزل في أجساد متألمة. بيان اللغة مرتبط بمسافة م صانة بيننا وبين من ن ك ل م بتكامل جسدنا وتباينه عم ن نخاطب وهو مشروط تالي ا بغياب التعذيب. ال نستطيع أن نتكل م بينما هناك من يحاول اقتحام أجسادنا بعنف. وقد يفقد المعذب الكالم نهائي ا حت ى بعد انتهاء تعذيبه أو حتى بعد خروجه من المعتقل: ينسحب إلى داخل نفسه صامت ا وربما يفقد حتى الكالم ))) من أطروحة جامعية لها بعنوان: S. Falciatori, International Crimes in Syria: Options for Accountability and Prosecution, ))) تنظر مقالة جودي رودورن:»اإلسرائيليون ساعدوا في اإللهام بالصفقة األميركية الروسية مع األسد«نيويورك تايمز 15 حزيران

33 مع نفسه. االغتصاب ليس هناك تعذيب ليس م ذال وإن لم يكن كل تعذيب إذاللي ا بالداللة االصطالحي ة للتعبير لكن االغتصاب هو اإلذالل المحض. ما يجعل االغتصاب أشنع الجرائم هو أن ه تعذيب يرتدي قناع العالقة األكثر حميمي ة. تجد الم غتصبة نفسها في وضع من انتهاك حدودها سبق أن اقترن إن كانت لها حياة عشقي ة وجنسية سابقة بإزالتها الحدود بينها وبين شريكها وإن لم تكن لها حياة جنسي ة اقترن بما تتخي له من اتحادها دون حدود وحواجز مع شريك أو شريكة. في االغتصاب ت نتهك حدودها ويفلت جسدها منها ليس دون رضاها ودون تجاوب منها فقط وإنما غصب ا عنها وتجد نفسها في وضع انكشاف أقصى. بصيغة ت ذك ر بجان آمري المثق ف اليهودي البلجيكي الناجي من الهولوكوست الذي يقول عن تجربته الشخصي ة إن أو ل ل طمة أثناء التعذيب تتسبب بتحط م الثقة بالعالم ))) وتقول نور وهي مغتصبة سوري ة من درعا في فيلم الصرخة المخنوقة لمانون لوازو: )))»أو ل طرف إيد انمد ت ولمست جسمي حسيت في شي عم ينهار«. االنهيار هو تداعي الحدود وإن إلى الداخل. وبما يتجاوز زوال الحدود إلى تعد د كيانات المرأة وحدودها وتبعثرها تضيف نور:»كنت ))) انظر: Jean Amery, At the Mind s Limit, Contemplation by a Survivor on Auschwitz and its Realities, Indiana University Press, 1980, P 28. ))) الفيلم متاح هنا: 33

34 خايفة )...( فكري مو لجسمي وجسمي مو لروحي روحي بمكان وجسمي ]بمكان[ بين إدين وحوش. فكري بعالم آخر. في شي عم ينفصل بجسدي. كل شي انفصل عن بعض. فكري وذكرياتي وروحي غادرت جسمي«. كأنما عبر انفصالها إلى كيانات متعد دة )فكر وروح وذكريات وجسم( تحمي شيئ ا من ذاتي تها ت بقي شيئ ا من داخلها غير م ستباح. يكشف االغتصاب أكثر من التعذيب جوهر هذا األخير كانتهاك لحدود المعذ ب واقتحام عنيف لكيانه بقدر ما إن ت صو ر التعذيب كانتهاك للحدود ي ضيء حقيقة االغتصاب كتعذيب أساس ا. وبقدر ما إن تعذيب الرجال ف عل رجولة في عين الجال د كما تقدم فإن اغتصاب النساء فعل فحولة. الفحولة هي الوجه الجنسي للرجولة التي هي الوجه االجتماعي العام لكفاءات الرجل الناضج الشجاع القوي. لكن نا حيال رجولة وفحولة م نحط تين فمن يجري تعذيبهم هم ع ز ل غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم ومن يجري اغتصابهن نساء معتقالت وم رتاعات. عبر الدخول العنيف والقسري في جسم المغتصبة يضع الجال د يده على داخلها على ذاتها»فكرها وذكرياتها وروحها«. أعز ما تملك المرأة هو ذاته أعز ما يملك الرجل»الفكر والذكريات والروح«الذاتي ة وهذه تتحط م أو تتشظ ى حين تتعر ض لالغتصاب وحين ي قتحم داخلها من طرف خارج معاد قوي. وعن تفك ك مماثل تتكل م السيدة فوزية حسين الخلف من الح ولة:»لما اغتصبني كنت بد نيا صرت بدنيا تانية«. لعلها في إحدى الد ني يي ن ظل ت سي دة نفسها وإن كانت مستباحة في أخراهما. فوزية حاولت افتداء ابنتها دون جدوى. الفتاة اغت صبت وقتلت في 34

35 مذبحة الحولة أيار أبوها قتل أيض ا. و ضع المغتص بة مثل وضع المعذ ب أو المعذ بة جسدها م باح للمعذ بين لكن االغتصاب يتجاوز ذلك إلى انتزاع م تخ ي ل إزالة الحدود مع الحبيب على يد العدو ولمصلحته. هذا محو انتهاكي للحدود ي شي ء المغت ص ب ة أو المغت ص ب ويسلبها كيانها وكيانه. االغتصاب أوال ف عل ت مل ك: المرأة ت متل ك وليس لها مثلما ليس لألشياء التي ت متلك رأي في كيفية استخدامها. حين يقتحم المغت ص ب بالقو ة مجال المرأة الجسدي الحميم داخلها ال يبقى لها داخل»روح وفكر وذكريات«تصير شيئ ا. هي ذاتها تترك جسدها تنفصل عنه إلى»عالم آخر«مثلما قالت نور و»دنيا تانية«كما قالت فوزي ة. تحاول على هذا النحو أن ال يأخذ المغتص ب»أعز ما تملك«ذاتها مثلما يحاول المعذ ب أن يمنع الجالد من احتالل داخله. لكن الجال د يريد امرأة بال ذاتية بال حرية وقرار واختيار. االغتصاب كمزيج من اإلخضاع والجنس من جهة المغتص ب يستثير في مخي لته فانتازم المرأة المملوكة العبدة التي ال ي نتظر منها اعتراف. عبر اغتصاب امرأة في وضع يضمن له تفوق ا ساحق ا في القوة عليها ي داري المغتص ب أوج ه قلقه الجنسي على ما ((( تقول إيفا فوغلمان في البحث نفسه الذي تقد مت اإلشارة إليه فيقيس ذكورته ويطمئن عليها دون أن يخشى اعتراف المغت ص بة المحرومة من الكالم ومن الحركة وحتى من نظرات مزدرية. ال يستطيع تحم ل امرأة لم تجر د من حريتها إلى هذا القدر امرأة ))) المرجع المشار إليه في الهامش رقم 2 ص

36 لم تفقد ذاتي تها. نحن حيال ال-عالقة هنا أيض ا عالقة مضادة تدميري ة. اقتران قتل الرجال في تاريخ اإلبادات باغتصاب النساء )سربرنتشا مثال حديث وبعدها دارفور وإيزيديو سنجار مثال أحدث وأقرب( يدفع إلى التفكير باالغتصاب كضرب من القتل أو م كم ل له. الرجال ي عذ بون وي قتلون ألنهم محاربون محتم لون ومنافسون محتملون على النساء ومن أجل االستئثار بهن من ق ب ل القتلة. االغتصاب فعل قو ة أيض ا: إنه إظهار م ن المسيط ر وصاحب السلطة والكلمة والنظرة وم ن المسيط ر عليها والخاضعة الصامتة المكسورة العين م ن الفحل وم ن الجارية م ن يحتل الجسد وم ن تخرج منه الجئة إلى»دنيا ثانية«. حين يقول رابع م غتصبي نور لخامسهم: كم ل ما بيأثر! بينما كانت هي تنزف بغزارة ي ضمر أنه ال كيان لها أن نزف دمها ال ي حول بينه وبين انتهاك حدودها النازفة أن حياتها بالكاد تلزم من أجل اغتصابها. ومزيج السلطة والتمل ك يصنع عالقة سيادة/ عبودية: للسي د الحق في اغتصاب عبدته أو عبداته. الفرق بين السيد األسدي والسيد الداعشي هو الفرق بين نظام ين للعبودية الجنسية. فوق»الهوت«لالغتصاب ي شر عه بعبارة فالسياتوري ففي نظام داعش تكون لكل سي د عبدة أو عبدات يغتصبهن وقت يشاء ويبيعهن حين يشاء فيما العبودي ة األسدي ة غير م قن نة وقد ت بيح المرأة لخمسة مغتصبين أو أكثر مثلما جرى لنور أو ت قس م يوم الجالدين إلى قسمين: في الليل يغتصبون النساء الالتي يعذ بونهن في النهار كما قالت مريم خليف في الفيلم. لكن داعش أقامت سوق ا للسبايا من النساء اإليزيدي ات أي 36

37 للنخاسة الجنسية )وقتلت الرجال في سن الحرب ما يشك ل مثاال مخبري ا للجينوسايد(. وكان يحصل أن ت باع المرأة مرات في هذا السوق الذي نظ م الدواعش أسعار النساء فيه. )1)) فيما اقتصرت أسواق األسديين على منهوبات التعفيش وإن ابتكرت لها اسم ا إبادي ا: سوق السن ة ثم على المعلومات عن مصير المعتقلين وقد كانت مصدر ثروات بالماليين لسماسرة المعلومات منذ أيام فيصل غانم في سجن تدمر )1)) إلى اليوم. والعالقة هنا أيض ا ثالثية أو رباعية. المغتص ب المغتص بة وكالة االغتصاب التي تريد ضمان والء ال ينعكس من المغتص ب لها ثم جماعة المغتص بة ومجتمعها ككل المراد احتالله وتحطيم ذاتي ته. مريم خليف تقول:»أنا وحيدة أنا هون ]في بلد مجاور لسوريا غير مسم ى في الفيلم[ ما لي حدا«. بسبب االغتصاب طل قها زوجها وأمها»قل عتها«. )1)) العزل والوحدة إن لم يكن القتل )1)) ينظر في هذا الشأن كتاب نادية مراد الشابة اإليزيدية المسبي ة والمغتصبة التي تمك نت من الهرب من داعش: الفتاة األخيرة قصتي مع األسر ومعركتي ضد تنظيم داعش ترجمة نادين نصرالله دار التنوير بيروت )1)) لم ي درس االقتصاد السياسي لالعتقال السياسي في سوريا األسد بقدر ما يلزم من التفصيل. من شأن دراسة كهذه أن تظهر استمرارية بين اعتقال أفراد من أجل الحصول على المال من ذويهم وبين خصخصة الدولة في سوريا لتكوين أرستقراطية جديدة متوح شة. في شأن فيصل غانم مدير سجن تدمر في ثمانينيات القرن الماضي ي نظر رواية مصطفى خليفة: القوقعة. يقول الراوي أن ثروة غانم توقفت عند 650 كليو غرام ا من الذهب بسبب حلول نائبه محله. يراجع أيض ا مقال سلطان جلبي تجارة االعتقال في سجون ومعتقالت النظام السوري المتاحة على موقع سيريا أنتولد دوت كوم: )1)) أفرج عن مريم في صفقة تبادل أسرى للنظام مع معتقلين وتزوجت الحق ا من رجل يصفها بأنها تاج على رأسه. يراجع هنا الفيديو المؤثر عن قصته. تقول مريم إنها تربي أوالدها األربعة أحدهم من زواجها الثاني ليبنوا سوريا. 37

38 كما يبدو أنه كان مصير ألوى وهي مغتصبة من درعا على يد والدها هو المراد من ق ب ل وكالة االغتصاب. ت سهل البطريركية التي تختزل ذاتية المرأة في جسدها عملها. ألوى العذراء تعر ضت لقتل مضاعف حين اغتصبها األسدي ون وقتلها أبوها. بعد وجه ي السيادة التملك والسيطرة االغتصاب ليس فعال جنسي ا حتى في المقام األخير. هذا جوهري ا فعل حميمي قد ال يكون م رضي ا للمرأة وللرجل كما يشيع الحال في مجتمعاتنا في إطار الحياة الزوجي ة أو الغرامي ة وقد ت ضطر المرأة إليه تحت إلحاح أو حتى إرغام الشريك. لكن االغتصاب ليس مجرد إرغام على ممارسة الجنس بل هو فعل استباحة مجرد ك لي ا من الحميمية ويشيع أن تتعر ض المغت ص ب ة فيه النتهاك متكر ر من كثيرين. هكذا جرى في البوسنة على يد الجيش والميليشيات الصربي ة ومثلما جرى لنساء من التوتسي في رواندا على يد الجيش وميليشيا اإلنتراهامفي المكو نة من الهوتو وفي دارفور على يد ميليشيات الجانجاويد. هذه كل ها أمثلة على الجينوسايد يندرج ضمنها ما يجري في السجون األسدي ة حسبما روت المغت صبات في الصرخة المخنوقة. االغتصاب سالح حرب شائع عرف ته حروب وعملي ات إبادة أخرى است خدمت النساء فيه للجنس كما لخدمة محاربين حط موا مجتمعاتهن وربما قتلوا أ سرهن. إباحة المغتصبة تتجاوز اإلرغام الجنسي في وضع م خيف لها يتعد اه إلى شراكة مغتصبين في انتهاك حدود المغت ص ب ة واحتاللها. ويبدو أن هذا ي خ ل ق رابطة جمعي ة بين المغتصبين ويضمن والءهم لبعضهم بقدر ما هو يستهدف تحطيم مجتمع الم غتصبات. ي ظ ه ر التكوين اإلبادي لالغتصاب في اغتصاب الرجال أكثر من النساء. 38

39 هنا ليس ثمة اختبار لذكورته الشخصي ة يمارسها كرجل في الشروط األنسب له. ثم إن اإلبادة تظهر في صورة أشد عري ا عند اغتصاب الرجال بأدوات. وهناك رواية شخصي ة واحدة على األقل عن ذلك )شهادة مازن حمادة )1)) ( ومشهد م صو ر النتهاك ولد بالعصا أدرجه أسامة محمد في فيلم ماء الفضة. يظهر إعالن السلطة والم لكي ة هنا عاري ا منفصال تمام ا عن تمت ع المغتص ب الجنسي أو اختبار ذكورته. يمكن تصو ر تمتع المغتصب باغتصاب ولد أو رجل لكن ليست هناك روايات شخصي ة في هذا الشأن والمتاح منها ي حيل إلى التحطيم والقتل. وال يحيل إلى غيرهما إجبار معتقلين على انتهاك بعضهم جنسي ا. هذا المسلك الذي يتحد ى الفهم كان مفتوح ا على اإلبادة الفيزيائي ة للمعتقلين كما أظهر تقرير منظمة العفو ((1( الدولية المسلخ البشري عن سجن صيدنايا في شباط وما يقوله بريمو ليفي عن الحط من المعتقلين قبل قتلهم لتقليل شعور القتلة بالذنب قد يكون في مكانه هنا. من حيث هو م وج ه نحو تدمير الجماعات تتعه ده وكالة اغتصاب عام ة هي الدولة. االغتصاب فعل إبادة يندرج ضمن الجينوسايد. التعذيب اإلبادي واغتصاب النساء وجهان متكامالن لإلبادة من حيث إن ق ط ع نسل المرأة المغت ص بة وهو ما يتواتر )1)) هنا مقطع مدو ن منها:»وجاؤوا بآلة حديدي ة وكانت عبارة عن حلقة حديدي ة وقاموا بوضع عضوي التناسلي ضمن الحلقة وكانت اليد متحر كة كل ما قاموا بشد ها كانت تضغط على العضو الذكري بشكل أكبر مما كان يسبب ألم ا فظيع ا وهد دوني أنهم سيقطعون عضوي ما لم أعترف بكل شيء وعلى إثرها اعترفت بكل ما طلبوا مني االعتراف به خصوص ا بعد جلبهم للخازوق وكان عبارة عن رمح حديدي ذي رأس حاد يتم وضعه في مؤخرة المعتقلين النتزاع االعترافات منهم«. الشهادة متاحة هنا: )1)) التقرير متاح على موقع المنظ مة. 39

40 أن يترت ب على االغتصاب ي سهم مع قتل الرجال في تدمير الجماعة المعني ة. االغتصاب فعل قتل آج ل م وجه نحو تعطيل فاعلية النساء اإلنجابي ة أي منع الجماعة من إعادة إنتاج ذاتها بيولوجي ا. سياسات الجسد يجمع بين الحب والتعذيب واالغتصاب مركزي ة الجسد البشري. نحب بأجسادنا ونتعر ض للتعذيب ألن لنا أجساد ا تتألم ون قتل بأن ت حط م أجسادنا. وت نتهك أجسادنا في االغتصاب الذي يمس مساس ا خطير ا بقدرتنا على الحب وعلى الجنس وعلى اإلنجاب. وما قد نسم يه اإلبادة هو تحطيم جماعي لألجساد يأخذ أشكاال متنوعة تضاف إلى التعذيب واالغتصاب منها الحصار والموت جوع ا ومنها القصف بالغازات السام ة والبراميل المتفج رة ومنها عمليات اإلعدام في السجون والمقر ات األمني ة. دولة التعذيب من الصنف الذي نعرفه في سوريا منذ نصف قرن هي سلطة مباشرة على األجساد تنزع ملكي تها من أصحابها وت بيحها لمديري وكالة»احتكار العنف الشرعي» التي ال تتطل ع إلى غير البقاء في الحكم»إلى األبد«. في العربي ة عالقة اشتقاقي ة بين األبد واإلبادة فال يكون ذاك ممكن ا دون هذه. سياسة األبد وأستعير التعبير من تيموثي سنايدر في سياق مختلف )1)) هي )1)) ليس مختلف ا جد ا فاألكاديمي األميركي يتكلم عن روسيا البوتيني ة تنظر مقالته المطو لة في الغارديان 16 آذار 2018: Timothy Snyder : Vladimir Putin s politics of eternity. ويقصد سنايدر بسياسة األبد السياسة التي تنكر أن المستقبل يمكن أن يكون مختلف ا وأن أفعال 40

41 اإلبادة. لم ي كتب التاريخ السياسي ألجساد السوريين ولم ي فك ر في معنى إباحة األجساد على تلك األنحاء المختلفة. يحدث أن يجري نقاش حول الحجاب وما يسميه اإلسالمي ون»اللباس الشرعي«في أشكاله التي تحجب شعر المرأة أو وجهها وجسدها كل ه وصوال إلى منعها من الخروج من البيت. وال ي خف ق أحد تقريب ا في إيراد مفارقة أن النساء الم دين ي ات في الجامعة والوظيفة والشارع كن سافرات الوجوه واألسماء في خمسينيات القرن العشرين وست ينياته وبعض سبعينياته فيما أكثرهن محجبات اليوم. وبينما يصعب أال نرى االقتران التاريخي بين تطو ر النزعات التعذيبي ة للدولة وبين حجب النساء في سوريا )وعلى نطاق أوسع في الشرق األوسط( فإن ه ليس هناك دراسات جد ية تنظر في هذه العالقة. تزامن األشكال المجنونة من التدي ن وحجب األجساد مع األشكال المجنونة من الحكم وانتهاك األجساد ال جدال فيه. صار التحك م بجسد المرأة آخر حصون سلطة آباء وإخوة فقدوا السلطة على أنفسهم في الفضاءات العام ة. التدي ن ضروري من أجل السيطرة على جنساني ة البنات )وعلى الزوجة واألبناء(. قد ال تكون العالقة سببية ومباشرة لكن ال يمكن إال مالحظة االقتران بين التعذيب اإلذاللي في ثمانينيات القرن العشرين والحجاب الذي يغط ي شعر المرأة وبين التعذيب اإلبادي في سنوات ما بعد 2011 واللباس األسود الفضفاض الذي يحجب الشعر والوجه وجسم المرأة كل ه. هناك مقاومة في الحالتين من النساء تعمل الناس يمكن أن تغي ر الواقع وتسقط مبدأ المسؤولي ة فاألمور ستكون سيئة في كل حال. 41

42 على تقليص مساحة الحجاب لكن ها تواج ه عدو ين ال واحد ا: دولة التعذيب واالغتصاب وإسالمي ة عدمي ة تسل طية. ال تغيب مقاومات متنوعة مع ذلك. مريم خليف وفوزي ة حسين تظهران باسميهما ووجهيهما رغم غطاء الرأس لتقوال إن هما اغت صبتا ولترويا جوانب من القصة الموجعة. هذا مثال بطولي في المقاومة جدير بأن يسج ل وي حتفى به في تاريخ كفاح النساء السوري ات وعموم السوريين. أي ا يكن األمر فإنه من غير المتصو ر الخروج من أحد وجه ي سياسة الجسد التعذيب والحجاب دون الخروج منهما مع ا. تجاوز حدود األجساد والمجتمع واإلنساني ة هو منهج ح كم يرفض أن تكون له هو ذاته أي حدود. وضع حدود هنا أي للدولة ومنع تجاوز الحدود هناك أي لألفراد والمجتمع واإلنسانية هو ما يعطي كفاح السوريين معناه ومداه. يجب أن نأمن على أجسادنا فال ن عذ ب وال نغتصب أن تصان كرامة أجسادنا كي تستطيع من وجه آخر أن تخترق الحجاب وتنال االعتراف العام. يجب أال تكون أجسادنا مهددة بالتفت ت كي تستطيع التصر ف موح دة ويكون لها قرار. ويجب أن نستطيع الحداد كي نبقى مجتمع ا ونتيح للماضي أن يمضي. أن يصير لنا تاريخ ونخرج من األبد. 42

43 عالقات التعذيب السياسي ة التعذيب ونمط إنتاج السلطة في»سوريا األسد«قد يتعذ ر تجريد وضع أو عالقة أساسي ة تتكثف فيها ممارسة الشر وت شتق أشكال الشر األخرى منها. لكن التعذيب يصل ح منطلق ا لدراسة الشر بقدر يفوق غيره مما يمكن أن نت فق على أنها ممارسات شريرة. هذا ألن ه إذا كان الشر هو اإليذاء أي إلحاق األذى بغيرنا فإن التعذيب شكل متعم د وصبور من اإليذاء تتكر س فيه طاقة ووقت وعاطفة إليالم الغير. ال يحدث التعذيب عفو الخاطر فهو أذى م ت رو ى فيه مفك ر به م خطط له إبداعي على ما تسجل عبارة ((( فنون التعذيب وما يصادق عليه تاريخ التعذيب عبر العصور. التعذيب شر أساسي من حيث إنه إبداع في األذى تخصيص أفضل ما في اإلنسان قدراته الخال قة لخدمة أسوأ ما فيه تحطيم غيره من الناس. القتل أسوأ من التعذيب من حيث إنه غير عكوس لكن القتل يمكن أن يحدث بأثر»حماوة الدم«بدون تفكير وتدب ر فيما ))) يراجع كتاب تاريخ التعذيب لبيرنهاردت هروود وهو ي ظهر تنو ع فنون التعذيب عبر التاريخ والحضارات واإلبداع المستمر فيها. الكتاب من ترجمة الراحل ممدوح عدوان وصادر في طبعته الرابعة عن دار ممدوح عدوان

44 يقتضي التعذيب فكر ا من الجال دين و»عذاب ا«ويمكنه أن يكون عمال م ضني ا. ثم إن القتل ألنه غير عكوس ال يمكن أن يكون موضع تذك ر ممن ي قتلون يذهبون وتذهب قصة لحظاتهم األخيرة معهم. التعذيب ال يحدث تحت وطأة انفعال حاد تصعب السيطرة عليه. وهو قد ينتهي بالقتل أو ال ينتهي لكنه في كل حال ش غل مرهق على جسد شخص آخر مقترن بالكره وبتوت ر في النفس والجسم. وهو خالف ا للقتل موضع تذك ر لمن تعر ضوا له )وليس دوم ا لمن أوقعوه على األرجح ألن ه من ممارساتهم االعتيادية(. أي أن التعذيب يبقى معنا في النفس وفي المجتمع وفي العالم. وفي حين ال يزال القتل حكم ا قضائي ا ممكن ا جزاء على بعض الجرائم في دول كثيرة فإنه ال يبدو أن هناك أحكام ا قضائي ة بالتعذيب في أي مكان في العالم المعاصر. وليس التعذيب من وجه آخر أي شكل من العنف الجسدي صفعة أو لكمة أو ركلة... مما كان شائع ا في األ سر والمدارس والمعسكرات وقد يحدث بدوره بأثر الغضب أو االنفعال وال يزال يمار س بمقادير متفاوتة هنا وهناك. في التعذيب هناك وسائل تعذيب وهناك ترتيب لمسرح تعذيب وفن في ممارسته وهناك سلطة ت قر ر التعذيب فتشر عه في عين م مارسيه. فليس هناك تعذيب بال قصد أو بدون ني ة مسبقة أو يمارس ك»أخطاء فردية«دون قرار أعلى. قد يتحو ل التعذيب إلى روتين كما في سوريا لكن هناك ني ة تعذيب أصلية يقوم عليها النظام وهي مترسخة في بنية تعذيب تتخلل البلد هي أجهزته األمني ة. تعمل هذه المناقشة على الجمع بين التحليل النظري والتجربة السوري ة بين النظر في بنية عالقة التعذيب وبين السياسة التي 44

45 تقوم عليه في بلدنا على نحو يؤمل أن»يوض ع«التحليل أو يدرجه في سياق عيني ويعمل في الوقت نفسه على إدراج التجربة السوري ة في سياق إنساني أوسع. التعذيب وأشكاله ما الذي يجري في التعذيب وما التعذيب أصال في أبسط صوره هو عنف مترو ى فيه يوقعه شخص أو مجموعة على شخص آخر م ل ح قين به األلم سعي ا لتحقيق غرض ما. سيجري الحق ا اقتراح تصو ر ل»تعذيب المجتمع«لكن التعذيب مبدئي ا ممارسة ت فر د تعزل الفرد عن غيره وتحبسه في جسده أو تختزله إلى جسد. تجري محاصرتنا في جلدنا الذي هو حدود كياننا الفيزيائي ونقع تحت خطر انهياره وانهيارنا. نفسي ا يتقابل في التعذيب خوف من جهة من يجري تعذيبه وكراهية من جهة المعذ بين ت سه ل لهم إيالم ضحيتهم وإيذاءه. وليس التعذيب عقاب ا جسدي ا معلوم المقدار سلف ا من قبل م ن يتعر ض له. على أن هناك ممارسات تعذيبي ة معروفة المقدار منها»الحدود«في اإلسالم حيث يعاق ب من قاموا بفعل معي ن شرب الخمر مثال أو»زنا غير الم ح ص نين«بعدد مقر ر سلف ا من الجلدات. هذا تعذيب عقابي صنف التعذيب الذي يمكن أن يكون محدود ا ومعلوم الحدود. أشكال التعذيب األخرى التي عرفناها في سوريا االستجوابي واإلذاللي واإلبادي ))) ليس لها حد معلوم وفيها يتحالف األلم الذي ))) تقد م التمييز بين أشكال التعذيب هذه في الفصل األول من هذا الكتاب. وتفيد المقارنة مع تمييز هادي العلوي بين أربعة أصناف من التعذيب في العصر العباسي: 45

46 ي وقعه الجال دون مع الخوف على الحياة الذي يثيره حتم ا تعذيب ال ي عرف أين يقف وال ما إذا كان سيقف أصال. إذ ليس مضمون ا بحال أن يقف التعذيب عند حدود االحتمال الجسدي لمن يجري تعذيبه والجال د أخبر بهذا الشأن من المجلود بحكم تمر س األول باألجساد المجلودة. في كل حال ليس هناك مقدار معلوم مسبق ا للتعذيب وال حد زمني أقصى. عجز المعذ ب عن التنبؤ هو عنصر جوهري في تعذيبنا السوري بكل أشكاله بما فيها العقابي. ليس هناك»تسعيرة«محددة للمخالفات في سجن تدمر أو أي من السجون السوري ة )ليس هناك تعريف معلوم لما يمكن أن يكون مخالفة أصال (. األمر»عرفي «مثل»االعتقال العرفي» ذاته الذي ال يعلم ضحاياه متى قد ينتهي. وهو في النهاية يحيل إلى موازين قوى اجتماعية وسياسية فاحشة االختالل تتصرف فيها وكالة التعذيب العام ة الدولة كمالكة ألجساد وحيوات من يجري تعذيبهم وعموم السكان. في التعذيب االستجوابي أو التحقيقي مثلما نعرفه في سنوات الحكم األسدي ربما ينتهي ب»اعتراف«المعذ ب إن اقتنع الم عذ بون باعترافه. وهو ما يترك األمر مفتوح ا ألن اقتناع القائمين بالتعذيب ليس مسألة نقاش حر بل هو قرار م زاجي وأحادي الجانب من طرفهم. هذا ال يلغي حتم ا مساحة مناورة متفاوتة االتساع يمكن لمن يجري تعذيبه أن يتحر ك ضمنها وربما ينجح في خداع جال ديه. والواقع أن هذا ما يحصل طوال الوقت فالتعذيب عالقة التعذيب لالعتراف التعذيب للجباية التعذيب للعقوبة وتعذيب المقابلة بالمثل. ينظر كتابه: من تاريخ التعذيب في اإلسالم المدى الطبعة الرابعة 2004 ص

47 عدم ثقة جوهري ة والضحية إما ي قل ل إلى أقصى حد من قول ما ال يعرفه الجال د أو يقول ما يريده الجال د وليس الحقيقة كي يتوق ف تعذيبه. وهو ما يكفي للقول بأن التعذيب ليس منهج»تحقيق«مثمر ا. إن ه منهج تزوير تعذيب للحقيقة ذاتها. ))) هذا يجيب عن سؤال محتمل: هل االعتراف معرفة هل له قيمة معرفي ة ينبغي أن يكون الجواب ال واضحة وحاسمة. ولحسن الحظ ال نعرف مؤرخ ا واحد ا اعتمد على تحقيقات المخابرات في دول تعذيب. يشبه األمر االستناد إلى اعترافات معذ بين يظهرون على شاشة التلفزيون األسدي»معترفين«بما يريده النظام أو أن يكون للمرء ضمير كضمير صديق المخابرات األسدي ة الصحافي البريطاني روبرت فيسك. ))) وليس لدى كاتب هذه السطور علم بأن األدب والفن ))) هذا يثير سؤاال صعب ا: كيف يرضى حكم يقوم بالتعذيب خداع نفسه بالحصول على حقائق مشو هة وإجبار الضحايا على قول ما يريد هو وقل ما ما وقع فعال وهو ما يثير الشك في مفهوم التعذيب التحقيقي كل ه والقول إن تمازج هذا التعذيب بالذات هو إرادة إنتاج الخوف واإلذالل العام هذا حين ال يكون طريقة إعدام مغايرة. ولعل المثابرة على التعذيب مت صلة بكونه موج ه ا بقدر ما ضد الجال دين أو عناصر وكاالت التعذيب التي تسمى فروع األمن في سوريا أعني للحفاظ على تماسك النظام عبر الرهبة والخوف الشامل. وما يمكن أن يتحص ل من معلومات حقيقية من معتقلين تحت التعذيب ينغرس في بيئة سام ة من التفاعالت االجتماعي ة ال يبعد أنها أنتجت»حقائق«مما يجري»التحقيق«بشأنه اآلن. ))) قابل الصحافي البريطاني معتقلين في مكتب ضابط مخابرات أسدي بعد الثورة السوري ة وقالوا له إنهم جهاديون وكتب مقاال عن ذلك بوصفه تحقيق ا صحافي ا. لدينا هنا ام حاء للفارق بين ضابط المخابرات والصحافي وبين تحقيق الجال د والتحقيق الصحافي. هذا يشبه زيارة معسكر إبادة نازي والخروج منه بتحقيق صحافي يتكل م على متور طين في»مؤامرة يهودي ة بلشفي ة«ضد االشتراكية القومية بناء على وجود يهود وشيوعيين بين المعتقلين. يصعب العثور على كلمات احتقار مناسبة بحق السيد فيسك الذي كان فوق ذلك قد رافق قوات النظام أثناء مذبحة داريا في صيف عن زيارة معتقلين في مكتب ضابط مخابرات انظر مقالة فيسك في االندبندنت 2 أيلول : 2012 Syria's road from jihad to prison. 47

48 الرواية والمسرح والسينما وغيرها تعاملت مع اعترافات معتقلين معذ بين كماد ة للتخي ل والتخييل. التعذيب اإلبادي هو استباحة كاملة مفتوحة على القتل وإن لم تنته حتم ا به. المهم هنا هو أن موت المعذ ب ليس ذا قيمة وأن بقاءه على قيد الحياة وموته سي ان. وليس التعذيب اإلذاللي من الصنف الذي كان ي مارس في جيلنا في سجن تدمر»م نز ه ا من الغرض«مثل التأم ل الجمالي عند كانط أو هو من صنف»التعذيب للتعذيب«على ما كان بدا لي في تناول آخر. ))) فمن أغراضه التحطيم النفسي والسياسي ومنها أيض ا صنع ذاكرة ومنعكسات مناسبة عند الضحي ة تجعله»يتوب«و»يطيع«. الغرض باختصار توطين خبرة الذل في نفس من يتعر ض لهذا التعذيب على نحو ينهاه عن العصيان. أي أن ه تعذيب ر دعي. من المهم عند هذه النقطة توضيح أنه في حين أن التعذيب م ذل في كل حال وأن اإلذالل عنصر مكو ن للتعذيب دوم ا فإنه ليس كل تعذيب من الصنف اإلذاللي. ثمة إذالل في التعذيب االستجوابي والتعذيب اإلبادي وفي التعذيب العقابي كذلك ))) لكن نخص وأم ا عن مرافقته قو ات النظام وقت مذبحة داريا فمقالته المنشورة في بلفاست تلغراف 29 آب /أغسطس 2012: Inside Daraya, Syria: How a failed prisoner swap turned into a massacre. ومن أجل رد على فيسك لم تتكر م االندبندنت بنشره تنظر مقالة ريم عال ف وياسين الحاج صالح في 14 أيلول/سبتمبر 2012 على موقع أوبن ديموكراسي: Syria dispatches: Robert Fisk's independence. ))) في مقالتي:»وجوه الجال د وعالمه«المنشورة في 30 أيلول 2016 على موقع الجمهورية دوت نت والمتاحة عليه. ))) في كل صوره التعذيب ماس جوهري ا بالكرامة اإلنسانية وهذا كاف وكل ما يلزم 48

49 بعبارة التعذيب اإلذاللي التعذيب الذي يستهدف صنع ذاكرة أو»تلقين درس ال ينسى«. ولعل تأص ل الصفة المذل ة للتعذيب تشرح قلة وصف التعذيب على يد من تعر ضوا له مباشرة وهذه مالحظة يوردها بدرايك كني أستاذ التاريخ األميركي البولوني وإن كان بحثه يقترح له تفسير ا باستحالة وصف التعذيب. ))) أ قد ر أن للصفة المذل ة والمؤلمة لهذا التذكر الدور األكبر. تعاف ينا النفسي من تجربة االنكشاف والر ض ة القاسية التي نخبرها في التعذيب رهن بأن نعمل على نسيانها أو دفنها في أعماق أنفسنا. قد نتكل م على تعذيب تعر ضنا له في سياق بناء قضي ة عام ة ضد وكالة التعذيب الدولة ومن تشب ه بها لكن التقرير المفص ل يشبه أن ننكأ بأنفسنا جرح ا احتجنا إلى طاقة ووقت كي يندمل. أهم من ذلك أننا أثناء التعذيب ن ختزل إلى جسد متأل م وال نستطيع تسجيل ما يجري له مثلما قد نفعل بدرجات متفاوتة من الوعي بخصوص تجارب أخرى جديدة علينا. ما في داخلنا من شخص يالحظ ما يجري يالحظه ليرويه الحق ا يصغر حت ى التالشي في وضعية التعذيب. هذا الشخص هو»الوعي«لتحريمه وتجريمه. ليس هناك تعذيب شرعي وليس هناك شرعية يمكن أن تقوم على التعذيب. عطفت األمم المت حدة بحق التعذيب على»غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو الالإنساني ة أو المهينة«في االتفاقي ة الخاص ة بهذا الشأن الصادرة في اليوم العالمي لحقوق اإلنسان في عام انظر:»اتفاقي ة مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو الالإنسانية أو المهينة«التي اعتمدتها الجمعي ة العام ة لألمم المتحدة وفتحت باب التوقيع والتصديق عليها واالنضمام إليها في القرار 46/39 المؤرخ في 10 كانون األول/ ديسمبر ))) انظر: Pedraic Kenney, Dance in Chain, Political Imprisonment in the Modern World, Oxford University Press, 2017, p

50 في جانبه الم سج ل أو الموث ق. الجانب المنتبه من الوعي يبقى حاضر ا لكنه يترك ز كل ه على الجسد ومواقع األلم منه بخاص ة. هذا حين ال ي غمى علينا نغيب عن الوعي أو يغيب الوعي عنا فيزول االنتباه كذلك. غياب الوعي شائع في وضعي ات التعذيب ويشيع تصن عه كذلك من ق ب ل الضحايا قطع ا لمسار العملي ة التعذيبي ة. وفضال عن كل ذلك أخم ن أنه يحدث بعد تجربة التعذيب ضرب من إغماء الذاكرة أو إغماضها فال تحضر»حفلة«التعذيب في الذاكرة إال كصورة ناصلة اللون. بنية عالقة التعذيب جوهر عالقة التعذيب هو تحط م الرابطة اإلنساني ة أو خروج طرفي العالقة منها. خروج المعذ ب بأن يرتفع فوق مرتبة اإلنسان يوق ع األلم وي خر ج جسد المعذ ب من التماثل مع جسده هو فيعط ل عملي ة التماهي بينهما وهو ما يحرره )المعذ ب( حيال المعذ ب فيكون سيد قراره في أن يتركه حي ا أو يقتله. هذا التحك م بالحياة والموت هو أعلى ذرى السيادة ضرب من التأل ه. ))) ومن جهة ينحدر المعذ ب دون اإلنسانية يفقد التحكم بنفسه التي تجنح في أوقات التعذيب إلى أن تطابق جسده ((( و»الجسد يساوي األلم الذي يساوي الموت«بحسب جان آمري. ))) بالمقابل ليس إجبار مناكيد وقعوا بين أيدي شب يحة النظام على الشهادة بأن ال إله إال بشار تعبير ا عن ورع ديني بل هو بالضبط تعذيب. على أن إنتاج اإلله بش ار تم أساس ا عبر نمط إلنتاج السلطة قائم أساس ا على التعذيب. طلب الشهادة بألو ه ته هو بمثابة مسرحة لعملية إنتاج السلطة التعذيبي ة. ))) انظر: Jean Amery, At the Mind s Limit, Contemplations by a Survivor on Auschwitz and its Realities, translated into English by Sidney Rosenfeld 50

51 يزول التماهي كل ما أمعن ممارسو التعذيب في ممارستهم وكل ما ترسخ التعذيب كعالقة اجتماعي ة. وكما قد نتوق ع تجنح العالقات االجتماعي ة ألن تصير عالقات سيادة وتبعي ة حيث يسود التعذيب ويزول المجتمع بالذات لمصلحة جماعات منغلقة بمقادير متفاوتة. مآل عالقة التعذيب تقاب ل آلهة بأشياء وليس بشر ببشر. فالشخص المختزل إلى جسد محاص ر متأل م هو موضوع لقوة تعمل على تحويله إلى شيء حسبما عر فت سيمون فيل القو ة. تقول فيل إن القو ة ت حو ل من تطاله إلى شيء وحين تبلغ حد ها األقصى ت حو ل اإلنسان إلى شيء بالمعنى الحرفي للكلمة: جثة. )1)) وبقدر ما إن التعذيب ممارسة للقوة على األجساد مباشرة يتجس د فيها زوال التساوي اإلنساني المبدئي والتماهي الذي يقوم عليه فإنه بهذا بالذات يصلح تعريف ا للشر. نتحد ث عن شر أساسي حين تتنق ل العالقة بين الناس إلى عالقة بين بشر وال بشر أو بين بشر وأشياء. أو لنق ل إنه إذا عر فنا الشر بنزع اإلنساني ة على ما فعلت حنة آرندت في أصول التوتاليتاري ة فإن التعذيب هو عالقته الم عر فة. على أن ن در ج في نزع اإلنساني ة نزع إنساني ة الجال د أيض ا وليس المجلود أو المعذ ب وحده. وإذا قلنا إن الشر هو جعل اإلنسان فائض ا أو نافال حسبما قالت آرندت في الكتاب نفسه فإن التعذيب أيض ا هو ما يمث ل هذا النفول من حيث إنه ي شي ء المعذ بين يجعل إنساني تهم غير الزمة. هذا فيما ي غني المعذ بين عن اإلنسانية وإن هنا باتجاه قطب السي ادة والتأل ه. and Stella P. Rosenfeld, Indiana University Press, 1980, p. 34. )1)) يراجع: The Iliad or the Poem of Force. المتاح على موقع أرشيف دوت أورغ. 51

52 ويحفز التعذيب في تقديري نازع إلى القدرة أو التحك م يصل إلى درجة أن ي حيي المعذ ب ويميت. أعذ بك ألن ي أستطيع وألني ال أخشى عواقب لفعلي بل في الواقع أنا مسيطر كل ي التحك م أتحكم باألمور بقدر يضمن أن أتصر ف بجسدك وبحياتك ذاتها دون عواقب. هذا يعطي شعور ا بالقدرة يبدو أن كثير ا من البشر يحتاجونه حيال غيرهم. وقد يكون من أصول اآللهة إرادة خروج بشر من التماثل مع بشر آخرين. التحك م بالحياة والموت عبر التعذيب الجسدي أساس ا هو ما ينتج الواحد الذي ال يدخل في عالقة مع غيره إال أن تكون عالقة عبودي ة. لكن وهنا تناقض عالقة التعذيب: ال بد من بشر لتعذيبهم والخروج عن التماثل معهم وينبغي أن يكونوا مثلي كي أخرج بتعذيبهم من المثلي ة. تعذيب حيوان ال ينفع في ذلك. فالمثلي ة غائبة أصال. التعذيب إنساني جد ا من حيث إنه ال يجري بين غير البشر وال إنساني جد ا من حيث إنه ال يبقى أحد من طرفي العالقة إنسان ا بمحصلتها. وهو من باب إلغاء اإلنساني ة هذا عالقة الشر األساسي ة. في المحص لة ليس التعذيب عالقة قو ة تضاف إلى غيرها بل هو الشكل النموذجي واألقصى لعالقة القوة: أنا قوي وأنت ضعيف! أنا جب ار وأنت حشرة! أنا الله وأنت ال شيء! وعلى هذا الشكل األقصى يقوم الحكم األسدي في سوريا. التعذيب كإبادة سياسي ة ما يقتضيه التعذيب من جهد ووقت و»عذاب«)1)) يعني أن من يجري تعذيبه ال يطيع ال يتطوع )1)) من الشائع في سوريا أن يقال لمن يجري تعذيبه وال يعترف بأنه ي عذ ب جال ديه. 52

