1

النسخ

1 1

2 2 رواية مناهل الغمام ريمه عبد الإله الخاني

3 3

4 4 اإلهداء: إلى كل األصيالت اللواتي لم يتزحزحن عن التمسك بقيمهن التي آمن بها.. وإلى كل من عرف طريق الهدى فمضى فيه واثقا... وإلى كل من أحب الوطن.. وكل من استعصى عن يد الغدر والخيانة.. 1 أهدي روايتي هذه.. ريمه 1 الموافقة في نشرت عام الحقوق محفوظة.

5 5 تقديم: عندما ينبض حب الوطن في القلوب تنبت فيها لم تكن "أصيلة" حولنا وفي كل بطلة الرواية شخصية واقعية مكان فهي الفتاة والم أرة أو ارقا خض ارء تشدنا إلى األصالة.. من لحم ودم لكنها في مسار الحياة يمكن أن نجدها واألم.. وهي أيضا هرم من المشاعر واألحاسيس وحتى من كان يدور في فلكها من شخصيات أخرى فهم أيضا في مسار الحياة متواجدون بصفاتهم وأخالقهم.. لقد فرضت "صنعة" الرواية أن يختلط الواقعي بالمتخيل وأن تجنح في كل حال للتعبير عن مشاعر الم أرة وظروفها وفرحها ومعاناتها ثم ص ارعها مع الذات ومع اآلخر لتكريس قيمتها المثلى في هذه الحياة. لقد وظ فت من خالل "صنعة الرواية" مجموعة رموز لم تكن مغرقة بالتوصيف بل كانت لحاجة الرواية وقد ال أكون قاصدة ذلك عن عمد بل ف رضت الفكرة نفسها وما أستطيع أن أدركه جيدا أنني وظفت أيضا الرؤية الذاتية والواقع والخيال كي أقد م رسالة.. مع أصدق تمنياتي أن تصل بقي م ها ومدلوالتها الحقيقية إلى القارئ العزيز.

6 6 البداية.. مصيري الغريب لم أكن أتوقع أن أمضي ارضية وعلى خط مستقيم إلى اعتقدت أنني ممزوجة بروح الحياة وعطر الحقيقة! كي أبقى وحيدة بعد أن لن أنسى تلك األو ارق وقد لهثت كي أفتح أس اررها وتلك الرقعة الجلدية التي لم أكن أتوقع مكمن دائي ومصدر متاعبي الصحيح ليتني وربما نسيته في وقت ما, أصابها غبش ما في وقت ما.. أنها فعلت ما كان يجب أن أفعله كنت وحدي من يعرف الطريق ربما كانت حقيقة األمر بعيدة عن تخيلي وخيالي وسأبقى أعيش حاالت تأنيب الضمير وسط قلقي اإلنساني المتعب.! هل خانني وفائي لألمانة التي كنت أعتقد أنني خير من يحملها. أسطر في روايتي هذه آالما إنسانية حقيقة ال يشعر بها إال من كان وسط نارها واكتوى بها. أن أشعر بعد كل أو ربما هذه السنوات بأنني كنت لصيقة أحداث خطيرة لم أستثمرها جيدا وأنني كنت في مرمى أحداث كنت أبحث عنها ورغم توفر كل أدوات الحياة الكريمة بين يدي إال أن ج ارحي بقيت غائرة في العمق تنزف قيحا قبل أن تسيل على الورق... لم أتوقع يوما ما أنه سيأتي إلنقاذي من حاول بشكل غير مباشر أن يلف حبل المشنقة حول رقبتي وحياتي.. و وحدها طفلتي الصغيرة التي كانت تلملم عث ارتي وتعل بها وتجمع شذ ارت حياتي بمحبة خفي ة مضمخة بإشارة استفهام كبيرة تنوء حتى هي بحملها أدهشتني كيف سطرتها بدقة متناهية تفوق ما سط رت ه بم ارحل كبيرة وكأنها كانت تقرؤني طوال هذا الوقت... كنت كأنني يعد يهم كل ذلك اآلن.. أعيش حياة أخرى بين يديها كيف حصل هذا في غفلة عن عيني! لست أدري ولم

7 7 بطلة الرواية /أصيلة تجري أحداث هذه الرواية بين العام 1973 و 2011 تحكي عن قصة فتاة مترفة لم تقدر أن تستغل أدوات حياتها الموفقة االستغالل الحسن كانت تملك من األدوات المناسبة ما يوفر لها ذلك. ويبقى السؤال: كيف تأتي الزالت ثم نقع فيها على الرغم من حرصنا.. هل نتوقع في زيادة الحرص النقيض..! في حين

8 8 بداية حارقة أغلقت والدتي الهاتف وهي تصرخ باكية: كان هللا في عونك يا أم فارس هرعت إليها متسائلة بلهفة: ماذا هناك يا أمي لقد مات فارس في حادث سيارة بعد أن أصر صديقه على قيادة سيارة والده خفية... ال حول وال قوة إال باهلل ولكن كيف حدث ذلك ال وقت للشرح يا أصيلة سوف أخرج اآلن أل ارها كان هللا في عونها. سآتي معك.. صرخت أمي في وجهي كما لم تصرخ من قبل: كفي عن فضولك اآلن يا أصيلة ال مجال للنقاش امكثي هنا أقول لك ألستطلع األمر.. كالعادة سرحت في مساحات خيالي أجتر مائة سؤال وسؤال وأمرر فضولي على ميادين األحداث وأردد في سري وعلني احتماالت غبية وكأنني أعلل وأبحث وحدي كمحقق لم ي عط بعد اإلذن بالشروع بمهمة التحقيق أطرح وحدي سؤاال وأجيب وحدي كذلك: أصيلة اجلسي.. ما بك. علي أن ألحق بوالدتي يجب أن ألحق بها.! انصرف أخي محمد عني بنظ ارته واهتمامه وكأنه يعرف مسبقا عنادي وإص ارري, أدا ر بسخرية فوجدتها فرصة سانحة التخاذ ق ارري وحدي.. ارتديت مالبسي على عجل في غفلة من انتباه أخي.. مدمن مشاهدة أفالم الكرتون.. وجهه كانت جارتنا أم فارس تقيم في شق ة بالطابق الثالث ونحن في شقة من الطابق ال اربع وكنت أمي ز صوتها الصداح عند أي قطرة ماء تصيبها من ج ارء تنظيف الشرفة! اليوم كان حزينا جدا كأنه مضى وانقضى.. خرجت الممرضة لتوها وكأننا نسينا كل ما مضى من منزل أم فارس عندما وصلت كانت مرعبة بحق لكن صوتها اآلن خاصة من مفارقات ومن جدل عقيم ومزعج وهي تحمل محفظتها بهدوء ور ازنة وكأنها لم تنتبه لوجود "أم فارس" المفجوعة والمتألمة حرقة وكأنها تروس في آلة حديدية تقوم بعملها وتمضي دون صوت!!

9 9 شاهدتني والدتي فزوت ما بين عينيها غضبا لحضوري المفاجئ فقد كانت تتوقعه لكنني تجاوزت نظ ارتها الغاضبة عن عمد وجلست قريبا منها أرى أم فارس مفت حة عيناها ال ترف مستلقية دون ح ارك في سريرها ثم نادت بهدوء: فارس..فارس.. أين أنت يا ولدي.. أت اره لم يعد بعد كان ابنها فادي توأمه الحقيقي ذو طلعة سم ارء مشرقة لكن وجهه اآلن بدا ا مكفهر وكاسفا حزينا من وقع المفاجأة وغالبا ما كنا نخطئ في ترديد اسمه عندما نناديه مدخل العمارة كيف الفنجان أتناول عندما القهوة كنا صغا ار كالكبار وها حاولت هو اآلن يقدم لنا القهوة ولم االعتذار لكنه أصر بإلحاح جدا ونحن نلعب في أكن اعرف حتى هذه اللحظة أحرجني بخجل واستحياء مستجيبة لنظ ارت بدت لي ودية وخجولة في الوقت نفسه. بعد ثرثرة فاترة عن أحوال السوق وأسعار الودية الممزوجة بمجامالت مصطنعة لفتت نظري نهم بالخروج زجاجة ش ارب كحولي في المطبخ.! كأسرة الخضار والمناخ كما تجري لكن ربما ازد تناولهم لتلك األصناف في هذه الظروف االستثنائية المريبة في هذا الظرف الخاص. واضطرني ألتناول عادة النساء في األحاديث وجعلتني أصيخ السمع باهتمام ولمحت حين كنا كانت مفتوحة وهذا أمر طبيعي بالنسبة لهم من هواجسي هذا ازد وقد عدت مع والدتي إلى ف ارشي الهانئ أعاين كسلي من جديد بعد أن شنفت أذني بتأنيب والدتي الشديد كالعادة مما يفرض علي أن أقوم على تهدئتها بطريقتي وبعد إتمام ترتيب المطبخ وإعداده من جديد للوجبة التالية. الكسل عاد ليتسرب من جديد في أنحاء جسدي أرتفع قليال عن وسادة السرير ألرى صورتي مطبوعة في المرآة المواجهة لي شعري األسود المموج أرتب شعري بسرعة بمشط ال يفارقني إال قليال وعلى الرغم من أن يحسدني عليه كثيرون ممن أعرف إال أنني لست ارضية عنه تماما فهو بوضعه الحالي يجعلني حائرة كيف أنسقه ليبدو أكثر طوال. كنت عاقدة العزم أن أصحو باك ار كي أرتب خ ازنة مالبسي الممتلئة بالفوضى في كل األوقات تقريبا..ولكن عبثا أسهو بين فينة وفينة وتأخذني متاهات أحالم اليقظة بعيدا جدا.. ترى هل ما زلت أحلم أن أكون اسما هاما نعم هو حلمي الكبير الذي لن أتخلى عنه أبدا.. والمعا في يوم من األيام.

10 10 كأنني أريت فارس يقفز من صفحة المرآة ويحملق في وجهي ثم يأخذ بيدي ويجرني بصمت وهدوء إلى ساحة المالكي في دمشق كي يريني ما الذي حدث قبل أيام كان وجهه أمامي كما هو وكأنه أمامي بشحمه ولحمه.. لم أدر معنى حزني لف ارقه نعم لقد حزنت على ف ارقه كيف يأخذه الموت منا فنغرق في الحزن ونحن جي ارن فقط! ربما هو الشعور اإلنساني العام خاصة بالنسبة ألم مثل أم فارس رغم انه كان يسبب لها بين الفينة والفينة مشكالت مع الجي ارن وجي ارن الجي ارن كادت تمتد للحي المجاور هو مشاغب بجدارة وأخته أسما الكبرى فشلت في تخليصه من قسوة روحه االجتماعية التي كادت تودي به إلى التهلكة حيث أن حرصه على نفسه لم يكن حاض ار في كل األوقات وعشوائية حركته وسلوكه كان يصيب أهله بالذهول والحيرة. فجأة.. دوى صوت انفجار عظيم ونحن في دوار ساحة "المالكي" جعلنا نهبا لمفاجأة صاعقة: بابا دم.. وهللا دم.! هذا أبو فارس ابن ال وما الذي جاء به إلينا اآلن نصيب..كله نصيب.. انزلوا واذهبوا إلى الصيدلية لتروا ماذا جرى لمحمد وأنا أسوي األمر هنا مع أبو فارس.. كانت والدتي تتشاءم من صوت كسر األواني الزجاجية جدا فما بالها اآلن صامتة هذا هل كان والغريب في أمرنا أننا في تفسيرها إال نحن فأال سيئا أم لدينا في طوايا النفس مواطن صمت األمور الطارئة غالبا نسجل ردة فعل فريدة وغريبة وألغاز محيرة حتى على أنفسنا ال يملك مفاتيح يتحول األمر فجأة إلى مشادة كالمية تنتهي أخي ار بحل حازم طرحه الشرطي الذي أنهاها بغ ارمة مالية يدفعها "أبو فارس" قب ل بها مكرها وهو يتب رم على الرغم من إص ارره الدفاع عن نفسه مبر ار األسباب في أن والدي هو من ان ازح عن الطريق القويم وكأنه سرح قليال وهو يقود السيارة.. هل تر اني كنت أسرح أنا أيضا في متاهات فكري المتوقد حينها ما أعرفه أن أبو فارس رجل محترم جدا كما يقول والدي, لكن الظروف كانت تضعنا دوما على محك مفاجئ غريب!

11 11 لقد كانت يملك الصامتة أمي دموع تذكرني بأيام غارقة و ارء ضباب عندما كانت تتشاكس مع والدي وتجهل كنه تلك الخالفات ومسبباتها الحقيقية وكل يدافع عن وجهة نظره وكأنه وحده فقط من ناصية الرزين هذا م دهشا.. ما الفكر الصائب.كانت تخرج من غرفتها وكأن شيئا لم يحدث وكنت أعتبر تصرفها كذلك والدي فقد مضى ارضيا بما جرى ولم يكرر الحديث حول هذا الموضوع المزعج عدة غر ازت على جبين أخي وبعض رضوض بسيطة في أجسادنا النحيلة. كان ثمنه أضاء نور الشمس غرفتنا صباحا كانت قوية الفحة منذ الصباح و ارئحة النوم تعج فيها وأخي القابع في سريرة الغريب بدالل يجعني أتساءل بيني وبين نفسي: لماذا لم يهيأ ألخي الوحيد هذا غرفة مستقلة أو سري ار يناسبه وينجيه من النوم على هذه الكنبة الطويلة جافية الحواف في هذا الصالون الفاخر.. مدرجا. ازل صوت والدي يزجي إلينا حكما تربوية أسمعها جيدا وتهبط في مطار فكري وال أجد لها يتحدث مع صديقه بالهاتف: عندما ينتهي دور أي إنسان في حياتك سوف يختفي من تلقاء نفسه بطريقة ما وبقدرة قادر وسيضمر دوره رويدا حتى عبر أج ازء فكرك لن يهم حينها السبب هل هو خالف غريب أم بسبب الظروف الحياتية المتحولة. لنكن على يقين من أنه ال يصح أخي ار إال الصحيح كل شيء في هذا الكون أمي أرى محكم التكوين تصلي اآلن والتلوين, ويضمر حكما خفية, فلماذا نعيها متأخرين, إيمانا وأصلب في الملمات... عالم العقا ارت كما يقول والدي عالم ارئع رغم بقينا نعتمد على وتقوم بواجباتها على أكمل وجه لكنني أجد أنه متقلب جدا أ اره, مردودات الجامعة والوظيفة هذه لمتنا من الجوع يا رجل.. التفت نحوي فجأة وكنت أنصت باهتمام إلى كل كلمة يقولها: أنت بالذات عابرة اعتبري ال نريد أن تصلنا ريح بيني وبيني, أن والدي أقوى يستحق المغامرة واالقتحام لو ما قلته ممسوحا من ذاكرتك أفهمت وهذا فارس ال تكلميه أبدا حتى لو بتحية مشاكله فنحن بغنى عنها إال مع البنات وإذا لم تلعبوا في مدخلها يكون أفضل.. هل فهمت نعم قولي نعم بصوت مرتفع وعندما تلعبوا في مدخل العمارة ال تلعبوا

12 12 حاضر يا أبي حسنا.. هكذا أريدك صلبة وغير مترددة.. مشوار االنحدار يبدأ مع أول تردد.. كان وعيي المفاجئ على دهاليز شخصية والدي التي تلفت نظري كل يوم وكل حين تبهرني بقوة وتجعلني أحاول ارتداءها بشكل ما وتبقى بعض إشا ارت استفهام عالقة في عقلي اللحوح ال تبددها سوى المعاينة الميدانية.. يا لي من فضولية عمياء صماء. فتحت عيني اآلن على أحداث حرب 1973 عندما كانت حرب تشرين التحريرية المفاجئة فجر عظيم يلف الجميع بحنان الوطن بشكل منقطع النظير.. ليصدح صوت والدتي من جديد غاضبة: أين أنت يا أصيلة تعالي ساعديني بإعداد الفطور. ألبيها بسرعة وأقف أمام حوض تنظيف األطباق مهتاجة وكأنني خرجت من معمعة وضوضاء تحاصرني وتلجمني بقسوة وقد فرضت نفسها علي قس ار تصرخ ثانية: ماذا كسرت يا بنت

13 13 في بيت الجد الكبير ف تح باب الشرفة فجأة على أثر الضغط الذي سببه صوت االنفجار الهائل وسرعان ما أطلقت صفا ارت اإلنذار أبواقها معلنة عن حدوث أمر طارئ ت ازمن مع عودة أخي من المدرسة وكنت قد عدت قبله كما العادة.. ووسط هلعنا سارعت أمي بإغالق األبواب والنوافذ التي تصدع زجاج بعضها وأمرتنا النزول دون إبطاء إلى قبو العمارة.. ونحن نهم بالنزول فجأة رن جرس الهاتف سارعت ورفعت السماعة وقبل أن أتفوه بحرف جاءنا صوت جدي يصرخ بما يشبه الفزع: احزمي أمرك فو ار وتعالي أنت والجميع إلى بيتنا.. إياكم البقاء في المنزل.. لم يترك ألحد منا فرصة للرد فقد تابع يقول بصوت حازم: أنتم قريبون من "مطار المزة" والخطر قريب منكم جدا نحن هنا في منطقة "المهاجرين" أكثر أمانا وسالمة وأستطيع أن أطمئن عليكم ما دمتم قربي.. لكن أمي ردت عليه بهدوء: ال تقلق علينا يا والدي سنكون بخير بإذن هللا.. واستدركت متسائلة: نحن نستعد اآلن للنزول إلى قبو العمارة لكننا ال نعرف ما الذي يجري وما الذي حدث فهل تخبرني. رد جدي بارتباك: ال أحد يعرف حتى اآلن على األقل ربما بداية حرب أو سوريا بل وعلى دمشق صمت هنيهة ثم تابع: غارة جوية تنفذها طائ ارت معادية على بالتحديد.. ال تجزعي سنعرف قريبا عندما يصدر بيان من الحكومة فالمذياع إلى جانبي وأنتظر إعالن الخبر بين لحظة وأخرى.. التقط أنفاسه وقال بحزم: اسمعي الكالم وهاتفي زوجك كي يلحق بكم وتعالوا فو ار.. ثم أغلق الهاتف يؤكد حزمه في إصدار األمر إلى أمي.. صفا ارت اإلنذار تواصل زعيقها محذرة الناس التخاذ الحيطة والحذر واالستعداد لما يمكن أن يحدث بعد سماع صوت االنفجار الذي هز العاصمة..

14 14 نت ازحم جميعا نحن وسكان العمارة التي نقيم فيها على الدرج والجميع يت اركضون للنزول إلى قبو العمارة لتوفير أمان أفضل لهم وألبنائهم وأسرهم الخوف والرعب يبدو على وجوه الجميع كان الحدث مفاجئا ومجهوال مما سبب الهلع والدهشة وشعرت بأن العمارة تهتز تحت وقع أقدام السكان على الدرج.. لم نفاجأ عندما أرينا "أم لؤي" تقف هادئة على باب شقتها المفتوح على الرغم من صخب الناس وخوفهم بادرتها أمي بالسؤال: ما هذا الذي يجري يا أم لؤي أجابت ببرود: وهل غير "إس ارئيل".. وأردفت بسخرية: وما أد ارك ما "إس ارئيل..! ردت والدتي لحسم الحوار: نسأل هللا الستر.. أم فارس وأم أنطوان ال تكف ان عن الحديث والثرثرة يبدو أنه حديث سابق لم ينته ويبدو أيضا أن التواصل الهاتفي المستمر بينهما لم ينته أيضا.. األطعمة المعل بة الجاهزة لألكل أمامهن وفي أيديهن وهي كثيرة بينهما في كيس بالستيكي خضار وفواكه وكأنهما ذاهبتان إلى نزهة.. نحن في شهر رمضان شهر الصيام أدركت سريعا أن كل ما يحملنه هو تحضير إلطعام األطفال واألوالد الصغار وكنا جميعا على يقين بأن أم أنطوان تحترم شهر الصيام ومشاعرنا وال تتناول أي طعام أو ش ارب وهي بيننا وكنت دائما كما أمي وكما الجميع نقد ر مشاعرها الطيبة هذه التي جعلتها محبوبة ومحترمة.. وسط هذا الهرج والمرج قفز سؤال على لساني فصرخت: ماما أين أنطوان أجابتني أمي وهي تنظر إلي بحزم: أنطوان لم يأت إلى هذا العالم بعد.! هل يعني أنه مات.. ردت علي مشددة على كلماتها:

15 15 أم أنطوان لقب فقط وأم أنطوان لم تنجب حتى اآلن.. قلت باستسالم: يا سبحان هللا.. ولمحت في الوقت نفسه نظ ارت فادي المواربة وفهمت أنه يطلب مني التنحي جانبا لفسحة من حديث بيننا تسللت بهدوء أحاول أن أبدو وكأنني أستجيب ألحد يقف أمام باب شقة أم لؤي المفتوح كما العادة وهي تتعمد طرح دعوة لمن يشاء من الجي ارن دخول بيتها همس فادي في أذني قائال: هل تخافين من إس ارئيل قلت وأنا أتصنع شجاعة: ال.. ال أخاف.. واستدركت : ومم الخوف..! قال: إذن تعالي نذهب نبتعد عن هذا الزحام.. قلت باستغ ارب: وهل تعتقد أن أهلنا يمكن أن يسمحوا لنا االبتعاد في هذا الوقت العصيب ونحن صغار. أجابني بعصبية: وهل نحن صغار فعال. وأردف مستهزئا : كيف.. ونحن على وشك أن ننهي مرحلة الد ارسة االبتدائية..! نعم هذا صحيح ولكن ممكن أن أطرح عليك سؤاال. بالتأكيد تفضلي قلت وأنا أستعيد صورة قديمة: ولو أن األمر مضى وانقضى وأرجو أن تسامحني ألن األمر يتعل ق بفارس وقد يؤلمك ذلك.. ال عليك أنت تعلمي أنني ال أستطيع أن أنساه ويبدو أنني لن أنساه أبدا.. قلت بإص ارر: ولكن األمر يتعل ق بي.. يتعلق بك. وما دخلك أنت.