53 لكشف سريرته ي قاوم وأن المطلوب هو كسر مقاومته ليعترف. بماذا بما ي خفي من معلومات وأهم من ذلك لكي يرضخ ويستسلم»يفرش«يعترف بالجال د وتفو قه عليه. وبقدر ما إننا نقاوم االعتراف ليس فقط لكي ال ن دلي بمعلومات عن رفاقنا أو شركائنا وإن ما أساس ا صون ا لكرامتنا ورفض ا لالستسالم لعدو يعمل على احتاللنا فإن اعتراف المعذ ب بما لديه ليس غاية التعذيب إال بقدر ما إنه ينطوي على استسالم للجالد اعتراف بتفو قه وانتصاره بأن ه السيد. االعتراف بالجال د مفهوم ا كقو ة تعذيب جمعي ة ال كفرد عارض هو ما يسج له ويوث قه االعتراف للجال د. رهان الجال د يتجاوز تفريغ المعذ ب من أسرار يكتمها إلى بلوغ سريرته واحتاللها. السريرة هي موضع االستقالل )1)) والخصوصي ة المكنون الذي ال يط لع عليه أحد ويؤه ل اختالف سرائرنا ألن نطالب بالند ية مع بقاء الواحد منا مختلف ا. فإذا انكشفت سرائرنا فق دنا كل استقالل وكيان شخصي. لم يشعر النازي ون بضرورة تعذيب اليهود نظريتهم العنصرية تقول سلف ا كل ما هو مهم بخصوص سرائر اليهود الشر يرة فتخرجهم من الند ية وتخفض من شأنهم إلى حد أن ال يستحق وا حت ى جهد التعذيب. لم ي قت ل اليهود في محرقة»مجنونة وعمالقة«بتعبير جيورجيو أغامبين بل بالضبط»مثل القمل«على ما قال هتلر أي كمجرد حياة أو حياة عارية. )1)) ومن المحتمل أن في سياق تخي لي يجس د علي بهلول هذا القلب بعبارة تجري على لسان ضابط المخابرات وهو يعذ ب الجاحظ ويقول له:»بدك تعذبنا إنت بربي«! انظر: علي بهلول»إمامة الجنون«الجمهورية 29 أيار متوف ر على موقع الجمهوري ة دوت نت. Autonomy ((1( )1)) يراجع: A. Dirk Moses, Empire, Colony, Genocide: Conquest, Occupation, and Subaltern Resistance in World History, Berghahn Books, Kindle copy, Loc

54 التكوين التعذيبي للحكم األسدي مكتوب في رغبته في أن ينال اعتراف ا ال يبدو مطمئن ا إلى حصوله عليه أي لتذليل مقاومات وقراءة سرائر من ال يعترفون به. وهو يفتقر إلى نظرية بقوة»العنصري ة العلمي ة«النازي ة ت قو ض التماهي اإلنساني قبل التعذيب. الطائفي ة من جهة أقل قو ة»علمي ة«حتى إنها ليست عقيدة ي جهر بها وإن كانت تفعل فعلها في تحطيم الرابطة اإلنساني ة )والوطني ة( وت سه ل االنخراط في تشي يء المعذبين دون وساوس كثيرة. ولعل ما ت س ه ل من أمره الطائفية تحديد ا هو خلق مساحة ال تباس مرغوبة بين فكرة: أعذ ب ألن ي قادر وفكرة: أعذ ب ألن من أعذ بهم سي ئون وأشرار فيظهر التعذيب فعل خير وليس فعل قو ة حصر ا. وما يحبط الجال د قو ة التعذيب الجمعي ة هو أن المعتقل ال»يفرش«حت ى حين يعترف ال يتطو ع دليال للجال د إلى أعماق نفسه أي أن سريرته تبقى مغلقة دون م ع ذ ب ه وتبقى الطاعة غير مضمونة ما دام المعذ بون أو المساءة معاملتهم أحياء. رب ما يتظاهرون بالخضوع لكن هم ال يخضعون فعال. كل ما يتوف ر من تقارير عن سجن تدمر مثال وقد كان معسكر تعذيب يشير إلى تمسك المعتقلين أكثر بمعتقدهم الديني بل تصل ب أكثرهم فيه وبممارستهم الصالة الممنوعة بعيونهم. )1)) هذا ألن االختالف الذي آل بهم إلى االعتقال والتعذيب والقتل يت صل بمعتقدهم على األقل في عين جال ديهم الذين يعاقبونهم بمنع تعبيرات اإليمان الطقس ي ة من صالة وصيام وغيرهما وهم يتمس كون به ألن فيه تتجس د كرامتهم والفرق األكبر بينهم وبين الجال دين. وفي حالتنا نحن المعتقلين اليساريين الذين )1)) كمثال حديث تنظر مقالة حسن النيفي»طقوس رمضاني ة في سجن تدمر«موقع تلفزيون سوريا 1 أيار وكان حسن قضى نحو ست سنوات في سجن تدمر. 54

55 رأينا الوجه الدكتاتوري للنظام وليس وجهه اإلبادي الذي نظر به إلى اإلسالميين كنا نقاوم»االنسحاب«من أحزابنا رغم أن غير قليل منا غي روا في سريرتهم أفكار هم وانتماءاتهم وذلك من باب الدفاع عن الكرامة حماية للمساحة التي ي نال منا بسببها. فإذا جرى قتل المعذ بين للتغل ب على كل مقاومة ذهبت سريرتهم معهم فلم يعد لدى الجال د من يجلده وي كر س في عينه الفرق والهوي ة. يخسر هوي ته بالذات إن ام حت الفروق وبخاص ة الفارق بين من ي جلد ومن ي جلد. وعلى هذا الفرق يقوم نمط ممارسة السلطة. ولكن ماذا يعني أن رهان التعذيب تجاوز على الدوام في»سوريا األسد«التفريغ من األسرار إلى تفريغ السريرة يعني أن ينكشف المعذ ب وال يبقى له داخل أو ذاتي ة يصير مكشوف ا تمام ا ومقروء ا مطواع ا ومطيع ا. يعني بالضبط اإلبادة السياسي ة. ولذلك ال يكفي أن تعترف معتقالت من النساء بأسرار عملهن العام بل أن ي غتصبن ت خترق حدودهن ويلغى استقاللهن ي متلكن من ق ب ل جال دين يحوزون بالمقابل شعور ا بالسيادة. يأخذ التفريغ من السريرة هنا معن ى فيزيائي ا مباشر ا: احتالل داخلي ة المرأة. اغتصاب النساء هو تعذيب وتسي د وليس فعال جنسي ا. )1)) االنتهاكات الجنسية للنساء )1)) على أن الفعل الجنسي ال يزال في بيئات اجتماعي ة كثيرة في عالم اليوم وبيئتنا من أبرزها فعل سيادة وتملك وليس فعل شراكة ورغبة مشتركة واعتراف متساو. من غير المحتمل في تصو ري أن الجال د المغتص ب في»فرع المخابرات«يمارس جنس ا غير اغتصابي وغير سيادي مع امرأته. يتعل ق األمر في كل حال بفعل اختراق وغزو أو فتح.»مفتوحة«هي الصفة المستخدمة المرأة فقدت بكارتها قبل الزواج فخسر الزوج فعل االختراق السيادي الذي يضعه في موقع الفاتح مثل من يغزون أراض يفتحونها ويسودون عليها. هناك بنية سيادي ة مشتركة تجمع بين غزو بلدان ومجتمعات وفتحها وبين غزو النساء وفتحهن وبين غزو 55

56 والرجال تجمع بين ميزة أنها إذالل أقصى من جهة وال تهد د الحياة مباشرة من جهة ثانية. فكأنها قتل دون قتل أو إبادة رمزي ة تعز ز اإلبادة السياسية. والخالصة أن هدف التعذيب قد يكون إذاللي ا أو استجوابي ا أو إبادي ا أو حتى عقابي ا لكن التعذيب في كل حال وفي آليته بالذات يحو ل المعذ ب إلى موضوع كائن بال ذاتي ة وال داخل. وإنما بهذه الداللة يصلح التعذيب ألن يكون نظام ا سياسي ا قائم ا على اإلبادة.»بحب عر فكم على حالي أنا عزرائيل أو ليش عزرائيل أنا الله ستذهبون معي إلى ديار الحق لكن باعتبار أنني الله سأطيل بأعماركم بضعة أيام«. هذه الكلمات التي دو نتها الغائبة رزان زيتونة في أيلول 2013 في نطاق توثيقها لشهادة خمسة معتقلين هربوا من االعتقال في قصة نادرة )1)) تكشف بصورة ممتازة التعذيب كنزع إنساني ة متقابل: تأل ه مقابل تشييء. الضابط القصير الملتحي على ما وصفه الناجون الخمسة ي كث ف بكلمات قليلة عالقة التعذيب ليس فقط أنه إله المعتقلين المعذ بين ولكن ه يمهل وال يهمل كذلك ليس مستعجال على تحويل ضحاياه إلى أشياء ألن ه قادر على ذلك في كل وقت وألن لهم استخدام ا نافع ا قبل رد ه م إلى أشياء )كانوا يحفرون خنادق لقوات النظام المحاص رة للغوطة(. الطبيعة والسيطرة عليها مثلما دعا ديكارت الذي أس س عبر الكوجيتو لمثال الذات السي دة. إن ها مشكالت اإلمبريالي ة والتمييز ضد النساء والبيئة. )1)) التقرير متاح على موقع»مركز توثيق االنتهاكات في سوريا«: وقد صدر في أيلول 2013 قبل نحو ثالثة شهور من تغييب رزان في دوما. 56

57 أربط بين التعذيب واإلبادة رغم أن ه ليس كل التعذيب إبادي ا للقول بأن كل التعذيب م بيد سياسي ا وهذا مثلما أن التعذيب مذل بكل أشكاله رغم أنه ليس كل التعذيب إذاللي ا. وإنما لذلك التعذيب منهج حكم أساسي فإبادة المحكومين سياسي ا تعني خفضهم إلى أتباع أي إلى ما دون بناء مجموعات سياسي ة وما دون الحقوق والمواطنة والمطالبات العام ة. ليس هناك دول أو مت حدات سياسي ة تجمع بين التعذيب وحياة سياسية قائمة على التعد د وليس هناك دول أو مت حدات تتساهل في ممارسة التعذيب دون أن ي نذر ذلك بمخاطر تتهد د تعد دها السياسي الذي هو مرادف للحياة السياسي ة. لكن هل ينجح التعذيب في اإلبادة السياسي ة الواقع أن ه إذا فك رنا في التعذيب ضمن مرك ب من التعذيب والحبس المديد فإنه يبدو ناجح ا بقدر الفت. لقد تم تحطيم المنظ مات السياسي ة السوري ة المعارضة والمستقل ة في عقود حكم حافظ األسد وغ ذ يت نزعات التدمير الذاتي والغيري في أوساطها بفعل الفشل في حماية نفسها وفقدان عوامل الحيوي ة كما جنح قطاع من الضحايا إلى عنف إرهابي أعشى. ال يقتصر أمر عالقة التعذيب على ما تقد مت اإلشارة إليه من فعل م فر د يفصل المعذ ب عن غيره ويرد ه إلى جسد متأل م بل يتعد ى ذلك إلى واقع مط رد: أن المعذ بين كثرة مسل حة والمعذ بين أفراد عز ل معزولون. في كل واقعة تعذيب يجري تفريق المعذ ب عن أي جماعة يحتمل أنه يرتبط بها )عائلة منظ مة روابط صداقة أو عمل...( ليصير وحيد ا ضعيف ا بما يسه ل من كسر مقاومته. ثم إن ه ي ش ت غ ل على التعذيب كمنهج تقليل وتكثير سياسي 57

58 الجسد الواحد أكثر من جال د واحد ورشة من الجال دين. التعذيب هو النواة األولى لسياسة فر ق تسد تفريق المرء عن جماعته المحتملة قبل تفريقه عن نفسه تفريق جسده المكشوف عن سريرته المحجوبة أو أخذ جسده رهينة مقابل تسليم محتوى سريرته وخيانة قناعاته العليا تفريق كيانه الفيزيقي عن كيانه الميتافيزيقي بلغة آمري. )1)) وبالمقابل تكثير وتوحيد الجال دين في مواجهته للوصول إلى هدفهم في هزيمته واحتالله والسيادة عليه. ي حتمل لمن يجري تعذيبهم أن يكونوا كثيرين جد ا كمجموع لكن هم ي فر قون بعضهم عن بعض وي فر دون قبل عملي ة التعذيب من أجل إضعافهم ثم إن عملي ة التعذيب ذاتها ت ضعفهم أكثر. فبعد تقليل الواقعين تحت التعذيب إلى أصغر األقل يات فرد وحيد ي ع مل على تقليل هذا القليل بدوره إلى أجزاء أقل من واحد. وفي هذا ما يجعل التعذيب المنهج األنسب للطغيان.»تشريفة«سجن تدمر مثال نموذجي على صنع األقل ية واألكثري ة بالعنف التعذيبي :»تتحاوف«المجلود الواحد مجموعة يتناوب اثنان منها على األقل على جلده بينما يراقب العمل رئيس هم وي ح ض ر احتياطي من جال دين آخرين وهذا مع رقابة من أسطح المهاجع من قبل الحرس الخارجي المسلح. المعذ ب عاري الجسم أو شبه عار في حالة انكشاف قصوى أقل من نفسه. عبر التفريد والتفريق عالقة التعذيب عكس عالقة السلطة حيث قلة تحكم كثرة إنها كثرة تعذ ب قل ة وإن تكن القلة هذه مصنوعة )1)) تراجع صفحة 28 من: At the Mind s Limit, Contemplations by a Survivor on Auschwitz and its Realities سبقت اإلحالة إليه. 58

59 من كثرة عبر عملي ة فرز وفصل وتفريق مستمرة محمي ة بالسالح بطبيعة الحال وإن تكن الكثرة الم عذ بة مصنوعة بالجمع والضم والتطويع وباإلقناع والخوف كذلك. لعل ه كان في سجن تدمر آالف المعتقلين أو فوق عشرة آالف في أوقات من ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته واألرجح أن مجموع عناصر السجن كانوا في مرتبة مئات فقط. هذا على أن ال ننسى أن لمصنع السلطة هذا عمق ا استراتيجي ا يتمث ل في الدولة األسدي ة. وإن اقتضى األمر أو لم يقتض يمكن أن تأتي قوة كوماندوس وتقتل المعتقلين في زنازينهم مثلما جرى يوم 26 حزيران عام المعذ بون قو ة جمعي ة حتى حين يشتغل واحد منهم فقط على الجسد الواحد في الوقت الواحد. بعد قليل يأتي من يؤازره أو بديل عنه ليرتاح هو من»عذاب«التعذيب. تعذيب المعت ق ل المعر ض للتعذيب للجال د الذي يعذ به أي مقاومته التحول إلى شيء هي ما يعمل التعذيب للتغل ب عليه وما يقتضي أن يكون القائمون بالتعذيب كثرة أكثري ة مقابل المعذ بين المفر قين. كأن ما لسان الحال يقول: نعذ بكم ألن كم تعذ بوننا بعدم االستسالم التام لنا والتطو ع لكشف سرائركم! نعذ بكم ألننا نتعذ ب في حكمكم إن لم تكونوا طي عين كالخراف! وتقديري أن ه في كل وقت كان المجموع الكل ي للقائمين بالتعذيب والقتل في سوريا أكبر من مجموع المعتقلين في هذا الوقت فوق تمك نهم من تقنيات العزل ثم فوق تفو ق السالح وفوق الموارد المتفو قة بدورها. وبينما يبدو أن حاكمي أي بلد قل ة وأن الحكم يقتضي ضرب ا من»العبودي ة المختارة«بحسب نظري ة إتيين دو ال بوسيه فإن نظرة عن قرب ربما ت ظهر أن ه في كل وقت محد د 59

60 تكون قو ة التعذيب الممكنة أو قو ة التحك م واإلكراه المنظ مة عموم ا أكبر من القو ة المقاومة لها المنظ مة كثير ا أو قليال. ولعل النظم السياسي ة تنهار حين تتوازن القوى أو ت رجح قو ة المقاومين. أكثر من القول إن التعذيب عالقة سياسي ة أو قاعدة دعم نظام سياسي قائم على الس يادة والتبعي ة أريد مم ا تقد م القول إن»األكثري ة السياسي ة«تبنى في التعذيب. أعني باألكثري ة السياسي ة في هذا المقام من يحكمون ويقر رون للعموم وباألقلي ة المحكومين المفر قين. أو لنقل إن التعذيب هو عملي ة أساسي ة لصنع أكثري ة وأقلي ة. من يجري تعذيبهم ي قل لون مهما تكن كثرتهم ومن يقومون بالتعذيب يكثرون مهما يكونوا قل ة. المعذ ب يصير أقل من نفسه والمعذ ب أكثر من نفسه. وبقدر ما إن التعذيب يفر ق المرء عن غيره ويفر قه عن نفسه فإن له فاعلي ة تقليلي ة مضمونة. وبالعكس من يق م بالتعذيب يجد نفسه قوي ا وسي د ا وكثير ا. وهو ما ينبغي أن يدفع إلى التفكير بعملي ات التكثير والتقليل السياسي ة في مقابل الكالم على أقلي ات وأكثريات اجتماعي ة ثابتة. التعذيب منهج تقليل يقل ل الفرد الواحد إلى كائن منكمش خائف فاقد للثقة والمبادرة هذا حين ال يجري تحويله إلى شيء أي جثة ويقل ل المجموعة إلى أفراد متناثرين منكفئين على بعضهم والمجتمع إلى مجموعات تدير ظهرها لبعض تخاف من بعضها وال تثق ببعضها. وهو من وجه آخر منهج تكثير حين يتيح لمن يعذ بون أن يظهروا ويعم وا ويهيمنوا أن يصير الواحد أكثر من واحد والمجموعة أكبر من نفسها. في سوريا هذا واقع أساسي. يعتمد الحكم األسدي في بقائه على 60

61 التعذيب وأجهزته من أجل تكثير نفسه وتقليل محكوميه. )1)) ومثلما تقد م القول يندرج التعذيب هنا في إقامة نظام للسيادة والتبعي ة وليس للمواطنة. أعني بالسيادة في هذا المقام امتزاج الحكم بالملك وفق النموذج السلطاني وما يقتضيه ذلك من عصمة المالك وعلو ه ومن تصر فه بملكه كيفما يشاء بما في ذلك القتل. انقالب سوريا إلى ملك أس س لتوريث الحكم في عام ومثال الس يادة هذا ي خر ج السي د من أن يكون فرد ا ليصير معادال عام ا للبلد بكل ما فيه. السي د ال يدخل في عالقة إنه فوق الجميع أكثر من كل أكثري ة ومن الكل. على أن السي د ال يبقى سي د ا دون تعذيب ما يعني أنه ليس داخال في عالقة فقط وليس معوز ا لعالقة فقط بل إن ه ال يكمل عوزه بغير إيالم وإذالل محكوميه. أي أن السي د تابع لألتباع ال يوجد م ن دون تحطيمهم المستمر كي ال يخلعوا طوق التبعي ة. دمار سوريا الحالي مكتوب في هذه العالقة. على ضوء ما تقد م يظهر للتعذيب وجهان وجه نوعي يتمث ل في فصم الرابطة اإلنساني ة وتشييء المعذ ب/ المعذ بين أو تخفيض مرتبته لهم الوجودية ووجه كم ي يتمث ل في تقليل المعذ ب/ المعذ بين وبعثرتهم. وجه المتناع التماهي ووجه للتقليل. تعذيب المجتمع تعذيب المجتمع ال يتبع منطق ا مختلف ا. يمكن التفكير في الحصار كمنهج لتفريق مجتمع محلي محاصر عن غيره مثلما جرى في حماه عام 1982 ومثلما تكر ر حدوثه )1)) ليس هذا هو المنهج الوحيد األيديولوجي ة الوطني ة تقوم بدور في ذلك وكذلك توزيع المنافع. لكن التعذيب هو ما يحرس تماسك النظام. 61

62 في حمص وداري ا والغوطة الشرقي ة ومخي م اليرموك ومضايا وحلب الشرقية وغيرها في سنوات الثورة. وغير الحصار يجري قصف المناطق المحاصرة بالبراميل والقنابل العنقودي ة والفوسفوري ة مع الحرص على استهداف المشافي واألسواق مثلما تكر ر حدوثه في المناطق المحاصرة. الحصار والقصف م نهج ا تقليل مثل التعذيب مناهج إلنتاج أقلي ات. وليس فقط عبر كون التعذيب عالقة سياسي ة يمكن الكالم على تعذيب المجتمع. في سوريا اقترن تعذيب األفراد بأشكال من اإلذالل و»المرمرة«وتنكيد العيش طالت أهالي المعتقلين أو مدن ا أو مناطق استهدفت بالتمييز: حماه مثال أو حلب أو منطقة الجزيرة. التمييز الذي يحميه التعذيب هو تمييز اجتماعي عام حيال من يرتاب النظام بما تكن ه سرائرهم. ثم إن األمر أخذ يتجاوز بعد الثورة التمييز إلى العزل والحصار إلى التجويع والقصف والمجازر. المجزرة هي تعذيب للمجتمع ضحي تها ليس من ق تلوا حصر ا وإنما مجتمعهم كذلك األهل والقرابة والجوار البيئة االجتماعي ة ككل. وبخاص ة أن ه يغل ب أن يتبع المجزرة تهجير أو أن ت رتكب أصال بغرض التهجير. يدرك مديرو المجازر أن تهجير البعض من الحياة يقود إلى تهجير اآلخرين من بيئة حياتهم أو أن قتل أفراد عديدين يقود إلى اقتالع مجتمعهم المحلي. ومعلوم أنه سارت عملي ات الحصار والمجازر والتهجير يد ا بيد في سوريا في سنوات ما بعد الثورة. وكان سبق أن جرى الشيء نفسه بخصوص المجتمع الفلسطيني في النكبة. ثم إن ه في غير مجزرة في سوريا اقترن القتل باالغتصاب كما في كرم الزيتون والحولة عام االغتصاب في سياقنا ليس انتهاك ا ي فر د إنه اعتداء على جماعة المغتصبة. أي مرة أخرى تعذيب للمجتمع. 62

63 ويظهر االغتصاب كتدمير للمجتمع بجالء ال مزيد عليه في كتاب الفتاة األخيرة لنادية مراد»السبي ة«اإليزيدي ة عند داعش بعد استيالئها على الموصل في صيف 2014 وعلى قريتها كوجو في سنجار في العراق. كان س بي النساء واغتصابهن والمتاجرة بهن أحد وجهين لتحطيم المجتمع اإليزيدي ثانيهما هو قتل الرجال الذين»أنبتوا«. والوجهان مع ا يشك الن اإلبادة أو الجينوسايد اإليزيدي. نادية تعرضت الغتصاب متعد د من دواعش قبل أن تتمك ن من الهرب لتجد أنها فقدت أم ها والعديد من إخوتها وأخواتها. )1)) كان اغتصاب ما قد يتجاوز 100 ألف امرأة ألمانية من قبل»الجيش ((2( األحمر«وقت احتالل برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية إذالال جمعي ا ال يحتمل أن يكون دون توجيه مركزي سو غ نفسه على األرجح بالص فة الجمعي ة للحرب واإلبادة النازي ين. تعذيب المجتمع يظهر بوضوح أكبر في الحصار والتجويع الذي طور له النظام شعار»الجوع أو الركوع«الذي ينسخ البنية العدمية ل»المساومة«التي تجري مع السجناء )»تتعاون«أي تصير مخبر ا وإال تبقى في السجن( وكذلك بنية الدستور الباطن )1)) نادية مراد: الفتاة األخيرة قصتي مع األسر ومعركتي ضد تنظيم داعش. ترجمة نادين نصر الله الطبعة األولى دار التنوير بيروت قص ة نادية و كوجو )قضاء سنجاب( رهيبة وهي تظهر أن سبي النساء واغتصابهن هو استمرار لقتل الرجال وكليهما وجهان لإلبادة. بروايتها لها أعطت نادية المجتمع اإليزيدي قص ة فخورة عز زها فوزها بجائزة نوبل للسالم بالمناصفة في عام يمكن المجادلة في السياسة المتضم نة في كتاب مراد لكن ليس هناك وجه عادل للوم شاب ة تعر ضت لما تعرضت له على سياسة تبحث عن أوضاع خاص ة وليس عن حقوق وأوضاع متساوية لجميع العراقي ين. )2)) انظر: Nicholas Robins and Adam Jones (editors), Genocide by the Oppressed, Subaltern Genocide in Theory and Practice, Indiana University Press, p

64 للنظام: األسد أو ال أحد! رهان الحصار هو الطاعة وكسر اإلرادة مثل السجن المديد الذي هو استمرار للتعذيب. تقارن سميرة الخليل بين الحصار والسجن في يومي اتها المكتوبة في دوما في صيف وخريف قالت سميرة إن السجن الذي خبرته شخصي ا في دوما مزحة قياس ا إلى الحصار الذي خبرته في دوما نفسها. )2)) فإذا أضيف القصف إلى الحصار نحصل على مجتمع مقي د بالحصار ومجلود عبر القصف م قل ل وم فر د. ويمكن أن نفك ر في البراميل المتفج رة تحديد ا كأداة تعذيب اجتماعي ليس من حيث إن ها تتسب ب بقتل وتدمير واسعين فقط لكن من حيث إن ها تدمر بيئة الحياة وتبدو لذلك م صم مة للتهجير. البرميل يصلح رمز ا للحاكمي ة أو السيادة األسدي ة على المستوى الجمعي مثلما الكبل الرباعي رمز لها على مستوى تعذيب األفراد. التعذيب والسجن في سوريا ال يكاد يكون بين من هم في السجون من لم يمر وا بالتعذيب أو ال. التعذيب هنا بنيوي ونسقي وليس شيئ ا يصادف أن يمار س. ما يعني أيض ا أن اإلذالل بنيوي ونسقي. ومن السمات البارزة للحقبة األسدي ة بعد التعذيب الم دد الماراثوني ة التي قضاها سوري ون كثيرون في السجون تتجاوز مد ة الحكم النازي كل ه. هذه النقطة جديرة بالتوق ف عندها قليال ألهم يتها التحليلي ة. في سنوات اعتقالنا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين كان مم ا يحضر في تداولنا المقاب لة بين مقدار )2)) سميرة الخليل يوميات الحصار في دوما 2013 المؤسسة العربي ة للدراسات والنشر بيروت 2016 ص

65 التعذيب ومد ة االعتقال. لم يتبلور بيننا تفضيل واضح ألن ن عذ ب أقل مقابل وقت أطول في السجن أو لالحتمال المعاكس أي أن نعذب أكثر مقابل تقليل مد ة السجن. لم يكن ثم ة»سعر تحويل«ثابت يترجم العالقة بين التعذيب ومد ة االعتقال يوم تعذيب مقابل سنة سجن مثال ولم نكن نقدر المدد التي قضيناها في سجون النظام وكانت أطول من أسوأ تقديراتنا جميع ا. الواقع أن المقابلة بين مقدار التعذيب ومدة االعتقال تولدت بالضبط كتمرين ذهني عن طول المد ة. كان في حضور هذا التمرين ما يشير إلى استمرارية بين مقدار التعذيب ومدة االعتقال أو ما يظهر أن طول المدة هو ضرب من التعذيب المختلف وأننا في الواقع لم ننج من التعذيب حين توق ف بإحالتنا إلى السجون ما دام السجن استمرار ا مغاير ا له. وهذا على كل حال ليس مسألة استدالل. في تجربتنا نحن المعتقلون اليساري ون في سجن عدرا أ حلنا إلى معسكر التعذيب في تدمر بعد سنوات طويلة في السجن شارفت 15 عام ا في حاالت كثيرة وجاوزتها بأسابيع قليلة في حالتي. وهذا بعدما كن ا أحلنا إلى محكمة أمن الدولة ونلنا أحكام ا كان سقفها 15 عام ا. كان ذلك مثل اعتقال جديد وبدأ بتعذيب جديد وبحبس عرفي لم نكن نعرف متى يمكن أن ينتهي وتجاوز في معظم الحاالت حكم المحكمة. يجمع بين االثنين التعذيب والسجن فقدان التحك م بالحياة أو تحو لنا إلى مواضيع لسلطة تحتكر لنفسها الذاتي ة والمبادرة والتفكير والقرار. على أن شروط الحياة في السجن يمكن أن تسمح بأشكال من المقاومة والحري ة تلغي مفعول السجن بمقدار األمر المتعذ ر كل ي ا بخصوص التعذيب. في التعذيب فضال عن األلم الجسدي 65

66 المبر ح نحن ن خب ر الموضعة القصوى االنكشاف والوقوع أن نا لم نعد ملك أنفسنا وسادة أنفسنا أننا مملوكون لغيرنا يسودنا بمشيئته. إذ نكون على قرب من الموت في التعذيب فإن نا نخبر فيه زوال الحرية بالمعنى الوجودي وليس الحقوقي والسياسي فقط. الهلع الذي نشعر به أثناء التعذيب يجمع بين الشيئين: األلم واالنكشاف أو االستباحة. لقد سبق القول إن االغتصاب تعذيب. العكس صحيح كذلك في تصو ري: التعذيب اغتصاب. ليس هناك كلمة تكث ف االنكشاف والرعب واالنتهاك مشاعرنا تحت التعذيب أكثر من كلمة اغتصاب. )2)) وفي هذا ما يدعم فكرة أن نا ال نتكل م عن التعذيب بالتفصيل ألن التجربة مذلة فاألمر يشبه استحضار تجربة اغتصاب. مستويات التعذيب السوري ة تأسيس ا على ما سبق من الممكن التمييز في اإلطار السوري بين ثالثة مستويات من التعذيب. التعذيب كعمل أو كعالقة مباشرة والتعذيب كمعمل وإدارة ثم التعذيب كدولة ونظام سياسي. أو بعبارات أخرى التعذيب كفعل جال دين ثم التعذيب كمؤسسة أو جهاز يسمى في سوريا فرع األمن أو المخابرات وهو الوحدة األمني ة التي قد تكون ضخمة كاألجهزة المركزي ة في دمشق أو أصغر كمفرزة األمن العسكري في الر قة لكن ها في كل األحوال الجهة التي تتول ى االعتقال والتعذيب ثم في المقام الثالث التعذيب كنظام حكم. وهو ما ترك ز عليه هذه الفقرة. )2)) لعل في هذا ما يسو غ إلحاق التعذيب من حيث البنية بكل من اإلمبريالي ة والتمييز ضد النساء ومشكلة البيئة. التعذيب غزو وفتح لألجساد كذلك. 66

67 ليس التعذيب شيئ ا يمارسه الحكم األسدي روتيني ا فقط وإن ما هو شيء يكونه )2)) تمام ا مثلما أن الحرب هي شيء تكون ه التي ارات السلفي ة الجهادي ة وليست شيئ ا يحدث أن تفعله. سوريا دولة تعذيب بما هي دولة أمني ة أو دولة تقوم على مركزي ة دور األجهزة األمني ة في ترويع السك ان وكسر عزيمتهم. وما يقوله جان آمري من أن التعذيب هو جوهر االشتراكية القومي ة )النازي ة( )2)) أشد انطباق ا على»سوريا األسد«. الواقع أن التعذيب واإلبادة ذاتها تابعان للحرب والتوس ع في ألمانيا النازي ة فيما حروب النظام األسدي بعد عام 1973 تعذيبي ة تستهدف األضعف منه ومسخ رة لدوام سلطته. مبدأ حفظ السلطة يقتضي التفكير في المحكومين كمصدر خطر أي كعدو والعمل على استئصال هذا الخطر باستمرار. التعذيب ضروري وتاريخ الحكم األسدي خالل نصف قرن يدلل على ذلك بقدر كاف. وبقدر ما إن التعذيب جانب من وظيفة م رك ب جهازي جانبه اآلخر هو صنع المخبرين أي تدريب المحكومين )2)) يجب أن يكون المرء بش ار األسد حت ى يستطيع أن ينكر التعذيب في سوريا ويتنك ر لما يعانيه جال دوه من»عذاب«في التعذيب. الحكم األسدي مذهل في الصفاقة وانعدام الكرامة وفي االستعداد لقول ما يعرف أن كل السوريين يعرفون أن ه كذب. لكن المرء ال يستطيع أن يهين الحكم األسدي مهما يقل فهو المهانة مجسدة طوال تاريخه. انظر مقابلة بشار مع روسيا اليوم في تشرين الثاني 2019: على أن بش ار كان محتشم ا فلم يقل إن السوريين يعذ بونه بحكمه لهم على ما يقول جال دوه لمجلوديه. هناك مكتبة صغيرة من أدب السجون السوري ك تابها معتقلون سابقون وليس بينهم من لم يقل إنه تعر ض للتعذيب. وملف سيزار صار معروف ا عالمي ا )ينظر كتاب غارانس لو كين عملي ة قيصر في قلب آلة الموت السوري ة ترجمة أنس عيسى مركز حرمون 2018(. وتقرير منظمة العفو الدولي ة:»المسلخ البشري» وهو متوفر على موقع المنظمة. )2)) المصدر نفسه ص

68 على الخيانة خيانة أنفسهم ورفاقهم وخيانة مواطنيهم فإن جوهر األسدي ة يظهر في هذا الضوء كخيانة مسلحة مستمرة. بل إن ممارسة هذا المزيج من التعذيب واإلذالل والخيانة طوال نصف قرن تظهر الحكم األسدي كقوة استعمار أجنبي تتحك م بسك ان أصليين أو باألحرى تطابق نموذج استعماري ة السلطة الذي ((2( تتكلم عليه النظري ة النقدي ة األميركي ة الالتيني ة. يقوم المستوى الثالث الدولة على المستوى الثاني المخابرات الذي يقوم بدوره على التعذيب كفعل مباشر. النواة السياسي ة للحكم األسدي هي عالقة التعذيب ال يقوم بغيرها وال ي فهم من دونها. ولعل من األوج ه بخصوص سوريا تحديد ا أن نتكل م عن مستوى رابع: التعذيب كعالم. ليس فقط لكثرة الفاعلين العالميين في سوريا وال ألن نظام العالم القائم على الد ولة السي دة كان دوم ا أقرب بكثير إلى ضمان نجاة دولة التعذيب األسدي ة منه إلى نجاة من تقوم بتعذيبهم إلى درجة تعبير هيالري كلينتون وقت كانت وزيرة للخارجي ة األميركي ة عن حرصها على»البنية التحتي ة األمني ة«في الحكم األسدي الذي كانت تشمئز منه ولكن كذلك ألن ما جعل هذه النجاة ممكنة هو ما اقترن بعودة مساحات استثناء يمارس فيها التعذيب إلى دول كانت تعظ ضد التعذيب قبل زمن لم ا يسقط من الذاكرة بعد: أعني»الحرب ضد اإلرهاب«. ليست )2)) تنظر في هذا الشأن الورقة األساسي ة ألنيبال كويهانو: Coloniality of Power, Eurocentrism, and Latin America. أي تشك ل السلطة والمعرفة وفق النموذج االستعماري. عبر التشك ل االستعماري للسلطة االستعمار لم ينته. 68

69 هذه حرب ا عالمية إنما هي تعريف للعالم كعالم حربي. إذ تنقلب الجيوش إلى مخابرات في مواجهة»اإلرهاب«ينفتح الباب إللحاق الحرب بالتعذيب. خالصات سياسية عملت هذه المناقشة على إظهار بنية التعذيب وتعد د أشكاله وأوجهه ومستوياته: تعذيب استجوابي وتعذيب عقابي وتعذيب إذاللي وتعذيب إبادي تعذيب األفراد وتعذيب المجتمع التعذيب كعمل مباشر والتعذيب كمؤس سة والتعذيب كدولة والتعذيب كعالم. باالستناد إلى هذا التحليل المستند بدوره إلى التجربة السوري ة في نصف القرن األسدي يظهر أن المصنع السر ي/ العلني للسياسة هو فرع المخابرات وأن التعذيب هو العالقة السياسي ة األساسي ة وأن عالقات التعذيب السياسي ة هي المدخل إلى فهم الحاكمي ة أو السيادة األسدي ة خالل نصف قرن. يحاكي االستمرار بين التعذيب والسلطة االستمرار بين العمل والسلعة في نظري ة القيمة عند ماركس بما يتيح التفكير في قو ة العمل كسلعة من نوع خاص وفي السلعة كعمل محق ق. في ثنائي ة التعذيب والسلطة لدينا بدل العم ال جال دون وبدل المواد األو لي ة لدينا مجلودون ونتاج التعذيب الذي هو السلطة مفصول عن منتجيه أو عم اله المباشرين الجال دين مثلما السلعة مفصولة عن المنتجين المباشرين في الرأسمالية. يمكن أن نسمي نمط إنتاج السلطة في سوريا في الحقبة األسدي ة بالنمط السيادي الذي يقوم على التعذيب وإنتاج التبعي ة. وهو ما يعني أن كل كالم في السياسة في سوريا ينبغي أن يبدأ من هنا من ب نى وعالقات التعذيب السياسي ة. 69

70 ومن هنا أيض ا نعر ف ما يمكن أن تكون سياسة تحر ري ة بأن ها جملة الممارسات والقواعد والمؤس سات المصم مة لمنع تعذيب األفراد والمجتمع ومن باب أولى القتل واإلبادة. هذا ألن التعذيب نازع الجتماعية المجتمع بالذات وكذلك لسياسي ة الدولة. وهو ما يقتضي أال تكون الدولة احتكار ا للعنف الشرعي بحسب تعريف ماكس فيبر لها إال على أرضي ة تحريم التعذيب ألنه ليس هناك تعذيب شرعي. حين ينكر بش ار األسد ممارسة التعذيب في دولته فإنه يكذب كما يعلم الجميع لكن كذبه بالذات هو بمثابة إقرار بال شرعي ة التعذيب. فإذا مورس هذا العنف غير الشرعي من قبل الدولة وهو ممارس على نطاق واسع ومترس خ كان محتمال بقدر كبير أن يمارس العنف غير الشرعي من قبل المجتمع في صورة اإلرهاب أو الجريمة أو العدواني ة العامة. والسوق السوداء للعنف التي يرو ج فيها شكل من الالشرعي ة يرو ج فيها كل شكل آخر والالشرعية الدولتية تفتح أبواب الالشرعي ة كل ها: اإلرهاب والجريمة والالقانونية العامة أو األنومي بعبارة دوركهايم وهي باب للجنوح واالنتحار والعنف. وما ي بنى على ذلك هو أن الحرب ضد اإلرهاب دون حرب ضد التعذيب غير مثمرة وغير عادلة فوق أن ها تجنح ألن تكون تعذيب ا وإرهاب ا هي ذاتها. فإذا صح ما قيل في المتن من أن سوريا األسد دولة تعذيب وليست مجر د دولة يحدث أن يمارس فيها تعذيب فإن إعادة بناء المت حد السياسي السوري يمر حتم ا باجتثاث وكاالت التعذيب األسدي ة. اجتثاث المخابرات»البنية التحتي ة األمني ة«وليس اجتثاث البعث مثال وال حل الدولة هو المدخل إلى سوريا جديدة قابلة للسياسة. 70

71 التعذيب والتفكير والشر التحليل الوارد هنا يتعارض مع نظري ة حنة آرندت في الشر المبتذل الذي ينشأ من عدم التفكير مثلما مي زته عند أدولف آيخمان. لكن بينما قد يوافق المرء مؤل فة آيخمان في القدس على أن الشر ليس فعل أشرار ساديين ذوي أعماق سوداء وأن الواحد منا يمارس الشر ويكر ر ممارسته فيصير شر ير ا وليس العكس وهو ما يعني أن في األمر تأهيال وتمرس ا وقبل ذلك اجتماع ا وسياسة فإن التعذيب من بين صنوف الشر أقل ها بقرطة وأكثرها شخصي ة ومن األكثر اقتضاء لجهد الذهن والجسد. يبدو التفكير ممتنع ا من قبل القائم بالتعذيب أكثر من امتناعه من طرف من يقع عليه التعذيب. هذا يبحث عن مخرج ينهي عذابه. وما لم يكن التعذيب إبادي ا فإنه ال يمحو كل استقالل ومبادرة من طرفه. لقد سبق القول إن ما يجعل شخص ا ي عذ ب شخص ا آخر هو ما يحتمل أن يمنحه إياه التعذيب من شعور بالقدرة والتحكم من شبه صراع يخرج منه منتصر ا. ال صراع في واقع األمر وانتصار الجال د مضمون سلف ا مع»صفر خسائر«يتكب دها. لكن في الحالة القصوى حين يجري تشييء المعذ ب وت س ي د المعذ ب يتكشف السي د عن قو ة تعذيب محض ال معنى لها بينما يصير من تشي أ»شهيد ا«غني ا بالمعنى. تنقلب العالقة فيصير»اإلله«عبد ا لقو ته ((2( الفالتة ويصير»الشيء«رمز ا لقضية وصراع تحر ر. )2)) قد يمكن التفكير في المقابر الجماعي ة واإلذالل الخارق للمعتقلين على ما تسر ب في ملف قيصر وغيره وحجب المعلومات عن مصير المعتقلين كمساع من طرف النظام للحيلولة دون ظهور شهداء خلق مساحة من الغموض ال يمكن قول شيء محدد بشأنها. أو رد المقتولين إلى مثال اإلنسان المباح sacer( )Homo الذي ال قيمة قرباني ة لموته. اإلذالل مكو ن أساسي للوظيفة األمنية في الحقبة األسدي ة إن عبر التعذيب أو عبر الخيانة المفروضة بالقوة. 71

72 فيما دون هذه الحالة القصوى هناك جهد عضلي بال تفكير من قبل الجالد وهناك مساحة للحيلة والتفكير من قبل من يقع عليه التعذيب. قد ينجح في خداع جال ده فينتصر عليه بالحيلة أي بالسياسة. يمث ل الشخص الواقع تحت التعذيب سياسة أخرى السياسة التي معناها الحر ية في مواجهة السياسة )بل السيادة( التي معناها الموت. ثم إنه قد يواتيه الحظ ويستطيع أن يهرب إلى الحر ية حتى من عزرائيل المقدم معن مثلما روت الغائبة رزان زيتونة في تقريرها المتقدم ذكره. في ألمانيا النازي ة مرجع آرندت الواقعي للتفكير في الشر لم ي غي ب التعذيب لكن معظم من جرت إبادتهم أبيدوا ليس لشيء فعلوه ولكن لكونهم هم من هم: يهود أو غجر أو سالف أو مصابون بأمراض خلقية... وإن يكن جرى تعريف من يكونون تصنيفهم وتمييزهم وفصلهم عن غيرهم كأحد وجوه عملي ة اإلبادة. وتأم الت آرندت عن الشر تولدت عن محاكمة آيخمان الذي كان مسؤوال عن نقل اليهود إلى معسكرات االعتقال النازي ة. لو كانت تتناول مسؤوال في الغستابو أو في قوات الصاعقة النازية )SS( لكان محتمال أن تقول شيئ ا مغاير ا. لجان آمري الذي تقد مت اإلشارة إليه غير مرة تعليق مرير على نظري ة آرندت يفيد بأنها»تعرف عدو اإلنسان ((2( من القيل والقال رأته فقط من وراء قفص زجاجي «. أميل في المحص لة إلى أن ه ينطبق على التعذيب تعريف الشر الجذري الذي استعارته آرندت من كانط واستخدمته في أصول التوتاليتاري ة الشر الذي يصدر عن ني ة شر يرة ومقصد شر ير. )2)) يحيل آمري إلى قفص زجاجي ال يخترقه الرصاص ظهر آيخمان فيه أثناء محاكمته في القدس. المصدر نفسه ص

73 فإذا عدنا إلى مستويات التعذيب السوري ة الفعل والجهاز والدولة فإن مستوى الدولة هو مستوى التفكير والقرار بيده تقرير االعتقال والتعذيب والسجن واإلعدام فيما الجهاز هو إدارة تنظ م عملي ات االعتقال والتعذيب والسجن واإلعدام وتترجم التفكير إلى عمل يقوم به المستوى الثالث جيش التعذيب العامل. وبنية فرع األمن األسدي تحمل هذه الثالثي ة: مكتب فخم لرئيس الفرع الذي يقود العملي ات وتلتقي عنده المعلومات مكاتب إدارية لضب اط ومحق قين وموث قين ثم غرف للعناصر أقرب إلى أقبية التعذيب. الشر يترك ز في الرأس في الحالين. وأختم بما يبدو تمثيال النقالب جدلي بين الجالد والمجلود. األول يخرج من اإلنسانية نحو السيادة والتأله لكن كذلك نحو الصمت. ليس لدى الجال د ما يقوله عن عمله ليس لديه قصة حكاية مختلفة تروى لمهتمين وتنطوي على مثال أو ع برة. أما المعذ ب الذي ي رد إلى جسد الذي ي قل ل وي شي أ فلديه قص ة إن لم يمت قص ة نضال ومخاطرة من أجل الحر ية الشخصي ة والعام ة وهو إن مات صار رمز ا ومعنى قصة يرويها من يأتون بعده. وفي هذا الشأن ال يسج ل الجال د الرمزي المنشغل بتسفيه معارضي النظام ونفي أن لهم قضي ة عام ة اختالف ا حاسم ا. ففضال عن افتقاره إلى أجساد يجلدها خالف ا لنظيره الجسدي ليس لديه قص ة يرويها. يثابر على الجلد الرمزي لخصوم دولة التعذيب يكر ر الشيء نفسه مر ة تلو المرة ألنه ليس لديه قصة. استخالص عام عملت هذه المقالة على إظهار أن التعذيب عالقة شر أساسي ة إن لم تكن األساسي ة. عملت كذلك على إظهار 73

74 أن سوريا في الحقبة األسدي ة دولة تعذيب ما يعني أننا عشنا في شر عميم طوال نحو نصف قرن وأن الذرى التي عرفناها خالل ما يقترب من عقد هي استمرار في شروط مغايرة لشر م مأسس مترس خ في نظام حكم. ما تقوله خبرة السنوات المنقضية هو أن»سوريا األسد«دولة تعذيب وأنه ال يمكن لسوريا بدون تعذيب إال أن تكون سوريا ال أسدي ة. 74

75 الس ن ة التدم ري ة: صيدنايا التحو ل العنصري اإلبادة»الم سلخ البشري» هو عنوان التقرير الرهيب الذي أصدرته يوم 7 شباط 2017 منظ مة العفو الدولي ة عن سجن صيدنايا في سوريا. المنظ مة المتحف ظة في الموقف السياسي وفي لغة التعبير تبدأ تقريرها مع ذلك بالجملة الصادمة التالية:»سجن صيدنايا العسكري هو المكان الذي تقوم الدولة السوري ة فيه بذ بح شعبها بهدوء«. وفي نحو خمسين صفحة ي ورد التقرير وقائع ت قشع ر لها األبدان عن التعذيب واإلذالل والتجويع والبهيمي ة والقتل في ذلك الجحيم المعزول والمحروس بح رص. وي قد ر التقرير الذي يتناول»عملي ات الشنق الجماعي واإلبادة الممنهجة في سجن صيدنايا«أنه من المحتمل أن 13 ألف معتقل قد تم شنقهم فيه بين أيلول 2011 ((( وآخر عام م ن كان من أهل التجربة في سجون الدولة األسدي ة سي شعر بأن ه سبق أن عر ف أكثر ما ي قرأه في تقرير منظ مة العفو ومع ذلك يبدو أن هناك تقد م ا في مستوى الفظاعة لم ت سج ل مثله شهادات مباشرة من سجن تدمر في ثمانيني ات القرن العشرين وتسعينياته. ))) التقرير متاح على موقع منظ مة العفو الدولي ة. 75

76 فقد اقتضى األمر نحو عقدين من السنين كي يصير مجمل عدد المفقودين في سوريا في سنوات األب بين 15 و 17 ألف ا ي عتق د أن معظمهم أ عد موا في ذاك المعزل الصحراوي بينما هناك اليوم ما قد يتجاوز 13 ألف ا من المقتولين خالل ما ال يتجاوز أربع سنوات وثالثة أشهر ي غط يها التقرير الذي بين أيدينا. وهذا دون أن يكون سجن صيدنايا هو المسلخ العامر الوحيد في»سوريا األسد«. على أن الس ن ة التدم ر ي ة التي أرساها حافظ األسد تبقى هي الساري ة في الحقبة األسدي ة الثانية رغم الفارق الك م ي وتبد ل موقع مصنع الرعب األساسي من تدمر إلى صيدنايا. في سنوات األب كان يجري في تدمر إعدام دوري لمعتقلين طوال الثمانيني ات وبعض التسعيني ات وكذلك تعذيب عشوائي للسجناء يوم ي طوال عقد ي القرن الماضي األخير ين وكان معظمهم من اإلخوان المسلمين أو الم حسوبين عليهم بم ن فيهم نساء قضى بعضهن تسع سنوات هناك. لكن مر بالسجن لسنوات وتعر ض للتعذيب فيه كذلك معتقلون يسار ي ون وبعث ي ون م والون للحكم العراقي ولبناني ون وغيرهم. ت د م ر ة سوريا أعني تعميم نظام سجن تدمر على البلد وعلى نحو تدميري للمجتمع السوري هي الن قلة النوعي ة التي تحق قت لبش ار ويستحق أن يرتبط اسمه بها تاريخي ا. ستتفح ص هذه المقالة الس ن ة التدمري ة أو التقليد الت دم ري أعني ما ي مي ز سجن تدمر في وقت سابق وصيدنايا اليوم وما يجعلهما معسكر ي اعتقال وتعذيب وليسا مجر د سجنين وت نظر في أوجه اختالف بين صناعات الموت األسدي ة والنازية )والستالينية( وت قترح تفسير ا لتطو ر الن زعات اإلبادي ة في الدولة األسدية وتختم بالنظر في الشروط السياسي ة والثقافي ة الدولي ة التي وف رت الحصانة لصناعة القتل األسدي ة حتى اليوم. 76

77 الس ن ة التدمرية من أكثر الوقائع صدم ا للمعتقل السياسي في»سوريا األسد«وبخاص ة في سجن تدمر أن الجال د ي ح ب عمله ي نج زه ب»تقوى«بحسب تعبير دمشقي عن العمل الم تق ن. األمر بعيد عن تنفيذ روتيني لعمل م نف ر يقوم به المرء مضطر ا بحكم الوظيفة. لدينا هنا مساحات واسعة من التطوع والحر ية ومن الحب في عمل الجال دين وهم ال يكف ون عن االبتكار واإلضافة. األمر بعيد عن الشر الم بتذ ل مثلما وصف ته حن ة آرندت: شر خاضع لترات ب بيروقراطي م نضبط يخلو من انفعال شخصي مباشر ومن هامش مبادرة حرة للجالد. ليس هناك جالد أصال في معسكرات االعتقال النازي ة. هناك آلة فيها عاملون يقومون بدورهم وفق نظام ثابت. ال شيء شخصي في وصف بريمو ليفي ))) لت جربته في آوشفيتز معسكر االعتقال النازي. المعتقل هناك عضو في»جيش معتقلين«يعملون جماعي ا )وإن كان هناك ضرب من تقسيم العمل بحسب مؤه التهم( ي جو عون جماعي ا وي قت لون جماعي ا أيض ا. القتل في معسكر االعتقال النازي»صناعي «م رتبط بنظام إنتاج م ع قل ن ورأسمالي ويجري»انتخاب«معتقلين إلى أفران الغاز بخاصة حين تنضب طاقتهم على العمل وهناك قبل ذلك نظرية حول انحطاط اليهود والغجر والمرضى... وحول تفو ق العرق الجرماني وألمانيا التي»فوق الجميع«حسبما كان يقول النشيد الوطني أللمانيا النازي ة. لكن ال يبدو أن هناك انفعاال شخصي ا قوي ا من ق ب ل أفراد القو ات الناز ية حيال المعتقلين. If this is a Man ))) يراجع كتابه: أليس ب ش ر ا والكتاب متوف ر على عدد من المواقع اإللكتروني ة. 77

78 ليفي يتساءل في كتابه:»كيف يمكن ألحد أن يضرب شخص ا دون غضب «ويقول إن الشعور الوحيد الذي ترك ته أولى اللكمات التي تعر ض لها هو»االندهاش العميق«)رب ما نتوق ع المهانة أو الغضب أو الكراهي ة(. وكتابه ي عطي االنطباع بأن التماس الجسدي بين قو ات الصاعقة النازي ة وضحاياهم اليهود )والمجرمين الجنائيين والمعارضين السياسيين( محدود جد ا. لويس ألتوسير الذي قضى 3 سنوات في معسكر اعتقال نازي كأسير حرب فرنسي ي ورد في مذك راته المستقبل يدوم طويال Time The Future Lasts a Long صورة عن أوضاع أقل وحشي ة بكثير لكن تجربته أيض ا ت عطي ((( االنطباع بنظام م ع قل ن وغير شخصي. في المعتقل األسدي بالمقابل لدينا شر م مارس بش غف ي فس ح مجاال واسع ا لمبادرة الجال د وإبداع ي ته ودوم ا مع تماس جسدي مباشر. ي مسك مثال جال دان معتقال مهزوال من يديه ورجليه وي ؤرج حانه وهما يصرخان بج ذل: واحد تنين واحد تنين... قبل أن يقذفاه عالي ا ليسقط على األرضي ة اإلسمنتي ة في دق عنقه وينكسر ظهره ويموت خالل دقائق. أو يندفع جال د مسرع ا ثم يقفز عالي ا قبل أن يحط بقدميه على ظهر سجين م نبطح على بطنه في الباحة اإلسمنتية ذاتها في قت ل أيض ا خالل دقائق. هاتان م رو ي تان من زميل دراسة من مدينة حماه السوري ة قضى 12 عام ا في سجن تدمر. وأورد ما ي شبههما من حيث المبادرة واالبتكار مصطفى خليفة في روايته عن سجن تدمر القوقعة ))) وفرج بيرقدار في خيانات اللغة اعتمدت على نسخة مقرصنة من الترجمة اإلنكليزية. ))) دار اآلداب الطبعة الثالثة ))) 78

79 والصمت ))) وبراء السر اج في م ن تدمر إلى هارفارد ))) ومعبد ((( الحسون في قبل حلول الظالم حين يصير الدم ماء. والوسيط حين ال يكون التماس الجسدي مباشر ا هو أداة التعذيب. تعرضت شخصي ا وقت اعتقالي في أواخر عام 1980 لتعذيب غير قاتل اقتضى جهد ا عضلي ا من الجال د. كان يعمل ضد الوقت ويريد الفراغ من مهم ته. لم يكن جسدي مباح ا له تمام ا وهامش اإلبداعي ة ظل ضيق ا: أقحم خيزرانة رفيعة في أنفي وحر كها وقت ك نت أتصن ع اإلغماء حتى غرغرت بالدم ودع س شريك له بحذائه على فمي كيال أصر خ وهذا بينما كنت محشور ا في الدوالب أجلد ويداي م قي دتان تحت ظهري. الباقي هو الجلد على القدمين في بساط الريح والدوالب أي التعذيب الروتيني على تناقض هذا التعبير الذي ي ضمر أن الجال د قوة تعذيب آلية فحسب عليها أن ت نت ج الناتج المرغوب: اعتراف المجلود دون انفعال من ق ب ل الجال د ودون مساس م هل ك بتكامل المجلود الجسدي. ال يكون األمر كذلك أبد ا أعني ال يكون التعذيب روتيني ا مجرد ا من االنفعال الشخصي لكن مستوى الروتينية في ج لدنا نحن معتقلي الدولة األسدي ة اليسار ي ين كان أعلى من م عد لها في جلد اإلسالميين. كان مستوى اإلبداعي ة بالعكس تمام ا أعلى في التعامل مع اإلسالميين. عموم ا يبدو أن مساحة اإلبداعي ة تتناسب طرد ا مع الكتاب صادر عن دار الجديد في بيروت ))) الكتاب متاح على ))) الكتاب صادر عن دار نون في عنتاب ))) 79

80 إباحة أجساد المعتقلين للجال دين أي مع حري ة الجال د في التعامل مع جسد الم عذ ب لذلك كانت أوسع في التعامل مع أجساد اإلسالميين. كان الوصول إلى الس قف أعني قتل المعتقل اإلسالمي تحت التعذيب متاح ا وآمن ا )بالمقابل ق ت ل منا نحن اليساري ون آحاد تحت التعذيب(. والخالصة أن الس ن ة التدمري ة تقوم على اإلبداع في التعذيب. فإذا وضعنا في بالنا أن مفهوم ي الس نة واإلبداع نقيضان وجب أن ي سج ل لألسدي ة التي لم ت بدع في شيء آخر أن ها جعلت اإلبداع س نة وتشك لت هي بالذات في س ن ة تعذيب قد ال ت ذك ر في التاريخ بغيرها. أنظمة القتل يشترك نظام ا القتل الجماعي األسدي والنازي في نطاقهما الواسع لكن مستوى الع قل نة أعلى بكثير في المعسكرات النازي ة. هنا ثم ة صناعة كبيرة من حيث التنظيم ومن حيث اإلنتاجي ة والم نت جون المباشرون فيها قو ات الصاعقة النازي ة م نفص لون عن أدوات إنتاج الموت ال يملكونها على ما يقتضي نمط اإلنتاج الرأسمالي. لكن هم ليسوا بروليتاريا ت نت ج القتل لتعيش إنهم إدار ي و صناعة القتل باألحرى الذين ي شرفون على تقسيم العمل بين المعتقلين النافعين اقتصادي ا وعلى تنظيم قتل غير النافعين من أطفال ومرضى. ال تصلح كلمة جال د لوصف م نت ج الموت النازي ألن ه عنصر في نظام صناعي للقتل ال يترك له هامش مبادرة واسع ا. أما القتل األسدي في مكن اعتباره صناعة من حيث اإلنتاجية أعني عدد المقتولين لكن ه متواضع من حيث التنظيم الداخلي ومستوى الع قل نة ونمط إنتاج الموت فيه من صنف المانيفاكتورات اإلنتاج 80

81 الحرفي الم تدن ي التنظيم والقائم على تقسيم عمل بسيط. كان تعبير صناعي قد راج في وسائل إعالم غربي ة )قد تكون الغارديان البريطاني ة أو ل من استخدمه وقتها( ))) في وصف القتل األسدي بعد تقرير سيزار لكن يبدو أن األمر بحاجة إلى استدراك. ي مكن الكالم عن صناعة قتل أسدي ة من وجهين. من حيث إنتاجيتها العالية نسبي ا ثم من حيث كون هذه الصناعة م نظ مة بحرص ي شارك في حضور حفالتها م ندوبو أجهزة أمني ة متنو عة حسب تقرير منظ مة العفو الدولي ة ثم من حيث درجة من الع قل نة أعني توثيق القتلى وترقيمهم على ما رأينا في صور تقرير قيصر وما ي حتمل أنه تقديم تقارير حول اإلنتاجي ة إلى جهة عليا. لكن القتل األسدي قتل دون صناعي من حيث وسائل إنتاجه: التعذيب والم شنقة. وهذان يقتالن أفراد ا قد يبلغ عددهم خمسين كل دفعة حسب تقرير منظ مة العفو الم بني على شهادات معتقلين سابقين وعناصر شرطة عسكري ة وقضاة م نشق ين. وحت ى إن أضفنا ضحايا الجوع والمرض في المعتقالت األسدي ة يبقى القتل غير م م ك ن ن إن جاز التعبير كما في أفران الغاز النازي ة. والخالصة أن نصيب العلم والتكنولوجيا المتطورة في صناعة القتل األسدية متواضع خالف ا لشقيقتها النازي ة. ومن أجل قتل ستة ماليين سوري العدد الذي ربما قتله النازي ون من اليهود يلزمها ثورة تكنولوجي ة وت جاوز نظام المانيفاكتورة. ))) انظر مقالة يان بليك: Ian Black, Syrian regime document trove shows evidence of 'industrial scale' killing of detainees. المنشورة في الغارديان في 21 كانون الثاني 2014 والمتاحة على موقع الصحيفة. 81

82 ورغم أن ضحايا النازي ة لم ي قتصروا على م ن جرى ش ي هم في أفران الغاز بل تشمل كثيرين ماتوا من الجوع والمرض في معسكرات االعتقال أو م ن جرى قتلهم بالرصاص في م رحة الجيوش النازية الغازية ))) فإن لن ظام العمل والقتل الناز ي ين طابع ا جماعي ا يح د هو اآلخر من هامش إبداعي ة الجال د. في ما أ سم يه السجون الباطنة في»سوريا األسد«مثل تدمر في سنوات األب وصيدنايا في زمن االبن والمقر ات األمني ة في كل وقت التعذيب جمعي لكن أسوأه ما يطال أفراد ا مثل م ن كان يجري»تعليمهم«في تدمر لسبب ما أو دون سبب أي إفرادهم عن غيرهم بعقاب ال»تسعيرة«م حد دة له. ومرجع األمر إلى مزاج الجال د وتفضيله الشخصي. على أن النظام م صم م من فوق بحيث ي تيح له هذه المساحة الواسعة من الحري ة. والتواضع التكنولوجي لن مط الموت األسدي هو سبب اقتضائه للجهد العضلي والتماس الجسدي وهو ما يشرح هامش الحر ي ة األوسع لح ر ف ي ي الموت األسديين إذ يتعذ ر عليهم إنتاج الحجم المطلوب من الموت دون أن ت باح لهم أجساد المعتقلين ويحوزوا حر ي ة تام ة حيالها. ومن هنا»التقوى«في عملهم. ومن هنا كذلك ضعف صالحي ة مفهوم الشر المبتذل لتعريف ش ر هم. ومن هنا كذلك استحقاق ح ر ف ي ي الموت هؤالء صفة الجال د خالف ا لنظرائهم النازيين. ))) ينظر من أجل»هولوكوست الرصاص«كتاب كرستوفر براوننغ Christopher Browning, Ordinary Men: Reserve Police Battalion 101 and the Final Solution in Poland, Penguin Books, والكتاب يتناول تصفية اليهود بالر صاص من ق ب ل كتيبة شرطة احتياطي ة تشك لت مم ن تجاوزوا سن الحرب وعملت في خلفي ة الجيوش النازي ة الغازي ة. 82

83 الجال د هنا هو صبي الح رفة ال يملك وسائل إنتاجه وال يأخذ الدوالب أو بساط الريح أو الكبل الرباعي معه إلى البيت. والتماهي بالمعل م )لقب حافظ األسد وقادة فروع األمن وكذلك لقب قادة الش بيحة( ي سه ل للصبيان التحم س للقتل إرضاء له. التنظيم االجتماعي السياسي لح رفة القتل وللطائفي ة كذلك دور حاس م فيه ي قنع ح ر ف ي ي القتل بأن أدوات القتل ونظامه العام الدولة األسدية م لكهم. والقصد أن الفارق الجوهري بين نمط ي القتل األسدي والنازي ي حيل إلى نمط ين من إنتاج الموت وتنظيمه االجتماعي. القتل النازي رأسمالي كما سبقت اإلشارة يستنفد قو ة العمل لدى المعتقلين قبل أن ي شويهم وي بادر إلى التخل ص ممن ال ي ستفاد منهم من أطفال ومرضى وعاجزين. صحيح أنه يقتل اليهود ألنهم يهود لكن ه رغم ذلك يستغل القادرين منهم على العمل إلى النهاية وإن لم يكن ي بالي بإعادة إنتاج قو ة عملهم. ي شير ليفي في كتابه إلى أن ه كان ينتمي إلى فئة»اليهود النافعين اقتصادي ا«وهو بقي على قيد الحياة إلى وقت سقوط النازي ة ألن ه كان من هذه الفئة. لو انهار في أي وقت لو تحو ل إلى»م س لمان«)1)) لجرى انتخابه إلى أفران الغاز. هناك حدود لع قالني ة نظام القتل النازي تتمث ل في الالمباالة بإعادة إنتاج قو ة عمل المعتقلين وقبل ذلك في عنصري ة م عاداة السامي ة المثابرة على»الحل النهائي» حت ى حين أخ ذ يستهلك موارد على حساب الجهد الحربي للنظام النازي بعد عام أم ا نظام القتل )1)) يراجع كتابه: أليس بشر ا ص

84 األسدي فم رتبط باالقتصاد الر يعي للس لطنة األسدي ة الذي يقوم على خ صخصة الدولة واستباحة الموارد العام ة أي على أن الدولة هي بئر البترول الذي ال تنضب عوائده وهو ما ي تيح للدولة األسدي ة أن تستقل عن م حكوميها استقالال واسع ا مثل كل الدول الريعي ة وأال ت فك ر في السوريين كأفراد وم نتجين وأن تتخل ص من الثائرين منهم ألنهم خط رون وال ي نتف ع منهم بشيء. ويبدو أن نمط القتل السوفيتي كان أشد تمركز ا حول اإلنتاج من نظيره النازي على ما ي ستدل من عالم على حدة لليهودي البولوني غوستاف هيرلنغ الذي كان معتقال هناك. )1)) وإن يكن المآل األخير لمن است نز فت قدرتهم على العمل وهد هم الجوع والمرض هو المقبرة وليس غرف الغاز )غالب ا عبر حي ز وسيط يقضي فيه المعتقل أي امه أو أسابيعه األخيرة ويسمى م ماتة )1)) (. إال أن ه أقرب إلى القتل النازي من حيث تشغيل السجناء واالستفادة من»قو ة عملهم«. سجون الغوالغ السوفيتي ة )يقول هيرلنغ إن عدد المعتقلين في مطلع أربعينيات القرن العشرين ي قد ر بنحو 20 مليون معتقل( هي معسكرات عمل إجباري أو س خرة وهو ما يشير إلى مركزية العمل واإلنتاج فيها. إال أن القتل السوفي تي ي شبه القتل األسدي من حيث إنه غير م م كن ن وإن المعتقلين يموتون فيها بأعداد كبيرة لكن ف رادى. والتقابل األساسي بين نظام ي القتل النازي والسوفي تي والنظام األسدي هو حلول التعذيب في سجون األسديين الباطنة )1)) انظر: Gustaw Herling: A World Apart, translated by Andrzej Ciolkosz, Penguin Books, )1)) المقصود: Mortuary 84

85 محل»األشغال الشاقة«في سجون ومعسكرات الروس واأللمان. ت ساء معاملة السجناء بشد ة عند األخير ين وهم ج ياع غالب ا لكن ال يجري تعذيب غير المقاومين. السجون الباطنة األسدية بالمقابل ت جمع بين التعذيب والجوع. التبذير في الحياة البشري ة والتصر ف بها بحر ي ة م شترك بين أنظمة القتل الثالثة لكن يبدو النظام األسدي أكثر شخصي ة وأشد امتالء بالكراهي ة واإلذالل. الكراهية والطائفي ة غير االقتصاد هناك دور سياسي مهم للرابطة االجتماعية اإليديولوجي ة. جال دو الدولة األسدي ة هم م ن حازوا أفضلية معلومة طوال عقود في التماهي بهذه الدولة واعتبروها م لك ا لهم فصاروا ح ماتها الم تحم سين. الكالم عن التماهي يعني الكالم عن الحب فنحن نتماهى مع م ن ن حب ون ج ل وال يمكن أن نتماهى مع م ن ال نحب أو نجل. م ن نحب ونجل هو مثلنا األعلى سندنا وعزوتنا و»قائدنا إلى األبد«هو»األمين حافظ األسد«)أو هو»سيدنا محمد«عند»األسالميين«(. )1)) نفعل كل شيء من أجل القائد األبدي ن عذ ب من أجله ونقتل من أجله. التماهي يعني أن ما ي ريده م ن نتماهى به هو شيء ن ست بط ن ه نحن ونريده شخصي ا )1)) حول»األسالميين«تراجع مقالتي:»صورة ع لمان وراية مقاربة اجتماعي ة رمزي ة لتفاعل وصراع أربع سوريات«ض من كتاب الثورة المستحيلة: الثورة الحرب األهلي ة والحرب العام ة في سوريا المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ص األسالمي ون هم م ن أحل وا كلمة»األسالم«)حتى إنهم لم يبدلوا موقع الهمزة( محل األسد في شعارات أسدية من نوع»األسد أو ال أحد«أو»األسد أو نحرق البلد«فصارت»األسالم أو ال أحد«أي هم أسديو اإلسالمي ة. 85

86 أن»م رضاته«هي رضانا أيض ا نحن المؤمنين به وأن نا نتفانى في خدمته ون ضح ي بأنفسنا من أجله. وموضوع التماهي شخصي وهو في الحقبة األسدي ة األولى حافظ األسد واليوم بش ار )بحكم الموقع والوراثة ربما وليس بحكم الشخص(. جال دو الدولة األسدي ة األشد ضراوة واألقوى عداء لم عارضيها هم األقوى حب ا وإجالال لها وتفاني ا في خدمتها بوصفها دولة أسدي ة وليس بوصفها»سوريا«أو»الوطن«أو»الدولة«... وإن كانت إيديولوجي ة األسديين تقوم على استغالل هذا االلتباس لمصلحتهم. هذا مهم من وجهة نظر المسؤولي ة القانوني ة: نظام القتل في الحقبة األسدي ة م رتبط بالوالء لشخص على نحو يجعل هذا الشخص مسؤوال مباشرة عن كل قتل وتعذيب م ورس في عهده. وهذا على نحو ي سو غ القول إن حافظ ثم بش ار هما شخصي ا منبع الشر في نظامهما أو إن شر النظام م ترك ز في رأسه. فإذا كان الجال دون األسدي ون يفت كون بالمعتقلين بغ ل شخصي فألن العالقة بينهم هي عالقة تناف العالقة بالعدو وما يرتبط بها من انفعاالت الكراهي ة والرغبة باإلذالل والقتل. نصون هوي تنا ونظام تماهينا بن في العدو وإفنائه. وحين يصل التماهي ذروة االلتحام بالم تماه ى به»الفناء«بلغة الصوفي ة يبلغ أيض ا أقصى حد من إرادة إفناء م ن تجمعنا به عالقة تناف : اإلبادة. أفق اإلبادة ت كث فه شعارات من نوع»األسد أو ال أحداألسد أو نحرق البلد«. وهي ت كث ف الرغبة بقتل الجميع إن كان لألسد وهو موضع التماهي وسند الهوية أن ي بيد. تتمي ز المعسكرات األسدي ة عن النازي ة والسوفيتية بما يتول د عن الكراهية الشخصي ة من نازع قوي نحو اإلذالل الشخصي. بحدود ما أ تيح لي من اط الع على أحوال معسكرات النازيين والسوفي ت 86

87 لم يكن هناك اغتصاب إذاللي للسجناء الرجال والنساء ولألطفال. بالعكس النظري ة العنصري ة للنازيين قض ت بتحريم العالقة الجنسي ة مع اليهود وكذلك البولوني ين وغيرهم من الشعوب األدنى مرتبة ويبدو أن انتهاكات هذا التحريم كانت محدودة. في السجون األسدي ة م رويات االغتصاب م تكر رة جد ا في سنوات الثورة. ورغبة التوس ع في اإلذالل تدفع الجال دين إلى إجبار معتقلين على انتهاك بعضهم جنسي ا مثلما ورد في تقرير منظ مة العفو. إجبار المعتقلين على صفع بعضهم ي حر كه أيض ا ما ي حر ك االغتصاب من توس ع في اإلذالل وتحطيم المجتمع. يجب أن ي كره المعتقلون أنفسهم وبعضهم. كمصدر طاقة ي غذ ي تماه يات وتناف يات ن شطة ت وف ر الطائفي ة مقادير كبيرة من الوالء دون مقابل أو بمقابل قليل ومع الوالء استعداد كبير لإلذالل والقتل دون عواقب. وهي بهذا المعنى اقتصادي ة أو قليلة الكلفة سياسي ا ولها مفعول ريعي كمناجم الستخراج الوالء الرخيص مثل امتالك الدولة. الطائفي ة م ضاد ة لع قل نة السياسة والنظام االجتماعي بهذا المعنى على نحو ما هو الريع الن فطي م ضاد للع قل نة االجتماعي ة والسياسي ة في بلدان البترول. وما يرتبط بالتماهي من كراهي ة هو من التجارب األكثر صدم ا للمعتقل وهو بين أيدي الجال دين األسدي ين. لسنا هنا بعيدين عن التجر د والروتيني ة فقط وإن ما نحن م تور طون في عالقة عداء شخصي مباشر كأن ك اعتديت على هذا الجال د بالذات كأنما هو ينتقم منك رد ا على عدوان شخصي بادرت إليه. هذا أيض ا ي حيل إلى درجة متقد مة من التماهي بالنظام أو عشقه ت سه ل منه عالقات الق ربى )الدموي ة أو الم تخي لة( بما يجعل من معارضة الدولة األسدي ة عدوان ا على م حب يها والمتماهين بها. كارهو المعتقلين هم م ح ب و 87

88 حافظ األسد وبشار األسد وأتباعهم األوفياء. كان حافظ شخصي ا قد سو غ اعتقال سجين يساري تمك نت عروسه من الوصول إليه بالقول: إذا حدا يقلك زيح ألقعد محلك شو بتعمل )المعتقل أ حيل بعد 12 عام ا من اعتقاله إلى محكمة أمن الدولة العليا بدمشق ونال حكم ا ب 15 عام ا أتم ها قبل أن ي خل ى سبيله كانت العروس هجرته قبل سنوات(. الجال دون ي كرهون المعتقلين ألن األسد الذي ي حب ونه يكرههم. الكراهية أحد أوجه عالقة التنافي بقدر ما الحب أحد أوجه التماهي. وم ن يجري الت فظ يع بهم هم على نحو خاص من المكروهين الطائفي ين على نحو ما أخذ ت ت عر فهم دولة األسدي ين وبخاص ة م ن نازعوها احتكار السالح وعملوا على أن»ي زاح«حافظ كي»يقعدوا محل ه«: اإلسالمي ون. ولذلك أيض ا فإن التعذيب المستمر والقتل ي جريان في السجون الباطنة للدولة األسدي ة مثل تدمر في زمن األب وصيدنايا في زمن االبن وليس في السجون الظاهرة. السجون الباطنة هي سجون التقابل الطائفي األشد ح د ة بين السجناء والسج انين بينما السجون الظاهرة مثل عدرا قرب دمشق والمسلمي ة في حلب وصيدنايا نفسه في زمن األب فهي السجون السوريا العامة التي ال يكاد يختلف تركيب س جنائها عن تركيب س ج انيها الم ختلط وفيها قضى معظم سنواتهم م عتقلو النظام غير اإلسالمي ين ومنهم كاتب هذه السطور. السجون الظاهرة هذه تقابل الدولة الظاهرة التي تعرض وجه ا عام ا عابر ا للجماعات األهلي ة. الس جن الباطن هو معسكر اعتقال وتعذيب على كل حال وليس سجن ا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. ون زالؤه م غي بون قسري ا وليسوا سجناء. وقد يقضي الواحد منهم سنوات تصل إلى عشرين 88

89 عام ا وال يعرف أهله عنه شيئ ا وقد ال يعرفون أنه مات إال بعد سنوات طويلة عن طريق أحد الناجين من المعسكر. أفتح قوس ا هنا للقول إن تقرير ا لهيومان رايتس ووتش )مرصد حقوق اإلنسان( صد ر في أواخر عام 2011 يتكل م عن إعادة ((1( استخدام سجن تدمر وعلى أن عدد المعتقلين فيه نحو هنا ثم ة فجوة في المعلومات فال نعلم ماذا كان نظام سجن تدمر عند إعادة استخدامه وهل كانت تجري فيه عملي ات إعدام ومتى أ خلي قبل االستيالء األول لداعش على المدينة. أ غل ق القوس. عبر ث نائي ة السجون الظاهرة والسجون الباطنة ت نسخ الدولة األسدية ب نيتها األساسي ة أعني التماي ز بين دولة ظاهرة ودولة باطنة على ((1( نحو ما كنت ناقشت ه بشيء من التفصيل في»السلطان الحديث«. الباطن والظاهر يتأس سان هنا أصال في التالحم األمني الطائفي المحجوب وراء الدولة العام ة الظاهرة. الم رك ب الطائفي /الع نصري فإذا وضعنا في البال أن الطائفي ة تتحر ك على مستوى الدولة الباطنة ورموزها غير الم علنة وخطابها غير العام الذي يعتمد اإليماءات غير المباشرة والتلميحات غير الصريحة ساعد نا ذلك على فهم اقترانها بأشد العنف والموت والوحشي ة في مثل سجن تدمر أيام األب وصيدنايا أيام االبن. وساعد نا أكثر على فهم تقد م القدرات اإلبادي ة للدولة األسدية بين )1)) التقرير بعنوان:»بأي طريقة مسؤولي ة األفراد والقيادة عن الجرائم ضد اإلنساني ة في سوريا«وهو متاح على موقع المنظمة. )1)) ينظر الفصل األول من كتاب السلطان الحديث المحال إليه سابقا ص

90 الزمن ين األسدي ين. بيد أن نا م حتاجون أوال إلى وقفة أمام مفهوم الطائفي ة. يبدو لي أن المفهوم وفي سياق المسارات الم تشع بة للثورة السوري ة لم يعد وافي ا بمطلب اإلحاطة بجملة الوقائع والعالقات والعملي ات التي ال نزال ن درجها تحته منذ ثمانينيات القرن العشرين. فم ن حيث داللته اللغوي ة فإنها ت حيل إلى الجزء من الشيء أو الق طعة منه أو إلى العدد المحدود )بين واحد وألف حسب»لسان العرب«واإلسالمي ون يستن دون حصر ا إلى الداللة اللغوي ة للمفهوم لن في صفة الطائفة عن المسلمين الس نيين( أم ا من حيث الداللة االصطالحي ة المعاصرة لمفهوم الطائفة والطوائف فهي ت حيل إلى الجماعات الديني ة والمذهبي ة في مجتمع م عي ن م نظور ا إليها كجزء من هذا المجتمع يتفو ق ارتباط ها المشترك بها على الفروقات في ما بينها أو حت ى من حيث تصورات نظري ة أكثر تركيب ا تكشف وساطة الدولة والسياسة في تشك ل الطوائف من وراء التمايزات الديني ة المذهبي ة بحيث نرى أن الطائفي ة في الدولة والسياسة ((1( هي ما تؤد ي إلى تشك ل الطوائف خالف ا لالنطباع الشائع. في كل ص و ره يبدو المفهوم غير كاف اليوم. األمر ال يقتصر على الربط بين تمايزات أهلي ة اعتباطي ة وبين وقائع االمتياز االجتماعي والسيطرة السياسي ة على نحو ي صل ب الفوارق بين الجماعات في صنع منها طوائف بل يتعد اه إلى تأسيس نظام ترات بي من التمييز واالستحقاق يرفع البعض فوق غيرهم درجات على نحو ي سه ل أمر إبادة م نخف ضي الدرجات مع تطوير هذا النظام عقائد وثقافة )1)) تناولت هذه القضية في:»صناعة الطوائف أو الطائفي ة كاستراتيجي ة سيطرة سياسية«ينظر الفصل الرابع من كتاب السلطان الحديث ص

91 ت سو غ التفاوت الجوهري. مفهوم الطائفي ة أضعف من أن ي ستوعب هذا الميل الم تنامي ويبدو مفهوم العنصري ة أصلح الستيعاب هذا التطور. لم در ك العنصري ة ميزة مهم ة تتصل بما يتضم نه من اتجاه إلى الفصل بين العناصر ومن ترات ب ورفعة شأن فيندرج فيه بهذا المعنى ب عد»طبقي «ي ضاف إلى ب عد االختالف األهلي وب عد ثقافي نفسي ي ج وه ر أو»ي ع نص ر «المراتب الناشئة ويرفع حواجز بين عالم ين.»سوريا األسد«أنجزت خالل جيل ين تحو ل الطائفي ة من»نعرات» موروثة من الماضي إلى آلية أساسي ة من آليات عمل السلطة العامة وإعادة إنتاجها إلى نظام تمييز عنصري. وهذا مسار قطعناه عبر حرب ين كبيرت ين باهظت ي الكلفة خرجنا بم حص لتهما من الصراع السياسي إلى الحرب ومن الحرب إلى اإلبادة. اإلبادة مكتوبة في العنصري ة. تطو رت الطائفي ة باتجاه العنصري ة باقتران مع واقعت ين خالل جيل ين من الحكم األسدي : توريث السلطة وما تضم نه من تأسيس ساللة ملوكية أرستقراطي ة ثم التحو ل االقتصادي في عهد بش ار على نحو أغنى األقرب إلى مراكز السلطة وأفقر وهم ش م ن ال تتوف ر لهم شبكات محسوبي ة فاعلة وهذا في بلد تدهو ر مستوى القضاء والبيروقراطي ة فيه على نحو م ط رد خالل أربعين عام ا. جوهر التحو ل في زمن بشار هو استيالء م حظ ي ي الدولة األسدي ة على االقتصاد الوطني والموارد العام ة وتحو ل سوريا إلى حكم األثرياء. وتحق قت قفزة في التقدم نحو العنصري ة أثناء سنوات الثورة بف عل انخراط آلة السلطة العام ة التي ي ديرها أثرياء في ممارسات إبادية 91

92 واسعة النطاق. أثناء ذلك استطاع بش ار األسد أن يتكل م على تحس ن في النسيج االجتماعي بعد قتل مئات األلوف وتهجير الماليين من م حكوميه )1)) وذهب محفوف ا ببعض أزالم نظامه إلى داري ا التي هج ر س كانها عن بكرة أبيهم فيما ال يمكن فهمه إال كاحتفال بالنصر. )1)) وت حق ق العنصري ة تقد م ا أكبر إلى األمام بفضل أسل مة اإلرهاب وما ينطوي عليه تصو ر»الحرب ضد اإلرهاب«من كوامن إسالموفوبي ة وما ت وف ره من عمق استراتيجي دولي لعالقات التماهي والتنافي ضمن النطاق المحلي السوري. عبر»الحرب ضد اإلرهاب«والسكوت على الممارسات اإلبادي ة طوال ست سنوات كان النظام الدولي سند ا للتحو ل العنصري في سوريا. ما قد ي ثير التحف ظ في مفهوم العنصري ة هو أن األمر ال يتعل ق ب»عناصر«بب يض وسود وصفر وسمر أو ببيض و»م لو نين«... الفوارق بينهم ظاهرة. لكن عدا ما أ شير إليه للتو من»ع نص رة«فوارق غير ظاهرة يجري تثبيتها بالثقافة وحراسة ث باتها بالقو ة وبعناصر تماه ظاهرة تستثمر الجسد البشري كحامل أساسي للرموز وبخاص ة أجساد النساء فإن العنصري ة المعاصرة في كل مكان تنزاح من مجال»العرق«واللون واإلثني ة إلى مجال الثقافة والدين وأنماط الحياة. وعلى كل حال أ فض ل استخدام تعبير الم رك ب الطائفي -العنصري للداللة على الشكل الخاص من العنصري ة الم تول د من شحن )1)) كالم بش ار عن»ربح مجتمع أكثر صح ة وأكثر تجانس ا بالمعنى الحقيقي«متاح هنا: )1)) جرت الزيارة في أيلول انظر:»األسد يهج ر أهالي داري ا... ويصل ي العيد فيها«العربي الجديد 12 أيلول

93 التمييز الطائفي بترات ب اجتماعي وامتياز سياسي ثقافي أو للداللة على تطور هذه الطائفي ة في اتجاهات أكثر تصل ب ا وأقرب للتمييز العنصري. ينفتح مفهوم الطائفي -العنصري على تاريخ ي ة تحوالت النظام الطائفي وعلى تاريخي ة مفهوم الطائفي ة ذاته في سياق يقترب من نصف قرن من الدولة األسدي ة. ومن وجه آخر ي شير المفهوم إلى تحو ل مرغوب في دراسة ظواهر م ماثلة لهذه التي نتناولها هنا من مجال نظري ة الدولة الوطنية والتنظيم السياسي القائم على االندماج والتجانس والنز اع إلى ك بت التفكير في الطائفي ة والمشكالت السياسي ة المرتبطة بالتماي زات الثقافي ة إلى مجال النظري ة االجتماعي ة والتفكير في حركات التحر ر واالنعتاق االجتماعي ومقاومة التمييز. لقد أمسى اإلطار النظري التقليدي للتفكير في الطائفي ة عائق ا على مستوى المعرفة ومصدر ا للغش والتكاذب في النقاش السياسي وعقبة كؤود ا أمام أي عمل سياسي تحر ري. مفهوم الطائفي -العنصري يمكن له بالمقابل أن ي حف ز على نقلة في تفكيرنا االجتماعي والسياسي كما ي حر ض على الثورة ضد االمتيازات االجتماعي ة والسياسي ة. المطلوب والحيوي جد ا هو الثورة ضد العنصري ة وتمزيق أقنعتها وليس الم ض ي إلى ما ال نهاية في تبادل االتهامات بالطائفي ة والتبرؤ منها. وقبل هذا وذاك ي وف ر المفهوم شرح ا للت دم رة الشاملة وما حق قت ه األسدي ة من تقدم في مجال اإلبادة. في عهد حافظ يمكن التكل م على إبادة على نطاق محدود في سجن تدمر وفي حماه اإلبادة هي القاعدة العام ة في عهد بشار وهي ما ت سو غ الكالم على الت دم رة. في الزمن الطائفي لألب كان الضحايا بعشرات األلوف أما في الزمن الطائفي -العنصري لالبن فالضحايا بمئات األلوف. 93

94 في إطار هذا االستعداد الطائفي -العنصري ت حوز السلفية الجهادية ميزة تكي ف تفاضلي ة من حيث إن ميلها الطبيعي يتمث ل في رفع الفارق العقدي إلى مرتبة جنس اجتماعي مختلف نوعي ا أو الطائفة إلى عنصر وإن جرى توس ل مفهوم»األم ة«كاسم لطائفة السلفي ين )واإلسالمي ين ودوم ا مع مصادرة تمثيل اإلسالمي ين للم سلمين دون إشكال(. أبيض السلفية وأسود ها هما م سل مها وال م سل مها مع والء م سل مها وبرائه الذي ي ضي ق نطاق اإلسالم الصحيح إلى أقصى حد وي وجب كراهية غير المسلمين الصحيحين وم ن سواهم. هذه األهل ي ة الذاتي ة العريقة ت لقي بعض ضوء على انتشار السلفي ة الجهادي ة في البيئة السوري ة اليوم وقد كانت ت شهد منذ ما قبل الثورة بسنوات التحو ل التدريجي نحو الم رك ب الطائفي -العنصري. منهج السلفي ة التكفيري ال يعترف بتماي زات أهلي ة وال يرضى بأقل من فوارق عنصري ة وهو األقدر تالي ا على التكي ف الن ش ط مع شروط البيئة الطائفي ة-العنصري ة الجديدة. في خطاب األسد ي ين حضرت السلفي ة كاسم آلخر عدو غريب منذ بداية الثورة وفي خطاب السلفي ين تحضر النصيري ة دائم ا كاسم آلخر عدو غريب أيض ا. في الحال ين هناك ع نص رة م حر ضة سياسي ا لقطاعات مهم ة من السكان على نحو ي سو غ اإلبادة. وبنظرة عام ة إلى تاريخ الطائفي ة وتحو التها في سوريا نرى أن ه في حقبة حافظ األسد تمث ل التقابل الطائفي في النظام واإلخوان المسلمين. كان النظام يعتمد في إغالق المجال السياسي وإعادة إنتاج ذاته على أجهزة أمني ة وعسكري ة م طي فة على نطاق واسع وي واج هه إسالميون س ن يون سوري ون وهم اإلخوان حيث ي عارضون النظام المغلق طائفي ا ويواجهونه بالقو ة. أم ا في عهد بش ار فإن التقابل الطائفي العنصري يجمع بين بشار وأجهزته والطبقة الم ثرية 94