16 16 لقد كان والدي يحذرني من االقت ارب من فارس وال بد أنك تعلم السبب لماذا. فأرجوك أن تقول لي هل ت ارك تناسيت ذلك اليوم. يوم أن تشاجرت مع شقيقتي "أسما" يومها أسرع فارس إلى والدتي ليتهمك بأنك دفعتيها فوقعت وشج أرسها.. أردف باسته ازء: ودفعت أنت ثمن اتهامه تأنيبا مري ار من أمي.. واستدرك جاد ا : كان ماك ار وكان يحب بين أوالد اشتعلت العمارة.. وكأنه امتلك سر العمارة كلها.. قلت بدهشة: مع الفتيات البنات أجاب والحزن يبدو على محياه: يكفي هذا يا أصيلة أرجوك وأردف بعصبية مستدركا: هل فهمت - نعم فهمت جيدا وأنا آسفة.. االقت ارب واللعب مع الفتيات وقد يمتد ذلك إلى ال تثيري مواجعي كان مشاكسا مشاج ارت مع األهالي معاندا كان ال يهدأ حتى يجد حربا مترفعا بشكل غريب عليك أن تفهمي أنني لست كفارس ثقي بي.. بدا لي أنه يحاول طي الحديث عن فارس ولست أدري إن كنت فهمت سر شعوره باإلحباط الخفي من سلوك أخيه الذي لن يعود أبدا وكأنه سيتحول ماسحا لسيرته منقحا لها إذ قال: انظري إلى السماء ما هذا الذي يهبط من السماء.. ثم صرخ بفرح: يبدو أنه طيار "إس ارئيلي" يهبط بالمظلة.. التفت إلى الناس داخل بيت أم لؤي وصرخ وهو يصف ق: لقد تمك ن طيارونا الشجعان من إسقاط طائرة إس ارئيلية.. صفقوا معي تحي ة لألبطال.. ابتسمت أم هشام وأم مثنى ابتسامة المنتصر وصفق األوالد بب ارءة ونشوة بقوة احمرت لها األيدي... والدتي تناديني لتطمئن أني قريبة منها كانت تؤنبني في الوقت نفسه بنظ ارتها الحادة كالعادة..

17 17 توقفت ثرثرة النسوة عند عصر ذلك اليوم فثرثرة وأحاديثهم النساء العابرة ال معنى لها فالنة تزوجت وأخرى طل قت وتلك ارحت وهذه جاءت حديث ال يتوقف وال أجد رغبة في االستماع إليه أصال وقد حان الوقت بعد أن هدأت األصوات أن نعود إلى شقتنا ولكن الحذر كان هاجسنا جميعا وكذلك االستعداد ألحداث يمكن أن تحدث مجددا.. وكان على والدتي أن تنشط في إعداد حقيبة طوارئ تضع فيها أهم ما يمكن أن نحتاج إليه في حال سماع صفا ارت اإلنذار من جديد وفي حال نزولنا إلى قبو العمارة.. جدي يعاود االتصال هاتفيا ويلح علينا بعد أن قام باالتصال بجميع أوالده وعائالتهم يطلب نغادر بيوتنا ويستقبلنا في بيته مصر ا على أن بيته يوفر للجميع أمانا أفضل.. منا أن وكان علينا أن نلبي ونطيع أوامر جدي حملنا متاعنا الضروري القليل ووقفنا ننتظر مرور سيارة أجرة تقل نا إلى بيت جدي أريت في اللحظة نفسها تلك السيدة األنيقة والتي أرتاح إلى رؤيتها أبيض مطر زة كثي ار وأجدها سيدة رصينة وهادئة وواثقة ب أريي الخاص أناقة خاصة الخطوات تلف أرسها بشال أنيق الحواف بتطريز يدوي بسيط والفت وثوب ريفي نظيف يزيدها أناقة على أناقة ويعب ر عن أنوثتها وعن تمسكها باألصالة وبقيم المجتمع الذي تعيش فيه.. أرى أن األناقة ب أريي الخاص ليس أن نرتدي ما كان يصمم لنا في المحال التجارية, بل ما ن اره مناسبا لفكرنا وقيمنا وتشكيلنا اإللهي العام فهل غابت عن معظم الناس تلك الفكرة ال ارئعة يا هللا.. إنها "أم زكي".. نعم هي أم زكي ولكن ما الذي جاء بها إلى المدينة. وأعرف أنها ق ي مة ومشرفة 2 على مسجد في قرية " مضايا " في ريف مدينة دمشق..! اقتربت منها ولم أنتبه إلى دهشة والدتي من تصر في هذا بل مضيت أسأل أم زكي بود: أهال بك يا حاجة في مدينتنا.. هل أنت مقيمة هنا وقبل أن أنتظر ردا تابعت أقول: لقد باركت الحي بحضورك أما دعواتك فهي في قلوبنا بردا وسالما دائما. أجابت بهدوء: أهال بك يا ابنتي.. هللا يرضى عليك. وتابعت بحزن: تصوري لقد اتهموني ظلما وافت ارء بممارسة الشعوذة والسحر وأنني أتصر ف بأموال الصدقات وكل ذلك من أجل أن يأتي بعدي من يستلم أموال الصدقات ويتصر ف بها.. 2 مسجد في طرف دمشق الريفي وهي منطقة سياحية تسمى مضايا وهي سوق تجاري في الدرجة االولى

18 18 هزت أرسها بألم وقالت مستسلمة: كيد وحسد وافت ارء األمر هلل فماذا نقول بعد ذلك.. حسبنا هللا ونعم الوكيل, كالج ارد ويتساقطون على ال ازد الح ارم القليل وال يفطنون عواقب أكل المال الح ارم.. تابعت متفائلة: كانت ال ارئدات بالحضور الدائم إلى وحده يا ابنتي. وقبل أن تغادر قالت بمحبة بادية: أمثال هؤالء يتكاثرون المسجد يكرمنني محبة منهن ال طلبا مني فاألرز اق على هللا أنا مقيمة اآلن في منزل ابني إذا أردت أي شيء فأنا هناك في حي رقم 2 3 اسألي عن أم ف ارس فقط وستجديني.. نادتني والدتي وهي غاضبة وقالت بنزق: الشعالن حبوبي ثاني البناء مذ كنت صغيرة وأنت تتطفلين على خصوصيات الناس حتى عندما نكون في أمكنة عامة تتجولين بين الناس وتتسقطين أخبارهم تلملمين قصصهم وتتعرفين على حالهم.. يااااه.. متى ستكبرين وتكفي عن هذا السخف ثم أتبعت ذلك بما تردده دائما : يبدو أن نهايتك ستكون وخيمة لو عرف أبوك بما تفعلين.. لن يرحمك من العقاب أبدا. أخفضت أرسي بخجل وهمست بصوت خفيض المتأصل في نفسي : أنا آسفة... سكتت أمي لكن الغيظ كان يبدو على محياها بقوة.. وأنا اعلم أنني لم ولن أكف عن هذا الفضول بعد قليل أقل تنا سيارة أجرة مهترئة أذكر أنها كانت من نوع "أسكونا اإليطالية" حم ارء اللون األسود السقف الجلدي كانت السيارة الوحيدة التي أقبلت ال يكف عن التأفف وطلبات سخيفة اكتمل الجمع في بيت الجد وكانت أسر تي ليس لها معنى.. إلينا آخر الوافدين يعرف الجميع أن ذات بعد طول انتظار بينما أخي الصغير والدتي كل مواعيدها وقد تعودت والدتي على تعليقات الجميع المرحة البريئة لسلوكها الخاص تقول خالتي الغالية وكانت األخت األكبر بين إخوتها وأخواتها: كالعادة يا أم محمد.. كالعادة. تتأخر هذا.. عن دوما 3 حي الشعالن حي مشهور في دمشق وهو حي تجاري هام

19 19 تجيب أم محمد بتشف : المهم أنني أتيت فال تزيدين الطين بلة أختي.. ثم أردفت: كالعادة فإن أصيلة تربكني بفضولها القاتل دائما.. أعان هللا من سيتزوجها.. ستكون حمال ثقيال عليه.. ردت أصيلة بضيق: أمي... إنني أداعبك فقط يا أصيلة لكن آمل أن ال تكرريها عديني... أجبت باستسالم : حاضر لكن الغمز واللمز لم يتوقف من الجميع وعلى الرغم من الصمت السائد كنت أشعر بغيظ وأصر بيني وبين نفسي على أنني ارضية عن نفسي وسلوكي وعنادي..