95 الجديدة وبين السلفي ين. ومثلما استعانت األرستقراطي ة الحاكمة باألجنبي على دأب سالالت ملوكي ة في التاريخ كي تحمي العرش فإن التكوين األممي للسلفي ة الجهادي ة والمجاهدة يضعها في موقع النقيض األنسب. اإلخوان المسلمون ليسوا مؤه لين ليكونوا هذا النقيض بح كم تكوينهم المحل ي وبنيتهم السياسي ة أو التي تجمع بين الديني والسياسي وقد وضع تهم في موقع المعارضة السياسي ة للنظام ال في موقع المجاهدين وال بطبيعة الحال في صفوف المعارضة الداج نة األقرب إلى النظام. ليس هناك عنصر سياسي في تكو ن السلفي ين بالمقابل وهي ميزة إيجابي ة في مواجهة نظام ال سياسي جذري ا مثل دولة األسدي ين. بعبارة أخرى اإلخوان طائفي ون سياستهم تقوم على توحيد الس ن ي ين واستثمار الطائفة السن ية الم وح دة كقاعدة اجتماعي ة لهم يخوضون بها الصراع على السلطة. طائفي ة اإلخوان ت ضعفهم وال ت قو يهم في شروط ت ع نص ر الطائفي ة أو ت حيل من الطائفي ة إلى الطائفي ة-العنصري ة. وهذا ألن الطائفي ة ال تستبعد السياسة استبعاد ا جوهري ا مثل العنصري ة وهو ما يحد من طاقات الطائفي ين على اإلبادة. وبالفعل يمكن نسبة واقعة إبادي ة وحيدة إلى اإلسالمي ين في سنوات حكم حافظ هي مذبحة مدرسة المدفعي ة في حلب عام وهناك منذ ذلك الوقت نقاش حول درجة من التمايز بين الطليعة المقاتلة لإلخوان المسلمين التي ارتكبت المجزرة وبين اإلخوان وهو تمايز سار إلى االم حاء بف عل توسع النظام في قمع اإلسالمي ين كل هم. أم ا السلفي ون فهم عنصري ون ي ع نص رون الس ن يين أو ي عملون على أن يصنعوا منهم شعب ا س ني ا إن جاز التعبير صافي ا. وهذا برنامج ينطوي على طاقة إبادة أكبر بكثير: إبادة غير الس نيين بقدر المستطاع وإبادة الس ن يين الم متنعين عن الصفاء. والخالصة إن التحو ل الطائفي /العنصري عنوان 95

96 أساسي في التاريخ )وللت أريخ( السياسي والسياسي الديني في سوريا خالل نصف القرن األخير. اإلبادةاإلبادة تجد نفسها في موطنها الطبيعي في عالم الماهي ات والعناصر الم رك ب الطائفي العنصري. ال يقتضي األمر قتل جميع أفراد جماعة أو»عنصر«م عي ن حتى نتكل م على إبادة. ي حيل تقرير منظ مة العفو الدولي ة إلى نظام روما األساسي الخاص بالمحكمة الجنائي ة الدولي ة في عر ف اإلبادة استناد ا إلى ميثاق األمم المت حدة الخاص بالجينوسايد والصادر عام 1948 بأنها»تعم د فرض أحوال معيشي ة من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بقصد إهالك جزء من السكان«. )1)) هذا م حق ق في معتقالت مثل تدمر وصيدنايا ي عزل فيها المعتقلون عن العالم فال ي زارون وال ي عرف مصيرهم من أسرهم ويبدو هذا العزل أشد إحكام ا في زمن بش ار من زمن أبيه حيث أمكن لبعض األ س ر الثري ة أن تشتري رؤية معتقليها بالمال الكثير. لكن الش رط اإلبادي م حق ق على نطاق أوسع بكثير في المناطق الم حاص رة والم جو عة من البلد مثل مضايا ومخي م اليرموك والغوطة الغربي ة والشرقي ة وحلب الشرقي ة قبل إعادة احتاللها من ق ب ل النظام وح ماته. حصار مناطق وتجويعها جديد على ق لة ما هو جديد في»سوريا األسد«. كان حافظ األسد»ي نهي المهم ة«بسرعة في قتل عشرات األلوف في أسابيع قليلة مثلما فعل في حماه قبل 35 عام ا. )2)) وهذا ما يأخذه )1)) هذا م قتط ع من التعريف الكامل. انظر ميثاق روما على موقع اللجنة الدولي ة للصليب األحمر: )2)) وهو ما نال إعجاب توماس فريدمان الذي كتب عام 1989 إن حافظ األسد أنهى في 96

97 على بش ار م زاي دون فاش ي ون على النظام ومنهم جميل حسن أحد كبار قتلة النظام ورئيس فرع المخابرات الجو ي ة األشد وحشية في التعذيب والقتل في مقابلة أجراها معه روبرت فسك )2)) الصحافي البريطاني الذي رافق قو ات النظام وهي ترتكب مجزرة داريا في ((2( صيف لكن نعلم أن األمر ال يقتصر على»فرض أحوال معيشي ة... بقصد إهالك جزء من السكان«وال على صناعة قتل في صيدنايا والمقر ات األمني ة والمشافي مما غط ى تقرير منظ مة العفو الدولي ة جانب ا م هم ا منه وأنه حت ى القتل في السجون تعذيب ا أو إعدام ا أو تجويع ا والقتل جوع ا ومرض ا تحت وطأة الحصار هما نسبة محدودة من صناعة موت م ت سعة مارس تها الدولة األسدي ة في مواجهة السوريين الثائرين منذ البداية واست خدمت فيها اآللة الحربي ة التي يفترض أنها ب ن ي ت خالل عقود لحماية البلد. ونعلم أن سالح الطيران والصواريخ بعيدة المدى والس الح الكيماوي قد است خدموا في هذه الحرب االختيارية. نعلم أيض ا أن ه كان هناك عنصر تمييزي قوي في سياسة النظام اإلبادي ة وأن ضحاياها هم على نحو مخصوص من شهر في حماه ما هو مستمر 14 عام ا في لبنان. انظر: Nikolaos Van Dam, Destroying a Nation: The Civil War on Syria, I.B.Taurus, 2017, p مع اإلشارة إلى أن فاندام ينقل كالم فريدمان باستحسان ضمني. )2)) انظر مقابلة فسك مع جميل حسن في اإلندبندنت 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: Tougher tactics would have ended Syrian war, claims the country's top intelligence general. )2)) أح لت في هوامش فصل سابق عالقات التعذيب السياسي ة إلى مقالة فسك عن داري ا الذي كان مرافق ا لقو ات النظام وقت اقتحامها في صيف وكذلك إلى ر د نا ريم عالف وأنا عليه. 97

98 المسلمين الس ن يين ممن است هدفت مناطقهم دون غيرها بالبراميل المتفج رة والقصف بالطيران والسالح الكيماوي والحصار. اإلبادة هي هذا المزيج من القتل المتعد د الوسائل ومن النزعة العنصرية. تقرير منظمة العفو ال ي شير وال ي نتظ ر منه أن يشير إلى العالقة بين اإلبادة والعنصري ة وإن كان ي لم ح في موقع منه إلى الصفة الطائفي ة لم ن يدخلون إلى قاعة اإلعدام. كل ما اقتربنا من قلب السلطة ومصنعها السر ي ظهر التمييز أكثر. الدولة األسدي ة مصفاة ال يصل إلى مركز دائرتها غير المؤمنين الموثوقين. ولعل ني أكر ر باستذكار شعارات: األسد أو ال أحد! األسد أو نحرق البلد! األسد أو بالها هالبلد! وكذلك: الجوع أو الركوع! لكن الغرض هذه المرة إظهار البنية المشتركة لهذه الشعارات: كل شيء أو ال شيء! أو: نحن أو العدم! الغرض تالي ا هو القول إن هذه البنية ع دم ي ة سياسي ا في الجوهر. وفي اعتقادي أن س حب السياسة من المجتمع أو اإلفقار السياسي للمجتمع هو ما اقتضى الطائفي ة من ق ب ل نظام حافظ األسد كس ند موثوق لسحب السياسة وهو أيض ا ما دفع قطاعات واسعة من السوريين إلى ال تماس السياسة الم حر مة عبر»الشريعة«و»الكنيسة«ومعاد التهما أي طائفي ا أيض ا. ومشفوع ا باإلفقار االقتصادي في عهد بش ار سي فضي اإلفقار السياسي المستمر إلى ع نص رة الطائفي ة وإلى اإلبادة. القتل الفردي والجماعي ليسا عارض ين في هذه البنية النازعة للسياسة على ما ينبغي أن يكون صار واضح ا اآلن. فإذا كانت المشكلة في كيان الثائرين على البنية فالصحيح هو التخل ص منهم من أجل سالمة»المجتمع المتجانس«. إنه مبدأ اإلبادة النازي نفسه م مار س ا على مستوى الدولة الباطنة على ما تقتضي 98

99 بنية الدولة األسدي ة دون نظري ات علمي ة منحولة )لكن اإليديولوجي ة الحداثي ة تقوم بدور م ماثل لنظري ات العنصري ة النازي ة: بش ار نفسه عر ف اإلرهاب بأنه»تفكير مريض ومبدأ منحرف وممارسة شاذ ة«وأرجعه إلى»بيئات«يعم ها»الجهل والتخل ف«( )2)) ودون خطاب عام م عل ن )النظام ينتحل خطاب»محاربة اإلرهاب«الدولي وهو خطاب يقيم ربط ا جوهري ا بين اإلرهاب واإلسالم(. إسالموفوبيا تنظر هذه الفقرة الختامي ة في ما ي حتمل أن يكون سه ل على المستوى الدولي نظام القتل الجماعي األسدي أو ض م ن له إفالت ا من العقاب يبدو مرش ح ا للدوام وهذا رغم اإلحاطة الكافية بوقائعه من ق ب ل المنظ مات الدولي ة والقوى النافذة ووسائل اإلعالم الكبرى. النقطة األساسي ة في هذا الشأن هي في تصو ري اإلسالموفوبيا الصاعدة في الغرب ودولي ا منذ تسعينيات القرن العشرين. تنتمي اإلسالموفوبيا إلى عالم م عاداة السامي ة التي كانت خف ضت من قيمة حياة اليهود فجعلت إبادتهم أمر ا هي ن ا على م بيد يهم النازيين. وهي مثل م عاداة السامي ة ت قل ل من الحساسي ة حيال ما يصيب المسلمين وترفع بشد ة عتبة التعاطف معهم. ومن غير المحتمل لتقرير منظمة العفو الدولي ة عن م سلخ صيدنايا البشري أن يترك أثر ا لهذا السبب ذاته الذي كان أيض ا جر د ملف سيزار من ق بل من األثر وقبلهما مع ا المجزرة الكيمياوي ة. )2)) خطابه في 26 تموز متاح هنا: 99

100 مثل م عاداة السامية ومثل التمييز العنصري ضد السود ليست اإلسالموفوبيا مجر د ظاهرة من ظواهر السياسة والص راع السياسي مثل صراع المستعمرين السابقين مع حركات التحر ر الوطني العالمثالثي ة وال هي كذلك من ظواهر اإليديولوجي ة والنزاع اإليديولوجي مثلما كانت م عاداة الشيوعي ة في الغرب. يمكن لها أن تأخذ هذين المظهرين فت سو غ نفسها بوقائع سياسي ة )جرائم إرهابي ة متنو عة مارسها إسالمي ون مشهورة ومشهدي ة تقابلها من جهتنا وقائع السيطرة األميركي ة والغربي ة الثقيلة والمتنو عة( أو بخطابات عدواني ة ي طلقها إسالمي ون متنو عون )وهناك الكثير منها(. لكن اإلسالموفوبيا ت عطي عمق ا ماهوي ا وعنصري ا غير عقالني وغير علماني لوقائع ال يمكن التقد م في معالجتها إن لم ي نظر إليها كوقائع سياسي ة واجتماعي ة دنيوي ة. يجري على هذا الن حو ن قل توت رات وصراعات إنساني ة تعق دت بفضل ممارسات القوى الغربي ة القوي ة والغني ة والنافذة عالمي ا إلى عالم إنساني ت ين مختلفت ين متعاديت ين جوهري ا. ولها بهذا مفعول م ماثل للتمييز الطائفي المديد المقترن بامتيازات اجتماعي ة وسياسي ة وتنظيرات ثقافي ة وممارسات إبادي ة من حيث جوهرة أو ع نص رة فوارق اجتماعي ة وثقافي ة وسياسي ة تاريخي ة ونسبي ة ومتحو لة ورفعها إلى مرتبة فوارق ثابتة مطلقة. وفي اإلسالموفوبيا أيض ا تراتب يضع المسلمين في مرتبة أدنى من التطو ر ومن القيمة على نحو ي وازي تطو ر الطائفي ة في سوريا األسد باتجاه ترات بي عنصري ويشد من أزر هذا التطور. يجري تجنيد العلماني ة والتنوير والحداثة في معركة ديني ة سياسي ة وف رت سند ا عالمي ا لتجنيد م ماثل في»سوريا األسد«منذ ثمانينيات القرن العشرين. 100

101 ولإلسالموفوبيا ع مق تاريخي سابق النتهاء الحرب الباردة يتمث ل في صورة بالغة السلبي ة للمسلم والعربي في اإلعالم والفنون وبخاص ة السينما األميركي ة. وتمد هذه الصورة جذروها بدورها في االستشراق. ولعل إطالق صفة»مسلمان«على المعتقلين الم حط مين في معسكرات االعتقال النازي ة أولئك»الصامتينالمنخورين«الذين»ماتت الجذوة اإللهية فيهم«و»لم تعد لهم أي ة قصة«بتعابير بريمو ليفي أقول: لعل ذلك ي حيل إلى س ن ة استشراقية كانت ال تمل من القول إن م در ك إسالم م ستمد من االستسالم فصار ذلك»الالإنسان«)ليفي( الذي استسلم نهائي ا لشروط االعتقال وتخل ى عن كل مقاومة هو»المسلمان«. )2)) وهو يموت خالل شهور بعد وصوله إلى هذه الحالة على قول ليفي الناجي من آوشفيتز. لقد مد د االستشراق في عمر القرون الوسطى األوروبي ة بأن أقصاها نحو الخارج»الشرق«إلى حيث عالم المحسوس الذي ي مث ل اختالف ا ال خطر منه عن عالم»األمم الم تخي لة«الذي كان يشتغل بكامل طاقته في أوروبا م نت ج ا األمم األوروبي ة الحديثة. عبر هذه الجنيالوجيا ت عيدنا اإلسالموفوبيا إلى الماضي صوب القرون الوسطى. في شباط 2017 كانت ماري لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطني ة العنصري المتطرف في فرنسا المعادي للمهاجرين والمسلمين بخاص ة تتكلم في لبنان على أن حماية المسيحي ين واألقل يات ت وج ب»القضاء على التطر ف اإلسالمي» ألن ه»خطر قاتل«. )2)) ليس فقط يجري تصوير أن الخطر الذي يتعر ض له ليفي المصدر نفسه. )2)) يراجع: تصريحات مستفزة لمارين لوبان في لبنان موقع الجزيرة 20 شباط )2)) 101

102 المسيحي ون واألقلي ات يأتي حصر ا من جهة األكثري ة اإلسالمي ة التي ال تحضر إال بوصفها م مث لة بداعش وليس فقط ي نص ب تنظيم يميني عنصري أوروبي نفسه حامي ا لألقلي ات في إقليمنا وإن ما كذلك ال يقال شيء عن حقيقة أن هذه األكثري ة المزعومة التي تبدو مصدر أخطار فقط تعر ضت للتحطيم أكثر من غيرها. السياسي ة اليميني ة المتطر فة م سان دة بالمناسبة لبش ار األسد. )2)) وليس هناك سبب للش ك في أن مساندتها له مرتبطة بالتطو ر الطائفي العنصري لنظامه وتسويقه للفكرة الرائجة في أوساط اليمين الغربي من أن الخطر على األقل ي ات يأتي من األكثري ة المسلمة العدواني ة وأن نظامه حام لتلك األقل ي ات الم هد دة. بعبارة أخرى ت سو ق الدولة األسدي ة نفسها كاستمرار لالستعمار األوروبي المباشر الذي كان سو غ نفسه في زمن»المسألة الشرقية«بحماية األقل ي ات من الخطر اإلسالمي نفسه وهو يحظى بالدعم في الغرب لهذا السبب بالذات. ألسنا أقرب إلى العصور الوسطى حين ت عاد صراعات األديان والطوائف لتكون مستقبلنا حين يجري تعميم عالمي للشرق األوسط وهو أصال مخلوق للقوى االستعماري ة الغربي ة ليصير أيض ا مستقبل العالم في عالم ترمب وبوتين وبش ار األسد ونتنياهو... نحن في عالم من العناصر والجواهر عالم القرون الوسطى. عالم الطائفي -العنصري. اإلسالموفوبيا أحد أوجه تدهور العالقات الدولي ة في اتجاهات )2)) قالت بالحرف إن األسد»يشك ل اليوم حال يدعو إلى االطمئنان أكثر بالنسبة إلى فرنسا«ونو هت بسياسته الواقعي ة. المصدر السابق. زيارة لوبان للبنان جاءت ب عيد صدور تقرير منظ مة العفو الدولي ة»المسلخ البشري «عن سجن صيدنايا. 102

103 أقل تجريد ا وأقل»خيالية«وأكثر ح س ي ة وهويات ي ة على نحو يبدو أن صعود سياسات الهوي ة وتي ارات اليمين القومي في الغرب يؤك ده. وهي مع الصراعات السياسي ة الديني ة في منطقتنا من العالم ومع»اإلرهاب اإلسالمي» وجوه مسألة عالمية كبرى ((2( المسألة اإلسالمي ة. وما أريد ترتيبه على ما تقد م هو أن الدولة األسدي ة في بنيتها التمييزي ة الجوهري ة وقد تطو رت في اتجاه عنصري إبادي أثناء الثورة السوري ة ت شك ل نسخة مطابقة لب نية دولية تطو رت باتجاهات أكثر تمييزي ة ضد المسلمين في ربع القرن األخير بعد أن كانت من ق بل تمييزية أصال. هذه نقطة أساسي ة ت فس ر في تقديري ما نالته دولة األسديين من رعاية تمييزي ة في سنوات الثورة/ اإلبادة. ليس ثم ة وجه عادل ل ل وم المؤس سات السياسي ة الغربي ة مباشرة على مذابح األسديين لكن نحتاج إلى إظهار االرتكاز البنيوي للدولة األسدي ة على هياكل ترات ب ي ة دولي ة ت وف ر لها الحصانة بينما هي تتوسع في مذابحها. العنصري ة م كو ن جوهري للبنية الجامعة للثالثة. واإلسالموفوبيا و»حماية األقلي ات«هما الوجهان األبرز لهذه العنصري ة. الدولة األسدي ة ال تحظى بالتسامح من مراكز النفوذ الدولي ة المعاصرة رغم أن ها عنصري ة بل بالضبط ألن ها عنصري ة. وفضال عن العنصري ة ي قر ب خطاب»الحرب على اإلرهاب«وم در ك»اإلرهاب اإلسالمي» بين الثالثة. )2)) تناولت المسألة اإلسالمي ة بتوس ع في كتابي: اإلمبريالي ون المقهورون في المسألة اإلسالمي ة وظهور طوائف اإلسالميين رياض الريس للكتب والنشر بخاصة الصفحات

104 ولم تكن النزعة الحداثي ة )مزيج من الليبرالي ة والعلماني ة وأنماط حياة الطبقة الو سطى الغربي ة( التي صعدت في الثقافة السوري ة في صورة إيديولوجي ة ثقافو ي ة علماني ة منذ تسعينيات القرن العشرين ب عيدة عن تقد م العنصري ة في سوريا أو انتقال التماي زات األهلي ة الموروثة إلى امتيازات اجتماعي ة وترات بات حضاري ة. أعمال جورج طرابيشي وأدونيس أسهمت في رأيي في التنظير للتمييز وخف فت من حساسي ة سوريين كثيرين حياله. وبنظرة عريضة يبدو أن الموجة الراهنة من العنصري ة اإلسالموفوبيا ت سج ل فشل الحداثة السياسي ة والحقوقي ة على المستوى العالمي مثلما سج ل تقد م التمييز العنصري في سوريا فشل الحداثة السياسية والحقوقي ة في بلدنا. العالم الذي تتراجع ممارسات وأفكار المساواة والنقاش الحر والثقة والديموقراطي ة في تكوينه ي شك ل سند ا لنظام تمييز عنصري ف ت ي وصاعد في مملكة األسديين. هذا التماثل البنيوي بين الدولة األسدي ة وقوى السيطرة الدولي ة المعاصرة هو ما يمنح الحصانة لإلبادة األسدية. اإلسالموفوبيا هي أيض ا البيئة السياسي ة الفكري ة النفسي ة األنسب لإلسالميين من أجل رفع الحواجز في وجه العالم وفرض التجانس الداخلي في مجتمعاتنا. ولديهم الكفاية من المبادئ الديني ة التي تجعل منهم الدين الوحيد الصحيح األرفع من غيره و»األشرف«من غيره والمباح له ما ال يباح لغيره. الم ركب الطائفي -العنصري يقع في صلب تطو ر اإلسالمي ة المعاصرة. وبنظرة عريضة أيض ا نميل إلى أن صعود السلفي ة في سوريا وفي مجالنا وهي اإليديولوجي ة اإلسالمي ة األقوى طائفي ة-عنصري ة م توافق مع البيئة الجديدة في مجالنا من العالم وفي العالم. فإذ 104

105 يرتفع الط لب على رفع األسوار وتصليب الفروقات ومعاكسة ميول االختالط والتهجين وتسويغ اإلبادات المحتملة فإن السلفي ة مؤهلة لتلبية الطلب أكثر من غيرها من اإليديولوجي ات اإلسالمي ة األخرى. وهذه قد تقتدي بها أو»تتسل ف«على نحو كان الحظه قبل الثورات العربي ة المرحوم حسام تم ام بخصوص اإلخوان المسلمين المصريين. ال نعلم ما يمكن أن يكون مستقبل اإلسالموفوبيا والبنى الطائفي ة العنصري ة على نطاق عالمي لكن ها منابع إفساد هائلة للحاضر واستنزاف جائر الحتياطي ات العالم من األمل. 105

106 106

107 قبر للمرء جميعه: تبد الت موت السوري ين وتغي رات حياتهم ي دف ن الناس فرادى حين يموتون فرادى ضمن جمع حي ينتمون إليه. قبر واحد للفرد الواحد. ال يشاركه أحد القبر وهو ال يشارك في قبور كثيرة. هذا تعريف للفرد البشري يبدو متفق ا عليه عالمي ا على قل ة ما يت فق عليه األحياء من البشر. ن خر ج موتانا من أجسادنا حين يكون ألجسادهم مكان معلوم. ويبقون أرواح ا هائمة في دواخلنا حين ال قبور لهم نعرفها ونختار زيارتها ما يزيد أرواحنا قلق ا وعذاب ا. كأنما بالدفن فقط يموت الناس وكأن م ن ال ي دف ن ال يموت. يبقى طيف ه هائم ا يجوس مكاننا المشترك. هذا االختالط الخطر عر ف كل البشر تنظيم تجن به. أو ل الثقافة هو هذا الفارق بين الحي والميت. تتكفل القبور المعلومة المواقع المنفصلة عن مواطن سكن األحياء بسور أو بمسافة بالسيطرة على عالم الموتى والفصل القطعي له عن عالم األحياء مع إبقاء ضرب من االتصال االختياري ممكن ا. نتشك ل كأحياء بأن ننفصل عنهم كموتى ويتكو ن لنا حاضر بأن ن حيلهم إلى الماضي الذي انقضى وكف عن الحركة والحضور. ن سه ل هكذا للماضي أن ي مضي وللداخل أن ي عم ر ويحيا أن يحضر ويستقبل. موتانا هم ماضينا وخارجنا ماضي حاضرنا وخارج داخلنا نحن أهل قرية أو حي أو مدينة. 107

108 ماذا يحصل حين يموت الفرد وقت الحرب بين أعداء في الخارج الخارجي ال في خارج الداخل حين يموت الناس جماعات حين يموتون جماعات بين أعداء وبعيد ا عن جماعتهم حين يقتلهم جميع ا أعداء حين ال ي عثر على أجساد لهم ماذا يحصل حين يموت جميع الناس في»حي» ما مات السوري ون ميتات عجيبة في األبد األسدي على يد أهل األبد ثم أخير ا على أيدي أبد ي ين منافسين إسالمي ين. من»العجيب«اختالط الحياة والموت وعدم قدرة األحياء على االنفصال عن موتاهم الستحالة ذلك فيزيائي ا في حاالت والستحالته نفسي ا في حاالت حين ال جسد للميت وال قبر ي زار ولوفرة الموت وصعوبة تمالك األحياء ألنفسهم وفصل أنفسهم عن موتاهم في حاالت. ماذا حل بضحايا سجن تدمر وهم باآلالف في الثمانيني ات والتسعيني ات من القرن الماضي أين د فنوا هل دف نهم م عذ بوهم وقتل تهم مثلما ي دفن عموم الناس أفي قبر جماعي أكيد هذا إن دفنوهم ولم ي طحنوا أجسادهم بآلة ما وي حو لوهم إلى غبار. أو لم يحرقوا جثامينهم وينثروا رمادها. أو ربما ذو بوا أجسادهم بمحلول كيمياوي مثلما ذ و ب الم ع ت ق ل الناصري جسد فرج الله الحلو باألسيد عام ينبغي أن يصيروا عدم ا إلثبات أن هم كانوا عدم ا دوم ا لم يوجدوا قط. وماذا حل قبلهم بضحايا مذبحة تدمر 500 أو أكثر ق تلوا في السجن في يوم صيفي من 1980 ثم أ خليت المهاجع من األجساد الم حط مة إلى أين ن قلت بقاياهم المختلطة هل د فنوا أ حرقوا أ ذيبوا وهل تمك ن أهالي حماه من دفن موتاهم وهم باآلالف وربما 108

109 عشراتها د فن بعضهم في بيوت ه د مت فوق رؤوسهم وجر ت تسوية األحياء بالبلدوزرات. وب نيت فوق المناطق الم مه دة فنادق حديثة. بعد الثورة كانت أكرم ميتات السوري ين أن يموت المرء قطعة واحدة وأن يتمكن ذ و وه من دفنه في قبر شخصي معلوم. الحق في قبر شخصي ليس حق ا للمي ت نفسه بل لذويه وأح ب ته كي يحتفظوا له بمكان في القص ة العائلي ة ولي ملؤوا فراغ غيابه في جسدهم ويستأنفوا حياتهم بأقرب درجة إلى العادي ة.»العادي ة«مصنوعة من وضوح الفصل بين الحاضر والماضي بين الداخل والخارج بين ما فوق األرض وما تحتها بين المرئي وغير المرئي بين المتحر ك وغير المتحر ك بين الحاضر والغائب. موت»طبيعي» وقبر شخصي معلوم يضمنان لألحياء حياة عادية بعد رحيل المتوفى. أما بجسد مبتور أو بجسد متعد د القطع مع فقدان بعضها فيبقى المي ت يقض مضجع األحياء ومدخال إلى اضطراب م عتاد هم. الميتات العنيفة بخاص ة التي تمس بالتكامل الجسدي للضحايا ت حول في حاالت كثيرة دون رؤية بعض أفراد األسرة للمقتول. في المليحة في أيار 2013 د ف ن شهيدان بعد نصف ساعة من مقتلهما بقذيفة هاون سقطت فوقهما في الحقل دون أن ت لقي زوجتاهما وأطفالهما نظرة الوداع عليهما ألن جسديهما كانا مبتور ين بشدة. فراغ الغياب ال يمتلئ هنا وال يلتئ م يبقى ثلمة كبيرة في جسد العائلة.»إكرام الميت دفنه«سريع ا وفي قبر شخصي لكن من اإلكرام أن ي ود عه أحبابه. يحصل أن ي قر ر كبار األسرة أن ال ي ود عه بعض أقرب األحباب إن كانت آخر مشاهده فوق التراب ماس ة بكرامته وكرامتهم. مثل ذلك جرى في دوما في نيسان من العام 109

110 ذاته لشهيد ين آخرين تفت ت جسداهما. ن قال مباشرة إلى هيئة الدفاع المدني س ج ل اس ماهما ثم د فن ما بقي منهما بما بقي من ثياب عليهما. الكبار يتحم لون ذلك أما الصغار فيتبد ل وقد يتعط ل استقبالهم للعالم ومستقبلهم إن كان آخر مشهد لألب هو جسد محط م متناثر. وفي دوما رأيت أيض ا ج سمين ضئيل ين جد ا لج نين ين في الشهر السادس أسقط تهما أم اهما تحت وطأة الرعب. حصال على قبرين شخصي ين صغيرين لم أر األ م ي ن. النساء الحزينات يحزن في العزلة. وهناك م ن ماتوا محصورين داخل ركام بيوتهم الم دم رة التي تعذ ر انتشالهم منها أو إخراجهم من تحت أنقاضها. هؤالء كل هم من األشد فقر ا كما يمكن التوق ع. لو كانوا من الميسورين لما اد خ ر جهد إلخراجهم من المنازل/المقابر. شهداء مذبحة الكيمياوي في الغوطة آب 2013 فقدوا حياتهم دون مساس بتكاملهم الجسدي. وماتوا ضمن جماعتهم وليس بعيد ا عنها وفي مناطق معادية. د فنوا مع ذلك مجموعات في قبور جماعي ة غير شخصي ة. كأنما يقال إنهم نفس واحدة ومثلما ماتوا في وقت واحد من المناسب أن ي دفنوا في مكان واحد وي ؤن س بعضهم بعض ا في دارهم األخيرة. وتقضي الطقوس اإلسالمي ة بأن ي دف ن الشهداء دون غسل وبثياب مقتلهم نفسها. يقال إن هذا كي يشهد دمهم عليهم. المذبحة الكيمياوي ة بال دم ماذا يشهد على شهدائها الذين دفنوا بثيابهم أيض ا لعله الزبد البرتقالي الذي يخرج من أفواه من تنش قوا السارين! أين د فن شهداء التعذيب الذين رأينا صور ا لهم في ملف قيصر ليس معلوم ا. أجسادهم كانت عارية مهزولة لكن م رق مة وم صو رة. 110

111 موتهم إنتاج بالجملة لصناعة قتل منظ مة لكن دون معرفة أين يذهب»المنتج النهائي «. وكانت مياه المتوسط الدار األخيرة لفوق ثالثة آالف من السوريين ومن سوريا غرقوا فيها في مرحلة من رحلتهم إلى أوروبا عام لكن البحر ليس قبر ا مالئم ا ألن ه كبير ومتحرك. فيه الموتى ال يستقر ون في مكان كأن هم لم يموتوا. وهل تكون النار قبر ا كافي ا لمن أ حرق حي ا أو ميت ا ماذا فعلت قو ات النظام ببقايا عشرات أحرقتهم أحياء منذ عام 2011 وط مر داعش بقايا الطي ار األردني في قفصه ي عطي إيحاء بأن الطمر غير الدفن. الدفن تكريم للميت له طقوس ت رعى بحرص وهو يحفظ شخصي ة المتوف ى واسمه بينما الط مر تخل ص من الميت يطمس اسمه وكيانه. لكن ينبغي القول إن الموت السلفي يكاد يكون مجر د ردم للميت. داعش كانت ترمي بعض ضحاياها في انهدام أرضي غائر في منطقة الحمام شمال الر قة يسمى الهوته. ليس معلوم ا إن كانت رمت فيه أحياء لكن سمعت وقت كنت في الرقة في صيف 2013 عن توجيه معتقلين م طم شين إلى النجاة بأنفسهم والهرب باتجاه الهوة الفاغرة كي يسقطوا فيها وسط ابتهاج المنف ذين الدواعش. واألكيد أن المنظ مة السلفي ة اإلجرامي ة تخل صت من شهداء بهذه الطريقة. هناك فيديو واحد على األقل عن ذلك. كما ث ق لت جثث بعض ضحاياها بك تل إسمنتي ة قبل أن ترميهم في نهر الفرات على ((( ما روى معتقل سابق عند الدواعش. ))) تنظر في هذا الشأن مقالة أحمد إبراهيم المبنية على تجربة شخصية: عن شهر 111

112 عالقة داعش والسلفي ة باألحياء هي الوجه اآلخر لعالقتها بالموتى: موتاها»السلف«أحياء أكثر من أي أحياء وت عو ل على أن يكون أحياؤها المعاصرون الواقعون تحت سلطانها موتى أكثر من أي موتى )تقتلهم أن قاو موا موتهم الحي(. م نع الموتى من الموت على هذه الصورة يمنع األحياء من الحياة ومنع الماضي من االنسحاب إلى الوراء يكتم أنفاس األحياء ويمنع الحاضر من االستقبال واالستقالل بنفسه. والمنع غير م مكن دون عنف وقسوة م هولين إذ هما يمحوان الحدود بين الحياة والموت وي بقيان الماضي قريب ا والحاضر م ختنق ا. أم ا النظام فعبر إرادة تأبيد الحاضر يمنع اآلتي من القدوم والماضي من التقادم وهو ما ال ي حق ق بدوره دون عنف وقسوة مهولين ودون المجاورة القسري ة بين الحياة والموت. في كل هذه الحاالت الموت الفردي أو الجماعي في منطقة م عادية أو في البحر ال قبر شخصي ا معلوم ا للمتوف ى وتالي ا يبقى مكانه في قص ة العائلة فجوة مفتوحة تقض مضجع جسدها الج معي. الوضع المثالي لألحياء هو أن ي دفن جميع الموتى من أحبابهم وجميع كل ميت في قبور فردي ة معلومة. الوضع األقصى المعاكس أن تختلط األجساد كلها وت صر ف دون قبور على يد مجهولين وفي مواضع غير معلومة. هذا يفتح الباب الختالط هائل: للداخل بالخارج للحاضر بالماضي للمتحر ك بالساكن للمرئي بغير المرئي للواقعي بالس حري وللواقع بالم توق ع. حد الواقع هو موتنا الشخصي نتوق ع بقدر من الصواب ألن موتنا يقين ون نظ م حياتنا بحيث نموت بين اعتقال لدى داعش المتاحة على موقع الجمهورية دوت نت. 112

113 أحبابنا. يتغير الواقع حين التوق ع يتغي ر: أن نموت اآلن أن نموت مع جميع أحبابنا أن ن رد م تحت أنقاض البيت أن نموت في منطقة م عادية أو تحت التعذيب. الواقع يتبعثر وال ي عقل حين يمتنع التوق ع. ال نستطيع توق ع شيء في حياتنا إن كان موتنا خارج ا كثير ا على نظامه المعتاد وال ننتهي بقبر معلوم يلم جسدنا كل ه. وكل هذا االختالط مدخل إلى عنف مهول. يمكن التخمين أن أحوال الموتى وما بعد الموت ت نب ئ بالكثير عن أحوال األحياء. ما يتحط م بخاص ة وما تحط م أثناء الثورة والحرب السوري ة ليس أجساد الموتى بل أجساد األحياء الجماعات وبيئات حياتها. ا ختلطت الحياة بالموت على نحو ي عس ر على األحياء أن ينتشلوا أنفسهم من األشالء والدم ومن صورهما ولغتهما ورموزهما. هذا االختالط مناسب جد ا لداعش وأشباهها. بالمقارنة تأث رت سيطرة بيئات النظام على الموت فيها بدرجة أقل بما ال يقاس: ظ ل الموت فردي ا فيها )قلما كان جماعي ا( وللموتى غالب ا قبور فردي ة ولم ي حرق منهم أحد أو يغرق. في كل الحاالت الموت شيء يحدث لألحياء وليس للموتى أنفسهم أو هو عالقة بين األحياء الذين يقع عليهم التغل ب على الموت بأن ي دفنوا الراحلين في قبور معلومة تأوي أجسادهم وتحمل أسماءهم. حين يتعذ ر ذلك وقد تعذر كثير ا في سوريا في األبد األسدي تختل العالقة بين األحياء وتتقط ع يختل اجتماعهم أيض ا ونفوسهم وعالقتهم بالعالم وبالدين. أي ا يكن الناس في حياتهم في سوريا فإن هم يموتون على أديان أ س رهم. قد يعيش الواحد منا فرد ا لكن ه يموت عضو ا في جماعة. وقد يعيش الديني ا لكن ه يموت على دين. قد ال يكون المرء مسلم ا 113

114 أو مسيحي ا... في حياته لكن فارس مراد يموت مسلم ا وي صل ى عليه في مسجد ))) وإلياس مرقص يموت مسيحي ا ويخرج من كنيسة إلى قبره وت كتب على القبرين عبارات ديني ة. وبينما يمكن ألحياء من جماعات ديني ة أو أهلي ة مختلفة أن يتجاو روا فإنه ي جاور المدفونين أموات من جماعتهم حصر ا في مقبرة جماعتهم المستقل ة. الكلمة األخيرة للدين وهو المنتصر. هذا بف عل ضعف األفراد أمام الجماعات وضعف الجماعات كلها في مجتمع الجماعات الم تنازع. م ن ماتوا في مناطق م عادية لم ي دف نوا. جرى تصريف ج ثثهم بطرق غير معلومة ال يمكن أن ت سم ى دفن ا ولم يستطع أي دين أن يفعل شيئ ا حيال ذلك أو يدافع عن حرمة الموتى ولم يقل بشأنه أي م ديرين ديني ين شيئ ا. أم ا م ن قتلهم معسكر الديني ين فص رفت أجسادهم دون دفن أيض ا وبطريقة غير آدمية ليس دون تكريم فقط بل مع حرص على اإلذالل إذالل م ن بقوا أحياء فالموتى ال ينال من كرامتهم شيء. وربما اعت بروا كل هم أو بعضهم أنجاس ا م باحين. هذا المساس بحرمة الموتى طعن بكرامة األحياء كلهم. بعد حين يطول أو يقصر ال بد أن ي ساء ل الديني ون جميع ا والدين ذاته عن عجزهم أو عن تواطؤهم مع أشكال الموت والتمزيق الرهيبة. م ن ال يدافع عن حرمة الموتى أو يساهم في هتكها يخسر حق اإلشراف على الموت وينبغي تجريده منه. وهو ما يمكن ))) فارس مراد: فلسطيني سوري من مواليد 1951 كان عضو ا في تنظيم شيوعي عربي االمتداد اسمه»المنظ مة الشيوعي ة العربي ة«قام بتفجير ضد إحدى المصالح األميركي ة في دمشق عام فارس ورفاقه اعتقلوا وقتها وأ عدم بعضهم وقضى هو نحو 29 عام ا في السجن. خرج من السجن عام 2004 وتوف ي في دمشق في كان من أقرب الناس لرزان زيتونة التي غ يبت في أواخر

115 أن يفتح الباب الستقالل الموت عن الدين وللحق في موت غير ديني ينهي به م ن يرغبون حيات هم الالدينية. تحرير الموت من الدين هو المدخل إلى تحرير الحياة منه. بصورة مجملة انكسر نظام الموت في سوريا على نحو يعكس االنكسار الرهيب لنظام الحياة. كان نظام الموت العام يقوم على تول ي أسرة الميت دفنه علن ا في قبر شخصي خالل وقت قصير عموم ا )أقصر عند المسلمين من المسيحي ين وعند الطبقات الدنيا من العليا وفي األرياف من المدن( مع شاهدة على القبر وي تاح للعائلة واألصدقاء توديعه وزيارته حين يشاؤون أو في مواسم م حد دة وتتلو الوفاة تعزية جماعي ة علني ة. كل هذا انكس ر. العائلة قد ال تحصل على الجثمان والجسد قد يكون م مزق ا وفاقد ا قطع ا منه وحين تنجح األسرة في الحصول على الجثمان قد ي فرض عليها أن يكون الدفن س ري ا مع التكتم على سبب الموت والجنازة ممنوعة أو ممتنعة والقبر قد يكون جماعي ا والتعزية مستحيلة أو ممنوعة أو قد ال تملك األسرة م ي تها و قد يجري تصريف الجثة على أيد معادية غير معلومة وفي منطقة غير معلومة وال ت تاح وقفة على القبر أو زيارة للمنطقة ذاتها. وانقطاع العالقة بين األ س ر وموتاها وبين مجتمع األحياء الم رتاع ومجتمع المي تين وتقط ع أوصال الموتى إن تحت التعذيب أو القصف وتقط ع أوصال الفضاء العام عبر الحواجز ونقاط التفتيش والقن اصين يت صل بتقط ع أوصال المجتمع بالطوائف )أو الجماعات الم وتية التي ي دفن موتاها مع ا وفي انفصال عن غيرهم( والمخابرات )قوى الموت( والرعب األمر الذي ال يحتاج إلى استنتاج. يلزم فقط رؤية تقطيع األوصال وظيفة لصيقة بوضع سياسي بعينه: األبد األسدي 115

116 وتناس خاته اإلسالمي ة. في الحالين أبدية فوق واستمراره تقتضي تقطيع تحت واستباحته. لقد أراد السوري ون تغيير حياتهم فجرى تغيير موتهم. وأرادوا تغيير واقعهم فجرى تحطيم توق عاتهم وقدرتهم على التوق ع. ال ينبغي مع ذلك العمل من أجل العودة إلى الوراء بل أن نعمل لتحرير حياتنا من دولة هي دين وتحرير موتنا من دين هو دولة. هذا االختالط سه ل اختالط الحياة والموت إلى درجة محو الفارق ويس ر للقتلة س بل عملهم. ننتزع م لكي ة موتنا ونضطلع بتغييره تعبير ا عن ج د ية اضطالعنا بتغيير حياتنا. 116

117 117

118 118

119 تمثيل الفظيع القسم الثاين القسم الثاين تمثيل الفظيع 119

120 120

121 مسالك حيال الفظيع خالل نحو أربع سنوات ونصف الس نة خبر السوري ون درجات من الفظاعة قل ما أمك ن التوق ف عند وقائعها والتفكير في آثارها وسبل التعامل معها. بعد محاولة تعريف الفظيع هذه المقالة جهد تصنيفي أو ل ي في مواجهة خبرة الفظيع تستند إلى ما يتعر ف عليه الكاتب في نفسه ومحيطه وما تسن ى له االطالع عليه من ص يغ تفاعل مع مرويات ومواد م صو رة. وفي اعتقادي أن هذا ميدان تفك ر بالغ األهمي ة وإن يكن قاسي ا وأن ه يقول لنا وع ن ا وعن اإلنسان أكثر مما تقول السياسة وأكثر مما يقول الدين وبهما أكثر من غيرهما تت صل تجارب الفظيع في عالم اليوم. ما هو الفظيع باالستناد إلى تجارب سنوات الثورة والحرب في سوريا يبدو الفظيع صفة ممارسات وعملي ات عنيفة تطال األفراد والجماعات والبيئات الح ي ة فت دم رها وت خرجها من أشكالها المعلومة إخراج ا عنيف ا. الفظيع كذلك صفة لما يطال األفراد والجماعات والبيئات الح ي ة من خراب بفعل اإليذاء الشديد الم تعم د. 121

122 وهو يقترن في كل حال باأللم بدرجات من األلم تتجاوز الحد المألوف وال ت طاق. األشكال هي ما نتعر ف على األشياء من خاللها فن أمن لها ونشعر باإللفة حيالها وقد ننجذب إليها فن ص ف الشيء بأنه»جميل«أو ننفر منها ون ص ف الشيء بأن ه بش ع أو م نف ر. نتكل م على فظاعة التعذيب وعلى دمار فظيع وعلى موت فظيع وعلى صور فظيعة حين يصدمنا ما نرى أو نسمع عنه وهو يصدم لما فيه من خراب للشكل نتصو ره مقترن ا في كل حال باأللم المبر ح وربما مفضي ا إلى الموت. أقترح أن الفظيع درجة متقد مة من الخراب تصيب نظام الجسد أو المجتمع أو البيئة الح ي ة بفعل قصدي فتتحط م أشكالها تحط م ا منكر ا يحول دون التعر ف عليها واإللفة بها وتبث في النفس شعور ا بالخوف والقلق من الموت. استقرار األشياء في أشكالها ال يستوقف النفس ما يستوقف ما قد ي سم ر ويشد ه )غير الجمال الخارق( هو خراب الشكل الخراب العنيف وليس التهد م الطبيعي أو التفس خ الطبيعي لما هو ح ي. هذا عدا جسد اإلنسان الذي حت ى حين يموت موت ا طبيعي ا ي صان وي حاط بطقوس خاص ة وي دفن تجن ب ا لما يثيره تفس خ جسده من قشعريرة في كيان البشر بف عل التماهي الطبيعي. في كل حال الص لة قوية بين الفظيع والموت. قد ينجو م ن نالته الفظاعة تعذيب فظيع أو إصابة فظيعة في قصف لكن الفظيع قرين لموت الحي. في الفظيع جانب معرفي يت صل بخراب الشكل وعدم التعر ف )ما هذا ( وجانب سيكولوجي يت صل بما يبث ه خراب الشكل من خوف وقشعريرة وفقدان لألمن )هذا خطر!( وجانب جمالي ي حيل إلى النفور من اضطراب الشكل وخرابه )هذا بشع!(. 122