20 20 ذكريات وذكريات... ما ازلت صورة ابتسامة أم فارس الصف اروية مرسومة في ذهني تماما فقد كانت الوحيدة التي لم تفرح مثلنا باالنتصار في تشرين ذلك االنتصار الذي حققته قواتنا المسلحة بالتالحم مع الشعب لتخطي فترة اإلحباط والشعور بالمهانة وقد حقق االنتصار دفع طاقة من إ اردة قوية في نفوس الجميع وحطم جنودنا غطرسة العدو وهزموا أسطورة الجيش الذي ال يهزم والذي جعلنا جميعا نشعر بالكبرياء والقوة واإل اردة. وأذكر كم كانت والدتي تؤكد على غ اربة طباع أم فارس بين الجي ارن وبخاصة أن خالها "اليهودي" كان يعمل مع الجيش اإلس ارئيلي وكان يزورها مرة في السنة.!. كان فارس كما تزعم جارتنا من المعجبين بخاله وبطباعه الزكية على زعمها مما ولد آثا ار واضحة في سلوكه وشخصيته... كان هذا األمر وهذه المعلومة غريبة على فهمي حيث وقتها تماما قد يكون هناك أمر لم أفهمه فعال من خالل تلك القناة تحديدا.. لم أجد لها تفسي ار واضح األبعاد هكذا أسر ت جارتنا أم لؤي لوالدتي مما ول د لدي شعور غريب جدا وتساؤالت لم أجد لها إجابات مقنعة!!. غرفة الجلوس في دار جدي دافئة جدا مفروشة فرشا يبدو أثريا وجميال كنبة مستطيلة كبيرة تحتل ركنا في الغرفة مغطاة بقماش من الكريتون ارئع األلوان حوافه مطر زة برسومات مشرشبة ستائر داكنة لونها سكري ازخر برسومات بسيطة وجميلة وك ارسي وطاوالت موشاة بالمو ازييك تتناسب بالمشهد مع لون الجد ارن النظيف الفضي.. كل شيء في غرفة جدي شيء من األثاث هادئا كان خالتي التي استطاعت أن تمأل ف ارغ تأفف وكنت وجميال على يقين من أن لمسات خالتي على كل تضيف إلى جمال المكان مشاعر أنثى رقيقة وعلى ذوق رفيع.. غياب والدتها عن الحياة وتحمل مسؤولية والدها والبيت دون ودون تعب أو كلل فقد قامت هي نفسها بتربية الصغار بكل حب ومودة وغزلت الكثير الكثير حتى ألوالد أخواتها وأخوتها.. تعالي إلى السقيفة فلدي كتب هامة سوف أتخلص منها وأعرف رغبتك في مثل هذه فآثرت أن أسألك لو تحتاجين إليها قبل أن أتلفها وأتخل ص منها.. نظرت إليه بدهشة وقلت بهدوء: حسنا.. وخاطت لهم الكتب الدينية

21 21 لكن الخالة نهرتني بعنف وقالت: - ال تذهبي مع خالك هذا.. واتبعت تعنيفها تقول: وما دخلك أنت بأمور كهذه. هو يريد التخل ص من الكتب التي لديه.! ثم أخفضت صوتها وقالت بما يشبه الهمس: يبدو أن علي أنا أن أتخل ص من هذه الكتب القديمة الصف ارء فال طعم وال ارئحة لها فقد ذهب بريقها وطعمها منذ زمن طويل. قلت بب ارءة: ال عليك خالتي سأط لع عليها فقط... قاطعتني: ال لن تذهبي بل من األفضل أن تواصلي تعلم "الغرزة" لكنني يا خالتي لن أتأخر الجديدة في شغل كنزة الصوف المنزل في حي المهاجرين بدمشق في الجادة الثالثة وسقيفته المفتوحة على المطبخ نشم منها روائح الطبخ الزكية والمئونة بمختلف أنواعها... ال ليست هذه السقيفة هناك في الثانية.. صعدت معه السلم األثري المركون في منزلهم ووجدت تلك السقيفة رحبة واسعة شبه غرفة بتمامها وكمالها وسقفها وجد ارنها لكنها كالغرف المنسية تعج بمختلف صنوف الكتب.. قلت وأنا أنظر إلى كومة الكتب: يا هللا ما أجمل الكتب وما أشهى منظرها.. لكنه فجأة أمسك يدي وشدني إلى داخل السقيفة المعتم وقال بما يشبه الهمس:. تعالي معي.. هناك تجدين الكتب التي أرغب أن تشاهديها.. نفرت من حركته المفاجئة وتمتمت بغيظ: كفى.. ال لم يعجبني شيء من كل هذا.. ثم بحركة مفاجئة نزلت على السلم وأنا حائرة أستغرب تصر فه الغريب هذا. خاالتي مشغوالت بالحديث وكل أحاديثهن ال تخرج عن نطاق المطبخ والطبخ وعن فالنة وعالنة ومن جاء ومن ذهب في الوقت الذي كان فيه خالي يجمع ما يشاء من الكتب ربما وجد أنها تناسبني وترضي ذائقتي وقدمها لي بكيس أنيق ونظرة غريبة كأنه يقول لي:

22 22 هي لك خذيها.. أحسست بالحرج وشعرت أن وجهي يمتقع وأحاول بكل قوتي أن أداري انزعاجي وحيرتي من تصرفه السمج الذي لم أجد له معنى وال تفسي ار.. لكنني تناولت كيس الكتب من يده موحية له بأنني قبلتها باب غرفة الجلوس مصممة أن أتركه في مكانه وأمضي دونه. وفي الوقت نفسه وضعت الكيس و ارء عاد جدي من المسجد في عصر ذلك اليوم كان الطعام جاه از ومهيأ بأصنافه الشهية المتعددة على الطاولة وقد لفت انتباهي أناقة األدوات التي تحتوي الطعام زجاجية وفخارية ومن الصيني والشيني وهي أوعية ثمينة وذات جمال أخاذ وأعجبني أن أجد على الطاولة صحن مليء بالفالفل وصحن كبير من زالبية البطاطا التي أحبها وأشتهيها في كل وقت وأدركت أن كل األصناف الشهية أمامي على الطاولة هي من صنع البيت. علميني كيف أصنع الزالبية يا خالة. اهتمت خالتي بسؤالي وقالت: أحضري ورقة وقلما إذن.. لم أكن أحمل ورقا وال قلما ولما أدركت خالتي حيرتي قالت تنقذني: حسنا دعي األمر لمناسبة أخرى.. واستدركت: ولكن إياك أن تقولي ألحد عن مشروعنا هذا فأنا لن أستطيع أن أعل م الجميع. أطرقت بخجل ورددت: حسنا يا خالة.. كما تشائين. حل الليل وكان ليال ممي از مألني بسعادة ربما ألنني كنت في مكان أحب أن أكون فيه. أو بالناس حولي وأحبهم وأحترمهم وأجد فيهم نبع معارف وخبرة وكثير من الحب واألصالة تصورت أن قدوم الليل كهالة من جمال كأنه يحمل بين يديه شموعا مضيئة وإطاللة جدي ترحب بنا ويصر على بقائنا في بيته في ظل وضع أمني صعب ودقيق وسط مجريات أحداث والحرب 1973 المشرعة بيننا وبين الصهاينة ونتابع عطاء األبطال الذين يسطرون سف ار جديدا في مسيرة نضالنا وتصدينا لهذا العدو السرطاني. نتابع من األخبار التي تتوالى من المذياع بين وقت ووقت ومن البيانات التي تصدرها قواتنا المسلحة تتحدث عما يجري وتطو ارت ما يجري ونحن مسترخون جميعا على أ ارئك مريحة في بيت

23 23 جدي الفسيح الهادئ نستمع بكثير من السرور والسعادة لتلك االنتصا ارت التي يحققها جيشنا وشعبنا لصد هجمة العدو وتحرير أ ارضينا المحتل ة ونترح م على شهدائنا األبطال الذين يدفعون بدمائهم ضريبة حياة كريمة لنا وألجيالنا.. قصص وحكايات ومشاهد وأخبار تثلج الصدر تروي عن عظمة شعبنا وجيشنا وهذا التالحم القومي الذي جمع بين كل البالد العربية على ساحة الشرف أخوة ونص ارء وباذلين وشهداء ليحققوا لهذه األمة العز ة واالنتصار.. أسطورة كاذبة وتضخيم ليس له معنى ذلك الذي نشاهده ونتابعه ونرى بالعيون المجردة كيف يتمث ل الذعر الحقيقي بين جنود المحتلين المعتدين وكيف يهربون من أمام رجالنا بجبن وخذالن وكيف تتهاوى أسطورة الجيش الذي ال يهزم.. وكنا في كثير من األوقات نصعد والجي ارن من نساء وأطفال إلى سطوح بيوتنا دون خوف متجاهلين إتباع تعليمات الجهات المختصة الحريصة على حياتنا وأماننا لكن الحماسة كانت تملؤنا فال نبالي بأي خطر يمكن أن نتعر ض له نصعد للسطوح لنشاهد تهاوي طائ ارت العدو وسقوط طياريهم بأيدي قواتنا.. ومهما بذلت من جهد في وصف مشاعرنا لن أستطيع أن أكون دقيقة أبدا فمشاعرنا كانت في أوج السعادة والشعور بالفخر واالعت ازز أريت في وجوه األبطال صورة رجاالتنا العظماء الذين حققوا االستقالل والخالص من االستعمار الفرنسي أريت صورة إب ارهيم هنانو وسلطان األطرش وصالح العلي وآالف الشهداء األبطال يتقدمون الصفوف ويكسرون شوكة العدو ويصنعون االنتصار.. فجأة ونحن مسترخون على األ ارئك في بيت جدي سمعنا طرقات على باب البيت وكأنني أحسست بنسائم طيبة تتخلل الغرفة وتداعب شعالت الشموع وقبل أن يتحرك أحدنا من مكانه دخل خالي األكبر يحمل بندقية كبيرة وتبدو على مالبسه بقع طين وت ارب. ركن البندقية الالمعة بعد أن أفرغ ما فيها من رصاص على الكرسي الكبير وجلس بيننا و ارئحة البارود تفوح منه وحماسه منقطع النظير وكأننا كنا على موعد ليذخر بنادق أرواحنا بالمسك والعنبر بما ارح يروي لنا من قصص وأحداث عاش تفاصيلها وشارك فيها. بدأ بسرد قصص على مسامعنا المتوثبة عما أرى وسمع رشاش ويطلق منه كلمات حار ة وصادقة ومؤث رة.. وشارك كان يتحدث وكأنه يمسك بمدفع حدثنا عمن قضوا شهداء من رفاقه وأصدقائه وهم في قلب المعارك عن الجرحى ومشهد الدماء واإلصابات والنزف عن التضحيات التي بذلها الرفاق في إسعاف المصابين ونقلهم إلى الصفوف

24 24 الخلفية.. يحدثنا وتقفز من عينيه إشا ارت تدل مع كل كلمة يقولها على حبه للوطن واستعداده للفداء من أجل حرية ورفعة الوطن وكان يعبر أيضا على أنه ليس الوحيد الذي يحمل هذه المشاعر بل كل الذين هب وا لنصرة الوطن وهم على يقين بأن الوطن بحاجة إلى رجاله في وقت يتعر ض فيه للغزو واالحتالل وإن الدفاع عن الوطن رسالة نبيلة وشرف ال يضاهيه شرف.. بقاؤهم على قيد الحياة وهم في قلب المعركة آخر ما يفكرون به وكأن حياتهم في موقف نبيل كهذا ال تزن جناح بعوضة أمام رغبة االنتصار أو نيل الشهادة فهم بحق "أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر".. خل فوا و ارءهم أسرهم أمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وهبوا تلبية لنداء الواجب ونداء الوطن. حدثنا خالي طويال عن بطوالت الباذلين من جهة وعن جبن وخوف وذعر األعداء الصهاينة من جهة أخرى وحدثنا عن ذلك الجندي الصهيوني الذي واجه في مكان قصي بعيدا عن ساحة المعركة جندي ع ارقي وجرى بينهما حوار بدا عجيبا غريبا لكنه عب ر بما ال يقبل الشك عن هشاشة الكيان الصهيوني وعن عقم المعتقد الذي يؤمنون به وفي يقينهم أنهم غ ازة يغتصبون بالدا ليست لهم ويدركون أنهم ازئلون وأن الجندي الصهيوني الذي يقاتل إلى جانب الجيش اإلس ارئيلي يجعل في مقام رغائبه المكاسب المادية التي يمكن أن يحققها وليس من منطلق إيمانه بقضية تفرض عليه أن يضحي من أجلها بينما نجد في الجانب اآلخر أولئك األبطال الذين يتسارعون لطلب الجهاد والتصدي والقتال من أجل قضية كبيرة ونبيلة ومحقة.. وهل أكثر من الدفاع عن الوطن واألصل والدين قضية نبيلة.. ثم وهما في قلب حوار غير متكافئ تتقدم دبابة صهيونية وتطلق حممها لينال ذلك الجندي العربي الع ارقي الشهادة. لقد روى لنا كثي ار وكثي ار جدا عن الكم الهائل من مخزون الروح الوطنية التي نمت وترعرعت على سهول وجبال الوطن الحبيب كان يذكر باالسم والحرف كل من كانوا معه في قلب الحرب بدقة متناهية وكأنه يبكيهم لكنه لم يكن يبكي فهو مؤمن بقضاء هللا وبالجنة الموعودة للشهداء األب ارر. اقترب من خالتي األكبر وسل مها رسائل وأمانات لتوصلها بمعرفتها إلى أسر الذين لم يرجعوا أبدا.. فهل كان خالي يتوقع انه لن يعود هو اآلخر. يا رب ال يا رب ال قدر هللا.. وسرعان ما دمعت عيناها عندما قال: أنا عائد إلى الجبهة غدا.. وأردف:

25 25 ت ارفقني دعواتك.. بعد هذا المشهد توقف الجميع عن الحديث وطفا الصمت على أرجاء الغرفة لكنهم وبفعل ال إ اردي واصلوا تناول الطعام فاأليدي تمتد إلى األطباق وتمسحها وتفتش عن صحون أخرى ما ي ازل فيها بعض طعام. حب الحياة طبيعة بشرية وال شيء يقف في وجه القدر والمكتوب لكن الجميع في هذه الغرفة كانوا وبعد أن أنصتوا إلى أحاديث خالي يشعرون بالفخر واالعت ازز وأن حياتهم مع تحقيق االنتصار أصبح لها مسار آخر وطعم آخر أفضل بكثير من الشعور بالهوان.. حاولت بدافع صبياني أن ألمس بندقية خالي وقبل أن تصل يدي إلى البندقية انقض ابن خالتي "عامر" يمنعني ويدفعني بقوة كي أبتعد عن البندقية وهو يصرخ: أيتها المندفعة ما دخلك أنت ببندقية خالي أليس هو خالي أيضا هو خالك لكنني أكبر منك سنا فهو خالي قبل أن يكون خالك.. قلت بعنف: هي أيام فقط فكالنا بعمر واحد ألم تسمعي بأن أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة.. لكنني من منطلق عناد قبضت بقوة على البندقية وحاولت أن أبعدها عن غايته بانت ازعها مني فأحسست بثقل وزنها في اللحظة التي انتبه خالي "عدنان" إلى ما يجري بيني وبين عامر فهب واقفا وهو يصرخ بغضب: هل تعلمون لو انطلقت من البندقية رصاصة واحدة ماذا يحصل لي ولكم. أجبنا بخجل: ال يا خالي ال نعرف ماذا سيحصل.! إذن دعوا البندقية وسأخبركم الحقا ماذا يمكن أن يحدث.. رددنا برجاء: بل اآلن يا خالي قل لنا.. نرجوك.. قال وكأنه يؤنبنا: بفعلتكما هذه طيش وتسرع وال تستحقان أبدا أي تفسير وحديث قبل أن تهدآ وتسكنا.

26 26 فجأة.. ركض صوبنا طفل من أبناء خالي بيننا فوقعت البندقية على األرض لتنطلق منها رصاصة أصابته مباشرة في كاحل قدمه.. يصرخ خالي بفزع: يا إلهي كيف يحدث هذا وقد أفرغتها من الرصاص. ساد هرج ومرج في البيت مع دوي صوت انطالق الرصاصة المرعب وفي هذه الظروف المتوترة الصعبة ال أعرف من هب يحمل الطفل المصاب إلسعافه بينما حمل خالي البندقية بصمت وغادر البيت كي يتدبر أمر هذا الحدث.. داهمنا جميعا شعور بالندم والخوف والقلق وسط أحاديث بدأت هادئة وسرعان ما توتر الموقف وصار الجميع وكأنهم يتحاورون حوا ار ليس له معنى وال فائدة.. ما ازلت خالتي واجمة تردد بألم: كيف انطلقت من البندقية رصاصة وقد شاهدناه جميعا وقد أفرغها من الرصاص. وتابعت: كان هللا بعون أهالي الشهداء يا رب سل م الجميع.. ثم وكأنها تذك رت أم ار جلال قالت: كيف سنطمئن عنه اآلن. حسبنا هللا ونعم الوكيل.. انزوى األطفال في ركن من الغرفة صامتين وفشلت لعبة الحرب لعبتهم المفضلة وهم يقلدون خالهم المغوار... لم أفهم ماذا كان يعني جدي عندما أشار إلى خالتي التي هرعت إليه تهمس في أذنه كلمات لم يسمعها ولم يفهمها أحد لكننا شاهدنا جدي يناولها نقودا تعف فت عن أخذها منه وغصت محرجة ال تريد أن يلمح الموقف أحدا لكنني شاهدت كل شيء جيدا. على الرغم من أن العالقات بين الجميع ودية و ارئعة في منزل جدي إال أن حواجز كثيرة في نفسي كانت تقف حائال من أن اقتحم أسوارها.. قالت خالتي تنبهني: انتبهي هذا ابن خالتك ال يجوز أن تلعبي وال أن تتضاحكي معه كثي ار وهذا خالك الصغير م ازحه مزعج فانتبهي أن ال تبتعدي عني في هذا الليل.. سكتت لحظات ثم قالت: جدك رجل كبير في السن ال يتحمل األصوات العالية أبدا..

27 27 ثم ساد صمت عميق في أرجاء الغرفة كأنها كهرباء ساكنة ال تصدر شر ار وال مجال لتحريكها كما تهيأ لي إال بتقديم الطلبات واإلذن لالستفهام قبل أي تصرف قد يكون عبثيا.. وعلى الرغم مما جرى كان اجتماعنا في بيت جدي وحول طاولة ازخرة باألطباق الشهية من صنع بيتي ومحلي لم تخل من قفشات مرحة كانت تبدد بعض ضباب وغبش في الرؤية نتيجة تلك األحداث التي صاحبت تواجدنا في بيت جدي.. وأصبحت على يقين بأن لكل بيت هواؤه الخاص العليل وأحاديثه التي تخصه وحده.

28 28 اكتمال الصورة غاب عنا خالي في اليوم التالي دون أن أعرف ماذا فعل وكيف تصر ف بعد حادثة انطالق الرصاصة من بندقيته وبعد تلك السهرة التي أمضيناها في بيت جدي بين طعام طيب وحديث مرح ثم توتر وقلق وال أعرف أين هو. يبدو أن خالتي تعرف الكثير لكنها كتومة لم نستطع أن نفهم منها شيئا رغم إلحاحنا باألسئلة لكننا وألننا كنا صغا ار لم نقف طويال أمام تلك الحيرة بل استغرقنا في اللعب وقد أنهكنا تماما,, والعبث في بيت الجد الكبير والتنقل من غرفة إلى غرفة وكأننا خلية نحل ال تتوقف عن الحركة والضجيج وما أن أخذنا أماكننا في ف ارش م د لنا خصيصا حتى استغرقنا جميعا في نوم عميق. ما أذكره تماما, أن ابن خالي المصاب حصل على دالل منقطع النظير من ج ارء ما حدث له حينها... كان من الطبيعي وقد ولذيذة معا.. أن نستيقظ جدا, متأخرين وكأننا في يوم عطلة يوما كان بنكهة مختلفة غرف البيت وز عت علينا على جدول يجمع كل عائلة معا الخاالت واألخوال بينهم جيل آخر يتصنع الخصوصية في كل شيء وخصوصية األحاديث وكل يتحدث عن أحداث جرت أو إنها تجري وكأنه المتفهم الوحيد ألحداث الحرب ورغم هذا كان أخوالي الكبار يلعبون الشطرنج تارة أثناء حديثهم وتارة أخرى النرد تتخللها أحاديث جانبية شتى تجعلني أنصت السمع كثي ار بفضول حارق و ارئع معا,بحيث لو حاولت التفوه ب أريي الخاص نهرني أبي واضعا يده على فمه بإيماءة سريعة يحسم األمر فأسكت لكنه يتمتم: هذه أحاديث الكبار أنت تنصتي فقط وتفهمي.! كانت العطلة التي قررتها و ازرة التربية منجاة لي من تقاعسي في مذاكرة دروسي وحفظ واجباتي المدرسية والتي كانت محببة بالنسبة لي وفي األحوال العادية أطالع الدروس دون الت ازم مدرسي حتى أن ثرثرتي في الحصص الد ارسية جعلت المدرسات يكثرن من المالحظات نحوي بشكل أصبح يشعرني بالخجل ويبدو أنني غيري ممن لم يحظين استنفذت فرصي بوالدة مدرسة مثلي فيشدون وثاق التنبيه أكثر فأكثر. في العفو وما ازلت المدرسات ال يؤثرنني عن