123 ي ثير الفظيع في النفس مشاعر يتمازج فيها الخوف والكره والنفور وكذلك االنجذاب والفتنة. قد ال نقدر على المشاهدة أو نرفض االستماع أو القراءة وقد ن غط ي أعيننا أو وجوهنا في رد فعل تلقائي أمام مشاهد الفظيع ونحاول حماية أحبابنا واألطفال بخاص ة إن صادف وك نا على مشهد من الفظيع. وهذا ألن ما في الفظيع من مزيج من الغرابة والخطر والبشاعة ي ول د لدينا شعور ا بأن ما يجري إلنسان أو لحيوان من إيالم وتحطيم يجري لنا فنرتد تلقائي ا م بتعدين. نتماهى للحظة بم ن تعر ض للت فظيع فتختلج أعماقنا ويبرز لدينا ميل قوي إلى الهروب أو التجن ب. لكن يحصل أال نفعل أن ن قاوم نازع الفرار والتجن ب أن ن طو ع أنفسنا على مشاهدة ما ال نريد في الوقت نفسه أن نشاهده. في الفظيع ما يشد ويفت ن ما قد ننشد إليه مثل المسحورين ربما ألن ه غريب نتوق ف أمامه لنعرف ما هو وألن ه خطر نريد تبي ن ما هو كي ن جيد تجنبه أو مواجهته وألنه بشع شنيع نريد إدراك نظام ما فيه ي قلل من شناعته. تق ل بشاعة األشياء حين ن درك نظامها نتبي ن لها شكال ون درجها في شرح معقول. ولعل الفظيع ي خاطب فينا من وجه آخر النزوع إلى االستثنائي والعجيب والشاذ النادر في كل حال رؤية ما ال ي رى عادة وألنه ال ي رى وألن ه استثنائي فهو موضوع لحكاية أو لتصوير لفرصة ليست متاحة دوم ا في انتزاع انتباه آخرين. وربما ننشل أمام الفظيع عبر تنازع هذين الدافع ين النفور واالنجذاب. الفظيع فاتن ي دهش بغرابته واستثنائي ته بقدر ما ي شو ش الذهن باألشكال الم خر بة ويزلزل النفس بلحظة التماهي ويخيف بارتباطه بالموت. 123

124 وعبر ات صاله بالشكل الغريب المنكر من جهة وبالخارق الشنيع من جهة ثانية فإن الفظيع هو المستحيل ما استحال إلى شيء غير نفسه دون أن تكون له نفس جديدة يمكن التعر ف إليها وكذلك ما هو ممتنع وغير ممكن وموجود مع ذلك. الفظيع هو المستحيل الموجود أمامنا. لكن يتعل ق األمر بمستحيل م تول د عن عنف بتحط م الشكل وخرابه وليس بتداخل األشكال الذي قد يخلقه الخيال أو بالتعف ن واالهتراء اللذين تتسبب بهما الطبيعة. وبوصفه مستحيال م حق ق ا لعل ما يقابل الفظيع هو العجيب الشيء الذي ال شكل معلوم ا له مثل الر خ والعنقاء لكن المنفصل عن العنف واأللم والموت وال يثير الخوف منهما. بيد أن العجيب ن تاج الحكاية فيما الفظيع مناس بة م حتم لة الح كاية. أ نتج الفظيع يومي ا في سوريا في السنوات المنقضية وأتيحت صور له أو مشاهد أو معلومات أو تقارير بحيث صار خبرة اجتماعي ة واسعة النطاق ت تداول قصصها يومي ا في كل بيئات السوريين وصار المجتمع السوري مجتمع فظاعة ي نت ج وت نت ج فيه مقادير كبيرة من الغرابة والخطورة والبشاعة من الخوف والنفور والكراهي ة ومن التحط م واأللم والموت العنيف... ومن المستحيل. ما يكون حال مجتمع خبر الفظيع إلى هذه الدرجة سيكون علينا قول شيء عن هذا في ختام هذا المقال. مسالك قد يمكن التمييز بين أربعة أنماط من التعامل مع خبرة الفظيع. 124

125 أو لها وأشيعها أن ي غضب الناس ويثورون ي دينون الفظاعة ومرتكبيها ويعملون على أن ي شاركهم في إدانة الفعل ومرتكبيه أوسع دوائر ممكنة. يستفظع الناس تعذيب طفل وقتله وقطع قضيبه أو تعذيب طبيب واقتالع عيونه وقتله أو قصف مدينة بالبراميل المتفجرة حتى تصير أنقاض ا أو قتل ألوف تحت التعذيب أو تجميع أشالء مدنيين من حقل أو مبنى مهد م بفعل القصف بالقنابل الفراغي ة أو مشهد األطفال الموتى في مذبحة كيمياوي ة... ويستجيبون لذلك بالغضب أو ل ما يستجيبون. بعد الغضب تأتي اإلدانة وهي محاولة لتجريم المرتكبين وعزلهم وربما إعداد الظروف من أجل عقابهم يوم ا وفي الوقت نفسه فعل تطه ر شخصي وجمعي. وقد يجري احتجاج منظ م حيث يكون ذلك ممكن ا مظاهرة أو اعتصام أو إضراب عن الطعام... ي ثب ت االعتراض الكالمي عليه واالحتشاد ضده. هذا فعل دفاع اجتماعي يعمل على عزل الفظيع خارج المجتمع وحماية المجتمع منه. لكن مع التكرار أي مع تحو ل الفظيع إلى تجربة يومي ة وص موده في وجه االعتراض عليه وإدانته وهذه تجربة محق قة في سوريا أيض ا يتخامد أثر هذا النمط من رد الفعل ويفقد أثره وينقلب الغضب واالستفظاع واإلدانة إلى طقس م ضج ر متراجع األثر. وبعد قليل يغدو مثير ا للسخرية. وقد يكون اللعن لعن الم فظ عين في البداية ثم لعن العالم ثم لعن النفس ثم لعن كل شيء وهي تعابير شائعة في تداول السوريين في سنوات الثورة أطوار ا متقد مة من»دورة حياة«هذا المسلك في التفاعل مع الفظيع. وربما يكون اللعن من جهة أخرى تعبير ا عن العجز أو عن االفتقار إلى القو ة لتغيير الواقع الفظيع المدان. 125

126 يحصل أن يستمر طويال مسلك الغضب فاإلدانة فاللعن ممتزج ا باإلحباط رغم فقدان مفعوله. وهذا ألن ه آلية تطه ر ثم ألن الم دين )محترف اإلدانة( تحول في سوريا وفي فلسطين ودول عربي ة أخرى وفي العالم إلى دور عام يشغله أفراد ومنظ مات ويرتبط بمواقع ودخول. وألنه ارتبط بصورة ما مع صناعة حقوق اإلنسان التي ترتبط بدورها بكارتالت دولي ة لتلك الصناعة وبيروقراطي تها. المسلك الثاني يتمث ل في التجن ب والصمت. الفظيع المتواتر يكسر الكالم والفعل. يشعر المرء بأن ما يجري يتحد ى القدرة على قول كالم مفيد أو اعتراض مؤث ر بل إن الكالم واالعتراضات المعتادة )اإلدانة الشخصي ة بيانات إدانة جمعي ة تجم عات احتجاجي ة...( ت مسي أقرب بقدر ما تتكر ر إلى إهانة لم ن ح طمت حياتهم وأجسادهم وإهانة للنفس أيض ا. يشعر أيض ا بأن ما يجري يغمره ويفيض من كل جانب عن قدرته على االستجابة أن دفق الفظيع يتخط ى طاقات المرء على االستيعاب والتنظيم فيصمت. قد ال يصمت عن الكالم فقط وإنما عن التفاعل أيض ا ينزوي وينسحب. يتوق ف عن االختالط بمجتمع الفظيع ليس فقط المجتمع الم عر ض للفظاعة وتنتاب أفراده ومجموعاته انفعاالت الخوف والنفور والكره والغضب المحبط وإنما كذلك المجتمع الذي يتداول قصص الفظاعة ومحاوالت فعل شيء حيالها ال تترك أثر ا في النهاية. هذا مسلك تحل ل اجتماعي ملحوظ على نحو متواتر ومتفاقم في بيئات السوريين نبتعد عن بعضنا نافرين من بعضنا ألن نا نريد توفير األلم واإلحباط على أنفسنا وبعضنا. وقد يكون الصمت الطور األخير في سلسلة تبدأ بالغضب فاإلدانة فاللعن ننسحب من الكالم والتفاعل ألن نا لم نعد نحتمل وال 126

127 نريد أن نفك ر ونتذكر ونغضب من جديد. نبتعد. وقد نختار درب»المنفى«إن لم نكن خرجنا من قبل م هج رين أو الجئين. ويشيع نمط رد الفعل هذا عند أشخاص حس اسين يبهظهم شعور بالعجز والشلل حيال فداحة ما يجري وال يريدون أن ينضم وا إلى طائفة الم دينين الهواة منهم والمحترفين. يبتعدون صون ا لكرامتهم الشخصي ة وكرامة من تقع عليهم الفظاعة. المسلك الثالث هو اإلبداعية أو خلق األشياء واألفكار واألوضاع الجديدة. يحاول بعضنا بطرق مختلفة بالكلمات باأللوان والصور والنغمات واألداءات أن يستجيب لخبرة الفظيع الم حط م لألشكال بخلق أشكال جديدة. من المحتمل أن ه ت حر ك المبدعين إرادة مواجهة الموت عبر»خلق«حيوات جديدة. الفن والفاعلي ة اإلبداعي ة عموم ا تحاوالن عبر االشتغال على ما هو غريب وخطر وبشع مستحيل الفظيع أن ت بقياه في الذاكرة وتمنعا جرف النسيان له لكن بعد فك ه عن الموت وربطه بانفعاالت مغايرة. فإذا كان أسوأ الفظيع ما فيه تفن ن و»إبداع«في التنكيل وتخريب كيان الحي فإن أعظم الفن واإلبداع ما هو»فظيع«في تمثيل الفظيع متمر د على المألوف وخالق لكائنات جديدة وأشكال جديدة. وفي مواجهة الغريب الخطير البشع الذي ي نف ر وي ثير الخوف والكره والتجن ب ي نت ج اإلبداع غريب ا ال ي قل ق وخطير ا ال يخيف وبشع ا ال ي نف ر. لكن ليس ما ي حف ز التمثيل اإلبداعي للفظيع بالضرورة هو نزع غرابة الفظيع أو الحيلولة دون نسيانه بل ربما أكثر االحتفاء باأللم البشري وتكريمه وحفز الجهود الجماعي ة على أال يتكر ر.»فظيع«اإلبداع ليس غير آيل إلى الموت فقط بل هو مقاوم له وعابر للزمن. وبدل االنجذاب المسحور إلى المستحيل اآليل 127

128 إلى الموت ي نت ج اإلبداع مستحيال من نظام آخر ي ذك ر بالفظيع عبر تمثيله بصورة ما وفي الوقت نفسه يجتذب عبر االختالف أو الفرادة يدهش ويفتن فيدفع باألحرى إلى التأم ل واالقتراب. وبقدر ما إن الفظيع ينحفر في الذاكرة مقاوم ا التقادم والزوال تحتاج اإلبداعية في مواجهة الفظيع إلى أن تفعل شيئ ا مشابه ا يصدم أيض ا وي غي ر بقدر معاينة الفظيع. غرنيكا بيكاسو ال تستوقف ألنها تمثيل»فظيع«للفظيع فقط وإنما كذلك ألن ها تستقطب النظر وتستبقي الصورة في الذاكرة. وهي احتفاء بمأساة القرية اإلسباني ة ووثيقة ي ستند إليها لمقاومة تكرار الفظاعة. ال يستطيع الفن وال تستطيع الثقافة مواجهة الفظيع دون خروج على األشكال الفن ية والثقافي ة السائدة دون فظيع إبداعي. أنتج سوري ون أشياء متنو عة في التفاعل مع الفظيع تحاول كل ها أن ت خز ن هذه التجربة في الفن والثقافة وأن ت حول دون سقوطها في النسيان. لكن في كل مرة تواجهنا تجربة الفظيع وقد واجهت كال منا مئات المرات منذ بداية الثورة نشعر بأن التحد ي يتجد د وبأن الفن والثقافة واللغة تقف عاجزة أمام الدمار الواسع لألشكال. وهو ما ينبغي أن يكون حافز ا لثورة في الثقافة في الفكر واألدب والفن واألخالقي ات وفي االجتماع والسياسة والدين أي في صنع األشكال والقواعد ثورة يبدو أن ها وحدها ما يمكن أن تنصف وت كر م الهول الذي ي خب ره السوري ون. ليس غير ثورة في إنتاج األشكال والصور هي ما ترد على هذا الفقد الهائل لألشكال والصور في ((( بلدنا طوال أربع سنوات ونصف السنة. ))) كان هذا الفصل قد ن شر كمقال في 9 تشرين األول

129 لكن رهان اإلبداعية في مواجهة الفظيع ال يتعل ق باستيعاب الفظيع ذاته أو بمن طالتهم الفظاعة مباشرة هذا ب عد تكريمي يمكن أن يكون مهم ا كتعبير عن إرادة طي صفحة الفظيع وفتح صفحة جديدة آمنة لكن اإلبداعي ة فعل خ لق لألشكال الجديدة م وج ه إلى النفس والمجتمع والثقافة. عبر محاولة السيطرة على الفظيع والحد من تأثيره الم حط م للنفس والمجتمع ت حو ل اإلبداعي ة الفظيع فني ا وأدبي ا وفكري ا إلى خبرة عام ة تجربة فردي ة وجماعي ة نشترك فيها مع من عاشوها وعانوها مباشرة. ي عاكس الفن والثقافة ميلنا التلقائي إلى تجن ب الفظيع عبر تمثيله وترميزه على نحو ي شج عنا باألحرى على االقتراب والمعاينة. فمن ناحية ي عاد إنتاج الفظيع على نحو مغاير بحيث ال ننفر منه ونحاول نسيانه بل نقترب منه ونقف عنده ونتمال ه ومن ناحية ثانية نشترك مع آخرين في تمل كه عبر الفن والثقافة. بهذا ن حو ل الفظيع من تجربة م دم رة للمجتمع إلى فعل مشاركة وتقارب اختراع لشراكة ومجتمع تذك ر الهول المشترك ت مث له واالجتماع حول سبل مواجهته ونفيه. وفي هذا ما ي شك ل استئناف ا لإلبداعية االجتماعية غير المرئي ة غالب ا التي واجه بها ما ال ي حصى من السوري ين الفظيع وتدب روا معالجات وحلوال عملي ة ت مك نهم من االستمرار في العيش وإضافة بعض المعنى لعيشهم. توليد المعاني واألشكال الجديدة ليس منفصال عن إبداعي ة عموم الناس هذه ولن ي ثم ر إن انفصل عنها. لقد قاد العنف المهول وتحط م بيئات الحياة إلى الفصل بين الحاجات الثقافي ة والحياتي ة اليومي ة أو إلى الفصل بين اإلبداعية الثقافي ة وإبداعي ة تدب ر شؤون الحياة في شروط بالغة القسوة. أو لنقل إنه 129

130 قاد إلى تعزيز انفصال أقدم بين عالمين في بلدنا عالم ثقافي منفصل وال اجتماعي وعالم اجتماعي معزول وال ثقافي. ولطالما تكف لت بإعادة إنتاج انفصالهما هياكل سلطة تستأثر بإنتاج الفظيع وتعميمه اجتماعي ا. تجربة الفظيع يمكن أن تكون منطلق ا لمواجهة هذا االنفصال القديم وألشكاله القصوى الجديدة في سنوات الثورة والحرب بقدر ما هي م عنية بإعادة بناء السياسة على نحو ي فصلها هي عن الفظاعة. والثورة في األصل وفي بدايتها فعل إبداع جماعي م نت ج لوضعي ات وأ ط ر اجتماع وعمل جديدة ولذاتي ات جديدة م تحر رة. واإلبداعية في مواجهة الفظيع هي إعادة تملك لهذا النازع التحرري بقدر ما هي جهد للربط بين الثقافة والمجتمع يستند إلى خبرة الفظيع ويعمل على الحيلولة دون تول د الشروط االجتماعي ة والسياسي ة والثقافية لهذه الخبرة مجد د ا. من شأن خبرة الفظيع ومواجهتها اإلبداعي ة أن تكون منطلق ا إلعادة اختراع النفس وتغييرها أيض ا. فبقدر ما إن الفظيع تجربة م حط مة لشكلنا وكياننا لهوي تنا/ هوي اتنا فإن من شأن التفكير فيه وتحويله إلى ثقافة وفن وحياة مغايرة أن ي حو ل المشتغلين عليه ي غي ر شكلهم ويساعد في تحو ل غيرهم. المشترك بين الفظيع واإلبداعي هو مركزي ة الشكل في كل منهما. وهذا ما يجعل من اإلبداعي ة الرد األكثر خصوبة وجدية على الفظيع. اإلبداعي ة التي يجري الكالم عليها ليست مجرد إنتاج أشكال جديدة ألشياء تقع خارجنا بل هي إنتاج أشكال جديدة لنا أي ثقافة جديدة وقيم جديدة ومسالك جديدة وهي أيض ا ليست فعل أفراد منعزلين أو مجموعات محدودة بقدر ما إنها نشاط اجتماعي يستجيب للصفة االجتماعي ة العام ة لخبرة الفظيع. 130

131 وعبر صنع األشكال يمكن لمواجهة الفظيع باإلبداع أن تكون تجربة بانية لهوي ات جديدة وصور جديدة للحياة ولثقافة المجتمع. وم ن لديه قوى توح ش وخراب مثل األسدي ين والدواعش جدير به أن ي فك ر بالهوي ة كمشروع خلق جديد كابتكار مغاير للنفس والمجتمع للمعتقدات والثقافة. في هذا أيض ا ما يمكن أن يصون كرامتنا كسوريين ويؤك د استحقاقنا السياسي والثقافي. ثم إن ه عبر خلق األشكال وإبداع ثقافة ومعان جديدة نواجه أيض ا أحد أبرز منابع الفظيع في حياتنا اليوم: المنبع اإلسالمي الذي ي حر م الخلق الفني أو يتقبل بعض أشكاله الكالمية فقط. هذا ي ضعف قدرة اإلنسان على صنع»الحضارة«األشياء التي ترفع من استحقاق اإلنسان وجدارته فكأن ها تعيد خلقه وتحد من احتماالت التفظيع به. إنكار اإلبداعي ة واستسهال القتل يسيران يد ا بيد بالمقابل. بالطبع الكالم على اإلبداع أسهل من اإلبداع ذاته. لكن تجربة الفظيع هي تجربتنا وكثافتها المأساوي ة تخصنا وحدنا وأخذها بجدية وصبر والتعامل معها عبر الفن والثقافة هو ما قد يساعد في نزع س م يتها وفاعلي تها التدميري ة وقلبها بالعكس إلى تجربة تقارب واشتراك. من هذا الباب فإن محاولة تمل ك تجربة الفظيع عبر الثقافة والفن هي في الوقت نفسه إعادة بناء للثقافة والفن والمجتمع حول هذه التجربة. وبما أن الفظيع تجاوز للمقدار في الشد ة والشناعة بحسب»لسان العرب«أي بما أنه استثناء وخروج على موازين مألوفة فإن اإلبداع وهو استثناء مستمر واختالف مستمر وخروج مستمر يمكن أن يستمد من خبرة الفظيع ذاتها إلهام ا دافع ا إلى»الخلق«صنع 131

132 أشكال جديدة يصعب تصو ر أنه يمكن أن يستمد ها من مصدر آخر. المسلك الرابع في مواجهة الفظيع هو القو ة الرد بالقوة على تخريب األشكال بالقوة. الفظيع ن تاج أفعال سياسي ة لفاعلين سياسي ين مدركين لما يفعلون ويجب تدفيعهم الثمن. الفظيع الم تول د من عنف هؤالء الفاعلين ال ي واج ه باالستنكار وال بالصمت واالنسحاب ي واج ه بالعنف. إن لم يكن لمعاقبة مرتكبي الفظاعة وتجريعهم مثلها فلر دعهم. كسياسة عملي ة يمكن لهذا المسلك أن يكون مجدي ا إن لم يتأخ ر في تحقيق هدفه: العقاب أو على األقل الر دع. لكن ه إن أخفق وهو ما وقع في سوريا منذ تسارع انهيار اإلطار الوطني للصراع بدء ا من النصف الثاني من عام 2012 ربما تتعم م الفظاعة ويعم فقدان األشكال في المجتمع وتظهر لدينا مجتمعات فظاعة متعد دة تتبادل الكره والخوف والنفور. ويبدو أن احتماالت هذا المسلك تزيد كل ما قل ت الثقة بن جوع المسالك الثالثة السابقة. الغضب واإلدانة ال أثر لهما على م فظ عين جد يين مثل الدولة األسدي ة أو مثل داعش اليوم والصمت فعل انسحاب وتسم م ذاتي. واإلبداعي ة الثقافي ة ال تزال فعال نخبوي ا محدود التأثير االجتماعي وال يبدو في مستواه الحالي مؤه ال إلعادة اختراع المجتمع والثقافة والحياة. فلن واجه الفظيع بمثله ولنرد على األلم باأللم. ميزة هذا المسلك عن غيره تتمث ل في أن ه سياسي. فبما أن الفظيع سياسة فعل سياسي لفاعلين سياسي ين فإن السياسة هي الميدان المركزي للرد عليه والم فظ ع الم عن د بالذات ال يتصو ر أن تجري 132

133 مواجهته بغير تحطيمه. ليس هناك خطأ منطقي أو أخالقي في هذا الطرح في تصو ري. وال يبدو أن أحد ا يجادل في صح ة هذا التقدير بخصوص داعش. وما ي حتمل ظهوره من مجادلة بخصوص الدولة األسدي ة وهي قو ة تفظيع مثابرة وعنيدة يت صل على األرجح بإرادة حماية أوضاع استثناء وامتياز اجتماعي ة وسياسي ة هي منبع الفظيع المتمادي في البلد. المشكلة في سوريا اليوم لم تتول د من الرد االضطراري على العنيف بأدواته بل بالضبط من التباعد بين أفعال الرد وبين هذا الهدف السياسي ألسباب متنو عة. مشكلة تشكيالت مقاتلة في سوريا اليوم ليس أنها تواجه الدولة األسدية المعتدية والعنيفة بالعنف بل بالضبط في أن ها لم تعد تفعل ذلك إال عرض ا وأن اهتمامها يتوج ه إم ا إلى تأكيد سلطة ذاتي ة في مناطق خاص ة و/أو إلى انضباط مواجهتها لألسدي ين بخ طط قوى إقليمي ة ودولي ة هي التي ت حد د لها ماذا تفعل ومتى وأين. بعبارة أخرى انفصل الرد بالعنف على العنيف العام عن رؤية سياسي ة تهدف إلى»إسقاط النظام«أي كعنف ثوري وكخطوة نحو الفصل بين السياسة والفظاعة. آل األمر إلى عنف بال سياسة يحصل أن يستند إلى الدين في نت ج ف ظيعه الخاص وإلى سياسة ال سند لها من القوة عاجزة عن التأثير في سير األحداث. الفظاعة بقيت سالمة فظاعة األسدي ين وانضافت إليها فظاعة داعش وفظاعات أدنى لمجموعات أخرى. الفظيع والعنف في الس ياق السوري المعلوم وأهم خصائصه استمرار الصراع أمد ا طويال قياس ا إلى ما كان م قد ر ا في البداية ات سعت ممارسة الفظيع مع الزمن. الفظيع مرتبط بالعنف حتم ا 133

134 وبالتحديد بما يتسب ب به العنف من تخريب ألشكال األشياء. ال فظيع دون عنف. لكن هل يؤدي العنف بالضرورة إلى الفظيع كلمة الفظيع في العربية ت حيل إلى شد ة»م تجاوزة للمقدار«كما سبقت اإلشارة. ما هو المقدار المسألة ثقافي ة وتاريخي ة. يمكن تصو ر أوضاع ثقافي ة واجتماعي ة ي عتبر كل عنف فيها متجاوز ا للمقدار وفظيع ا. يت جه المتعل مون من الطبقة الوسطى العلماني ة في العالم كل ه إلى اعتبار ضرب األطفال فظيع ا لكن في طفولة جيلنا لم ا يكن ي عتبر فظيع ا بحال. وال يبدو أن أي دولة في العالم مستعد ة اليوم لقبول أن العنف الحربي فظيع وتوس عت ممارسة التعذيب في العالم منذ مطلع القرن واعتماد»اإلرهاب«كاسم للشر السياسي األساسي ولم تتراجع. وتعر ضت شخصي ا للتعذيب وقت اعتقالي عام 1980 لكن ي أترد د في استخدام كلمة فظيع في وصفه: كان مؤلم ا جد ا لكن ليس م حط م ا ولم ي دم ر شكلي. لكن كان تعذيب بعضنا فظيع ا وبخاص ة تعذيب اإلسالميين. من حيث عالقته بالعنف قد يمكن التمييز بين الفظيع كف عل والفظيع كنتيجة. كنتيجة الفظيع هو فقدان الشكل كما سبق القول والعنف الفظيع هو ما ي حط م أشكال األشياء لكن الفظيع يمكن أن يكون خاص ية التعذيب أو القتل أو التدمير حين يكون مقترن ا ب»تجاوز المقدار«بإرادة التفظيع إن جاز التعبير. وأفظع الفظيع ما ي مازجه دأب وصبر و»فن«ومباشرة شخصية. ومنه مثال التعذيب في سجن تدمر على نحو ما وصفه مصطفى خليفة في»القوقعة«وبراء السر اج في»من تدمر إلى هارفارد«. وربما يجب القول إن الفظيع هو حتم ا نتاج تفظيع واع وم تعم د يريد أن يحط م المستهدفين أو أن ي بيدهم. ت رى أليس الفظيع إبادة لم تكتمل اإلبادة المثالي ة هي التي تمحق جميع المستهدفين وتبيد 134

135 حت ى ذكرهم. ليس مراد الم بيدين تحطيم الشكل بل إبادة الكائن. ت حول دون ذلك عوائق تكنولوجي ة وأحيان ا رغبة الم فظ عين في ترك بعض الم فظ ع بهم»عبرة لمن يعتبر«وتلقين مجتمعهم كل ه»دروس ا ال تنسى«. يتركون أمثلة تبقى في ذاكرة الم عن ي ين وبيئاتهم االجتماعي ة بغرض الترويع والردع. إسرائيل أستاذة في هذا الشأن. واألسدي ون. وداعش يبدو على إلمام ممتاز بهذا»الفن«نفسه. وم ن ي نت ج الفظيع هو قوة ال قانون لها أو دستور أو قاعدة مطردة أي ال شكل مثل داعش واألسديين. إنها السلطات التي تتصرف كقوة سيادية كل أفعالها استثناء إن كان يمكن تصو ر شيء كهذا وكلها (((»إبداع«. الفظيع عاقبة محتملة للعنف الحربي الذي هو فعل قوى سي دة لكنه ليس هو. فم قتل مقاتل شاب مسل ح بقذيفة تهرس جسده هو شيء بشع لكنه ليس فظيع ا ألنه ليس خارج المتوق ع وليس»متجاوز ا للمقدار«أن ي قتل المقاتل الشاب قتال عنيف ا يحط م جسده. لكن مقتل شاب بعمره غير مسلح كان في طريقه إلى عمله أو إلى فرن الخبز ألطفاله هو فعل فظيع. ومقتل خمسين مقاتال في هجمة واحدة ليس فظيع ا بقدر مقتل خمسة مدني ين كانوا يقفون على فرن خبز جرى تعم د قصفهم مثلما فعل النظام في آب 2012 في مناطق حلب وحماه. فكما سبقت اإلشارة ال ي نتج الفظيع عن العنف بحد ذاته بل ))) أحيل في ذلك إلى مفهوم كارل شميت عن السيادة وهو جعل االستثناء في الدولة معادال للمعجزة في الدين. وكذلك إلى قراءة جيورجيو أغامبن للمفهوم واعتبار االستثناء قاعدة السلطة في عالم اليوم وليس خروج ا على القاعدة. كتابه: حالة االستثناء ترجمة د. ناصر إسماعيل مدارات لألبحاث والنشر القاهرة

136 عن التنكيل وإرادة اإلبادة. واإلبادة ليست فعال عقابي ا وال هي من إجراءات العدالة أو تجاوز العدالة وال يمكن أن تصاغ في قانون. ليس القتل ذاته فعال فظيع ا بالضرورة وحت ى أحكام اإلعدام الجائرة قد ال تكون فظيعة إن ن فذت وفق مسطرة معلومة مقر رة. عنف األسديين ليس مفرط ا ك م ا فقط وإنما هو م نفل ت من أي قاعدة عام ة واقترن بالفظاعة وإرادة التفظيع طوال الوقت: هرس رأس رجل بكتلة إسمنتي ة طعن رجل حت ى الموت بحربة تعذيب سجناء حت ى الموت القصف المكث ف والمتعم د لمنطقة سكنية هذه كل ها ليست أفعال عدالة أو حتى عقاب ا غير عادل إنها أفعال ترويع وإرهاب. تفظيع بتفن ن. وما هو فن خالف ا لما هو قانون ال يمكن االستناد إليه من أجل التوق ع. فمفهومه بالذات يقتضي المفاجأة والال توقع. كل تمثيل باألجساد المقتولة فظيع تعريف ا ليس فقط ألن التمثيل يستهدف الشكل مباشرة وإنما كذلك ألن التمثيل ال يمكن أن يكون فعال عقابي ا أو ممارسة تقب ل التقنين إنه فعل إبادة ال يخاطب مقتوال صار خارج الخطاب بل جماعة وراءه ي نذرها بالقتل. التفظيع بشخص واحد هو رسالة جماعي ة خالف ا للقتل المتقش ف لشخص أو حت ى مجموعة أشخاص وفق إجراءات معلومة ومقر رة سلف ا. مشاهد تمثيل قوات النظام ومخابراته ببعض شهداء الثورة الذين قتلوا تحت التعذيب أو في معارك هي فعل إبادة رمزي لجمهور الثورة كل ه. لكن قتل شخص ألنه ال يعرف عدد ركعات صالة الصبح فظيع حتم ا حتى لو جرى القتل برصاصة واحدة. الفظيع هنا نسبة بين اإلضرار وبين الذريعة بين ما يقع على شخص أو وسط من عنف 136

137 وبين ما ي سو غ به العنف. ليس هناك عنف ليس فظيع ا بحق طفل ألن ه ال يمكن أن يكون عادال أو م سو غ ا. النظام وداعش فظيعان م فظ عان مثال. ليس هناك أي وجه إلنكار صفة الفظاعة المتعم دة عن قتل نحو 7000 تحت التعذيب بين بداية الثورة وآب 2013 أو عن المجزرة الكيمياوي ة في الغوطة أو عن قصف وتدمير مدن وبلدات عديدة أو عن قتلى داعش وم صلوبيها أو عن الرمي في الهوتة. ))) يبقى الص لب شيئ ا فظيع ا حتى لو كان المصلوبون قد ق تلوا قبل ص لبهم. الفظيع نسبة من وجه آخر: بين ضميرنا وتصو رنا للعدالة اليوم وأنماط من العنف صارت غير مقبولة. رمي الناس في الهوتة أي ا تكن جريمتهم فظيع. وهو فظيع بحق هم فظيع بحق المجتمع الذي تجري فيه مثل هذه الجريمة وفظيع بالقدر ذاته بحق نظام بيئي حي بحق الماء والطبيعة في المنطقة. في كل حال الفظيع مرتبط بعنف غير شرعي وغير عادل وغير منضبط بقاعدة عامة. وفي الغالب بالعنف المقترن بالكراهي ة والتفن ن. المقدار نفسه من العنف يمكن أال يكون فظيع ا وأال يؤد ي إلى فظاعة إن كان عقابي ا وفق قاعدة معلومة مقررة سابق ا ويكون فظيع ا وم فظ ع ا إن كان منفلت ا من قواعد معلومة و»إبداعي ا«. والخالصة أن ه ليس هناك فظيع يمكن أن يكون عادال وليس هناك عدالة يمكن أن يكون الفظيع ممارسة مقبولة م ن ممارساتها. ال سياسة وال دين وال أي ة أوضاع خاص ة يمكن أن ت سو غ التحطيم ))) الهوتة: انهدام أرضي غائر قرب قرية الحمام شمال الر قة كان داعش يرمي فيه جثث من قتلهم ويحتمل أن ه رمى فيه أحياء كذلك. انظر مقالة أحمد إبراهيم»الهوتة«3 آب/أغسطس 2015 المتاحة على موقع الجمهورية دوت نت. 137

138 الكيدي المقترن بالكراهية وإرادة إبادة األفراد والجماعات والبيئات الحية. الفظيع والمجتمع إذا كان الفظيع متول د ا عن مزيج العنف والكراهية ومقترن ا باأللم والموت وم رك ب ا من الغرابة والخطر والبشاعة. وإذا كان المحتوى الشعوري لتجربة الفظيع يتكو ن من الخوف والنفور والكره فإن مجتمع ا يعيش هذه التجربة لوقت طويل دونما توق ف مثلما يحصل في سوريا منذ أربع سنوات ونصف السنة يتحط م هو ذاته ويكف عن كونه مجتمع ا. الخوف يفصل الناس عن بعضهم ويدفعهم إلى االنكفاء على أنفسهم وأوساطهم الضيقة والنفور فعل تباعد وانكماش عن الفظيع ذاته بداية لكن عن مجتمع تتواتر فيه تجارب الفظيع أيض ا. نتكل م على الفظيع كتجربة متكر رة ال يكاد يكون أحد من السوريين بمنجاة من معاينة أمثلة منها. وللك ره مفعول مشابه من حيث أن ه يدفع إلى التجن ب والقطيعة والعداء. لكن تجربتنا منذ بداية الثورة تتجاوز ذلك. أ نتج الخوف والنفور والكراهية بمقادير وافية في»سوريا األسد«منذ أواخر سبعيني ات القرن العشرين على األقل واقترن على نحو ظاهر بتباعد السوري ين عن بعضهم وتراجع ثقتهم ببعضهم وبتدهور مشتركاتهم واجتماعي اتهم. أما ما يجري اليوم فهو قطع روابط السوريين بالفأس عبر تحطيم أجساد ما ال ي حصى منهم بالفأس. ال يتعل ق األمر بأوضاع صعبة بانتهاكات واسعة النطاق بل بمشروع للقتل الجماعي لم يعد يستطيع أن يتوق ف عن القتل خشية أن ينهار. ومثلما كان لدى معظم السوري ين البالغين منذ ثمانيني ات القرن العشرين»تجربة أمني ة«تتراوح بين االستدعاء 138

139 والتحقيق والتخويف والتعذيب وقد تصل إلى االعتقال المديد أو االختفاء أو القتل بحيث ال تصلح أعداد المعتقلين السياسي ين في أي وقت للتمثيل على أوضاع السوريين الحقوقي ة واالجتماعي ة والسياسي ة لدى معظم السوري ين اليوم تجربة فظيع عاينوها في الم فظ عة األسدية ثم في م فظ عة داعش ومفاظ ع أخرى نامية هذا حين ال يكون الواحد منهم موضوع هذه التجربة أو تجارب متكر رة. وقد يكون أقرب تمثيل التساع القاعدة االجتماعي ة لتجربة الفظيع هو أن عدد المعاقين منذ بداية الثورة يقارب المليون وهذا عبء رهيب للمستقبل وفوق ربع مليون ضحي ة على األقل وما ليس معلوم ا من المعتقلين الذين يعيش معظمهم أوضاع فظاعة م زمنة. وال يكاد يحتاج إلى ب ره نة خاص ة أن المجتمع الذي تتواتر تجربة الفظيع فيه بكثافة هو مجتمع فظيع يفر منه الناس في كل اتجاه. يفر الناس من سوريا اليوم ليس بالضرورة ألن هم م عر ضون لخطر مباشر ولكن ألن البلد صار موطن ا ملعون ا للفظاعة لأللم والموت ت نت ج فيه يومي ا وبمقادير كبيرة انفعاالت الكره والخوف والنفور وت طل ق اللعنات من كل اتجاه. وال تساعد على مواجهة هذه التجربة أنماط تفاعل سبق ذكرها. فاإلدانة الكالمي ة أو االحتجاج الذي ال تأثير له على وقف الفظيع ال يساعدان على تكو ن مجتمع متفاعل متضامن ضد الفظاعة. ربما تشد هذه المسالك مجموعات إلى بعضها لبعض الوقت لكن ها تنحل بعد حين ألن ها ال تجد حال للمشكلة. والصمت واالنعزال هما تسليم بالفظاعة وتسليم بمفعولها الم حط م للمجتمع والنفس هذا فضال عن أن المجتمع يتكو ن حول الكالم وتبادل الكالم وليس حول الصمت واالنعزال. ومواجهة الفظيع بالعنف حين ال تؤد ي إلى تغي ر سريع في السياسة وتقييد للعنف بقواعد عامة مت فق عليها 139

140 أي حين ال تكون إجراء عملي ا ناجح ا للحد من الفظاعة وتحقيق العدالة ت جازف بأن ت حو ل الفظاعة إلى سياسة والسياسة إلى ممارسة للفظاعة على نحو يبدو أن سير األمور في البلد منذ نحو ثالث سنوات ي صادق عليه. تبقى اإلبداعي ة منهج ا يساعد على االقتراب من الفظيع وتطوير استعدادات وحساسي ة م ضادة للفظيع والفظيعين من جهة وعلى تحويل تجربة الفظيع إلى تجربة مشتركة يتكو ن حولها مجتمع من جهة ثانية. بيد أن أقن ية مفتوحة بين االجتماعي واإلبداعي بحيث يكون اإلبداع فعال اجتماعي ا واالجتماع فعال إبداعي ا يقتضي توق ف العنف والتحو ل من نظام العنف الفظيع الوفير إلى نظام يضبط العنف وي قن نه. هذا الخيار الم وج ه نحو إعادة خلق المجتمع هو األجدى. السياسة وحدها ال يمكن أن ت لغي الفظيع الذي ألغاها لعقود وإن كان ال بد من تكريس سياسي وقانوني لنهاية الفظيع. يلزم أن تتشك ل السياسة ذاتها بصورة مغايرة في مجتمع جديد وثقافة جديدة متشك لين حول مواجهة تجربة الفظيع واستيعابها. عبر أشكال جديدة لالجتماع والثقافة والتفكير والدين والهوي ة/ الهوي ات ن عيد خلق ذاتنا في صورة أصلح إلصالحنا وإصالح العالم. الغرض من هذه المحاولة في الختام المساهمة في تسمية تجاربنا وتقوية شخصي تها أعني أن تصير مفاهيم وأن يكون لها كيان ي عترف به وتكون أساس ا لتفكير وممارسات مغايرة. الفظيع وجه من أوجه تجارب يمتنع أن تتشك ل لنا هوي ة كسوري ين على غير االستناد إليها. وبقدر ما إن االعتقال والتعذيب والسجن 140

141 واالغتصاب والحصار والخطف والتغييب والقتل والتهجير واللجوء هي تجاربنا في»سوريا األسد«وتناس خاتها اإلسالمي ة فإن فرص سوريا جديدة متحر رة مرهونة بما نصنعه من هذه التجارب من ثقافة واجتماع وسياسة. لسنا ن تاج تجاربنا وحدها إن نا ن تاج ما نفعل بهذه التجارب. 141

142 142

143 تحديق في وجه الفظيع بين الم هتمين بالصورة في سوريا س جال م تمو ج يشب حين ا ويخبو حين ا حول عرض صور األجساد الم حط مة أو المحروقة واألشالء وفيديوهات التعذيب ومشاهد القتل أو عموم ا حول صور السوري ين في انكشافهم الكبير على أنفسهم وعلى العالم طوال 50 شهر ا ون ي ف. قبل شهور نش ر»أبو نض ارة«وهو تجم ع سينمائي سوري ي نت ج فيلم ا قصير ا واحد ا كل أسبوع بيان ا أدان فيه»ت مريغ كرامة«الناس»من خالل عرض صور أجسادهم الم عذ بة على شاشات العالم دون موافقتهم األمر الذي ي سيء لكرامة السوري ين واإلنساني ة جمعاء«وبن ى على ذلك مبدأ»حق اإلنسان في صورة كريمة أي ا كانت الظروف«. وأطلق التجم ع أيض ا مبادرة عنوانها: صورة السوري ما بتنذل! والعنوان م بني مثلما هو معلوم على غرار شعار ر فع في تجم ع احتجاجي باكر في دمشق ق بيل الثورة وهت ف فيه المتجم عون: الشعب السوري ما بينذل! وبين وقت وآخر يجري التعبير عن التحف ظ عن مشاهد صادمة يجري تداولها على صفحات مواقع التواصل االجتماعي أو تضمينها في أعمال فن ية منها مثال فيلم أسامة محمد ووئام بدرخان»ماء الفضة«حيث تتكر ر صورة ولد سوري عار يجري تعذيبه وإجباره 143

144 على تقبيل حذاء م عذ به ثم يتعر ض النتهاك جنسي. وفي الفيلم أيض ا مشهد ج ر ج ثث شهداء في الشارع بكالليب مربوطة بحبل من ق ب ل م قاومين ال يستطيعون نقل الجثث بطريقة أخرى خوف ا من رصاص قن اصي النظام. الصور صادمة وم ذ ل ة فعال فما القول في شأن عرضها للعموم أو التساهل في األمر وتجد د الكالم على األمر بعد عرض صور من التي هر بها»سيزر«لبعض م ن قتلهم النظام تحت التعذيب )55 ألف صورة لنحو 7 آالف من الم عذ بين المقتولين بين بداية الثورة وآب 2013( وقد ع رض قسم منها في مقر األمم المت حدة في نيويورك في آذار 2015 ويبدو أن ه كان م رو ع ا لمشاهديه. ورأى مثق فون وفن انون منهم محمد علي األتاسي أن إعادة عرض الصور من ق ب ل أي كان مشاركة في قتل الضحايا. هذه على أي ة حال مساهمة في إثارة نقاش أوسع تبدو ضرورية حول الصور صورنا. يمتنع بداية أن ي عزل موضوع عرض الصور والمشاهد الم رو عة عن الحال السوري ة الراهنة وهي حال هول ق يامي فيها كثير من العنف والفظاعة والموت والدم واالست ماتة والكراهية وجنون الث أر واالنحالل والتبعثر ويبدو م متنع ا أن تعود سوريا إلى ما قبلها وغير مرغوب أيض ا. يبدو كذلك ممتنع ا عزل عموم السوري ين عن هذه الحال وغير مرغوب بدوره في نظري. فهل بغير التحديق في وجه هذا الهول الرهيب وتوسيع اإلحاطة به بصوره وتفاصيله وحكاياته يمكن أن ن طو ر إدراك ا بج ذري ة وضعنا ومأساوي ته ون طو ر فن ا وفكر ا وأخالقي ات مجبولة بتمثيل هذه األوضاع المستحيلة الصور موجودة في مكان ما صو رها أحد ما مشكور ا مخاطر ا بنفسه 144