29 29 4 دار البنين تلك المدرسة التي على صغر حجمها نوعا ما أعشق أد ارجها أعشق كل حجر فيها ألنها أر خت طفولتي األثيرة أبيت ذات يوم أن أبقى في بيت الفئ ارن الذي كان عقابا قاسيا لكل مشاغب في الحصص الد ارسية.. وذات يوم أفشيت سر طالبة كانت تكيل لمعلمتنا ألوان السباب والشتائم كي تبقى معي في تلك الغرفة التي مللتها لتك ارر العقاب فيها وقد وجدتها أخي ار فرصة مالئمة إلكمال مذك ارتي التي كما أعتقد لن تنتهي أبدا عندما فشلت محاوالتي في استمالة والدتي لتتعاطف معي وتساعدني بل وتستمع لمحفوظاتي وتتنازل عن طلباتها ألساعدها في شؤون البيت لكن ذلك كله باء بالفشل الذريع.. كانت أيام ال أقول إنها غريبة لكنني وأنا أستعرضها اآلن أ ارها وكأنها آتية من و ارء ضباب فيها نكهة طفولة بريئة وفيها شقاوة لم نكن نقصدها بل كانت تصرفات طفولية أستعيد الذاكرة فأشعر بكثير من ال ارحة واألمان.. أذكر ذات يوم من تلك األيام الغابرة وكنا خارج البيت في زيارة وبعد عودتنا إلى منزلنا فكرت دون أن أقدر أي رد فعل أو مجازفة أو دخول دوائر ليست لي فك رت أن أقوم بزيارة بال مناسبة إلى ج ارة والدتي "أم ارمي" وهي سيدة مسنة أحمل لها في قلبي محبة كبيرة وأشعر دائما أنها تلك السيد ة التي أكونها أتمنى أن فروض الفضول.. عندما أتقدم بالسن وهذا الشعور كان دائما و ارء رغبتي بزيارتها وكأنه فرض من كان الوقت عص ار وقد استسلم للقيلولة كل من في البيت وبدا البيت وكأنه في هالة من ظالم مزيف شعرت بالضيق ومللت الهدوء المطبق هذا وم ارعاة حركاتي وصوتي كي ال أزعج هناءة النائمين تسللت خارج البيت بهدوء وكأنني أدخل في تجربة لصوصية حذرة نزلت درج العمارة بهدوء.. وقفت لحظات أما باب بيت "أم ارمي" ثم قررت أن أطرق على الباب طرقات خفيفة أحسست بنسمة رطبة تأتي من و ارئي وكأنها تسللت هي األخرى دون أن يشعر بها أحد والمستني برق ة فتحت لها صدري بحب في اللحظة التي ف تح فيها الباب أمامي:.. أهال بك عزيزتي.. تلف تت حولي ثم أردفت بشيء من االستغ ارب: ما الذي جاء بك وحدك. وهل تعلم والدتك بقدومك. أربكتني لكنني تماسك وكأنني أتجاهل تعليقها وقلت: 4 مدرسة دار البنين وهي مدرسة حكومية في حي العفيف بدمشق باتت مركزا ثقافيا عراقيا حاليا.

30 30 لن أطيل مكوثي عندك لكنه حلم ت ارءى لي وجاء بي إليك.! نظرت إلي بدهشة وقالت: وأنا أيضا أريتك في حلمي هذه الليلة.. ثم فتحت عينيها دهشة وابتسمت ثم قالت: أريتني أنا. يا سبحان هللا تصوري وأنا أيضا ت ارءى لي حلم غريب.. قاطعتها: أريد منك أن تفسري لي هذا الحلم إذا سمحت فأنا أعلم ب ارعتك وإلمامك بهذا األمر. نظرت نحوي تصطنع الهدوء والخشوع ثم قالت وكأنها تحفظ عن ظهر قلب كل كلمة تنطق بها: قبل كل شيء اذكري اسم هللا سبحانه وص ل على النبي المختار ثم بعد ذلك قصي علي رؤاك. وأنا أباشر تنفيذ ما قالت أومأت لها ب أرسي إشارة قبول.. نظرت حولي في أرجاء الردهة الرئيسة في بيت أم ارمي وهالني أنني أريت خ ازنات كثيرة معل قة على الجد ارن تغص بشتى أنواع الكتب وأكثرها مجلدات تبدو وكأنها دينية وألن المكان كل ه كان يعج ب ارئحة الكتب لم أستطع أن أميز بينها وبين عناوينها المتعددة بدقة لكنني ودون تفكير قلت بحماسة: أود لو أستعير كتبا من مكتبتك سيدتي.. حتى يأتيني اإلذن يا عزيزتي... حتى يأتي اإلذن.! قلت مستغربة: إذن. ممن. إذن من هللا.. ثم أردفت تحسم الحوار بيننا: أرجو أن تتناسي مالحظتي هذه اآلن فمن الصعب أن أشرح وأوضح لك ماذا أعني.. وأردفت دون اكت ارث: حسنا.. حدثيني عن الحلم الذي ت ارءى لك. لقد أريت السلطان عبد الحميد... فتحت عينيها بدهشة: ماذا تقولين. وبعد أن استرجعت هدوءها قالت:

31 31 يا سبحان هللا وألف الصالة على النبي ما الذي جاء به إليك حركت أرسها وكأنها تستسلم لمشيئة غريبة وقالت: ربما توارد خواطر..! لست أدري لكنني أريد تفسي ار للحلم أرجوك ليس األمر بهذه السهولة عليك أن تصفي لي بدقة كيف شاهدتيه. أغمضت عيني أسترجع المشهد: نعم.. لقد جاءني بلباسه السلطاني وهو يشير بيده إلى مكان ما لم أتبينه يبدو كمنزل بعيد ال أعرف عنه شيئا أو كأنه يسعى ليطلب مني شيئا.! هل هذه هي الرؤية فقط. نعم.. فقط.! هدأت أسارير وجهها وأمسكت يدي وقالت بحنان: سيأتي تفسير حلمك هذا في قابل األيام وعلى أرض واقع.. تر كت يدي واستدركت: أو دعينا ننتظر ونترق ب أن تأتيك رؤية أو حلم آخر جديد.. فتحت عيني دهشة وكأنني لم أفهم شيئا مما قالت وقد الحظت دهشتي فأردفت تقول: ال شك في أن حلمك جميل وعزيز وهو رسالة هامة لك سوف تعرفين المناسب.. وكأنها قصدت أن تخرج من الموضوع إذ قالت بحزم: انتبهي لنصيحتي وال تتحدثي فاجأتني.. لكنني تمالكت وسألتها: واألفضل أن مع فادي كثي ار فادي من جديد.. ولماذا تحذرونني من فادي على وجه الخصوص.. واستدركت بعد هنيهة صمت: بكل حال ال يعنيني أمر فادي هو بحاله وأنا بحالي.. قالت بحنان: تتفادى مدلوالتها في الوقت قدر اإلمكان الحوار معه إنني أنبهك ليس أكثر وسأعطيك ما يفيدك في الوقت المناسب.. حاولت بدوري تغيير الموضوع الذي أزعجني حقا فأنا فعال ال أهتم بفادي وال يعنيني أمره على اإلطالق قلت:

32 32 حسنا يا خالة.. ج ازك هللا خي ار بقي أن تحدثيني عن حلمك بي..! ليس اآلن يا ابنتي سيأتي الحديث عنه في وقته انسي األمر اآلن مؤقتا فلدي عمل كثير لهذا اليوم. رن جرس منزل الحاجة هداية "أم ارمي".! قفزت من مقعدي.. أخي يناديني بلهفة وفزع.. أمي تناديك.. كيف خرجت من البيت دون أن تعلمي أحدا. خرجت مسرعة من بيت أم ارمي وأنا أنظر للو ارء كأنني لم أرتو بعد من جلستها المليئة بالنصائح وتجارب الحياة... هداية اسم الحاجة أم ارمي وقد اكتشفته اليوم وشكل في تكويني ما يشبه الرمز الكبير المليء باألس ارر الذي يثيرني جدا فك رموزه أبدا. في تلك الليلة حلمت على يحت وي ا رمز كان بأن السلطان عبد الحميد جاءني..! خصوصية مجهولة لم أستطع الوقور حتى اآلن

33 33 ذكريات مدرسية. كانت مرحلة الد ارسة اإلعدادية مرحلة حساسة من حياتي انتقلت فيها من مرحلة الطفولة إلى مرحلة جديدة ومثيرة جدا. في تلك المدرسة التي يحزنني أنها تغيرت بعد تخرجي منها تغيرت مع تغير مالمح حياتي بعد تغيري.. فقد غدت المدرسة بعد وقت قصير مستوصفا حكوميا.. االسم الذي ارفق مسيرة د ارستنا في المرحلة اإلعدادية اسم غريب ومثير في آن.. تغي رت 5 أحمد الع ازوي.! نعرف أنه بطل من األبطال الذين أر خوا مرحلة من م ارحل نضال شعبنا األبي لكننا ولألسف لم نجد له سيرة حياة على جد ارن المدرسة المتواضعة بعض الكتب التي أطلعنا عليها.. المتهرئة وال في لوحة إعالنات المدرسة وال في كل ما في األمر أن مدر سة التاريخ قالت إنه بطل ضحى بحياته من أجل الوطن بطل كما األبطال الذين قدموا حياتهم فداء للوطن في م ارحل متعددة كما األبطال الذين استشهدوا في السادس من 6 أيار والذين أعدموا في عكا ولست أدري لم كنت دائما أشب هه بالبطل يوسف العظمة الذي قدم حياته وروحه من أجل الوطن هذا البطل الذي استشهد في مواجهة الجيش الفرنسي الذي قدم الحتالل سوريا حيث كان وزير الدفاع للحكومة العربية في سوريا بقيادة الملك فيصل األول. هو يوسف بن إب ارهيم بن عبد الرحمن آل العظ مة الدمشقي التركماني. عندما اقترب الفرنسيون من دمشق بقيادة غورو ثالثة فرنسي من آالف مسلحين الجنود بالدبابات المتطوعين والسيا ارت السوريين بأسلحة والمصفحات 1920 مع البطل يوسف العظمة أربعمائة مقاتل سوري بطل. قديمة م وفي والطائ ارت في تلك مواجهة وأحدث المعركة تسعة األسلحة فيها برز التي آالف ضابط وقد األخرى حوالي وجندي است شهد 5 المدرسة اآلن في جادة المهدي بن بركة في حي أبو رمانة وهي اآلن مستوصف حكومي 6 كان متدينا متمسكا بإسالمه مؤديا لصالته وصائما أيام الصوم ومحافظا على شعائر اإلسالم. وكان يتكلم العربية والتركية والفرنسية واأللمانية. ولما وضعت الحرب أوزارها عاد إلى دمشق فاختاره األمير فيصل قبل ان يصبح ملكا مرافقا له ثم عينه معتمدا عربيا في بيروت. فرئيسا ألركان الحرب العامة برتبة قائم مقام في سوريا. ثم ولي وزارة الحربية سنة 1920 بعد إعالن تمليك األمير فيصل بدمشق فنظم جيشا وطنيا يناهز عدده عشرة آالف جندي. ينتمي إلى عائلة دمشقية عريقة ترجع إلى جدهم األعلى حسن بك التركماني. ولد في حي الشاغور بدمشق عام 1884 م الموافق 1301 ه و ترعرع و تلقى تعليمه األولي في دمشق وأكمل دروسه في المدرسة الحربية.في إستانبول وتخرج منها ضابطا عام 1324 ه الموافق 1903 م. وتنقل في األعمال العسكرية بين دمشق ولبنان واآلستانة.