145 في بعض األحيان ورآها بعضنا فهل نحن م تلص صون على محر م إن كانت الحيلولة دون العرض هي الشيء الصحيح وكيف لنا أن ن نم ي ذاكرة تخص ما أصابنا من فظاعة إن كن ا نتفادى ما وس عنا التفادي النظر في وجه الفظاعة نتذك ر كي ال ن كر ر ما جرى لنا وكي نمارس حياله نسيان ا إرادي ا واعي ا نسيان م ن واجهوا أنفسهم ورأوا الو حش فيهم وقر روا تقي يده. ينسون ترف ع ا عما يعرفون في أنفسهم وفي غيرهم. وهو ما ال يتأت ى دون أن ن حد ق م ل ي ا في صورنا لن طبعها عميق ا في ذاكرتنا. ي طو ر المعترضون على النشر حجج ا وجيهة منها أن صور العنف والفظاعة ت ثير مشاعر الغضب ورغبة االنتقام ويقال أحيان ا إن بعض هذه الصور على األقل سر بها النظام عمد ا إلثارة نوازع الثأر وتحويل الصراع السوري إلى صراع طائفي ومطلق. لكن واضح أن الحال السوري ة أكثر جذرية وفظاعة من أن تكون الصور م سر بة بقصد أم ال م حر ض ا أساسي ا فيه. الصور جزء من الصراع وقد تكون أداة من أدوات التعبئة والتحريض فعال لكن منابع التحريض وفيرة ومنها أو ال الحرب الفعلي ة الجارية المستمر ة بفضل الم حارب األول الم زو د بمضخ ات متفوق ة للصور والكلمات والكراهية فضال عن السالح الم تفو ق أعني النظام األسدي. وهو ما يعني أن القول في شأن الصور تاب ع للقول في الصراع وسبل إنهائه. فال مجال للتفكير في الصور دون مواجهة المعضالت األكبر الخاص ة بمنابع العنف الم نفل ت في البلد وبفرص التوص ل إلى تمثيل سياسي م غاير لسوريا والسوريين وإلى دولة جديدة ووعي ذاتي جديد. بعضنا غضبه يتوج ه نحو االنتقام نعم هذا محتمل جد ا لكن يمكن لغضب بعضنا أن يتوج ه إلى تفكير أكثر جذري ة في شرطنا اإلنساني والسياسي والثقافي وإلى م ساءلة نفوسنا وتاريخنا ومجتمعنا وثقافتنا 145

146 عن هذه الفظائع. النقاش في شأن الصور يمكن أن يكون مساعد ا في ذلك. يجب أن نرى لنتناقش. يقال أيض ا إن نشر الصور ي طب ع موت السوري ين وي حط م أجسادهم عالمي ا. شيئ ا فشيئ ا يمكن أن يرس خ في ذهن العالم أن السوري ين ي قتلون السوري ين أو أن هناك صراع ا طائفي ا مميت ا في سوريا أو أن األمور هي هكذا على الدوام في»الشرق األوسط«فتضيع قضايا العدالة والحق والمسؤولي ة وتنطمس األبعاد السياسي ة للصراع ويجري االعتياد على أن ما يأتي من سوريا هو صور عنف وحشي ت ثير نفور ا متصاعد ا فال ي ثير مزيد من الوحشي ة اهتمام ا خاص ا. هذه حج ة أقوى من سابقتها لكن ها تضع»العالم«و»ذهن العالم«والمقصود عالم الطبقات الوسطى والعليا الغربي ة أساس ا في موقع تحكيمي غير م ستح ق. هذه الطبقات ال تكف عن ت صفيح عالمها بالحجج واألفكار التي تحميها من اإلحساس بقسوة الوجود في عالم اليوم وتصون استقرارها الذهني واألخالقي. أعتقد أن ه يمكن مقاربة التطورات الفكري ة والثقافي ة في الغرب منذ جيل واحد على األقل من هذه الزاوية. أن يعيش المرء عمره في ظل أوضاع م نظ مة ولو بقدر ما يكفي على كل حال ألن ي صف ح و ضعه الممتاز هذا بما ال ي قلق وال يدفع إلى تغيير في النفس أو المحيط. وأعتقد أن من هذا الت صفيح العيش داخل النصوص والخطابات بدال من مواجهة العالم وما يجري فيه من موت فظيع أو أفظع ومن التصفيح كذلك أن يقال إن كل شي نص أو ال شيء خارج النص وبدال من تفسير العالم كيال نقول تغييره على ما دعا ماركس في أربعينيات القرن التاسع عشر يغدو كل شيء تأويال. ثم إن ه معلوم بقدر ما يخص األمر إقليمنا أن معظم ما يقال عن موت السوري ين اليوم سبق قول ما يشبهه عن موت الفلسطيني ين واللبناني ين والعراقي ين وغيرهم. 146

147 من جهة أخرى هذه الصور موجودة في مكان ما ورآها أشخاص ما. هل كان مفضال فعال أال تكون ص و رت هل هناك م ن ي جيب جاد ا عن هذا السؤال بنعم وإذا و جدت الصور أال»تطلب«أن ت رى أليست دعوة للمشاهدة وم ن يقر ر بشأن ما إذا كان يجوز نشرها للعموم أم ال وأي صور منها هي التي ت نشر وأيها ت حجب ال بد من وجود جهة ما تقر ر في هذا الشأن لكن أخص خصائص وضعنا اليوم هو وضع أزمة أس س أزمة افتداء أو»أزمة ق رباني ة«بعبارة رينيه جيرار )في كتابه العنف والمقدس( ينهار فيها النظام الثقافي للمجتمع ويتناثر في كل اتجاه. إن جهة شرعي ة كهذه ليست موجودة ويمتنع وجودها طالما الصراع مستمر وبؤرة تفج ره نش طة. األزمة تطال الشرعي ة وتعلن دمارها فال يستطيع أي كان تحديد السلوك الصحيح والخيار األنسب. وظاهر أننا بالفعل في وضع كهذا في سوريا اليوم إن ها حالة استثنائي ة وتوج ب مقاربات استثنائي ة. يجري التفكير في األجساد الم حط مة وفق منظور األزمة االفتدائي ة كأحد أوجه العملي ة التحويلي ة الكبيرة التي تؤسس لنظام جديد وثقافة جديدة. يوم ا ما قد يقر ر السوري ون عبر نقاش عام ومشاركة جماعية أن ي طووا صفحة هذه المشاهد في سياق طي صفحة الحرب والتفاهم عل أس س جديدة لسوريا جديدة. لكن ربما سي لزم إجراء تأسيسي في هذا الشأن: بناء أرشيف لهذه المواد يجمعها ويمنع ضياعها وي صن فها وي بو بها ويدرجها في عملي ة بناء ذاكرة وطنية جديدة ال ت حول دون النسيان فقط ولكن تمتنع على االستثمار الج زئي وتقاوم التوظيفات االختزالي ة أو االنتقائي ة. وهذا ال يتحق ق دون أن يكون األرشيف شامال ال يحذف شيئ ا وال يكبت شيئ ا وال يتعامى عن شيء. واألرشيف شيء ي حتر ز عليه لكن الوصول إليه مفتوح للجميع مبدئي ا. وإن ما عبر عملي ات النقاش وبناء 147

148 األرشيف نستوعب التجربة نؤس س لتعافي الذاكرة الوطني ة ولشرعية جديدة ونظام جديد للمجتمع والسياسة والثقافة. الذاكرة المعافاة ليست ذاكرة تتجن ب مواجهة الماضي أو تكبته في دهاليز النفس بل بالضبط تضطلع به وتتعر ف عليه وت ق ر بمسؤولي تها عنه. وقد يكون مفهوم ا من وجهة نظر السوري المقيم خارج بلده أن يشعر باإلهانة من عرضنا م حط مين أمام عيون غير ودودة وغير متعاطفة لكن أليس من خصائص األزمة التأسيسي ة ذاتها أن الحدود بين داخل وخارج ت محى وفي زمن ثورة االت صاالت هل يبقى معنى لداخل وخارج أصال الكرامة ليست تسي يج ح مانا في وجه متطف لين غرباء بل اإلقرار به ول ما جرى لنا دون رثاء للذات وربما أن نجد في عيون الغرباء تعر ف ا على أنفسهم في غرابتنا القصوى غرابة األجساد المحط مة. سوف نكون في وضع أفضل من أجل التمثيل والعملي ة التأسيسي ة والتعافي إن واجهنا الفظاعة ونظ رنا في وجهها وليس إن تفاديناها. الفظاعة هي أقصى الغرابة األجنبي ة القصوى. وال»ج مع«الم حال إليه في الجملة السابقة هو جيل األحياء من السوري ين الذي ال بد أن يتحم ل المسؤولي ة عن التأسيس الجديد أن يقبل اإلقامة في الفظاعة كي ي طو ر تطعيم ا عام ا ضدها. هذا الجيل هو جيل نا أعني بخاص ة جيل المشتغلين بالشؤون العام ة الم نت جين من فن انين وصحافي ين وك ت اب وناشطين سياسي ين. ما ن طو ره من أفكار وفن وحساسية حيال صور الفظيع يمكن أن يكون بمثابة تطعيم وطني عام ضد تكرار الفظاعة. ويتعذ ر تصو ر هيئة عامة ت قر ر ماذا ي رى من صور الفظيع وماذا ال ي رى غير جيل بأكمله الجيل الذي انغمر في الصراع بجوانبه المختلفة. وأول مسؤولي ة هذا الجيل أن يضع 148

149 عينه في عين الفظيع وأن يقول: أنا هو هذا! أنا الذي كان إنسان ا! بهذا المعنى يمكن أن يكون لتجربة رؤية ص ورتنا منعكسة في مرآة الفظيع مفعول تطهيري المفعول الذي نسبه أرسطو للتراجيديا. ولعل ما يفوت المي الين إلى تقييد مشاهدة الصور وتداولها هو الطابع التأسيسي لألزمة السورية والتفكير بمنطق أوضاع عادية ال ي سائل الثقافة القائمة وال ي عيد النظر في مفهوم الكرامة اإلنساني ة أو يفك ر فيه. ال أرى لنا كرامة في غير االنطالق من أن نا حيال أوضاع غير مسبوقة لن تكون سوريا في منتهاها مثلما كانت ال ككيان وال كنظام وال كمجتمع وال كثقافة وأن نجعل من هذه المحنة التاريخي ة سانحة تاريخي ة لتجديد إحساسنا وثقافتنا وأن نعمل على تطوير معان وقيم ت حيط بعنائنا المهول. هو ما يوج ب االعتراف به والتمع ن فيه والعمل على تمل كه. ليس هناك نهج أكثر جذري ة لمقاومة غرابتنا وذل نا غير إدراك كم أن الغريب هو اإلنساني هو العام. ككاتب يعمل على تمثيل الحال السوري ة في الثقافة ال أستطيع أن أفعل دون أن أتنبه إلى أقاصي تجاربنا دون أن أحمل ق في عين الموت العنيف. أجد مشقة في النظر إلى األجساد المحط مة ويغلب أن أشيح النظر عن صور وفيديوهات رهيبة لكن أرى أن علينا النظر وإنعام النظر. الفنانون والكت اب عليهم أكثر من غيرهم إنعام النظر في األجساد المحطمة ألنهم عام لو اشتراك وألن األجساد جسدنا المشترك وجسد بلدنا المشترك. إن كان من أمل في طفرة فكري ة وثقافي ة وفني ة تستجيب لشرط الثورة أو تتدارك تعثرها السياسي فهذا يمر في تصو ري عبر االضطالع بهذا الهول الذي عاشه السوريون. معظم عمال الثقافة كانوا محمي ين شخصي ا 149

150 من هذا الهول فال أقل من أن يعاينوه مصو ر ا ويحفظوا األجساد المحط مة في أرشيفات أجسادهم هم. السؤال في رأيي هو كيف نهضم كثقافة ومجتمع هذا الهول كيف نتعامل معه أظن أن التمثيالت الثقافي ة التي ن نت جها عبر تجربة المهول واإلقرار به هي أساس أنسب لمواجهته وبناء الحواجز الق ي م ي ة والقانوني ة والفكري ة الفع الة التي تحول دون تكراره من تجاهله أو تضييق مساحة االطالع عليه أو حمايتنا من مذل ة صورنا محط مين. يلزم أن ن قر بكرامة وأمانة بأن نا فاقدون للكرامة منذ زمن طويل سابق كثير ا لألجساد المحط مة في سنوات الثورة. م ن يعرف األجهزة األمني ة ومن يعرف التعذيب ومن يعرف سجن تدمر ومن يعرف كم أن أجهزة المخابرات السوري ة هي مدارس لإلذالل ولتدريب الشعب على الخيانة ومن يعرف األسرة األسدي ة وأتباعها يعرف أن السوري ين فاقدون للكرامة منذ عقود ربما منذ حك مهم بطل كارثة 5 حزيران ونص ب نفسه إله ا عليهم. بالعكس إن األجساد المحط مة هي أحد وجوه تمرد من أجل استعادة الكرامة. وهي تستحق أن تمث ل في الفن وفي الفكر وفي الثقافة ويجب أن ت مث ل. ليس في كل ما سبق ما يلغي شرعي ة االعتراض على تمثيالت فن ية أو توظيفات سياسي ة محتملة لصور الفظيع. هناك فن جي د وهناك فن رديء بصرف النظر عن الشرعي ة األخالقي ة والجمالي ة لتمثيل الفظيع وعن النقاش حول الصورة الكريمة أو اللئيمة. المشكلة ليست في تصوير الفظيع بل في كيفية تصويره في التمث ل الفني لهذا التصوير: كيف ي رسم كيف ي نحت كيف ي مث ل مسرحي ا وسينمائي ا كيف نتكل م عنه في الروايات والقصص كيف ن مث له مفهومي ا كيف 150

151 يقاربه الشعراء تساءل تيودور أدورنو إن كان الشعر ممكن ا بعد آوشفتيز كحدث مطلق ممتنع على التمثيل. لكن هذا هو التحد ي الذي يفوز الشعر بشرعيته عبر مواجهته. والتطل ع المحر ك لتمثيل الفظاعة هو العمل على إذابتها نزع إطالقي تها والقول إنها مأساة عظيمة واجهناها في تاريخنا لكن ها ليست مأساة المآسي ليست المأساة المطلقة. هذا ليس فقط لتجن ب سيكولوجي ة هولوكوستي ة ال يبدو أنها تنفتح على عدل أو مساواة مثلما نعرف أكثر من غيرنا وال ت ثمر غير هولوكوستات م قس طة بانتظار الهولوكوست األكبر يوم ا ما ولكن كذلك ألن ه عندنا حيث تواجه الفنون تحد ي شرعيتها من ق ب ل قوى الطغيان الديني ة من شأن طفرة فقط في تمثيل الفظيع أن تكون عنصر ا في ثورة ثقافي ة ال تتقاطع مع األوضاع السياسي ة واالجتماعي ة الحالي ة فقط وإن ما تؤس س كذلك لمواجهة اإلفقار الديني لعالم التمثيل والعدوان عليه. ق صر التمثيل على اللغة مثلما يفعل اإلسالمي ون يحتاج إلى حملقة ال متناهية في الصور التي فقدت صورتها كي يمكننا كسر هذا القصر. وبالمثل ليس ألن هناك توظيفات سياسي ة ضيقة محتملة لصور الفظيع نتخذ قرار ا إداري ا )من نحن!( بأن ال ي عرض الفظيع على العموم. من أشكال التوظيف السياسي المغر ضة مثال االعتراض على بث صور وفيديوهات ت صو ر ضحايا التعذيب واألجساد الم حط مة ومجازر النظام لكن مع االنت شاء بنشر صور وفيديوهات عن جرائم داعش واإلسالميين. ومنه العكس التكت م على ما يخرج من صور عن جرائم اإلسالميين مع احتفاء بورنوغرافي بصور جرائم النظام. ب يد أن كل ما سبق يطال النشر العام لصور الفظيع. نتناقش كمواطنين ك»عامين«بصورة ما نفك ر في الفظاعة بوصفها شأن ا 151

152 سوري ا عام ا يت صل بن ظمنا السياسي ة واالعتقادي ة واالجتماعي ة وبتاريخنا وبمستقبلنا. لكن ماذا عن و قع الصور على األهالي على أحباب الضحايا على أم هات أو آباء أو أبناء المعذ بين أو المقتولين أو م حط مي األجساد في آذار من هذا العام علمت من صديق أسامة نص ار ))) أن بعض الصور ت شبه معتقال قريب ا له ال معلومات عنه منذ أكثر من عامين وأن صورة أخرى ت شبه أخا القريب المعتقل وأنه بدأت ت ردهم التعازي بالشهيد ين دون أن يكون مؤكد ا قطع ا أن الصور تعود لم ن ي فترض أنها تعود لهم. يصف الصديق ن شر الصور بلغة قوي ة بأنه»تسكع بين الجثث«ويضيف:»العذابات األليمة التي يعانيها أهلنا وبالدنا ال تجعل الرفق باألم هات واآلباء واألهالي واألحباب ومحاولة مراعاة مشاعرهم ترف ا زائد ا«. هذا منطق قوي جد ا ول دي من االعتبارات الشخصي ة ما ي سه ل لي استبطانه. وما يبدو فظيع ا على نحو خاص هو حالة الاليقين التي تدفع األهالي إلى التحديق في الصور المر ة تلو المر ة بحث ا عن يقين ال يصلون إليه في شأن ما إذا كان غائبهم هو هذا الجسد الضائع المالمح أم ال. حيال هذا الواقع المرء مدفوع إلى التساؤل عن كيفي ة التوفيق بين الحاجة العام ة الحيوي ة إلى تمثيل الفظيع بوصفه ش رطنا العام وبين حماية األهالي من استعراض صور أجساد أحبابهم الم قط عة أو المسحوقة وتخي ل العذابات التي مروا بها قبل موتهم. ال يبدو أن هناك كيفي ة مناسبة لذلك. فعدا أن األهالي ليسوا قطاع ا صغير ا من السك ان هم معظم السكان في الواقع وتقريب ا كل هم وأن ما ي مي ز ))) أسامة نص ار: ناشط سياسي وكاتب من داريا كان من مؤس سي لجان التنسيق المحل ية ومحرر ا لمجلتها: طلعنا للحر ي ة. عاش أسامة مع زوجته ميمونة العمار وابنتهما إيمار في دوما في سنوات الحصار بين 2013 و 2018 وكانوا من آخر م ن خرج منها. وهم يعيشون اليوم في تركيا. 152

153 أزمة تأسيسي ة كأزمتنا هو ام حاء المسافة بين الشخصي والمشترك فإن شبكة اإلنترنت ومواقع التواصل االجتماعي ت فاقم ام حاء الحدود هذا بحيث يستحيل كل االستحالة الجمع بين الم طلبين. لكن هل األمر يتعل ق هنا بالصور حصر ا أليس التداخل الشخصي والمشترك وام حاء الحدود والاليقين وقبلها العنف المهول وتحطيم ما ال ي حصى من حيوات وبيئات حياة عبر إباحية ع نف ي ة ال حدود لها أليست كل ها وجوه ا ألزمة تأسيسي ة ال ت عال ج بمنطق تقليدي أو بأفكار إداري ة ال يتعل ق األمر بخلل في سير المجتمع والسياسة بل بانهيار أس س االجتماع والسياسة والق يم وأس س التمثيل الفكري والفني والثقافي لحياتنا نحن السوري ين بقدر ال يقل عن أس س تمثيلنا السياسي. مشاع ية الصورة اليوم هي أحد وجوه األزمة التأسيسي ة بوصفها انحالال عام ا. ال أقول إن صور أجسادنا الم قط عة وانفصال رأس طفلة عن جسدها وتحطيم جسد ي حمزة الخطيب وتامر الشرعي وتقبيل الولد حذاء م عذ به في»ماء الفضة«ثم تعر ضه النتهاك جنسي أو هرس رأس أحد ضحايا الشب يحة بك تل إسمنتية أو صور مصلوبي داعش أو مذبوحيهم أو السائقين العل وي ين الذين ق تلوا بعد سؤالهم عن عدد ركعات صالت الصبح أو صورة شاب من درعا م رمي على األرض بينما ي سه ب في شرح ذنبه م لتح م س ن قبل أن يقتله بساد ية مرو عة بحربة بندقي ته ال أقول إن ها ليست مذلة لنا أو ليست إهانات بليغة لكرامتنا لكن هل هي إهانات ألنها ص و رت أم ألن ها وقائع حدثت ربما يقال إن ها ال توجد كوقائع عام ة إن لم ت صو ر وت عرض. هذا منطق شائع اليوم له قرابة قوية مع عالم يذوب بكامله في النصوص عالم ينصرف 153

154 التركيز فيه عن التجارب التاريخي ة إلى الخطابات والنصوص والصور لكن ه وقوف في موقف المتفر جين مستهلكي الصور والنصوص والخطابات عن االنتهاك والتحطيم وليس بحال موقف م ن وقع عليهم االنتهاك والتحطيم وهو الموقع الذي يجدر كفاعلين عام ين بنا تقم صه وجعله تجربة عام ة. نعم صحيح إذا ظلت اإلهانة خاصة فإن الم هان يتحم لها أكثر لكن فرصة تكرارها عليه هو ذاته أو على غيره تبقى كبيرة ضمن الشروط التي م ورست فيها اإلهانة. بالمقابل إن إهانة عام ة أقسى على الم هان لكن فرصة مقاومة اإلهانة وحشد االحتجاج الواسع عليها وعلى الشروط التي تجعلها ممكنة أكبر بما ال يقاس. هل االنتهاك الجنسي للولد ي ذل ه طبع ا ليس هناك سؤال في هذا الخصوص لكن نا بتقم صه واعتبار أنفسنا مغتصبين مثله ندافع عن كرامته ونقلب اإلذالل إلى فعل تمرد وصناعة للفن والقيم وهو ما ليس ممكن ا دون أن نشاهد الواقعة اإلجرامي ة وندخل في المشهد. اغتصاب نساء ليس إذالال وتحطيم ا لهن فحسب بل هو تحطيم لجماعتهن أيض ا. لكن حين ن طو ر نحن فن ا وثقافة تقول إن نا نحن النساء الالتي اغت صبن فإننا ن سه م في صون كرامتهن ونكون لهن رابطة اجتماعية جديدة تحمي جماعتهن ذاتها من التحط م. وهو فعل كرامة حين نرفض معرفة عدد ركعات صالة الصبح كي نكون شركاء للمقتولين ال للقاتلين. أما إذا تكت منا على وقائع الفظاعة وصورها فإن أول م ن ينجو هو م نت ج الفظيع وممارسه وليس ضحاياه. بهذا النهج ال نحمي الضحايا وكرامة أس رهم وكرامتنا كشركاء لهم في موقع وفي قضي ة بل نحجب القاتل العام عن الل وم. 154

155 أنحاز للخيار الثاني دون إنكار وجاهة بعض حجج المتحف ظين. لكن قد يقال: لم ال نسعى وراء ضوابط أو مواثيق يجري االت فاق عليها بحيث توضع الصور بتصر ف العموم وفق قواعد محددة أي لم ال نطو ر»دستور ا«يحكم عالقتنا بعالم الصور فال نحن نمنع ون قي د بصورة إداري ة أو ذاتي ة وال نحن نبيح ونتهت ك يبدو هذا معقوال لكن فرص التقدم نحوه مرهونة بتصوري بالتقد م العام نحو مواثيق وقواعد ت خرجنا من اإلباحي ة الع نف ي ة وفي سياق بلورة دستور للدولة والسياسة أي في التحو ل نحو نظام جديد لالجتماع والسياسة والحياة. وعلى كل حال هذا يحيل إلى ما سبق قوله عن األرشيف. األرشيف هو جمهوري ة الصور الدستوري ة المستقل ة التي نزورها متى شئنا من أجل أال ننسى ومن أجل أن ننفصل عن الفظيع في اآلن ذاته. جمهوري ة الصور المستقل ة هي أحد وجوه بناء جمهوري ة األحياء األحرار. أما ما دمنا في غمار األزمة التأسيسي ة وجن ة العنف المبذول الراهنة فإن م شاع ي ة الصورة تبدو خيار ا أكثر اتساق ا من غيره. والواقع أن هذا ليس إال اضطالع ا بعواقب و ضع نا الم تمث ل في استحالة ضبط تدف ق الصور وقبول هذه االستحالة كقد ر ومحاولة قلبها على نفسها أي بتحويل الفظاعة وصور الفظيع إلى ذاكرة تنفصل عن الماضي ألن ها انغمست فيه وعرف ته وتمل كته تتحر ر منه ألنها تعرفه وتمتلكه. لقد أ ذل لنا إذالال خارق ا وكرامتنا لن ت بنى على ك بت ما أصابنا بل لن ت بنى على غير الن ظر في وجه ذ لنا والتحديق فيه ملي ا وكثير ا. وبعد التحديق ومعه النقاش العام مسلك مناسب جد ا لهضم الفظيع وقد ي ثمر أرضيات فكرية وأخالقية وفنية أنسب لتشار ك جديد. 155

156 156

157 الكلوم والكلمات: في أزمة التمثيل وتمثيل األزمات مقاالت إلى سميرة )*(»فللكمة أثر في نفس السامع لهذا س ميت كلمة في اللسان العربي م شتقة من الك ل م وهو الجرح وهو أثر في جسم المكلومللكالم التأثير والفاعلية في لتقي في ذلك مع الذكورة وس مي الكالم كالم ا ألنه يخرج من الك لم أو الجرح كما يخرج المولود من فرج أمه«. محي الدين ابن عربي الفتوحات المكي ة في العربي ة رابط اشتقاقي بين العناء والمعنى ي سو غ 1 إمكاني ة القول بأن المعنى وليد العناء أو المعاناة. غير أن ه ليس للمعاناة»رح م«ي ول د منه المعنى وإن أمكن للشعر أن ي صوغ صورة كهذه. ومن شأن نقل مباشر للعناء إلى معنى أن يجعل هذا المعنى شكوى حزينة أو تعبير ا عن التأل م مسلك ا يقارب النحيب. هل هناك نقل غير مباشر اإلجابة عن السؤال تحيل إلى أفق تفكير نال اهتمام ا محدود ا في إطار العربية: التمثيل. نحن ال نكف عن تمثيل تجاربنا خبراتنا أزماتنا مشاعرنا... ن حو لها إلى كلمات أو صور أو أصوات أو ألوان. هذه الترجمة أو )*( المقالة السابعة من ثماني مقاالت رو سها الكاتب باسم زوجته المغي بة سميرة الخليل ون شرت عام

158 الن قل»تحاكي«التجارب أو»تماثلها«بصور مختلفة م تبد لة تاريخي ا وم عق دة. التمثيل هو المستوى الوسيط بين التجربة والفكرة بين المعاناة والمعنى بين الكلوم والكلمات إن استعرنا ربط ابن عربي بينهما وهو ي نت ج تعبيرات وأشكاال مستقل ة عما يجري تمثيله من عناء أو تجارب أو أزمات. تجارب نا ليست معاناة وألم ا حتم ا وال أزماتنا كذلك لكن بوصفها أوضاع ا مضطربة وبال شكل األزمات م حف ز للتفكير والتمثيل للضبط بش كل وعبر ذلك ن حو ل أزماتنا وعناء حياتنا إلى أفكار وصور ومعان عامة تساعدنا من جهة على االنفصال عنها )أي على أن يصير لنا تاريخ( وتقبل من جهة أخرى المشاركة من آخرين )فتكون إسهام ا في تشكيل مجتمع(. عبر التمثيل ن جر د تجاربنا المؤلمة من األلم مما هو جارح وراض. نفعل ذلك عبر صنع ألم غير مؤلم إن جاز التعبير ألم م ثيل أو م حاك ننسج في ذلك على منوال آخرين أو»نبدع«منواال جديد ا وربما ينسج على منوالنا آخرون. يقوم التمثيل على المحاكاة إيجاد م ثيل لما ن مث ل. ومن شأن إنتاج األزمات الم ثيلة والرض ات المثيلة الم حاكية ألزماتنا ورض اتنا الفعلية أن يساعد على التخف ف من هذه األخيرة والتغل ب عليها فيحوز التمثيل بذلك فاعلية عالجي ة. الربط بين المحاكاة والتمثيل يعود إلى إريك أويرباخ في كتابه Memesis الذي أل فه في إسطنبول وقت كان منفي ا من بلده ألمانيا أيام النازي ين. العنوان الفرعي للكتاب هو: تمثيل الواقع في األدب الغربي. لكن قد نستعير من المتاح التمثيلي لتمثيل تجاربنا. ن مث ل الحب بمقطع شعري من نزار قب اني أو محمود درويش أو المتنبي أو عنترة أو أراغون أو نيرودا... أو بمقاطع من 2 158

159 أغنيات مشهورة ون مث ل الصبر بآية من القرآن أو التوراة أو من المأثور أو أغنية ألم كلثوم واألمل بشعر قديم أو بقول لسعد الله ونوس والسياسة بأقوال نبوي ة أو مقتبسات من ابن خلدون أو ابن تيمية أو لينين أو كارل شميت. نتمث ل بمثل هذه األقوال واألفكار تجاربنا ونتشاطر تراث ا مع جماعة أو تراثات مع جماعات/جماعاتنا. في كل حال نحن ال نكف عن تمثيل تجاربنا نحاول صوغها في كلمات أو غيرها إلى حد أن ه يمكن اعتبار التمثيل حاسة تضاف إلى حواس نا الخمس أو الس ت األخرى. التمثيل حاس ة بمعنى أن ه وسيط دائم بيننا وبين العالم. كان وولتر بنيامين قد تكل م على»مل كة محاكاة«في مقالة صغيرة له عام 1933 ويحتمل أن أريك أويرباخ وكانا صديقين استفاد منه في ذلك. المحاكاة والتمثيل مترابطان عند األخير. وال يقتصر التمثيل على اللغة التي ننسى أن ها هي ذاتها تمثيل للعالم وسيط اجتماعي اصطالحي بين تجاربنا وتعبيراتنا بل تشمل»لغات«أو وسائط متعد دة منها الصوت في الموسيقى والخط واللون في الرسم والصورة في السينما والك تل الصلبة المشغولة في النحت والعمارة واألداء الجسدي والكالمي في المسرح... وغيرها كثير ومتجدد. في كل حال عبر تمثيل العالم نخلق مثيال للعالم عالم ا آخر. فكأن نا ال نستطيع العيش في عالم وجدناه إن لم ن ع د خلقه من جديد. وت حيل مفردات في لغة كالمنا العادي ة مثل ح ك ى وتصو ر إلى نظري ة ضمني ة في المحاكاة. فالتصو ر انطباع في النفس عن شيء خارج النفس والح كي هو أن يكون كالمنا مشابه ا لما جرى ي حكيه 159

160 وي حاكيه. لكن كيف ن نت ج التجارب الم ثيلة أو المحاك ية إذا تأل م 3 الواحد منا أو خاف فكيف يكون التعبير عن األلم والخوف في الكتابة أو الموسيقى أو التشكيل ألم ا مثيال أو خوف ا مثيال وكيف تكون قص ة الحب المكتوبة أو الم صو رة سينمائي ا حب ا مثيال هذا سؤال حارت به األلباب وتاهت به األفكار كما يقال بخاص ة لك ون تمثيالت الحب واأللم والخوف شديدة التنو ع مع كون الحب حب ا والخوف خوف ا. ال تشبه لوحة الغرنيكا لبيكاسو شيئ ا واقعي ا لكن ها تمثيل فظيع للفظيع يحاكي المذبحة بصورة ال تشبه تمثيالت سابقة وال تستبعد ص ي غ ا أخرى من محاكاة المجزرة. المحاكاة تالي ا ال تقتضي أن يكون التمثيل نسخة ذهني ة»مطابقة«للشيء أو صورة»أمينة«له بل إن ها تتضم ن فاعلية تحويلي ة أو إنتاجي ة يتوال ها»الم مثل«منتج التمثيل. لعل الغرنيكا متفوقة لكون تمثيلها للمذبحة غير»واقعي«غير مسبوق مع كونه»محاكي ا«لها ب»صورة ما«: تكس ر وحشي للحياة مشحون بتوت ر أقصى. وقد تتفوق»خريف البطريرك«لماركيز في تمثيلها للدكتاتوري ة بأسلوبها الكابوسي القاطع لألنفاس. في هذين المثالين لدينا ابتعاد عن»الواقعية«قد يمكن تعريف»الحداثة«به بمسافة تتسع عن»الموضوع«. يحمل م در ك الواقعية تصو ر ا لألدب والفن يحيل إلى»الواقع«ويتمايز إلى واقعي ة تقليدي ة وواقعي ة اشتراكي ة وواقعي ة نقدي ة وواقعي ة سحري ة وغيرها تول دت عن اختالف تمثيل الموضوع الواقعي وعن تراث من تمثيالت مختلفة أنتجتها هي ذاتها وظه ر عدم كفايتها. وي ظهر هذان المثاالن أيض ا أن التمثيل إلى جانب المحاكاة يتضم ن 160

161 فاعلية م نش ئة قرار ا ف عل ال محاكاة إن جاز التعبير أو خروج ا على قواعد اللعب المقر رة»التقليد«بحيث ال يمكننا توق ع تمثيل التجارب قبل تمثيلها. القاعدة أو الش كل ال يسبقان التمثيل يتول دان منه. وهو ما يبقى صحيح ا حتى لو كن ا نعتنق المذهب الواقعي في التمثيل. فحت ى حين يقتصر األمر على تمثيل شيء جامد مثل»الطبيعة الصامتة«في الرسم أو شعر»الوصف«العربي فإن التمثيل أغنى من أن يكون»نسخة طبق األصل«من الشيء. هناك تدخ ل الوسيط من خط ولون وضوء ومن كلمات ون ظم وإيقاع وهناك»ن ف س«الش اعر أو الر س ام قراره في أن ال يحاكي وهو يحاكي في أن ال يكون آلة ت نت ج المثائل وحدها. قد تكون النتيجة فن ا رديئ ا لكن في التمثيل الفن ي فاعلية منشئة في كل حال تتجاوز المحاكاة. ولعل ما يمكن أن يؤخذ على الواقعي ة بكل تي اراتها هو مركزي ة»الواقع«في تفكيرها وليس التجربة مع تصور شيئ ي للواقع يجعله قابال للن سخ ما يفتح باب ا للتساؤل عن مدى مطابقة النسخ لألصل وعدم مطابقتها له. تفك ر الواقعي ة في أشياء وأوضاع تبقى مماثلة لذاتها أو في ه و ي ة ذاتية قبل تمث لنا لها وخالله وبعده. هناك واقع من جهة وهناك إدراك له من جهة ثانية. كأننا منفصلون عن العالم وكأن العالم منفصل عنا كأن اإلدراك يأتي األشياء من خارجها والواقع من خارجه. وهذا في تصوري أساس النظريات الم ثالية والديني ة حول الفكر والروح. فإذا كن ا ال نوج د في العالم إال بالعالم )نحن منه م تكو نون فيه مع كل ما فيه وهو م نا( وكان إدراكنا للعالم متشك ال في العالم وجب أن يتمركز تفكيرنا حول التجربة حول اختبار العالم و»معاناته«أعني الوجود فيه ووجوده فينا. من شأن ذلك أن ي ضي ق المسافة بين الوجود والمعرفة ويلغي شرعي ة السؤال عن شرعي ة المعرفة )هل نستطيع أن نعرف هل ما نعرفه 161

162 يقول شيئ ا عن العالم ( وربما ي سبغ طابع ا وجودي ا على المعرفة بقدر ما ي سبغ طابع ا معرفي ا على الوجود. مفهوم التجربة خالف ا لمفهوم اإلدراك يستوعب أن لنا تاريخ ا أن نا نختبر العالم ولنا خبرات سابقة في االختبار تاريخ من التمثيل و»المعاناة«. هذا واضح أكثر في مفهوم الخبرة. الكالم على إدراك أو معرفة عند»الم ثالي ين«و»المادي ين«يغفل هذا العنصر التاريخي. وأهم من ذلك أن مفهوم التجربة ي لغي فكرة األصل والمطابقة. التجارب متغايرة وت غاي رها م كو ن لها. المعاناة هنا ليست توج عنا من العالم أو آالمنا فيه بل هي وجودنا في العالم واختبارنا له وتمر سنا به. والمعنى هنا وثيق الصلة باختبار الوجود. تقترح هذه المناقشة أن التمثيل نقطة تقاطع بين خط ين 4 أفقي وعمودي إن جاز... التمثيل. يتوس ط الخط األفقي بين التجارب واألفكار أو بين معاناة الوجود والمعنى والخط العمودي يتمث ل في التراث وما ي وف ره لنا من لغات وأشكال وقواعد وأدوات لتمثيل العالم. أعني بالتراث: المتاح من مخزون التمثيالت الك ل ي الذي نستند إليه في إنتاج تمثيالتنا اليوم التقاليد الكتابي ة منها والموسيقي ة واألدائي ة وغيرها. على الخط األفقي يمكن أن نتكل م على تعبير ن عب ر عن التجربة بفكرة أو عن معاناة الوجود بمعنى أو عن الخبرة بم ثل... إلخ. التعبير»يحاكي«التجربة أو األزمة الم حف زة ويتجاوزها»ي عب ر«عنها وي عب رها إلى المعنى أو»الع ب رة«. وعلى الخط العمودي نتكلم على تشكيل للتجربة أو الخبرة 162

163 م ستندين إلى ما يتيحه التراث من أشكال وصور وقواعد والعبين بها وخارجين عليها. أو قد يكون األنسب أن نتكل م على ت راثات بالجمع ال على تراث بالمفرد ل»تمثيل«م تاح ي ات مختلفة لمخزون األشكال بعضها قديم وبعضها أحدث بعضها موروث وبعضها مكتسب فيها المحلي والوافد الشعبي والعال م نشارك م ن هم حولنا في تراث ونشارك آخرين في تراث آخر وغيرهم في تراث ثالث... إلخ. فإذا كان الواحد منا روائي ا شيوعي ا عربي ا على سبيل المثال فإنه شريك في جوانب من تراث العربي ة وهو شريك في تراث الرواية في العالم ثم شريك في تراث شيوعي له رموزه وأغراضه وم راجعه هذا فضال عن تراث عائلي ومحلي مكتسب في سنوات الطفولة واليفاع. التوافق بين الت راثات أو التنسيق بينها على نحو»مبدع«)أي مختلف وجديد وجذ اب( هو تحد يضطلع به الك تاب فيوف قون قليال أو كثير ا. ويتسنى لنا بف عل وجود ت راثات متعد دة إدخال النسبي ة على إكراهات قواعد كل منها وبالت الي اإلفالت من التبعية ألي منها أو مساحة استقالل عن كل منها بما ي يس ر لنا الحركة واللعب بحر ي ة أكبر. ضمن تراث واحد نكون أقل حري ة ثم نازعين إلى تكرار ما ي تيح من تمثيالت والعيش في عالم مغلق ح ل قي التاريخ. التمثيل في كل حال تركيب بين التعبير )محور تجارب/ أفكار( والتشكيل )محور التراث/ التراثات( يمكن أن تتول د عنه أفكار وصور جديدة تضاف إلى التراثات وتضيف إليها. الفن الشعبي تعبيري غالب ا ألنه وصل أقرب إلى المباشرة بين العناء والمعنى يستفيد على نحو محدود من التراث الم ذخور. واللغة الم حكي ة تعبيري ة ألن ها غير م دو نة وتكاد تكون بال تراث بال تراث م دو ن ومحفوظ على 163

164 األقل أي فقيرة إلى الش كل. وبالعكس يمكن تعريف المدرسية أو السكوالستيكي ة بما فيها غير قليل من األكاديميا المعاصرة بأن ها تشكيلي ة تشتغل على تراث/تراثات معطاة وتعيد تشكيلها في صور مختلفة مع صلة محدودة بتجارب اليوم وأزماته. اإلسالمي ة المعاصرة عموم ا والسلفي ة بخاص ة تشكيلية بقدر كبير تغفل محور التعبير أي ما يت صل بأوضاع عياني ة بتجارب وم حن بأزمات اجتماعي ة أو سياسي ة )سأستدرك على هذا الحق ا( وت ذيبها في م خط ط م سب ق جاهز م ستم د من التراث الواحد بل من جزء منه. وألن التراث هنا واحد أو أقل )جزء من تراث( فإن مجال اللعب والتغيير يبقى ضي ق ا وال ت تاح مساحة استقالل ت تيح النظر إلى التراث من خارجه ورؤية نواقصه وميزاته. يعيش اإلسالمي في داخل تراثه يرى بعين ي التراث ويحتمي به من تجارب وأزمات و»كلوم«محرومة من التعبير والكلمات الجديدة. إذا كان التمثيل حاس ة فليس بيننا من ال ي مث لون. لكن هناك 5 تمثيل يضيف معن ى أو قيمة إلى التراث تمثيل م نتج أو»م بدع«وهناك تمثيل ال يضيف عقيم أو اجتراري. اإلبداع هو م رك ب تعبير/ تشكيل بال سوابق في التاريخ ليس نسخة من شيء سابق الوجود. يأتي اإلبداع من تغاير التجارب واألزمات وقد تقد م القول إن األزمات أوضاع مضطربة فاقدة للشكل»تدعونا«إلى تشكيلها. لكن ه )اإلبداع( يأتي كذلك من استقالل األشكال عن التجارب ومن تعد دها )األشكال( وتعد د التراثات ذاتها. ولعل نا ن وظ ف في اإلبداع الكالمي قدرات توليدي ة على إنتاج عبارات جديدة القدرات التي يعتقد تشومسكي أن ها فطري ة وتعم 164

165 الناس جميع ا. ميزة هذه النظري ة أن ها تجعل اإلبداع فاعلي ة لصيقة باإلنسان بما هو كذلك وليس بم بدعين موهوبين دون غيرهم. لكن لعل اإلبداع في األدب والفن والعلم هو هذه القدرات التوليدي ة وقد صارت مقصد ا م درك ا ويقبل التعل م أو وقد و ظ ف فيها»المبدعون«طاقات وجهود ا خاص ة. فإن صح ذلك أمكن القول إن ه يمكن إبداع اإلبداع بالتدريب والرعاية الخاص ة. قد ال يكون افتراض الف طري ة الزم ا ورب ما يتول د اإلبداع من تجارب المعنى التي تعود علينا بتوج ه أفضل في الحياة أو بس داد أكبر في الوجود. بعبارة أخرى ربما ن بدع ألن بعض تمثيالتنا م ح ي ي ة أكثر من بعض آخر. حين نقول الشيء نفسه أو ن عب ر عن تجاربنا المختلفة بالكلمات أو الصور نفسها فإن التجارب تبقى غير م مث لة عملي ا فنبقى ملتصقين بها ال ننفصل عنها. من تجاربنا ما ليس مختلف ا شأن كثير من أوجه الحياة اليومي ة )تفاعلنا مع عبارات التحي ة مع تعبيرات المجاملة السلوك الطقسي المتكرر...( وتكفي التقاليد والتعابير اليومية لتمثيلها. المجتمع يتكو ن حول ما يتكر ر حول دليل من التعابير والمسالك التكراري ة التي ن سم يها عادات وتقاليد. ليس هناك معنى وليد هنا هناك نظام وتفاهم واستقرار قديم. لكن التجارب المغايرة تحتاج إلى تمثيل مغاير توليد للمعنى ن كاف أ عليه بوجود أرسخ. اإلبداع بهذا المعنى ف عل وجود إنتاج للمعاني التي تعود علينا بوجود أجود. ونقيض اإلبداع هو بالضبط التكرار من حيث إ ن ه ال يضيف معنى ومن حيث إن المعنى هو المعنى الم ضاف ن تاجه أن معنى دون إضافة هو ال معنى. الوجود يستهلك ويهترئ دون تجد د في المعنى. وقد ن شخ ص مشكلة اإلسالمي ة هنا بأن معاناة الوجود الحديث لم 165