34 34 لقد جعلتني تلك المعركة أتوقف طويال أمام سيرة البطل يوسف العظمة فقد كان على يقين بعدم تكافؤ القوى في المعركة لكن هذا لم يدعه يفتح الباب لدخول المعتدي محتال للبالد وهل يمكن أن يسجل التاريخ دخول قوات أجنبية إلى سورية بسهولة ودون مواجهات. لألجيال مخاز تكفي مئون ة لزم ن غادر نقف أمامه مشدوهين كالبلهاء! لقد كان األمر على تلك الصورة كان هذا يكفي كي يسطر األبطال ا أمر ا كبير وخطي ار جدا... الذين خرجوا للتصدي لجي ل بعد جيل لن نستسلم أبدا ولن نترك ارية النضال والمجد والعزة واإلخالص. لقد كان هناك خيط دام رفيع زمن آت بالتأكيد... رفيقة كان لي جدا وهل أمال ومختلف جدا.. يصل بينها وبين غزوة أ حد في المدرسة اسمها ساجدة تلك المشاغبة بامتياز كانت يمكن ألحد أن يسطر حي ا ودائما يقول: إ ننا بشكل ما..وبينها وبين متوثبة ذكاء وفطنة.. ومك ار ما زلت ال أعرف السر و ارء تصميمها على مشاكستي وبشكل مقصود.! تستفزني بشكل عجيب...و تقف أمام صديقاتي بتصميم كي تجلبهم إلى صفها وتغريهم بصداقتها تخطفهم خطفا مني! بطريقة مدهشة أ يب كانت عجيبة بداية مشاكستها لي عندما امتنعت عن تمرير فكرة وأغششها لها باالمتحان وتطورت الخالفات بيننا إلى التشابك باأليدي في بعض األوقات وشد الشعر وفي كل يوم تطور جديد بيننا إلى األسوأ مما استدعى تدخل األهل ونصائح وتنبيهات وتهديدات لكنهم على الرغم من ذلك كله لم يجدوا حال لتلك الع اركات المزعجة. وفي تلك المرحلة بت أعرف الكثير عن فادي وإخالصه للكنيسة األرثوذوكسية التي كانت في حي رمانة وما لفت نظري أثناء حواري معه ذات مرة أخبرني بلهفة عن تنصر جاره سامر من خالل عالقة والدة سامر الوثيقة بوالدته ومن ثم عزمهم على السفر إلى كندا في أقرب وقت وقد الحظ حماسته وفرحته بتسريب هذا الخبر لجمودي ومفاجأتي جدا : فخفف من لهجته الفرحة ليعود قد ألبي فضولك وأجعلك تزورين الكنيسة.. ما أريك ونقله إلي وكأنه حقق انتصا ار فريدا إلى أحسست بقلبي يخفق بشدة حتى كاد يتوقف من هول المفاجأة.. كيف سأفعل! لكنني قلت في سري: نعم ولم ال هي دقيقة لن تزيد ولن تنقص.. ممكن لكنه انتبه فجأة هدوئه المصطنع قائال لي بلهجة مت ارخية

35 35 وعندما هممت بالمضي معه, خانتني قدمي والتوت تحتي فجأة مما اضطرني هذا األمر البيت سريعا من فرط األلم.. دون أن أحظى بفرصة زيارة الكنيسة.. أن أعد أسئلة كثيرة ألطرحها على الحاجة هداية. هذا الوقت بالذات كان علي في للعودة إلى

36 36 نقلة نوعية اقترب موعد امتحانات المرحلة اإلعدادية التي كانت توحي بكثير من األحالم الوردية عبر نقلة نوعية نحو الد ارسة الثانوية لتشكل اثنتا عشرة سنة د ارسية كاملة ستمر بكامل منغصاتها وغصصها ومتعتها ومتاعها بات ما فاتني من ت اركم د ارسي محط اهتمام ودافع لم ارجعة وترميم ما أ همل وأ جل. لم يخطر في بالي في أي يوم من األيام أن أتلصص على وريقات صديقاتي في االمتحانات كي أغش أو أنقل ما يكتبن على خلفية استهتاري لكنني يبدو أنني سأفعلها اآلن وأنا في وسط ورطة وعدم امتالك أجوبة لألسئلة التي أمامي أعرف أن المادة صعبة وال أحبها كنت أحاول أن أفهم وأدرس ولكن وأنا أسعى إلى ذك تأخذني مشاهد أخرى أتابع وأ ارقب شرفات العما ارت حولنا تغص بالدارسين والدارسات والفصل صيف قائظ كثرت الحش ارت الطائرة والقارصة بعوض وذباب وف ارشات وتلك المادة االجتماعية األخيرة بين يدي تتبخر من ذاكرتي كلما حاولت تثبيتها بعد أن تصور لي أنني شحذتها طوال تلك الفترة بكل أنواع الغذاء والمثابرة والمحاولة وجعلتها اآلن تشوف حقيقي إلنهاء هذا المطب الساخن. في دفعني هذا األمر المزعج أن أتسول القليل من المعلومات من صديقتي التي سبقتها إلى خارج الصف وسط إيماءات عابرة كانت كافية لتذكيرها بأمري.. كنت أعلم جيدا رغم هذا أنني أخون ذاكرتي.. وكان يجب أن أجد سبيال آخر أكثر مضاء ومفعوال واستقامة.. ودون أن أدري أو أخطط أو أفكر اندفعت لسؤال فادي بعد عودتي إذا كان قد أبلى جيدا في امتحانه في هذه السنة فهو في تلك المرحلة مثلي تماما.. تمنيت لو شاهدته دون سبب ولست أدري أصال كيف خطر على بالي هذا الخاطر الغريب فجأة.! ال شك في أن صدور الجريدة الخاصة بنتائج االمتحانات يخلق مساحة مختلفة بين الطالب وهو بكل األحوال أمر كان ارئعا مفرحا في تلك الحقبة ولكنه وفي الوقت نفسه كان فاجعا لمن لم ينجح ينادي وبين يديه رزمة من الصحف وهو يجوب الشوارع مسرعا يطلق صوته وينادي بأن بين يديه نتائج االمتحانات ما يبث الفرح في قلوب والخوف في قلوب أخرى ليست واثقة من تخطيها المرحلة بنجاح وكنت أعتبرها فرصة نادرة و ارئعة ألتعرف على مجموع عالماتي ومدى قدرتي وقوة عضالتي الد ارسية.. وكذلك مدى اجتيازي لهذا المطب المفصلي الذي ال مناص منه.. ومن يحصد النجاح يتلقى مع التهاني والمباركات بعض نقود مكافأة كتعبير عن فرح وسرور. حسنا كانت نتائج تحصيلي مقبولة وعالماتي مرضية ال بأس بها فهذه هي إمكاناتي وجهدي.

37 37 وال شأن لي بالمتفوقات لكن تلك المسافة الفاصلة بيني وبينهن ربما تعني لي تعني لي الكثير وكل شيئا ما لكنها اآلن ال اعتقادي أنها ستكون على قدر أكبر من األهمية في المرحلة الثانوية لكن تلك الطالبة المنافسة لي والتي كانت تكيد لي كيدا في كل المواقف التي كنت أ ارها سخيفة وب ارعتها في التصيد الماكر كيف وهي تتحصل هل هي إلى جانب مكرها تتمتع بذكاء جيد. والتالعب والكيد. كل ما يسعدني على درجات عالية. ولماذا ال تستعمل ذكاءها في أمور غير المكر اآلن أنني سأترك هذا العالم المليء بالمنغصات على أمل االنطالق إلى مرحلة تقودني إلى عالم آخر جديد وأكثر رحابة..

38 38 ومن جديد.! كان االنتساب لمدرسة جديدة أمر هام ومزعج في آن فاإلقبال الشديد واألعداد الكبيرة التي كنت أ ارها في كل مكان وأمام كل نافذة تسجيل تجعلني أركض بال توقف ألحجز لي مكانا أو مقعدا هناك. فجأة أ ارها أمامي.. ساجدة ك ارسة.! يا هللا ت ارها تالحقني إلى هنا أيضا. متى سأطوي هذا االسم من ذاكرتي وأنسى مجرد التفكير بتواجدها واسمها المخيف المزعج. لكن يبدو أن ال مناص من تواجدها حولي ومعي في كل مكان أذهب إليه والدتها ذكرت أنها ال تريد أن تبتعد عن ابنتها كثي ار وال تريد أن تفصل بينهما مسافات طويلة وأن تلك المدرسة هي األقرب إلى منزلهم واألقرب أيضا بالنسبة لي فأنا في كل األحوال ال أجرؤ أن أقول ذلك ال في حضرة والدتي التي حملت أو ارقي وأشرفت على تسجيل اسمي في المكان نفسه وال أمام أحد غيرها عما يعتمل في صدري حينها...ومن ثم و بكل الرضا كانت تتوق لتنهي مهماتها الصعبة دوما.

39 39 هذيان.. نمت في ليلتي تلك وأنا أغص بكوابيس من األحالم ظهرت أمامي أشباح مرعبة واختفت أشباح حتى غدا سكون نومي هلوسة وارتباكا وحركة غير طبيعية انتبهت لها والدتي ف ارحت تحاول إيقاظي من اجل الذهاب إلى المدرسة نهضت متثاقلة وأحسست وكأني أمشي وأنا نائمة مغمضة العينين أتحدث بلغط غريب وسط ذهول الجميع إلى أن اصطدمت بالباب فاستيقظت.! السلطان عبد الحميد مرة أخرى يأتيني في حلم هذه الليلة أعترف أنني معجبة بشخصية السلطان إعجابا كبي ار ولست أنسى ما ق أرته عنه في الكتب المدرسية وسواها من الكتب ولع أشد ما أعجبني بشخصيته رفضه القاطع تسليم فلسطين لليهود الصهاينة وعلى الرغم من هذا الشعور ما ت ازل حائرة ومستغربة ال تدرك ما السر الغريب الذي ربطها بشخصه وجعلها تسبح في أحايين كثيرة في شخصيته اآلسرة وهل للد ارسة أثر في ترك تلك اآلثار القوية في حنايا شخصيتها الهائمة دائما عبر المجهول. رداؤه الجميل المزركش وطربوشه التركي الفخم وصولجانه الذهبي واعتداده بنفسه وشموخ كتفيه بفخر أم ار يجعلها سعيدة انه اختارها ليظهر في حلمها المتواضع... لماذا السلطان عبد الحميد..! سؤال لم تجد له إجابة مقنعة وقد عللت األمر بأنه انزعاج حصل لرؤية اسم تلك المنف رة قلبا وقالبا.. ساجدة ك ارسة.! يا لهذا االسم الذي أصبح يشكل عندي منبت رعب لماذا ال تتركني وشأني. هل ستعاد تلك المناوشات والع اركات ونحن في مرحلة متقدمة من الد ارسة. يا للهول سأحاول أن أتجاهلها أتجاهلها فقط..