166 ت مث ل لم يواكبها إنتاج معان م ضافة. الوجود السيء هو الوجود بال تمثيل معاناة بال معنى. في كل حال تعد د وتغاي ر التجارب وبالتالي التعبيرات ثم تعد د التراثات وبالتالي األشكال ثم المهارات المكتسبة المتطو رة هذا التعد د هو سن د اإلبداع. أفراد ا وثقافات إبداعي تنا تتدن ى حين تكون تجاربنا محدودة النطاق ال تتحد ى مألوفنا وال ت قلق عاداتنا في التعبير والتشكيل وال تدعونا إلى خوض مغامرات تمثيلي ة وحين ال نتعه د قدراتنا التوليدي ة فنجعل منها اكتساب ا يتطو ر وكذلك حين نكون محصورين في تراث واحد بدل تكثير تراثاتنا. ولعل ه صار واضح ا اآلن أن التراث ضروري لإلبداع وأن اإلبداع ال يكون قرين الخروج من التراث إال حين يكون هذا تراث ا واحد ا ال نخرج منه كأن ه سجن فنجد أنفسنا بعد حين يطول أو يقصر ن كر ر أنفسنا ونجتر ما يتيحه لنا التراث الواحد من أشكال وصور. وتوف ر التراثات المختلفة قدرات غير متساوية على التشكيل. التراث الشعبي أفقر باألشكال من التراث العال م وإن يكن أغنى تعبير ا. التمثيل تعبيري هنا. ومثل ذلك ما كان يسم ى قبل جيل أو أكثر المباشرة في األدب أو الفن. المباشرة هي استغناء بالتعبير عن التشكيل وبالتالي هي تمثيل ناقص. ما يمي ز المباشرة في األدب من إعالء للمضمون على حساب الشكل هو وقوع في أسر التعبيري ة الفج ة حيث األزمة ت نقل مباشرة إلى األدب والفن والفكر ربما طمع ا بأث رها االنفعالي التعبوي. ويقترن ذلك بازدراء للتراث/ التراثات أو التقاليد وغفلة عن ن فعها التشكيلي. كانت المباشرة تلقى تعزيز ا في نظري ة االنعكاس الماركسي ة )المعرفة انعكاس للواقع( التي كانت بدورها تختزل الفكر والفن إلى تعبير وت لحق 166

167 التمثيل إم ا بالمعرفة العلمي ة أو بمتطل بات عملي ة )الحزب الصراع الط بقي الثورة االجتماعي ة...( فت علي من شأن»المضمون«وت همل التراثات أو البعد التشكيلي للتمثيل. األدب الذي ي نت جه إسالمي ون هو أدب تعبيري أيض ا مضمون بال شكل رغم أن القوم تراثي ون. وقد يكون في جذر هذه المفارقة أن ذاتي ة اإلسالمي ين الحديثة هي ذاتي ة قائمة على الصراع والنفي تبحث عن تأكيد ذاتها بحشد االنفعاالت والتعبئة ضد جبهة واسعة من األعداء تشمل العالم كل ه تقريب ا. لن نرى هنا انشغاال بالشكل أو هو يقتصر عموم ا على سجن التراث الواحد الذي ال يضيف معنى. التراث الثقافي العربي يوف ر قدرات تمثيلي ة أفقر مما يتيحه التراث الغربي الحديث م تعد د اللغات واألغنى باألشكال )الموسيقى الرسم النحت العمارة فنون األداء...(. التراث الديني اإلسالمي ي ناهض بعض وسائط تمثيل العالم كالنحت وموقفه ليس إيجابي ا حيال الموسيقى والرسم )غير الزخرفي والخطوطي ( والمسرح والسينما. وفي جذر ذلك على األرجح رفض منازعة الله على الخلق. لكن قتل خ ل ق ي ة اإلنسان من أجل حماية خلقية الله هو درب إلى البدائي ة ويعطي فكرة غير طي بة عن الله ذاته فإم ا أن ه يخاف من خلقية اإلنسان أو إبداعه أو أن ه لم يكن يعرف أن اإلنسان خالق أو أن ه كان يعرف ثم غي ر رأيه. وفي عمومه هذا م فقر ويضعنا في موقع أضعف حيال أزماتنا. مقابل هذا اإلفقار الديني لل غات تمثيل العالم هناك ضغط شديد على التمثيالت اللغوي ة ما يرهق العربية ويحد من نجاعة تمثيالتها ومن الثقة بها. 167

168 لكن التمثيل ليس مضمون النجاح. والفشل يمكن أن يتأت ى عن فشل التشكيل أو فشل التعبير أو فشلهما مع ا. نفشل ألن تمثيلنا لم ي ضف جديد ا إلى المخزون المتاح من أشكال وصور ومقوالت ومفاهيم أي ألن نا ن كر ر أو ألن نا ال نعمل على تطوير تمثيالتنا بما يعطي تجاربنا قيمة صانعة للمجتمع وفاتحة له على المثيل المغاير أو ألن المتاح التراثي ال يستوعب التجارب واألزمات الجديدة. لدينا أمثلة قريبة من المتناول لمشكالت فشل التمثيل ذات المنشأ التراثي منها ما يت صل باللغة العربية ذاتها وما يت صل بالشعر وكتابته وما يت صل بالدين وأحكامه. كأن نكتب الشعر ملتزمين العمود والن ظم والقافية واألغراض الموروثة ونتكل م وفق ا لما يفترض أن ها أصول الكالم العربي الصحيح متجن بين الم ول د والم عر ب من الكلمات ونتدي ن وننضبط في سلوكنا الديني بقواعد وموجبات قر رها فقهاء ماتوا منذ قرون طويلة أزماتها تختلف عن أزمات زماننا بذريعة صالحي ة اإلسالم لكل زمان ومكان. قد نتكل م في الحاالت الثالث على نزعة أصولي ة لغوي ة وشعري ة وديني ة تنحاز للوالء الح رفي لص يغ في التمثيل تنفي تغي ر األزمنة والتجارب واألزمات والكلوم فتترك المستج د من هذه غير م مث ل وغير معالج. فشل التمثيل ينعكس على الوجود تلعثم ا وركاكة. شغلت قضايا التراث المفك رين العرب بين سبعيني ات القرن العشرين ونهاية القرن. شخ ص محمد عابد الجابري مشكالت»العقل العربي«في أن ه»عقل قياسي «يعتمد آلية عقلي ة خاص ة: قياس الغائب على الشاهد. الشاهد في الف قه هو قضية فيها حكم 168 6

169 معلوم تقاس عليها»نوازل«أو مستج د ات للحصول على حكم بشأنها. وكان است خد م المنهج نفسه في الن حو وعليه في األصل قام تقعيد العربي ة. في المصطلحات بالذات لدينا عالم مقلوب يحل النص فيه محل العالم وتجاربنا في العالم.»الغائب«)وليس»الشاهد«( هو التجربة أو األزمة أو السؤال أو الوضع غير المستقر الذي نعاي نه ونعانيه اليوم و»الشاهد«)وليس»الغائب«( هو نص قديم مكر س. بعبارة أخرى الغائب هو العالم المتغي ر والشاهد هو النص المنتهي غير المتغير. ولم ا كان التماثل بين»غائب«الشؤون اإلنساني ة )مستجد ها المتغي ر أبد ا( و»شاهد«ها )ما سبقت معرفته و»الحكم«في شأنه( ممتنع ا ولم ا كان التماثل هو»عل ة«القياس أصال كان القياس آلية متعس فة تدفع نحو سوق الغوائب المختلفة إلى الشواهد المتماثلة فت خض ع الالمتناهي للمتناهي وتشج ع على نظري ة تماثلي ة وتكراري ة للعالم. وعبر تضييق العالم المتغي ر على هذا النحو ي حال دون تول د المعنى المضاف أي المعنى. هنا محور التعبير ال يعمل وت حر م التجربة أو العناء من التمثيل أو ت فرض عليهما»االستقالة«إن استعرنا من لغة الجابري نفسه. وهنا أيض ا»يستقيل«المجر ب لمصلحة القائس وهذا وكيل لقاعدة نصي ة مقر رة سلف ا ال ت نتج معان. القاعدة ت خض ع الحاضر للماضي لما سبقت معرفته فال ت مث ل الجديد وال تتجد د به. وما ليس قياسي ا ي قصى إلى مجال الشاذ الذي ال ي قاس عليه. هذا فشل للتمثيل بسبب التراث. تبقى التجارب غير م مث لة وغير م تمث لة أي م ستوعب ة وغير م متل كة. في كل حال نحن هنا حيال فشل التمثيل بتأثير مشكالت تت صل بضغوط التراث وما يوفره أو ال يوفره من أشكال. يلزم فقط 169

170 تخصيص كلمة فشل. فبما أن التمثيل حاس ة كما تقدم فنحن ن مث ل في كل حال ويتحت م لتقم صنا التراث حصر ا أن يكون متصال بأوضاع اليوم وتجاربه. وهذا ما أريد التركيز عليه هنا: تعث ر ترجمة تجارب اليوم 7 وأزماته إلى عبارات وأفكار إلى ف كر وفن العناء إلى معان أعني فشل التعبير. ليس مضمون ا بحال أن نستطيع ت عبير المعاناة إلى معنى بأن ننقلها خارجنا فن شك ل مع م ن عبرنا بها ونقلناها إليهم مجتمع ا. وليس مضمون ا بالم ثل أن ننجح في نزع رض تها ونتمكن من االنفصال عنها فيتشكل لنا تاريخ. قد تقتلنا حين تتجاوز حد ا من الر ض ية ال ن طيقه أو قد ت حط م قدراتنا التعبيري ة أو رغبة التعبير عندنا. من ذلك تجارب كالتعذيب واالغتصاب وشروط االعتقال المديدة القاسية... مما كان نصيب كثير من السوريين في سنوات ما بعد الثورة. هنا ال ن عب ر والمعنى ال يتول د. من تجاربنا هذه ما يقتل أي ا تكن وسائطنا وأهل ي تنا التمثيلي ة. لكن لعل هناك تجارب يتجاوز تمثيلها قدرة ما لدينا من وسائط وأشكال وربما يتجاوز كل التراث أو المتاح البشري. تجارب قاسية جارحة م كربة. قد يمكن تعريف الك ر ب بأن ه نتاج فشل التعبير حال نا حين نعيش مع عنائنا ال نستطيع جعله معنى عام ا )ال مجتمع( وال ننفصل عنه )ال تاريخ(. نعيش في أ سره ال شريك لنا فيه وال ب عد لنا عنه. بيننا م ن يتحم لون المصاعب أكثر ألنهم تمر سوا بها يستطيعون تمثيلها ي حو لون األزمات الصعبة إلى بدايات جديدة. لكن المسألة في كل حال مسألة ن سبة وتناس ب. قد تبلغ الصعاب حد ا يتجاوز كل تمر س وقدرة على التمثيل. رض ت ها تبقى معنا نعيش ج رحى 170

171 م نطوين على جروحنا م زامنين لوقت الر ض ة ال ننفصل عنه. ربما لو استطعنا التعبير ولو توف رنا على أشكال لساعد نا ذلك ون ج ونا. على أن نا قد ال ن مث ل ألن نا ال نريد أن ن مث ل. ن در ك أن التمثيل جهد للسيطرة على رض اتنا وخطوة نحو االنفصال عنها والس ير خطوة نحو التصالح مع عالم تسب ب لنا بها. ال نريد. االكتئاب أو الميول االنتحاري ة أو»السن ة«في مفهوم عبد الله العروي الذي سأتناوله للتو )االلتصاق بالر ض ة أو الدوران في مدار ضيق حولها( أو التحول إلى قنابل متفجرة قد تكون كل ها م ت صلة برفض التمثيل وإرادة حماية رض اتنا من التمثيل )مقابل حمايتنا من رض اتنا بتمثيلها وتوديعها(. وقد نريد معاقبة أنفسنا على تجارب راض ة فن قاوم تمثيلها نريدها أن تبقى جارحة ع قاب ا للنفس. في كل حال عالم التعبير سياسي يت صل بتجارب اليوم وهي تجارب سياسي ة حت ى حين ال تكون بالغة القسوة كتجاربنا السوري ة أعني أن ها تجارب ت تحد د بقدر كبير بالدولة ون واظ مها وبأفعال فاعلين عام ين وبن ظم الدخل وفرص العيش وبالعالم والقيود على الحركة والتغي ر فيه. أتوق ف هنا لتوضيح ضروري. ت قد م أكثر من مر ة أن تمثيل تجاربنا يساعد على»االنفصال«عنها أو أخذ مسافة منها فيصير لنا تاريخ على هذا الن حو. لكن استعارة مسافة االنفصال هذه ال ت مث ل تجربة التمثيل على أنسب وجه. بالتمثيل وإنتاج المعنى نحن نتمل ك تجاربنا نتغي ر بامتالكنا لها وإضافتها إلينا. ولذلك فقد تكون االستعارة األنسب هي استعارة الع مق: عبر تمثيل التجارب أي تعبيرها وتشكيلها نضعها م رت بة على رف في خزانتنا الداخلية. م رت بة أي م ستقر ة في شكلها ال تخرج منه وال تفيض عليه. تصير 171

172 وراءنا في الماضي ألنها استقر ت في شكل في الداخل العميق. ليس األمر أمر توديع إذ ا وإنما هو أمر إيداع. تجاربنا الجديدة تبني على سجل من تجارب م خز نة على نحو م رت ب كثير ا أو قليال. تبقى معنا الملفات التي ال ن رت بها»الم فشكلة«. م فشكل تعبير من الم حك ي ة السوري ة يلتقي فيه م درك ا الفشل والمشكلة )أي فقدان الشكل( وهو لذلك مناسب جد ا ألغراض هذه المقالة. بالتحو ل من استعارة المسافة إلى استعارة العمق ننتقل من التاريخ إلى األنثروبولوجيا أو يتأس س التاريخ أنثروبولوجي ا. ثم هناك فشل للتمثيل م تول د من ال تقاء فشل التعبير 8 بفشل التشكيل أي ال تقاء جارح ي ة التجارب بق صورات التراث. عبد الله العروي هو م ن طو ر مفهوم ا ديناميكي ا للتراث ورب ط في السن ة واإلصالح بين التراث والذي ي سم يه السن ة ومشكالت الواقع أو أزماته والذي ي سم يه الحدث. يعتقد العروي بأن»الس ن ة«هي فاعلية ت سنين )ال يستخدم المصطلح في كتابه( ال تكف عن تصفية»الحدث«أي األزمة أو التجربة. لدينا هنا تمثيل للتجربة يمتص ها وي عط ل أثرها»الم حد ث«في م خط ط معطى مسبق ا ال يكف عن توكيد نفسه. أو باألحرى لدينا هنا رفض للتمثيل ومقاومة له ي لغي ذاتي ة التجربة ومغايرتها. يتعل ق األمر بنفي ديناميكي للتاريخ ي حتمل أن م نشأه صفة راض ة للتاريخ ال تطاق. العروي نفسه يشير إلى ذلك. يتكل م على»تاريخ تراج ع وخذالن«إلى»ض يم وهوان«أصابا»أصحاب الش رع والرسالة«العرب. ي لم ح إلى حدث مؤلم غير مسم ى يشبه»تعر ض حي العتداء«. وعلى هذا الضوء تظهر السن ة كديناميكي ة احتماء استقل ت بنفسها 172

173 وظل ت حية حت ى بعدما لم تعد تحمي من شيء بل حت ى بعدما صار هذا النهج م هل ك ا. كن ا ن نفي التاريخ عبر السن ة وعبر السن ة صار التاريخ الذي ن نفيه ينفينا دون توق فنا عن نفيه. السن ة بهذا المعنى طلب نشط على الخروج من التاريخ بل انتحار جماعي. والسؤال الذي ي ثيره هذا التصو ر الديناميكي للتراث يت صل بما إذا كان يمكن استخراج الحدث أو االستدالل عليه من التقليد أو التراث المتاح من السن ة أي هل يمكن التعرف في التراث ككلمات على الكلوم التي أطلقت السن ة وعلى محور التعبير الذي قلنا فوق إن ه يربط بين الكلوم والكلمات هذا رب ما يقع خارج نطاق الدراسات التراثي ة وأقرب إلى نطاق التاريخ. والمشكلة في طرح العروي وهو مؤر خ أن نا ال نعرف الحدث الذي أطلق عملي ة الت س ن ن بل يبدو أن هذا الحدث افتراض م ضم ر في مفهوم السن ة على نحو ما قر ره المفكر المغربي. أي أننا هنا حيال»دور«: السن ة تكو نت حول حدث جارح ال نعرفه وال نستدل على الحدث من غير مفهوم السن ة ذاته. ت رى أال ي حتمل أن يكون أصل السن ة كدينامية تصفية للحدث رفض التمثيل أو التفاعل بين»اعتداء«راض وبين مقاومة لتمثيل االعتداء واستعداد م سب ق لالنسحاب من التجربة خوف ا من الشقاق والصراع أي ألسباب سياسي ة لدينا م رك ب حد ثي معاصر ربما يساعد في تمثيل ظهور»السن ة«في أزمنة سابقة من تاريخنا. قبل جيل واحد من اليوم سقطت التجربة الشيوعي ة التي كانت ألهمت ح ماسات كبرى وحر رت كثيرين من األناني ة كما حف زت كثيرين على التعبير والتمثيل. لكن منذ ما قبل السقوط كان التفكير الشيوعي يعرض منزع ا اختزالي ا يرجع بصورة تكاد تكون آلية الظواهر االجتماعي ة والسياسي ة والثقافي ة إلى»المستوى االقتصادي«ويرد كثرة الواقع وتنو عه وفوضاه إلى بنية تحتي ة أقل 173

174 تنوع ا تحوز قوة تحديدي ة بالغة هي نمط إنتاج الحياة الماد ي ة. كان هذا االختزال ي سم ى المنهج الماركسي أو أحيان ا المنهج العلمي. وكان السقوط»ضيم ا وهوان ا«أصاب ا عموم الشيوعي ين وكنت منهم فكان أن تفر ق ج مع نا في كل اتجاه وم ن لم يتفر قوا وبما أن ه ال جماعة بال»سن ة«فقد ال تأم اجتماعهم الم نكم ش حول»سن ة ماركسية«)هي»المنهج العلمي«ذاته( سن ة نافية للحدث مثل السن ة اإلسالمي ة ومقاو مة للتمثيل والتغي ر مثلها ون ز اعة إلى التكرار ومماثلة الذات إلى درجة التحجر مثلها. بيد أن هناك فريق ا ثالث ا ينحدر منه العروي ذاته وكثيرون من بينهم أيض ا كاتب هذه السطور لم ي قاوموا التمثيل والتغي ر عبر التمثيل ولم يجعلوا من»المنهج«سن ة. عملوا في حقل المعنى وحاولوا إنتاج معان من ضروب المعاناة الم تجد دة. مفهوم السن ة كما صاغه العروي يندرج في تصو ري ضمن هذا المسعى. القصد أن الحدث الراض وحده أي سقوط الشيوعي ة ال ي فس ر وأن السن ة ربما تكون وليدة ممانعة سابقة للتمثيل فاق م ها الحدث. السن ة ليست نتاج الحدث الراض بحد ذاته ولكن ها فاعلي ة إنكار أو ف عل ن ش ط إلنكار الحدث حال دون االستقالل عنه وتركه يمضي. وفي التاريخ العربي يبدو أن شيئ ا مقارب ا وق ع: ض يق بواقع ك ثروي ف وضوي و»إغالق ل باب االجتهاد«سياسي الدوافع تفاقم بنزعات شقاق داخلي ة كان تفج رها متو قع ا بعد»معجزة«الفتوحات الباكرة الصاعقة وفاق م ت ه هذه النزعات قبل أن تعرض رضوض ا أشد هوال : الغزوات الصليبي ة والمغولي ة. عبر هذه التحو الت انقلب اندحار تاريخي إلى تاريخ اندحار دام مئات السنين تحت رعاية سن ة استفر غت جهدها في حماية نفسها بقدر ما إن ها لم تعد تحمي 174

175 من أي شيء. ويبدو أن نا اليوم في مواجهة حدث م هول في جارح ي ته يثير بدوره نوازع إنكار قوي ة بهدف االحتماء. وقد يمكن تصو ره اعتماد ا على لغة العروي بالذات بأن ه انفجار السن ة بمعني ي التعبير. السن ة كعنوان لهوي ة جمعي ة )مذهب أهل السن ة والجماعة( تشهد اليوم تمزقات كبيرة كما السن ة كآلة لط حن الحدث تخرج منها حوادث ابتلع تها عبر األجيال والقرون في صورة وحوش وغيالن ومسوخ ال شكل لها وال سن ة تضبطها. وفي مواجهة هذا الحدث األزمة الكبرى والك ل م العظيم ال بد من كلمات جديدة ومن تمثيل مغاير. هذا اليوم تحد مصيري ويمكن أن يكون مؤس س ا لسجل اكتساب جديد. إنتاج معان وتأسيس تراث/تراثات حول الحدث الجديد وليس التمس ك بتراث أخفق في تمثيل حد ثه هو ما قد يحول دون تحج ر محتمل. وفي أي من حاالت فشل التمثيل الثالث فشل التشكيل أو 9 فشل التعبير أو فشلهما مع ا ننتقل من تمثيل األزمات إلى أزمة التمثيل. األزمة كوضع بال شكل هي في آن موضوع التمثيل ودافعه. الشكل عالقة بين أحداث العالم وأنفسنا وما ال شكل له هو أزمة ت رب كنا تثير توت رنا. التعبير والتشكيل جهد الستيعاب األزمة ونزع رض يتها بما يساعد على االبتعاد عنها والشفاء منها. للتمثيل فاعلي ة عالجي ة مثلما تقد مت اإلشارة والثقافة يمكن أن تكون عالج ا ألدواء المجتمع ألزماته وجراحه ومآسيه. فشل التمثيل بالمقابل )سواء بف عل عدم م الءمة التراث للتجارب أو بف عل وحشي ة التجارب وانفالتها من كل تراث أو كنتيجة للتفاعل 175

176 بين االثنين( ي بقينا مع رضوضنا م كروبين ال نبتعد عنها وال نتحرر منها. ال ن وض بها في أشكالها ورفوفها المناسبة في خزائننا الداخلية فال نتمل كها وال تصير منا. ومع تكر ر الفشل يصير التفكير ذاته راض ا فنتجن به أو ننفر منه. هذه تجربة متواترة يعرف ما ي شبهها كثيرون م ن ا حين يتجن بون تناول بعض الشؤون أو سماع نشرات األخبار أو قراءة الصحف ألن ها تصير مؤلمة أو حتى ال ت طاق. نريد االنعزال عن معاناة ال نستطيع تمثيلها أي إنتاج معنى منها. يحصل أال نكتب عن تجاربنا المؤلمة ألن الكتابة عنها والتفكير بها مؤل مان ثم إن ها تبقى مؤلمة طالما أن نا ال ن مث لها بالكتابة أو غيرها. وهكذا تأسرنا دائرة م عذ بة. يمكن لهذا أن يجعل م ن ا حيوانات غاضبة خطرة. بل أخطر. الحيوان ي عب ر وإن كان ال ي شك ل. الحيوان البشري الذي ال ي عب ر يمكن أن يقتل دون كلمة. يصبح القتل تعبير ا. إن لم نستطع تمثيل تجاربنا الراض ة وبخاص ة حين يكون 10 الفشل حدث ا جمعي ا وحين ال ن مث ل من تجاربنا غير القليل واألقل ح د ة ورض ية من بينها هذه التي نحتاج إلى تمثيلها أقل من غيرها يدخل التمثيل في أزمة ونفشل في تمثيل أزمات نتحك م بها أفضل إن م ث لناها فتتحك م هي بنا فنخسر الفاعلي ة العالجي ة للثقافة كعالم تمثيل متعد د الوسائط. فشل التمثيل مشكلة خطرة بل بالغة الخطورة. لماذا ألن ه فشل للتفكير للتعبير والتشكيل الذي ي سعف في تمث ل التجارب ونزع رض يتها أو تخفيفها وفي السداد أو الوجود الجيد والم وف ق وفي تشكيل مجتمع يتحو ل وله تاريخ. وفي األنس نة. ن تأ ن س ن بتمثيل 176

177 تجاربنا وترتيبها في ملفات محفوظة في دواخلنا. عبر العناية بالتشكيل والشغل على التجارب الخام نعمل على تحويلها إلى فن وفكر أرفع أي أكثر تركيب ا ويخاطب أفضل ما فينا وجانبنا األكثر إبداعي ة: التفكير. وبقدر ما إن التفكير حوار مع النفس بحسب حن ة آرندت فإن المساحة التي يست صل حها التمثيل وال يكف عن توسيعها هي المساحة التي تجول فيها أفكارنا نفوسنا. كحوار مع النفس التفكير يعني تضاعف النفس ويقتضيه أن تصير لنا نفسان أو أكثر أن نصير مجتمع ا.. أن ي ضاف لنا ونتغي ر. معلوم أن آرندت ربطت بين الشر وبين فشل الحوار مع النفس وما يفضي إليه من ضبط أنفسنا بأنفسنا. ماذا يعني ضبط النفس يعني أن إحدى نفس ينا تضبط نفسنا األخرى. هذه القو ة الضابطة قد نسم يها الضمير. للتفكير مفعول م ؤن س ن عبر تضاعف النفس مثلما له مفعول م ثر اجتماعي ا عبر التمثيل كتضاعف للعالم أو صنع عوالم موازية. إنتاج التعبير الم شك ل وضبط النفس بالنفس ي سعف في خفض التوت ر المتول د عن معاناة العالم. دون حوار نلتصق بأنفسنا فال نستطيع ضبطها وتنكمش المساحة الداخلي ة التي هي موضع التفكير وي ضم ر الضمير. أدولف آيخمان الذي درس ته آرندت يجتر قوالب كالمي ة م كر رة ألنه يفشل في التفكير وفي مضاعفة نفسه ومعلوم أنه تسبب بكثير من الشر )كان مسؤوال عن نقل يهود أوروبا إلى معسكرات االعتقال النازي ة التي ق تل منهم فيها ماليين(. م ثل ذلك ينطبق على مجاهدي المنظ مات العدمي ة اإلسالمي ة وعلى الوكالء العقديين عموم ا: يعرضون استعداد ا بالغ ا للعنف بقدر ما يخلو عالمهم مما يتوس ط بين العناء والمعنى من مساحة تمثيل وتفكير متوس عة أو بقدر ما إن»السن ة«أو 177

178 »المنهج«تقتضي أولوي ة المعنى القديم الثابت على العناء المتغير والمتناهي على الالمتناهي ما يؤدي إلى تضييق العالم بدل توسيع»المنهج«وما يتسب ب بكثير من العناء دون معنى ودون إحساس من ق ب ل»المعنيين«أو»إخوة المنهج«. القوالب الكالمي ة ت غني عن التفكير وإن أشبعت الحاجة االعتقادي ة )الحاجة إلى عالم واضح م فر ط التنظيم ي غني وضوحه الم صطن ع عن التفكير فيه(. بالمقابل قد يؤد ي فشل التفكير بسبب قسوة التجارب إلى س كنى قوالب تعبيرية ضي قة وح شر العالم فيها. هذا من مناهج اإلسالميين أيض ا. معلوم أن السلفي ة ت حك م قوالب كالمي ة مستوردة من زمن قديم ت نكر تجارب الحاضر فال تضيف معنى أو داللة. ومعلوم أن ها معادية للرأي أي للتفكير. كان أبو عبد الرحمن أمين وهو من قادة الجهاد في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي يجمع الكتب ويحرقها بما فيها كتب سيد قطب ألنها تقوم على...»الفكر«والفكر عنده»بدعة وص ل حكمها إلى حد القتل سياسة «بحسب أبو مصعب السوري )مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر(. االقتران بين معاداة التفكير وبين القتل ليس عارض ا ألن الضمير ال ينشأ هنا وال تتولد نفس مثيلة ضابطة. في إطار اإلسالمي ة المعاصرة الكالم قل ما يعني ألن ه ال ي مث ل وال يضيف. المعنى ال يتول د بسبب مقاطعة الحدث أو التجربة. هذا عملي ا قتل لل غة العربي ة بحرمانها من أن تعني. تصير لغة»أجنبي ة«نظام ا من الرموز يتعارف عليه بعضهم بتداوله فريق من الناس لكنه نظام أجنبي على تجارب أفراد هذا الفريق بالذات. اللغة العربي ة اإلسالمي ة إن جاز التعبير هي لغة أجنبية على جميع م تكل ميها. إنها م ثل العربي ة التي ي صل ي بها غير عرب وغير قليل 178

179 من العرب ي تعب د بها لكن ها لغة ال تعني فاشلة أو تكاد. يقتل التكرار المعنى على نحو نعرفه حين نسرق فكرة من غيرنا: حتى حين ال يعرف أحد بالسرقة نحن نعرف نعرف أن ه ليس هناك معنى مضاف أي ليس هناك معنى. أن هناك تكرار ا فحسب. ولعل نا لذلك بالذات ن كر ر الفكرة المسروقة محاولين عبث ا تمل كها. السرقة تقتل المعنى من وجه آخر: فصله عن»المعاناة«عن اختبار العالم. الغرض مما تقد م هو القول إن التجارب الراض ة تقع على 11 م فتر ق طرق يقود واحد منها باتجاه التمثيل الذي هو إعادة إنتاج للرضوض في صور م ثيلة ومغايرة )التعبير محاكاة وعبور أو تجاوز( ت حي د االنفعال الخام وتقبل االستيعاب االجتماعي والنفسي وت تيح اختبار تجارب جديدة ويقود واحد إلى الخوف من التمثيل وقتل التفكير وبات جاه الشر والقسوة والعدمية. الضمير يتول د عن التفكير بوصفه لقاء بالنفس وحوار ا مع النفس وضبط ا للنفس بالنفس. إن ه قو ة اجتماعي ة تتوف ر أفضل الشروط لنموها حين نكون نحن أنفسنا مجتمع ا )ناقشت ذلك في مقالتي:»الضمير الخارجي: في أصول الشر السياسي «(. الغرض أيض ا أن التمثيل ليس شيئا كمالي ا ليس»زيادة خير«بل هو الخير والشر هو غيابه. في التمثيل ن عيد إنتاج العالم فن نفل ت من»المباشرة«ون دخل تعد د ا واجتماعية في أنفسنا وفي العالم من حولنا. فإذا كن ا كأفراد ن صير قساة أو أشرار ا بفعل فشل تمثيل تجاربنا وتوسيع نفوسنا وضبطها مع ا أي بفعل فشل عملي ة تعد د نا الذاتي فإن نا كمجتمع نستسلم للقسوة بقدر ما نفشل كم نتجين 179

180 للتمثيل في صنع عوالم موازية محاكية لعالمنا ومتجاوزة له نتمل ك عبرها تجاربنا وأزماتنا المباشرة. الربط بين انحطاط الثقافة وبين البربري ة أو التوح ش وجيه جد ا. فالثقافة عالم من التمثيل الفني والمفهومي واألخالقي يفصلنا عن التجارب المؤلمة أو يساعدنا على استيعابها وتمل كها وهي سن دنا في مواجهة الوحشي ة. المجتمع يتشك ل حول تصريف الرضوض وتقاسم التجارب الراض ة من مرض وجروح وفقدان وموت. وتساعد طقوس الدفن والعزاء والحداد في التغلب على فقد األحب ة. والمجتمع بهذا المعنى متشك ل حول الثقافة كتمثيل للعالم ولتجاربنا فيه. أبرز أمثلة فشل التمثيل ت لح ظ في مجتمعات تغرق في 12 البؤس واليأس بفعل تعر ضها لرضوض وفظائع وحصار لوقت طويل مثل كثير من بيئات الثورة في سوريا أو في جيل ي مثل كثير من معتقلي سجن تدمر الذين قضوا فيه سنوات طويلة. تتخط ى التجارب الراض ة قدرت نا على تمثيلها وتمث لها فتقود إلى انكماشنا على أنفسنا وفقدنا الثقة بالعالم على ما قال جان آمري الناجي من الهولوكوست عن تعذيبه. إم ا نعيش ككائنات خائفة ال تختلط بغيرها أو ينقلب بعضنا وحوش ا كاسرة تجد في توحش العالم البيئة األمثل الزدهارها وإدارة توح شها الخاص. وفي أخف الحاالت نصير»كلبي ين«)سنيكال( ال نؤمن بشيء وال نحترم شيئ ا ونتشك ك في كل شيء. وقد يمكن التفكير فيما يخص سوريا وفي نطاق أوسع منها في مجتمعات تفشل في التمثيل وبالتالي في مضاعفة عال مها بف عل فائض العنف والتجارب الراض ة. تبقى أسيرة المباشرة ورد الفعل. 180

181 الفن والثقافة واإلبداع تنحصر في أط ر ضي قة وتنحدر قدرتها على صنع التعدد أعني مضاعفة العال م ومضاعفة النفوس. ال يلزم أن يكون كل واحد منا تعر ض ألعنف التجارب ذلك أن مجتمع ا ع وم ل بقسوة ألمد طويل ي شك ل إطار ا اجتماعي ا لتجارب وتفكير حت ى م ن لم يخبروا بأنفسهم التجارب األقسى ي ور ثهم إي اها مثل م ن عاشوها فيدفعهم إلى االلتصاق بأنفسهم والعيش في عوالم ملتصقين مثلهم عال م من المباشرة ورد الفعل يخلو من كل عمق. ومن هذا المدخل قد نرى في الوحشي ة على نحو ما 13 نشهدها في سوريا اليوم نتاج أزمة في التمثيل أبقت أوسع قطاعات السوريين على تماس مع جروحهم ورض اتهم. فحين يفشل التمثيل ترتد النفوس إلى شاشات سلبي ة للرضوض ويقود تضي ق المسافة بين المعنى والعناء إلى أن تصير معاناتنا هي م عنانا تنمحي المسافة بيننا وبين عالم الم باشرة الحيواني. في بلدنا التمثيل»الثقافي «الفن ي والم فهومي بالصور واألصوات والخطوط والمفاهيم محدود جد ا من حيث الن طاق والفاعلي ة ألسباب متعد دة منها الجارح ي ة المطلقة والن سبية للتجارب أعني كون الكثير منها من الصنف القاتل أو الم غل ق للنفس والم عط ل للحوار مع النفس أو تجاوز كثير آخر منها في الح د ة لألشكال وأدوات التمثيل المتاحة. ويت صل بذلك أن التجارب الجارحة هي غالب ا تجارب مع»الدولة«ما يجعل تمثيلها التعبير عنها وتشكيلها ومشاركتها مع الغير خطر ا سياسي ا على الممثلين المحتملين وما يدفع شيئ ا فشيئ ا هؤالء إلى تجن بها وإلى تضي ق مساحات التفكير وتدني مستوى التمثيل. لقد تعر ض المجتمع مفهوم ا كنظام 181

182 لتصريف الرضوض لرضوض تفوق قدرته على التصريف وأخ ذ في االنهيار بأشكال مختلفة. ثم إن غير قليل من التجارب الجارحة هي تجارب مع الدين الذي انقل ب بدروه من تطبيب الجروح إلى جارح عام آخر. الرض هنا مضاعف: األذى نفسه ثم الحرمان من لغة للتعبير عنه بف عل كون اللغة الديني ة هي لغة تشريع األذى والحض عليه. الحرمان من اللغة يترك تجارب م ن ال يمتلكون غيرها لتمثيل تجاربهم غير م مث لة ويتركهم هم في ك رب. هذا وضع بالغ الفرادة وحشي وخصب في آن. مثلما األزمات م حر ك التمثيل وموضوعه الثورات والحروب كأزمات كبرى يمكن أن ت حف ز ثورات في التمثيل في الثقافة واالجتماع للتغلب على الرضوض ويمكن أن تقود إلى انهيار مديد وانحالل ي سه ل االند راج في مجتمعات أخرى بف عل الفشل في معالجة الرضوض. لذلك فإن التمثيل حقل للمقاومة والتغي ر على نطاقنا كأفراد ومجموعات وعلى النطاق العام ومساهمة في التغي ر العالمي. على مستوى مجتمعات ك ل ية يمكن أن ن مي ز بين حالتين 14 ق صوي ين: تمثيل التجارب كل ها أي بناء عوالم م حاك ية وم تجاو زة من تجاربنا وبين الال تمثيل والوجود العاري المؤلم إلى أقصى درجات اإليالم. مرة لدينا عوالم بال عدد نجول بينها بحر ي ة ومرة عالم واحد ضيق يكبس بث قله على أنفاسنا ويهرس أجسادنا ذاتها. ليست هاتان الحالتان الق صويان»واقع ي ت ين«لكنهما ترسمان الحدود التي يبدو أن المجتمعات التاريخي ة تتحرك ضمنها. بعضها ت مث ل أقل فت ترك كثير ا من التجارب غير م مث لة 182

183 غير م تم ل كة بالتالي ومؤلمة ولعله يتاح لبعضها أن ت مث ل كثير ا من تجاربها فت عطي انطباع ا بالتعد د واالنفتاح و»الحضارة«والغ نى الفكري والثقافي. وأقرب إلى قطب التمثيل األقل قد ن مي ز بين ما لم ي مث ل وبين ما ال يمكن تمثيله. ما لم ي مث ل هو تجاربنا التي ح رمت من التمثيل من التناول الفكري والفن ي والرمزي. لدينا الكثير من هذه في سوريا ك بتت ولم نتداول في شأنها. سوريا كك ل بلد لم ي مث ل فكري ا وثقافي ا إال بحدود ضيقة ولشريحة ضي قة من تجارب الناس فيه وبقدر ما كانت الثورة جهد ا من أجل التمثيل السياسي )سيجري الكالم عليه بعد قليل( غير قليل من تعث راتها تول دت من حرمان مديد لتجارب األحياء من السوريين من التمثيل وبالتالي من الرسوخ في العالم والتوج ه فيه. فإذا كانت سوريا بلد ا مجهوال حتى ت فج ر الثورة فألنه لم ي مث ل ألن الناس فيه لم ي نت جوا التمثيل ويعب روا عن أنفسهم ويشك لوا عوالمهم الم ثيلة والمتجاو زة التي تعطي البلد تعد د ا وعمق ا. هذا دون قول شيء عم ا ال يمكن تمثيله على تجارب وم حن تتحد ى التمثيل ويعجز أمامها. وهذا حال معظم تجاربنا ما بعد الثورة لتجاوزها الحدود الن سبية والمطلقة لقابلي ة التمثيل والت ساع نطاقها وللشروط السياسية للتمثيل التي تمنع إنتاج عوالم إضافي ة: التعذيب االغتصاب القتل الخطف والتغييب قطع الرؤوس وكثير غيرها تنتمي إلى مجال ما ال يمكن تمثيله. ي كب ت داخل النفوس ال ي ستدعى وي حاو ر لشد ة ما هو مؤلم أو ينعزل المرضوضون المكروبون عن غيرهم ألن االجتماع بالغير مؤلم بدوره. 183

184 التراوح بين التفكير والتوح ش أو بين الثقافة والعدمي ة 15 أو بين التمثيل واإلبادة يقوم في المجتمع وفي النفس الفردي ة على حد سواء. ليس أن بيننا البشر عموم ا متوح شون وبيننا مفك رون بل نحن نتحر ك بين القطبين نميل إلى أحدهما أو اآلخر بحسب شروط عام ة ت تيح التمثيل أو ال ت تيحه. فإذا كان أحد القطبين هو التوح ش العام الخروج الواسع الن طاق من الثقافة كنطاق للتمثيل والحوار الذاتي )ومن السياسة كنطاق إضافي للتمثيل والحوار ضمن»الذات االجتماعي ة«( فماذا يكون القطب اآلخر إنه ببساطة اإلنساني ة جميع الناس ي مث لون تجاربهم ويفكرون في وس عون مساحاتهم الداخلي ة ويضاعفون أنفسهم ويت أن س نون. اإلنسان كائن اجتماعي ليس فقط بمعنى إلف ته لغيره واجتماعه بغيره لكن بتعد د ه الذاتي أي بتكو نه هو ذاته كمجتمع. ال يتشك ل من ا مجتمع حين ال يكون الواحد منا مجتمع ا هو ذاته وال يكون الواحد منا مجتمع ا حين ال يكون م نت ج ا لعالم آخر عبر التمثيل. القطب اآلخر هو هذه اإلنساني ة االجتماعي ة المتعد دة تعد د ا م رك ب ا تعد د م تعد دين. أتكل م على اإلنساني ة ألن ه وإن أمكن للت أن س ن أن يتحق ق بمقادير متفاوتة في مجتمعات أكثر من غيرها وفي قطاعات من هذه المجتمعات أكثر من غيرها فإن ه يبقى اليوم م هد د ا باالنقالب دون تحكم عالمي باألزمات والرضوض. نعلم من تجاربنا الحديثة وسوريا أبلغها أن الرضوض عالمي ة اإلطار والمنشأ وأن المجتمعات الجريحة أو المرضوضة بقسوة يمكن أن تتوح ش وتجتهد في أن ت وس ع دائرة األلم والتوح ش وأن من شأن ذلك أن ي قو ض قدرتنا على األن س ن ة 184

185 والتمثيل. والفكرة باختصار أن نا نت أن س ن عبر التمثيل وإنتاج المعنى يرتفع منسوب»المعنوي» فينا أو الفكري أو الم ثالي أي أيض ا»الروحي«. يمكن تصو ر حالة قصوى يتحو ل اإلنسان فيها إلى»روح«يشف كيانه ويتخل له المعنى ضرب من»اإلنسان الكامل«الذي تكل م عليه م تص و فة م سل مون. وفي الحالة الق صوى المقابلة ما سم اه ابن عربي»اإلنسان الحيوان«أي الذي انحدر التمثيل وإنتاج المعنى لديه إلى الصفر واألرجح أن مثل ذلك يتحقق عبر التكرار. هنا اإلنسان جسد غليظ ماد ي وآلي م برم ج على حركات وأفعال غير شخصي ة تتكر ر كل الوقت وهنا المعاني ذاتها تتجم د أو تصير عضالت وأيد باطشة. نموذجه هو الهومو-إسالميكس الذي يتطل ع إلى إنتاجه بالجملة اإلسالمي ون: إنسان آلي ال يفك ر إطالق ا لكن له برنامج تشغيل اسمه الشريعة. قد نضيف في هذا المقام حالة قصوى ثالثة اإلنسان النبات»الفاصل«في سجون الدولة األسدي ة و»المسلم«في معسكر آوشفيتز النازي ومعسكرات إبادة أخرى: اإلنسان الذي لم يعد إنسان ا لم يعد يتفاعل ويتذك ر الذي يترد د المرء حتى في وصف موته بأنه موت بحسب بريمو ليفي. ال يناسب المقام تناول التمثيل السياسي لكن يمكن قول 16 أشياء قليلة على عجل. ي وف ر التمثيل السياسي للسكان مساحة للمداولة والنقاش لحوار المجتمع مع نفسه بما ي ترج م المعاناة االجتماعي ة إلى سياسات عام ة سديدة والكلوم االجتماعي ة إلى كلمات وأفعال عام ة على نحو ي قل ل من وقوع هذه الكلوم 185

186 ويعالج ما يقع منها. قد يمكن تعريف السياسة في هذا السياق المخصوص بأن ها لقاء المجتمع مع نفسه وحوار المجتمع مع نفسه عبر مساحة مضمونة للتمثيل. لزوال التمثيل ف عل نازع للمجتمع واالجتماعي ة مثلما ي فضي زوال التفكير إلى نزع إنساني ة الفرد. مساحة التمثيل هذه ال تقتصر على البرلمانات أو المجالس المنتخبة إذ إن هذه أشكال تقليدي ة أو تراثي ة )أو»سني ة«( للتمثيل السياسي إن جاز التعبير تقع على محور التشكيل. الدولة بالذات شكل تقليدي م نظم للمجتمع. هناك أشكال تعبيري ة م ول دة للجديد في االجتماع والتمثيل كاألفعال االحتجاجي ة والتجارب االجتماعي ة الط ليع ية والثورات. يمكن التفكير في الثورات وفي البال الثورة السوري ة هنا بخاص ة كتمثيل للنفس كجهد واسع النطاق المتالك للسياسة أي للكالم العام على الكلوم االجتماعي ة ولالجتماع أو اللقاء بالغير ولالمتالك الن شط واالحتجاجي للفضاءات العام ة بوصفها مساحات ت مث ل البلد كك ل. هذا التمثيل النش ط اإلبداعي هو ما عملت الدولة األسدي ة على تحطيمه منذ وقت مبك ر. فإذا كانت الثقافة عالج ا ممكن ا ألمراض المجتمع فإن السياسة كلقاء للمجتمع بنفسه هي المساحة التي تجري فيها معالجة األمراض االجتماعي ة معالجة محافظة عبر الدولة ومعالجة هجومي ة عبر األفعال االحتجاجي ة والتجارب الط ليع ية والثورات. ومثلما ي عيد التمثيل الثقافي إنتاج تجاربنا في ص ور تساعد على ترتيبها على إيداعها في شكل مستقر وتوديعها التمثيل السياسي هو بمثابة إعادة إنتاج المجتمع لنفسه سياسي ا عبر التعبير الم حاكي وعبر التعبير الم جاوز أي النشاط المباشر والتجارب الط ليعي ة والثورة أي كل ما ي تيح للمجتمع التضاعف والحوار مع النفس وتوسيع 186

187 مساحة اجتماعي ته وضبط نفسه بنفسه أو سياسة نفسه. عبر التمثيل يضاع ف المجتمع ذاته ومن دونه يقع في المباشرة وااللتصاق بالذات أو االنقسام إلى جماعات مباشرة ملتصقة بذاتها. ومثلما اللقاء مع النفس أو التفكير قد يصبح راض ا فن جتن ب ه ون وك ل أمر ضبط أنفسنا إلى ضابط خارجي فإن االجتماع أو اللقاء مع الغير قد يصبح راض ا ونتجن به. فكأن نا م سلوخو الجلد الوجود في العالم يؤذينا. كان من شأن التمثيل السياسي أن يكون جلد ا لنا يحمينا. مسلوخين سياسي ا نبتعد عن غيرنا خوف ا من األلم. تحتش د لدينا مشكالت الثقافة كعالم تمثيل للتجارب 17 والسياسة كعالم تمثيل اجتماعي وأ ضيف إليها االقتصاد كعالم تمثيل لألعمال بد خول ومواقع اجتماعي ة. في سوريا أخذت قيمة العمل تنهار منذ سبعيني ات القرن العشرين لمصلحة السلطة والقرابة والمال. صار العمل ال شيء والسلطة كل شيء. والسلطة قو ة ج رح ورض عام ة. وبق در ما إن الثورة السوري ة جهد من أجل التمثيل الذاتي وامتالك السياسة فإن ها مدخل لتمثيل العمل أو ثورة مجتمع العمل الذي تدهورت م قد راته وقدرته على العيش في سنوات الحكم البعثي التي كانت من وجه آخر سنوات ظهور طبقة ضارية وصعودها طبقة شديدة الوحشي ة بق در ما هي ر ث ة تستخدم الدولة الم خ صخ صة لج ني الثروات وإضعاف العمل كشرائح اجتماعي ة وكقيمة. ال يستغني أي تفكير في التمثيل أو نظري ة عام ة في التمثيل عن النظر في تمثيل عالم األعمال. نظ ر ماركس في التمثيل الرأسمالي للعمل ورأى فيه استغالال ي ست ولى فيه على»فضل القيمة«لمصلحة 187

188 الرأسمالي ين وي دفع للع مال ثمن إعادة إنتاج قو ة عملهم فحسب. ومنذ أي ام ماركس ز ك ى الفكر االشتراكي شعار:»م ن كل حسب قدرته ولك ل حسب عمله«كقانون لتمثيل العمل في المرحلة االشتراكي ة على أن يحل محله:»من كل حسب قدرته ولك ل حسب حاجته«في المرحلة الشيوعي ة. الط رح الماركسي ضيق بعض الشيء يرد القيمة إلى العمل بمعنى الكدح اليومي الذي يقوم بأود الحياة البيولوجي ة وي قل ل من شأن الش غل المنت ج ألشياء مديدة العمر منها التكنولوجيا ذاتها وذلك بحسب نقد لحن ة آرندت وي قل ل من شأن أشكال أخرى للعمل أو ال يراها منها الفعل الذي تقوم عليه السياسة. ترى الماركسي ة السياسة كشيء أقل شأن ا من العمل المنت ج للحياة المادي ة بل كت كوين فوقي يتطف ل عليه. لكن في جميع معانيه كك دح وشغل وفعل بم صطلحات آرندت العمل غير م مث ل في»سوريا األسد«. الثورة السوري ة كانت تمر د م ن ح ر م ت أعمال هم وح ر موا هم أنفسهم من التمثيل. في ص ور ه المختلفة التمثيل يضاع ف العال م أو ي كث ره في ضاعف 18 حياتنا فيه ويكثرها يضاعف نفوسنا أيض ا ويكثرها في ؤن س ن نا وي حس ن اجتماعنا. اإلنسان حيوان ي مث ل يعيد خلق عال مه عبر التمثيل وال يستل م ه ناجز ا. وما تعطيه مجتمعاتنا المعاصرة من شعور بالضيق ناش ئ في تصو ري عن أننا ال ن كث ر عالمنا مفهومي ا وفني ا وال نكثره سياسي ا عبر التمثيل السياسي. المجتمع يتضاعف حين ي عب ر عن نفسه سياسي ا وي نت ج حركاته ومنظماته وأشكال انتظامه المتنو عة. وليس هذا حالنا في عالمنا اليوم. ي فاق م من الضيق أن نا ال نكاد نتضاعف إال بيولوجي ا: نتكاثر عدد ا في عالم ال 188

189 يتكاثر ألنه بال تمثيل في زداد ضيق ا علينا ونزداد ضيق ا به. أذكر هذه االعتبارات السياسي ة واالقتصادي ة فضال عن الثقافي ة ألن ها تساعد على ف هم أوضاع التوح ش التي نعيشها وت حف ز على ثورة في التمثيل بما يتجاوز إخراج التمثيل من األزمة إلى ثورة في الثقافة أعني تمثيل تجاربنا في الخروج من الوصاية/ الوصايات المتعد دة تمثيل صراعنا وإنتاج عوالم موازية ثقافي ة وسياسي ة واقتصادي ة ت كث ر حيواتنا وت وس ع مكاننا الخارجي والداخلي. التمثيل في أشكاله المتنو عة حليف للحياة ومقاوم للموت. إن أمكن تلخيص هذا النص بجملة واحدة فهي أن تمثيلنا للعالم قد يفشل بف عل قسوة تجاربنا أو صفتها الراض ة )وهي قسوة سياسي ة أساس ا في عالم اليوم( وأن هذا فشل لما ي مي ز اإلنسان من تفكير وفشل لألن س ن ة تالي ا. حين يكون التفكير راض ا واالجتماع راض ا مثله فإننا ن نح ب س داخل أنفسنا منغلقين دون غيرنا وما قد ينفتح له باب أو أبواب هو العنف. فإذا كنا نضاعف أنفسنا والعالم بتمثيل تجاربنا فنحصل على عوالم أكثر فإن ما يتمخ ض عنه العنف هو أقل من عالم واحد أنقاض ال يتكو ن منها شيء متماسك. خالصة تفج ر بلد نا منذ أكثر من سبع سنوات مثل بركان تتالقى فيه مشكالت التمثيل الم فهومي والفن ي مع مشكالت التمثيل السياسي مع مشكالت تمثيل العم ل ما يمكن أن يكون م نطلق ا للتفكير في أشكال تمثيلنا للعالم وتمث لنا له فيما يتجاوز سوريا نفسها. الحوار مع النفس اليوم هو حوار مع العالم حوار فضاؤه العالم وليس بغيره يتكو ن ضمير العالم. 189

190 190

191 ماذا يحدث حين تفشل الكلمات وهي تفشل كثير ا. هذا واقع ال يحجب ه واقع آخر: أننا ال نكف عن الكالم. إذ يمكن للفشل أن يكون دافع ا جزئي ا لالستمرار في الكالم في مسعى من ا لالقتراب من النجاح في قول ما نريد قوله. دافع جزئي ألن النجاح يبقى غير مضمون وألن التجارب البشري ة ومنها ما هي شديدة القسوة ال تبدو م صم مة على نحو خاص بحيث تنجح الكلمات في تمثيلها وأن الكلمات من وجه آخر ال تبدو م صم مة على أفضل نحو كي ت حيط بكل األوضاع والتجارب الممكنة للكائن البشري. ثم ألن نا نتكل م ما د منا أحياء وقد ال يكون استسالمنا للصمت غير ن فضة يد نهائي ة من الحياة ذاتها. ماذا نفعل حين تفشل الكلمات ن مارس العنف نبكي مقهورين أو نموت بح سرة بعد حين يطول أو يقصر. أو هذا ما ت قد ره هذه المقالة وتحاول النظر فيه. فشل الكلمات لكن ما معنى فشل الكلمات في أي شيء تفشل الكلمات في التعبير في نقل ما نشعر به إلى غيرنا 191 تعبير: الكلمات والعنف والدموع

192 ترجمته إلى كالم مفهوم يشاركنا فيه آخرون. الكالم ي حو ل تجاربنا الذاتي ة إلى شأن مشترك مع غيرنا ي خرجها من داخل الذات إلى ما بين ذوات متعد دة في قيم رابطة اجتماعي ة. ومن هذه الرابطة قد نتلق ى صور ا من الدعم والمساندة والمواساة حين تكون تجاربنا قاسية أو ساحقة. وبق در ما إن نا في الكالم نتبادل الكلمات واإلصغاء مع م كل مينا فإن نا نأخذ في اعتبارنا ما يقول الم تكل مون وهم يفعلون الشيء نفسه فال نبقى كما نحن وال يبقون نتغي ر مع ا. ونتعد د. إذ نأخذ ما نسمع معنا ون قل به في أذهاننا أو نتداول في شأنه مع أنفسنا. فكأننا نأخذ شركاءنا في الكالم معنا. يصيرون هم داخلنا ونصير داخلهم حتى إذا حاو رنا أنفسنا حاورناهم. هذه وظيفة فكري ة للكالم الداخلي بق در ما إن التفكير»حوار مع النفس«بحسب حن ة آرندت تأسيس ا على أفالطون )ناقشت متحفظ ا تصو ر التفكير عند آرندت في»أصوات الغائبين: أفكار إلصالح التفكير«(. فشل الف كر قد يتول د عن فشل الكالم المتاح إما لف قره أو لف يض التجربة عنه. م ن ي شرع في التعبير هو شخص بتصر فه مخزون كالمي قد ال يالئم ما خ ب ر من تجارب. وال أعني بالمخزون الكالمي م عجمنا من الكلمات المفردة بل الطرق الكالمي ة لتمثيل التجربة من مفردات وتعابير وأمثال وشروح وقصص مختلفة باختالف السياقات ت ستحض ر عند الحاجة. الكالم بهذا المعنى ي قيم عالقة لنا بغيرنا كما ي قيم عالقة لنا بأنفسنا. وهذا بق در ما إن ه ال تفكير بال كلمات وال كلمات دون م كل مين جماعة. يقيم الكالم على هذا النحو استمرارية بين التفكير واالجتماع بحيث يكون التفكير اجتماع نا بأنفسنا وتآمرنا مع أنفسنا واالجتماع تفكيرنا وتآمرنا مع غيرنا. وفي هذا ما يقيم 192

193 استمرار ا بين وظيفة الكالم الفكري ة ووظيفته اإلقناعي ة فما يمكن أن ي قن ع الغير هو كالم جر ى ت دب ره في النفس وما نتدبره في أنفسنا ن بنيه من تفاعالتنا مع غيرنا. العنف والبكاءفي الكالم نحن في وضع حواري قد ال يخلو من انفعال لكن ال يستمر الكالم إال بق در ما يبقى االنفعال منضبط ا. حين يفلت من السيطرة إن نحو العنف أو البكاء ينحل الكالم نفسه فيهما وقد يزول تمام ا. في العنف نحن في وضع م تشن ج نطر د التعد د من داخلنا وال نحاور أنفسنا أو نفك ر. التفكير والعنف ال يجتمعان مع ا. الجال د ال»يأخذ صفنة«وهو يعذ ب ضحيته. في جوهره التعذيب وضع مضاد للتفكير ومضاد للنقاش. وهو ليس جزاء على نقاش فش ل فمن ي عذ ب يفعل ألنه يملك القو ة وال يخشى العواقب وال يحتاج إلى إقناع غيره. بالعكس نعلم م ن تجربتنا السوري ة أن هناك تعذيب ا ألنه ليس هناك نقاش أو إقناع. م ن ي عذ بون ال يفكرون بأنفسهم كمجتمع مع م ن يجري تعذيبهم يتبادلون معهم النظرات واالبتسامات والخدمات واألشياء وقبل كل شيء الكلمات. لقد ترق ت سوريا إلى دولة تعذيب في ارتباط مباشر وقوي مع م نع النقاش العام وما يقتضيه ذلك من تعبير الناس عن أفكارهم ومشاعرهم ون ي اتهم وكذلك مع تراجع وزن اإلقناع واالقتناع في السياسة. ويبدو األمر أقرب إلى قاعدة عامة فحيث هناك نقاش عام علني ي طو ر عدد أكبر من األفراد تفكير ا شخصي ا ويتشك ل مجتمع نش ط وينمو الب عد اإلقناعي في السياسة وتنحس ر ممارسة التعذيب. وبالعكس كان التعذيب مزدهر ا في مجتمعات انحسرت فيها ساحات النقاش والكالم الح ر. 193

194 وغير التعذيب م ن هو في وضعية قتال ال يتوق ف للتفكير بينما هو يقاتل. كأنما في القتال يجري ط رد الفجوات في داخل المقاتل يتصل ب نفس ا وجسد ا ويتوق ف حواره الداخلي. وكأن توق ف الكالم مع الغير في الحرب ي ثم ر توق فه مع النفس توق ف التفكير ذاته. وهذا باب للشر وفق ا لحن ة آرندت التي ت رج ع الشر إلى انعدام التفكير وتآكل الضمير الذي هو نتاج للتفكير بحسب المنظ رة المرموقة. من شأن تعميم حالة الحرب أو االستنفار الحربي عبر حالة استثناء مديدة أن يوقف التفكير في فضي إلى ضمور الضمير وإلى شرور كثيرة. أم ا في البكاء فنحن بالعكس في وضع شبه سي ال ونفقد كل صالبة ونسيل إلى خارجنا من الموقع الذي نطل فيه على الخارج عيوننا. يحصل أن نفقد السيطرة على أنفسنا فكأن أحد ا آخر يتحك م بنا. كأن نا غيرنا. والواقع أن ه في العنف الفردي كذلك قد يفقد المرء السيطرة على نفسه ي سل م نفسه لن وبة من الغضب والتحطيم تطال األشياء وربما األشخاص. فكأن الكلمات هي أدوات التحك م بالنفس فيما البكاء والعنف م جل يان لف قد التحكم. وهو ما ي سو غ منذ اآلن تزكية استثمار أكبر في الكلمات التي هي أدوات»العقل«. والعقل هو ما ي فترض أن ه موقع التحك م بأفعالنا وأنفسنا. وحين نصم ت ونموت في عزلة فربما ألن نا نج ف من الداخل ونكف عن السيالن إلى الخارج أي ألن الدموع تفشل كذلك وليس الكلمات وحدها. وربما كذلك ألننا نفشل في توجيه العنف نحو الخارج أو ال نحوز نفاذ ا نحو وسائله المؤث رة. ولعل هذا المصير أشي ع مما يبدو بخاص ة في عوالمنا الجريحة الم ستت رة والمحرومة من الكالم. 194

195 وبينما قد نبكي في عزلة أو نميل ألن ال ن رى ونحن نبكي فإن البكاء ف عل اجتماعي من حيث البواعث متصل بتفاعالت اجتماعي ة قاهرة وليس بحال من شؤون النفس الفردي ة. نبكي تعبير ا عن القهر أو الحزن أو األلم. وتشير كلمة الع ب رة والع ب رات العربية إلى صفة عابرة للدموع صفة م عب رة واجتماعي ة وإن بطريقة مختلفة عن الع بارات. الدموع ت خف ف اختناقنا تغسل همومنا فت صلح عالقتنا بأنفسنا. فكأن ها ضرب من التفكير وهذا بق در ما إن نا في التفكير نحاور أنفسنا وقد نتفاهم معها. ولعل ه تبكي النساء أكثر من الرجال في مجتمعاتنا ألنهن محرومات من الكالم أكثر من الرجال إن على مستوى األسرة أو على المستوى العام. ثم إن العنف الجسدي وما ب ن ي عليه من فنون حربي ة ورياضات طو رها الرجال ليس مم ا تحوز النساء فيه أفضلي ة. وال ريب أنهن يبكين أقل في مجتمعات يتكل من فيها أكثر. ثم إن ه يبدو أن نا الرجال الذين تدربنا على كبح انفعاالتنا ومنها بخاص ة البكاء أسخى دموع ا اليوم. وهذا في ارتباط م رج ح في تصو ري مع فشل كلماتنا أمام تجاربنا وتطور صور للرجولة أقل عضلي ة وأكثر أنثوي ة.... والمجتمع من فشل الكلمات إذ ا قد ننتقل إلى العنف أو إلى البكاء. الشرط الذي يؤدي إلى واحد منهما يؤدي إلى اآلخر. في العنف تنقط ع الرابطة االجتماعي ة وفي البكاء يجري االنسحاب منها واالنكفاء على النفس. لكن هذا ال ينفي عن العنف صفة اجتماعي ة مثلما ال ينفيها عن البكاء. قد نتكل م على مجتمع أو م ت ح د سياسي polity حزين حين يكون البكاء التعبير بالدموع 195

196 ممارسة م نتشرة شرط ا اجتماعي ا بالمعنى الواسع للكلمة الذي يشمل السياسي. ورب ما نتكل م على مجتمع أو م ت ح د عنيف حين يكون العنف بما فيه التعذيب شرط ا اجتماعي ا سياسي ا. فشل الكلمات خطير العواقب على ما هو ظاهر. المجتمعات التي تتكل م أقل يمكن أن ينفجر فيها العنف أكثر وتكون أكثر حزن ا وبكاء. وفي زمننا يغلب أن يكون شرط المجتمع الذي ال يتكل م هو الوجه اآلخر لشرط الدولة التي تتكلم وحدها أو التي تحتكر الكالم»الشرعي» فوق احتكارها للعنف. ج مع الدولة بين احتكار الكالم واحتكار العنف ي لغي الشرعي ة عن العنف الم حتك ر بأثر تعطيل الصفة اإلقناعي ة للكالم التي هي مدار الشرعية. في كل حال البكاء والعنف كما الكالم أفعال اجتماعي ة وسياسي ة ال ت فه م خارج هذا الشرط األساسي. على أنه ال يتعي ن التفكير في الصفة االجتماعية للدموع والعنف وللكلمات بطبيعة الحال في تقاب ل مع أجسادنا وتكوينها واستعداداتها من صنف التقابل بين الثقافة والطبيعة. الواقع أن الصفة االجتماعي ة لكل من الكالم والعنف والبكاء مؤس سة على تكوين الجسم البشري. فالكالم ي مي زنا تطو ر ي ا عن غيرنا من الكائنات الحية. لدينا نظام إشاري مجرد ن نفرد به عن غيرنا من األحياء هو اللغة.»العقل«هو نتاج هذا النظام اإلشاري. ويبدو أن نا ن نفرد بالدموع كتعبير عن االنفعاالت أيض ا وهو ما ي شج ع من وجه آخر على التقريب بين الدموع واألفكار وعلى تصو ر أن الدموع ضرب من الرؤية. على أن نا نشارك أحياء أخرى العضالت التي نتوس ل ها في العنف وفي الهرب من العنف. نحن في المجتمع بأجسادنا التي تفك ر وتبكي تضرب وتهرب 196

197 ونحن مع أنفسنا بأجسادنا. ال يبدو أن لنا أنفس ا مستقل ة عن أجسادنا واجتماع ي تنا. صحيح أن نا ال نوجد مع أنفسنا إال بف عل وجودنا في مجتمع أو أن الفرد م كو ن من مجتمع/مجتمعات أكثر مما يتكو ن المجتمع من أفراد سابقين في وجودهم عليه لكن نا ال نكو ن أفراد ا بغير شعور أجسادنا أو تجربتها. ويمكن أن ن بني على ما تقد م أن نا حين نخسر ما ي مي زنا من كلمات عن شركائنا من الحيوانات ومن دموع نستقر على ما يجمعنا بها من عمل العضالت. كيف تفشل الكلمات يفترض المرء أن كلماتنا وإن لم تكن م صم مة في أحسن صورة للتعبير عن العالم حولنا وأن تجاربنا وإن لم تكن م صم مة لتنحل في كلماتنا دون باق فإن تشك ل هما مع ا الكلمات والتجارب كوجهين لوجودنا في العالم يؤس س لعالم من التجارب/ الكلمات ال توجد فيه التجارب دون كلمات ت خز نها وت سه ل عبر الذاكرة التعامل مع تجارب الحقة وال توجد الكلمات إال بق در ما ت ت م ف ص ل مع تجارب وت صوغ ها في تعبيرات تقبل التداول ت عبر منا إلى غيرنا. نعم لكن التطابق بين الكلمات والتجارب ينكسر حين ن منع من الكالم أو حين تكون التجارب م هولة وغير مسبوقة تتحد ى مخزوننا الكالمي فال ي ستجاب لها بكفاءة أي حين يحدث ما ال يقبل التعبير. إذ قد تبلغ التجارب من الشد ة بحيث تكسر الكلمات فيما تكسر. وهذه من خبراتنا المتكر رة في سنوات الثورة السوري ة: نشعر أن كلماتنا تقف عاجزة أمام ما يحدث فإم ا نصمت ألن»الحكي ما بيفيد«أو ن ثابر على الكالم فتق ل طاقة الكلمات على حمل معنى 197

198 أو توليد معنى للتجارب المهولة الجديدة. ثم إن ه ينكسر التطابق بين الكلمات والتجارب حين تتند ب نفوسنا بف عل تكر ر ج راح التجربة ورضوضها فننعكف على أنفسنا ونفقد القدرة على امتالك كلمات جديدة واالستجابة الفاعلة لتجارب جديدة. مثل الن دوب الجسدي ة التي ت غلق مكان الجرح الندوب النفسي ة تحمي من جرح أو رض ة جديدة لكن ها في الوقت نفسه ت قل ل حساسيتنا حيال ما يجري حولنا. فكأن مساحة تفاعلنا مع العالم مساحة لقاء التجارب والكلمات تتقل ص ألن ه سبق أن ورد تنا اآلالم من هذه المساحة أو كأن نا ننسحب من العالم ألنه جارح ومؤذ. النفس الم تن د بة هي نفس جريحة أو مرضوضة قد تموت بحسرتها أي دون عالج لجروحها. وهذا أكثر من شائع في تصو ري بل لعل ه القاعدة. وهو يعطي وجاهة كبيرة لقول المتنبي إن»الموت نوع من القتل«. كلنا م ي تون لكن ال يبدو أن أحد ا منا يموت بسالم وال يبدو إال أن نا نموت مكلومين م صابين. هذا غير أن من شأن تواتر ن دوبنا النفسي ة وتصل بها أن ي حو لها إلى دروع ت غلق النفس ولها أثر خانق. وقد تنقلب النفس الم تن د بة الم در عة إلى م در عة م فخ خة م هي ئة ألن تنفجر بعنف. على الخريطة النفسي ة إن جاز التعبير ربما تقع النفس الجريحة المقهورة التي فقدت الكالم والدموع والعنف والنفس الم فخ خة التي تنفجر ألنها محرومة من الكالم ومن وسائل عنف مؤثرة في م وقعين متجاورين فال يمتنع التحو ل من واحدة منهما إلى األخرى. إن صح ت هذه التقديرات فإن األفراد والجماعات والمجتمعات في أشد الحاجة إلى العناية بالكلمات واالستثمار في الكالم. المجتمعات العنيفة والمجتمعات الحزينة هي مجتمعات تعط ل الكالم فيها 198

199 سواء بم نعه أو بتجم ده على أحوال ت عط ل قدرته على التعبير بف عل هول التجارب. فبما أن الكلمات أدواتنا في التعبير وفي التفاهم مع غيرنا أي في السياسة كذلك فإن من شأن العناية بالكلمات وتطويرها وإدخال كلمات جديدة وص نع روابط مغايرة بين الكلمات أن يكون نهج ا حيوي ا لتجن ب العنف والحزن. قد يمكن التفكير في المجتمعات الغربي ة المعاصرة بأن ه اعت ن ي فيها بالكالم عناية مميزة بوظائفه الفكري ة واإلقناعي ة مع ا ما أتاح التقليل من مستوى العنف فيها وأن تكون مجتمعات أقل حزن ا من غيرها. قوال ب وقواقع ت عط ل التعبير يتول د عن المنع لكن يمكن أن ينجم كذلك عن اختناق التعبير بأثر قوالب كالمية ت فر ض على التجربة فتثلم حد ها وتترك تحد يها دون استجابة فت غني عن خلق التعبير أو اإلبداع. على هذا النحو شرح عبد الله العروي آلية الت سن ن أو صنع التقليد في كتابه السن ة واإلصالح )الذي كانت اإلشارة إليه في الفصل السابق(. أ ذك ر بتحليل العروي ليس لتماث ل بنيوي بين»الت سن ن«وبين إخماد الفاعلي ة التجديدي ة للتجارب المغايرة بقوالب كالمية غير نوعي ة ولكن كذلك لإلشارة إلى المصدر الديني لغير قليل من القوالب الكالمي ة في تداولنا. حيال تجارب الف قد وحتى الفظيع منه نتوس ل عبارات من نوع: ال حول وال قوة إال بالله حسبي الله ونعم الوكيل إنا لله وإن ا إليه راجعون... ما لدينا هنا هو تمثيالت غير تجريبي ة ت ضاف إلى ما تقد م ذكره من تجارب غير م مث لة. والستجاباتنا الم حد دة إيديولوجي ا للكثير من تجاربنا أثر م شاب ه غير نوعي لهذه التجارب. ما يجمع بين المعتقدات المختلفة هو إضعافها الوظيفي ة التعبيري ة للكالم 199

200 من حيث إن التعبير هو العالقة بين التجارب والكلمات. فم ن يتكل م هنا ليس نحن الج رحى الم ذهولون بل العقيدة الدين أو المذهب أو المنهج السابقة للتجارب. ما ي دخ ل عقائدنا اليوم في أزمة هو قو ة التجارب وقسوتها واشتداد الشعور بفشل تعبيراتنا المألوفة. ولعل القوالب الكالمي ة والفكري ة الدينية منها وغير الدينية وليدة اختناق ونفس جمعي ة م تن د بة تحتمي مما ال ي عب ر عنه من هول بتعابير/ قواقع تساعد على التحم ل لكن ال تحمي من التجارب. هذا شكل من اإلنساني ة نجد أنفسنا في السياق السوري في موقع متناقض حياله اليوم. فهو من جهة أ ول ى ي منع من االشتباك مع التجربة ومن العمل على توليد معان ح ي ة منها أي بناء فكرنا وثقافتنا على تجاربنا الم عاش ة بما ي حس ن ف رصنا في بقاء نش ط لكن من جهة ثانية تبدو حاجة االحتماء بالغة القو ة اليوم ويبدو نازع الت قوق ع أقوى من النازع المعاكس فكأننا نعر ض أنفسنا لمزيد من األذى إن خرجنا إلى العالم بدون حمايات م جر بة. بيد أن هذه الحمايات ال تحمي في واقع األمر. وأزمة االنكشاف ت حر ض باألحرى على كسر القواقع وشق دروب مغايرة للتعبير. التعبير والتشكيل في المقالة السابقة»الكلوم والكلمات: في تمثيل األزمات وأزمة التمثيل«عملت على إظهار أن التمثيل هو مساحة تقاطع التعبير الذي يربط بين التجارب واألفكار )أو بين المعاناة والمعاني أو في هذا السياق المخصوص بين الع ب رات والع بارات( وبين التشكيل الذي يوف ره لنا التراث وكل المتاح اإلنساني من أشكال إلخراج تعبيرنا اجتماعي ا. لدينا اليوم أزمة 200

201 تمثيل بف عل تالقي أزمة في التعبير مت صلة بهول التجارب وبت ند ب النفوس م عز زين بالمنع أو قمع حري ة التعبير بأزمة في التشكيل. ت عط ل الكالم بفضل فقر أو جمود قوالب كالم وتفكير موروثة هو من نوع ت عط ل التشكيل أي تراجع م الءمة الموروث المتاح للتجارب الم عاشة. أما الحظر النش ط للكالم فهو يمس التعبير أساس ا الربط بين التجارب واألفكار وهذا بف عل الصفة السياسي ة جد ا للتجارب والم نبت السياسي ألشد صور المعاناة قسوة وعموم ا. ولم ا كانت أشد تجاربنا هوال هي تجارب سياسية كذلك فإنها تتحدى التعبير أوال وليس التشكيل. وال تبدو العالقة بين أشكال اإلخماد الديني واإليديولوجي للتعبير وحظره السياسي عالقة بر ان ي ة بين ظاهرتين منفصلتين. يمكن التساؤل عم ا إذا كانت القوالب الموروثة تستمر بف عل غريزة بقاء تخص ها رغم عدم مالءمتها أو ال تجريب ي تها أم أن تالقي هول التجارب مع حظر التعبير يضائل إلى أقصى حد ف رص تول د كالم أكثر تجريبية ومالءمة وداللة في زك ي الموروث المعروف للعموم من كالم غير شخصي. بعبارة أخرى نتوس ل الكليشيهات في تعبيرنا ليس ألنها غير تجريبي ة وال تدل بل بالضبط ألن ها غير تجريبية حين تكون التجارب ساحقة وال تطاق. أي ال يمكن أن ي مث لها شيء أو ال ت قبل التمثيل. الم هول الذي يتحد ى الكلمات ويهزمها يلوذ بقوالب الكالم وعاداته المألوفة. وقد يمكن التفكير في حالنا السوري ة من هذا المدخل. فتجاربنا طوال نحو عقد هي تجارب قاسية ق صوى تحد ت طوال السنوات الماضية م تاحنا اللغوي والتعبيري ووقف هذا أمامها عاجز ا بقدر كبير. وهذا على خلفي ة حظر كالمي وفقر تعبيري أطول أمد ا. ال كالم هنا يمكن أن يكون مالئم ا أو م عب ر ا. وهذا يلعب لصالح الصيغ 201

202 الم ق ول بة مثل الح وق لة والح سب لة ومثل نظري ات المؤامرة. فإن كان لنا أن نقاوم أن»نطق» ونتحل ل وليسا بالمستبعدين في كيان سياسي حزين وم عن ف فال بد من ثورة تعبيري ة إن جاز التعبير ت تيح لنا التعبير عم ا ال يمكن التعبير عنه اليوم. أو باألصح ثورة في التمثيل في إنتاج المعاني وترجمة التجارب إلى أفكار كما في تطو ر األشكال وتنوعها. فإذا كانت تلتقي في ش رطنا اليوم تجارب غير م مث لة )هول فظاعة جروح عميقة( بتمثيالت غير تجريبي ة )قوالب كالم كليشيهات( أي مشكالت التعبير والتشكيل فإن مضمون الثورة التمثيلي ة هو تجاوز هذا الشرط والتقريب بين تجاربنا وتعبيراتنا واالشتباك مع ف رادتها وم مانعتها الجوهري ة للتمثيل. وفي الوقت نفسه ثورة في التشكيل وإنشاء ط رق جديدة للكالم. والواقع أن ه ليس هناك تجارب ت منح نفسها للتعبير والتشكيل طائعة وأن األصل في التجارب هو امت ناعها على التمثيل أو أن ه في البدء ثم ة فشل الكلمات وأن كالمنا وتفكيرنا وثقافتنا هو اشتباك مع ما ال ي عب ر عنه وال يقبل التشكيل مع ما ال يمكن تمثيله وهو اعتناء بالكلمات كي تعني أي كي ال تفشل. فنجاح الكلمات هو أن تعني. وامتناع تمثيل التجارب يعني أن نا ال ن مث لها إال بأن نخلقها هي ذاتها وأن التجارب قبل خلقنا/ تمثيلنا لها تكون غمام ا شيئ ا ال شكل له وال ي عب ر عنه. تموت التجارب التي ال ت مث ل عبر الصراع مع امتناعها على التمثيل التي ال ن مث لها إال بأن نخلقها فت مث لنا. في كل حال التمثيل ليس شيئ ا كمالي ا. فبما هو اشتباك مع العالم وترميز له فإن ه إنتاج ل»علم«ي عين على الرسوخ في العالم 202

203 ويجعل من جراح االشتباك ذاتها منابع للمعنى. تمس الحاجة إلى ثورة في المعاني بفعل ما حدث من»ثورة«في المعاناة ك م ا ونوع ا وش د ة. الماليين تعر ضوا لتجارب جارحة مختلفة عن مألوف أكثرهم وخالل زمن قصير نسبي ا لم ت تح لهم فرص لالستعداد والتكي ف. نخسر إن تغل ب لدينا مرة أخرى نازع االحتماء والتقوقع على واجب الخروج وإن مع معاناة لسعات الوجود الم نكش ف. أو ل ما يلزمنا اليوم هو الشجاعة في التعبير. وتبدو العوائق دون ثورة تمثيلية أقل صعوبة في الشتات بف عل زوال القيود العام ة أمام التعبير وعدم االضطرار لممارسة رقابة ذاتي ة وتوف ر المسافة التي ت تيح إعادة خلق التجربة أو إنشاءها ثم بف عل ما يتاح من احتكاك بلغات وأدوات وأساليب تعبير م غايرة في مجتمعات اللجوء السوري. أي توس ع التراث المتاح. والدة التعبير وح ر يته فيما تقد م ما يتيح مقاربة مسألة حري ة التعبير من مدخل مغاير. حين نتكل م على حر ي ة التعبير ينصرف تركيزنا عادة إلى كلمة حر ي ة وإلى العوائق العام ة السياسي ة والديني ة واالجتماعي ة التي ت حول دون أن ي عب ر الناس عن أفكارهم وآرائهم ومعتقداتهم بحر ي ة. نفترض أن لدينا أفكار ا وآراء ومعتقدات تحول دون التعبير عنها عوائق خارجي ة قمع سلطة ما فال نتكل م على فشل الكلمات أو فشل التعبير الذي يتول د عن هول التجربة أو عن ت ند ب النفوس الذي ت سب به الجروح والر ض ات النفسي ة الفردي ة والجماعي ة وال عن العيش في عزلة بسبب الت ند ب. فشل الكلمات ال يأخذ حتم ا شكل الصمت عن الكالم لكن رب ما شك ل الصمت عن المعنى إن جاز التعبير. وهذا هو المقصود بالكلمات القوالب 203

204 أو الكليشيهات. فإذا كان الجرح هو النافذة التي يدخل منها النور إلى نفوسنا بحسب صيغة بديعة لجالل الدين الرومي فإن جراح ا ت ند بت ت حول دون دخول النور. يمكن أن نفك ر بالجرح كفقد مؤلم كمعاناة قاسية وبالنور بوصفه الفكرة التي نستولدها من التجربة/ الجرح أو المعنى الذي نستخرجه من المعاناة. ولعل هم ليسوا ق ل ة م ن يدخل إليهم النور من ج راحهم ال يقتصر األمر بحال على ك ت اب وفن انين م كر سين. الثقافة الشعبي ة وربما في»مناسينا«المكبوتة أكثر من غيرها هي نور دخل من جراح عموم الناس. والمسألة على ما يظهر أوثق صلة هنا بوالدة التعبير وموته منها بح ر يته وق معه بامتناعه منها بم نعه. فإذا تعز ز االمتناع الم تول د من هول التجارب وت ند ب النفوس بالمنع والقمع حص لنا على أزمة تعبيري ة على ضرب من الع ي االجتماعي أعتقد أن نا عرفنا طور ا متقد م ا منه بين أواسط ثمانينيات القرن العشرين ونهايته وهذا مع بقائنا طوال الوقت حت ى الثورة في ع ي نسبي. في العقد السابق للثورة أخذت تتوف ر شهادات عن الهول ضمن»أدب السجون«بخاص ة لكن لم ي جر التفكير في األزمة التعبيري ة والتمثيلي ة في ع ي نا العام. وال نزال في تصو ري نجد أنفسنا في افتقار متفاوت إلى اللغة إلى الكلمات والتعابير غير الم مضوغة التي ت سع ف في تعبير تجارب الهول وتمثيلها. ومن أوجه امتناع الكالم فيما يت صل بإشاعة سوء استخدام الكلمات مما كان وال يزال جهاز ح كم في سوريا. أعني احتكار الكالم الصحيح عبر وسائل إعالم م سيط ر عليها وإحالل الكليشيهات والص يغ الم ق ول بة محل النقاش والتعبير عن التجارب الفعلي ة 204

205 ونشر مناخ من التشك ك في كل ما يقال من كالم مستقل. هذا فضال عن تعميم السباب والبذاءة اللفظية في الحياة اليومي ة من ق ب ل وكالء النظام والم والين له كشكل بطريركي من أشكال التعبير عن الفحولة والسؤدد. يرتد الكالم هنا إلى فعل عضلي تقوم به عضلة خاص ة هي الل سان. وحين ال يكون هذا الفعل الل ساني عنف ا لفظي ا ملحق ا بالعنف الجسدي كما في وضعي ات التعذيب فإن التعس ف وفقدان المعنى أو الال م فهومي ة هو خاص يته. يتعد ى األمر سوء استخدام الكلمات إلى سوء معاملتها تعذيبها في الواقع مثلما يجري تعذيب الناس وانهيارها مثلما يحدث أن يقع لم ن يتعر ضون للتعذيب من الناس. ال يكاد يكون ثم ة كلمات لم ت عذ ب وت نهر في سوريا األسد: الوطن الحر ي ة االشتراكي ة الدولة الديمقراطي ة الوحدة الوطني ة األمن اإلعالم... وهذا من أوج ه التدمير االجتماعي خالل خمسين عام ا التي لم تنل االهتمام المستحق. تنهار الكلمات بأن تفقد معناها. المعنى ال يربط الكلمات بالتجارب فقط ولكن المتكل مين ببعضهم أي هو مرفق اجتماعي. نعتني بالكلمات كي تعني فتعتني بنا. كي نصير مجتمع ا. يبقى والدة التعبير وموته مشروطين سياسي ا مثلها مثل حر ية التعبير وقمعه في تجربتنا المعاصرة. فليس بالمنع المباشر فقط يتحك م الطغيان بالتعبير وإن ما كذلك بتحطيم القدرة على الكالم بإحداث تجارب ال ت وص ف وال ي عب ر عنها. بل لعل النجاح في إنتاج م ن ال يستطيعون الكالم أو ال يقولون غير كالم ركيك ال يعني هو المثل األعلى للطغيان الحديث. ولذلك فإن خلق الكالم وتوليده والعمل على تمثيل ما ال ي مث ل أي»اإلبداع«هو فعل مقاومة سياسي ة. من شأن ثورة في التعبير أي نقلة نوعي ة في تمثيل تجاربنا أن 205

206 تضعنا في موقع أفضل بكثير من أجل حر ي ة التعبير. نحتاج إلى تحر ر قدرتنا على التعبير كي نقاوم بكفاءة أكبر القيود الخارجي ة على التعبير. وأن ن وس ع الكالم المتاح لنكون في وضع أفضل للعمل من أجل توسيع المباح منه. من شأن زوال هذه العوائق الخارجي ة بالمقابل أن يساعد كثير ا في فتح ط رق سالكة بين التجارب واألفكار لكنه ال يضمن بحد ذاته تشكيال ألفكارنا في ص ور تخاطب المزيد من الناس. الثورة هي ثورة على الم ستوي ين: التعبير والتشكيل االشتباك مع التجارب الجديدة الهائلة وغير المسبوقة ثم توس ع األشكال المتاحة مع توس ع التراث لي شمل المتاح في ثقافات أخرى وبل غات أخرى. مجتمع كالم هل يمكن تصو ر أوضاع ت ح ل فيها مشكالت التعبير والتشكيل وت عاص ر فيه ثقافتنا مشكالتنا وتستجيب لما يعانيه اجتماعنا من توت رات وصراعات هل يمكن لالجتماع البشري أن يكون ناطق ا يدير شؤونه ويعالج مشكالته بالكالم فيستبعد ك لي ا أو بقدر كبير شرط المجتمع الباكي و/أو العنيف ال يبدو أن التاريخ المعروف يوفر أمثلة على ذلك وإن تكن المجتمعات متفاوتة في عنفها وحزنها بما يعني أن حزن ا أقل وعنف ا أقل ممكنان دوم ا. وكما سبقت اإلشارة فإنه يبدو أن الثقة بالكالم أو االعتماد الواسع على الكالم في تشخيص المشكالت ومعالجتها يتوافق مع آالم سياسي ة أقل. هناك آالم وجودي ة تت صل بخاصة بخبرة الموت موت القريب والحبيب ال سبيل إلى تجن بها لكن حت ى حيال هذا ال»نوع من القتل«يمكن للكلمات السديدة أن تساعد. ولعل في ذلك ما ي حف ز على التفكير في آالم الوجود كآالم سياسي ة هي األخرى. 206

207 تعبير: الكلمات والعنف والدموع 207

208 208

209 عرفان ع رفان كتبت نصف مواد هذا الكتاب في برلين وقت كنت زميال في»فسنشافتس كولغ تسو برلين«))) معهد الدراسات المتقد مة في العاصمة األلمانية بين 2017 و لقد أ تيحت لي هناك خالل عامين فرصة ممتازة للقراءة والكتابة وتبادل األفكار تتجاوز قدرة أي كان على االستفادة الكاملة منها. أنا ممتن كل االمتنان على هذه الفرصة الثمينة بالفعل. وكانت نصف المواد ك تبت في إسطنبول التي أقمت فيها بين مطلع تشرين الثاني 2013 بعد بضعة أسابيع من مغادرة بلدي وأواخر صيف لقد نشرت هذه الفصول كمقاالت في مجلة الجمهورية اإللكتروني ة التي كنت من مؤس سيها في ربيع 2012 وي ديرها ويعمل على تطويرها واستمرارها منذ سنوات زميالت وزمالء شب ان مستح ق ون بدورهم لكل االمتنان. لقد أ ضيف إلى النصوص وح ذف منها عند تحريرها للنشر في كتاب وأ عيد ت هيكلتها بقدر متفاوت فهي هنا بمثابة طبعات ثانية»مزيدة ومنق حة«. Wissenschftskolleg zu Berlin ))) المقصود: 209

210 ليس لدي أسباب شخصية للشكوى في الحاضرة األلماني ة وما كانت لدي في الحاضرة التركي ة قبلها ولكن ليس ل ال جئ ما هو شخصي منفصل عما هو سياسي وبخاصة إن كانت أسباب الغضب السياسي ة قد أخذت شكال بالغ الشخصية منذ 2013 العام الفظيع الذي شهد خ طف امرأتي سميرة الخليل في دوما وتغي يبها وقبلها أخي فراس وبينهما ومعهما خروجي مضطر ا من الر قة إلى تركيا. تقط عت بنا الس بل وتفر ق شملنا في صورة بالغة القسوة ووخيمة العواقب وال تقبل السلوان. إن كانت هذه التجربة الطاحنة جزء ا من المصاب الس وري العام فإن ها تحوز قيمة تمثيلي ة ضمنه ليس بوصفها قطعة متوس طة من هذا الصراع األليم ولكن ألن ها نموذج من األشد تطرف ا وكثافة من القسوة والوحشي ة التي عرفها صراعنا. بصورة ما القص ة الرهيبة تمثيلي ة ألن ها ليست تمثيلي ة أو باألحرى ألن ها ت حو ر تصو ر التمثيل ذاته تنقله من الو سطي إلى األقصى ومن المثال غير الحصري إلى المثال الذي ي حصر وي ستبعد. وأن ال أستطيع وال يستطيع أحد رواية القص ة كاملة إلى اليوم بعد ما يقترب من سبع سنوات فهو مما ي عز ز التمثيلي ة الخال قة للقص ة وي ضفي عليها ب عد ا من السر والسحر. ال أستطيع القول ما إذا كانت هذه النصوص ل ت ول د لوال غياب سميرة. لكن ال ريب أن لوعة غيابها هي ما تبث في هذه النصوص ن ف س ا من االست ماتة التي تتمازج فيها الحياة والموت وبالقدر نفسه اليأس واألمل. ممتن في النهاية للقمان سليم وفريقه من بعده الذي اعتنى قبل اغتياله بكتابي. لقمان شاهد على الفظيع وما قتله الحقود إال برهان ا على فاعلي ة التمثيل وقو ة الكلمات. هذا الكتاب يراهن على قو ة الكلمات في مواجهة كاتمي الصوت. 210

211 211

212