40 40 بداية غير موفقة كانت المرحلة الثانوية مشوقة بكل ما فيها وقد تمت التحضي ارت لها بكل عناية من جلب كتب جديدة ومالبس خاصة مدرسية كانت تملك صفات العزة بكل تفاصيلها بلونها األخضر الداكن ال ارئع. معها لم يكن احد يدرك مدى عشقي للون األخضر بكل درجاته أجده لون الحياة ولن العزة والكبرياء.. من المفارقات التي كانت الفتة ومحفزة ومزعجة في آن والتي حفرت مع بداية السنة شعو ار آلمني تلك الصفعة المعنوية التي تلقيتها عندما نسيت نفسي وأخذتني الثرثرة ثم أعرف أن "روال" وهي قريبة لي بعيدة ومن طرف والدتي.. كانت مدر سة مادة العسكرية والتي كما أعتقد سيكون لي من جديد شانا ارئعا في وقت الحق.. ابتسامة ساجدة الشامتة تلوح لي من بعيد.. شكلت عندي رغبة حجم ما سببته لي من مشاكل ما زلت أعد لها بطريقتي الخاصة طريقة كبرت فعال وكبرنا معا.وما زلت أشعر بكل تفاصيل المرحلة جديد متحفزة, كي أثأر في الثأر على لنفسي لقد السابقة وكأنها ماثلة أمامي تجعلني أكبر في عين نفسي بطريقة أرضاها بت فتاة ارئعة بكل ما تحمل تلك الكلمة من معنى وقد أخذت المرآة مني نصيبا واف ار خاصة وأنا أرتب شعري استعدادا للذهاب للمدرسة وكأنني ألملم عن عمد نظ ارت اإلعجاب طول الطريق من بيتنا وحتى مدرسة ساطع الحصري. من محاسن الصدف أن قرر والدي أخي ار اصطحابنا معه إلى فرنسا وسويس ار حيث كان يقوم بأعمال قانونية تحكيمية صرفة بعدما تولى منصبا رفيعا في القضاء وبعد مقاومة من والدتي التي تعشق روتين الحياة ويصعب عليها من الصعب سهال. في أن تتغير استطاع أقناعها وفي حان وقت السفر.. وقد ت ازمن مع بداية العطلة المدرسية الصيفية كنا نوصيه وما كان الكثيرة أسفاره خالل لكنها في هذه المرة ستكون الفرصة ارئعة فعال في شوق عاصف للسفر. إص ارر والدي دوما سابقا ما يجعل على حاجيات يلبي أكثر من نصفها وحتى هذه لم تكن تنال رضانا أو إعجابنا خاصة أن الصور والمشاهد التي أتى بها إلينا جعلتنا

41 41 في الطريق. عرب من أجمل م ارحل السفر كانت اإلج ارءات التي أبهرتنا بداية فاألمر جديد علينا كل الجدة ومالبسنا المنتقاة بعناية تأخذنا إلى سعادة غامرة وفرحة هامسة: اخفضوا صوتكم عند سؤالكم عن إج ارءات السفر ال داعي لكثير من الردود أو دعوني أنا أرد عن الجميع. هكذا كان والدي يغرقنا تحذي ار وتنبيها حتى أترعنا بها تماما. جلس كل في مقعده ونحن نتلفت من حولنا وكل الوجوه من حولنا غريبة تقريبا إال من عدة أشخاص على فهمي هنا وهناك كل كان يرطن بالفرنسية وكنت اردد متذكرة دروسي شيء رجعت لوالدي مستفهمة: حسنا استديري واهدئي.. كانت دمشق من عل ارئعة جدا وكأنني أودعها للمرة األخيرة لست حتى إذا باللغة استعصى أدري لم ساورني هذا الشعوري الغريب حتى عن فارقناها ثم بدت لنا الصح ارء القاحلة... كان الطعام غريبا أيضا قطع من صدور الدجاج مغلفة بجالتين بقري شفاف وحلوى ال ادري ما هي وقد سألونا أيضا عن رغبتنا في الشرب.! وقد تر اءت لي زجاجات المشروبات الروحية متعددة األشكال واأللوان كان يطلبها األجانب بكثرة علينا وزعوا األلعاب الرياضية والج ارئد الخاصة بالطائرة وبعد شرح إج ارءات األمان المعتادة سبحت الطائرة في فضاء ارئع وأنا أستمتع بالنظر من النافذة على سحر جمال األرض والبحر واألمكنة التي تمر الطائرة من فوقها وما لبثنا أن وصلنا مطار "أورلي" لننتقل منه إلى سويس ار بالقطار األروع والذي كان كل جمهور الركاب تقريبا مسمرة عيونهم على ج ارئدهم وكتبهم مما دفعني ألخرج كتابا بالفرنسية من محفظتي بائعي الكتب الذين يتخذون الجد ارن واألرصفة معرضا لكتبهم.. نظر إلي والدي ثم ارح يضحك بصوت عال وقال باللكنة الشامية المحببة: ما في خواص أصيلة هي أصيلة.. اشتريته من قد كنت في فندق "ديبرج" وأثناء اجتماع حقوقي وحركة في محاكم دولية ورغبة جامحة مني ألتلصص وأفتش كي أعرف شيئا مما ال أعرفه عن عمل والدي نزلت الدرج بهدوء ونظرت في اللحظة التي شاهدني فيها والدي فقطب حاجبيه وأخفى في صدره شعوره بالغضب الصبياني وأدركت أن العقاب سيطالني فور انتهاء جلسة العمل. كالعادة من تصرفي

42 42 ما شأنك أنت كي تتلصصي الغريب وكيف لم تمنعك ثم أستدرك بغضب: والدتك ماذا لو دعاك احدهم لقضاء ليلة حم ارء قلت بسذاجة: ليلة حم ارء..!! على الحاضرين وتخوضي في أمور ال تفهمينها. ما هذا الفضول سمعت والدتي حوارنا فأخذت والدي على جنب ازجرة ومعنفة أن ال مجال لذكر أمور كهذه لفتاة ال تعي أي منها اآلن... حم ارء ماذا يعني حم ارء صحيح هناك من كان يرطن بالفرنسية أغ ارضنا لجناحنا في الفندق يدعوني ألمر لم أفهمه أبدا.. بأسى: قال ال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم.. قاطعني: يا بابا هذا الشخص قليل األدب ومباح أفهمت وأنت يومها لما كنا نحاول لملمة ال شأن لك به ولعلمك هنا في هذه البالد كل شيء متاح ترين القبل منتشرة بشكل عادي بين الرجال والنساء ولكن ال شأن لنا بهم.. ماشي لقد فهمت يا أبي.. نعم أمرك تتدخل والدتي وتقول هامسة: تحاول أن لماذا رد عليها بجفاء: يبدو أنها صيادة متاعب تشرح لها ما ال تعرف. حسبنا هللا ونعم الوكيل هللا يكمل هذه السفرة على خير. قررت لجنة القضاء التي يعمل معها والدي نقل اجتماعاتهم إلى فندق آخر قريب ودفع والدي فاتورة الحساب على أمل العودة وقرر أن ينقلنا إلى الفندق الجديد بعد أن ينهي تلك الجلسة الطارئة.. جلسنا في بهو الفندق نتابع التلفاز الناطق بالفرنسية وقد أثار إعجابي رغم أنني لم أفهم مما قيل إال القليل وقد لفت انتباهي كما قال والدي مشهد تبادل قبالت رقيقة بين نادل الفندق وعاملة النظافة بينما عاملة أخرى ج ازئرية همست تلك الج ازئرية برفق لي: كانت تعمل بصمت وبأدب جم...

43 43 -ال تلقوا المناديل الورقية في المرحاض لقد كانت مهمتي اليوم في غرفتكم متعبة جدا. انتابني خجل عميق فقد كان أخي من يفعل ذلك ولست أنا.. ورغم هذا ال مجال للشرح اآلن.. فجأة قفزت إلى أرسي فكرة لعمل ماكر فسكوت أمي وهدوؤها المعتاد لم يكن يرضيني وهي تستمع لتعليمات والدي حرفيا كان حرصها على تنفيذ كل توجيهاته غريبا جدا على األقل بالنسبة لي حتى أصابني الملل!. قلت بحماسة: أمي.. سوف نلحق بأبي في الفندق القريب لقد طال انتظارنا.. ماذا لن أتحرك من هنا أبدا, هكذا نبه علينا ال تجري علينا المتاعب أصيلة.انتظري حتى يأتي والدك كما وعدنا.. لكنني أعرف الطريق جيدا فقد حفظت شوارع جنيف شب ار شب ار و فعال ذهبنا بعد أخذ ورد طويل وملح ووسط ذهول والدتي الكبير وقد وجدت نفسها محاصرة بإص اررنا خاصة أمام طالقتي في تكلم الفرنسية المت ازيد. حسبنا هللا ونعم الوكيل أنت المتهمة دائما حسنا سأتحمل نتائج عملي. و ارح أخي يغني بصوت خفيض وعلى طول الطريق أغنية يا مال الشام!!! همس احد السويسريين في أذني: -هل تحتاجين شيئا )بالفرنسية( فدهشت ولم أجب وتذكرت كلمة ليلة حم ارء... وصلنا ف أريت والدي وسط هذا الجمع من الفرنسيين يخطب فيهم, ويتحدث بكبرياء وعزة كان مشهدا مألني باالعت ازز والفخر.. نعم أحب سوريا وأهل سوريا نحن هنا أيها الغرب الغريب... عندما شاهدني قطب ما بين حاجبيه بقوة وبدا غاضبا جدا مندهشا من تهوري وما إن انتهى من م ارفعته وعمله واجتماعه وكأنه فرغ بي جام غضبه وقال مزمج ار بغضب شديد.. لن أصحبكم معي مرة أخرى أبدا... سرعان ما انتهت الرحلة بعد أن بدأ شهر الصيام في دمشق وعدنا من حيث أتينا وانعكس المشهد الذي أريت والمترو الفرنسي وخ ارئطه وقد تركتهم هناك وسط تعلقي الغريب كان علينا أن نعود