ثقافة العوملة. رو افدها وتداعياتها. د. جياللي بوبكر. أستاذ الفلسفة بجامعة حسيبة بن بوعلي الشلف الجزائر تاريخ اإلرسال: 30 أفريل 2018 تاريخ القبول: 19 ماي 2018 تاريخ النشر: 01 أفريل 2019. ملخص: إن ثقافة العوملة ال تقابل عوملة الثقافة في سياق العوملة الراهنة بالتعارض بل بالتداخل ألن ثقافة العوملة فكرا وسلوكا تتحد وتنسجم تماما مع منطلقات وأساليب وأهداف مشروع العوملة الذي انتقل بثقافة املركز القائمة على قي م الحداثة وعلى التحديث من الخصوصية إلى العاملية ومن املحلية إلى األممية وكان لهذا التحول أثره الخطير على األمم الضعيفة وعلى هوياتها وال سبيل لها لالستمرار إال بالتحدي والتصدي بالتقدم في مجاالت الفكر والعلم والتكنولوجيا. الكلمات املفتاحية: الثقافة العوملة الحداثة اإليديولوجيا الهوية. Résumé Le rapport actuel de la culture de la mondialisation à la mondialisation de la culture se révèle moins comme un rapport d opposition que celui d une interférence, car une telle culture rentre en symbiose entière avec les tendances dominatrices propres au projet de la mondialisation dont l effet le plus visible, suite au processus de modernisation universalisé, est l affaiblissement continuel des identités nationales. Prises dans une telle situation, les nations faibles sont obligées de soulever le défi, en mettant en œuvre tout ce qui leur permettent de progresser en matière de réflexion, de science et de technologie. les mots clés: Culture, mondialisation, modernité, idéologie, identité. 51
مقدمة إن الحديث عن مظاهر العوملة وتجلي اتها وكذا تداعياتها وإفرازاتها على املستوى الثقافي وغيره ال يكون في غياب الحديث عن ظروف تكوينها وعوامل انتشارها ومن دون ربطها بالواقع الرأسمالي واإليديولوجية الليبرالية والفكر الحداثي وبما أفرزته هذه الروافد من آثار وتداعيات كان لها السبق في إنتاج العوملة باملفهوم املعاصر وفي سياق العصر وما تميز به من تحو الت وتحد يات ومن غير املمكن حصر تداعيات العوملة على الحياة الثقافية كما يفعل البعض فهي كوكبة وكونية ذات تركيبة عامة تشمل الحياة برمتها وتمس جميع ميادينها ويظهر تأثيرها في املجاالت الفكرية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والسياسية واالقتصادية واالجتماعية وغيرها ألن أصل تكوينها يعود إلى ما تم إفرازه من انفجار علمي وتقدم تكنولوجي وتطور اقتصادي وتحول سياس ي وتغير اجتماعي وتجلى ذلك في بلدان الغرب األوربي وفي الواليات املتحدة األمريكية البلدان التي احتكرت منتجات التقدم العلمي والتكنولوجي وشرعت في تعميم أيديولوجيتها وثقافتها ونموذجها االقتصادي والسياس ي واالجتماعي على شعوب العالم األخرى خاصة تلك التي تختلف معها إيديولوجيا وتفرض القيود على كل املحاوالت التي تستهدف التنمية االقتصادية والخروج من التخلف خارج النموذج الليبرالي الحداثي الغربي فاتجه النموذج الحداثي الليبرالي نحو العاملية لتوفر عواملها املوضوعية االقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعوامل الذاتية السياسية واإليديولوجية والتي تعبر عن الخصوصية الفكرية والثقافية الغربية في مقابل خصوصيات شتى عرفها ويعرفها العالم. 1- رو افد ثقافة العوملة ظاهرة العوملة في راهننا صارت حقيقة وواقع كيانها يهيمن على حياة اإلنسان املعاصر بجميع ميادينها من غير استثناء تديره القوى الدولية الكبرى فالعوملة "تحول من الخاص إلى العام ومن املحلي إلى العاملي ومن الخصوص ي إلى الكوني ومن الوطني القومي إلى الشمولي العام في الفكر والسلوك والوجدان فالعوملة تعني ال حدود ثقافية أو سياسية أو جغرافية في العالم وال كيانات أو تكتالت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية إال في حدود العوملة وتحت سيطرة املركز بقيادة الواليات املتحدة األمريكية." 1 إن السياق التاريخي الذي نشأت فيه العوملة وتكو نت يكشف عن تجلياتها وهي تجليات ارتبطت أساسا بالفكر والثقافة وبالسياسة واالقتصاد وبالحياة االجتماعية عامة وإن كان االقتصاد وتطو ره كانت له األولوية في جر العالم صوب العوملة وجعلها تشمل ما هو ثقافي وسياس ي واجتماعي وعسكري وغيره بالنسبة للمظهر الفكري والفلسفي والثقافي عموم ا, ويتمثل في الحرص على تعميم الفكر الفلسفي الليبرالي الرأسمالي الذي يقوم على مبادئ الحداثة والتحديث كما يفهمها الغرب وهو فكر مناهض لكل أنماط الفكر في العالم هذه املفاهيم واملقوالت التي ارتبطت بالنهضة األوربية وباإلصالح الديني والسياس ي والتربوي واالجتماعي عامة وباالنفجار العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية وهي املفاهيم التي قامت 52
عليها العقالنية والفكر النظري في الحضارة الحديثة واملعاصرة وتمثلت في إصالح العقل وفي العقالنية ذاتها وفي الروح النقدية وإخضاع كل ما هو قائم وتراثي من فكري وثقافي وعلمي وفلسفي ملعيار النقد والغربلة والتمسك بالروح العلمية وبمقوماتها في مواجهة األفكار غير العلمية وإقصاء الفكر الفلسفي الكالسيكي الذي تميز بطابعه امليتافيزيقي والغيبي أحيانا وبطابعه املثالي املجرد في أحيان أخرى وإبعاد كل ما هو ال علمي من ديني وسحري وغيره والتمسك بالتوجه العلماني الذي ي قص ي كل مقدس أخالقي أو ديني أو إنساني ويفصل بين الدنيوي وغير الدنيوي وال يهتم إال بما هو دنيوي ومن املفاهيم األساسية في الفكر الغربي الحرية في الحياة الفردية وفي الحياة االقتصادية والحرية والتعددية في الحياة السياسية وصار مفهوم الحرية شعار الحياة في العالم الغربي فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وممارستها بالصورة الغربية عالمة التحضر ومواكبة العصر. صارت العوملة في الفكر الغربي من الضروريات والبديهيات املطلوبة فهي كما يقول جيرار ليكلراك: إن العوملة أمر يختلف عن األمر البسيط واملحض. العوملة كتابة عن والدة كرة أرضية واحدة هي من اآلن وصاعدا ملك الناس أجمعين: إنها ليست ملكية أي ة حضارة كبرى وال سيطرة ألي منها عليها لكرة أرضية ال مركز عليها أما التغريب وخالفا لذلك فيعني انقسام العالم إلى مركز مسيطر وإلى طرف خاضع للسيطرة إن ه اسم آخر لإلمبريالية واالستعمار. 2 وارتبط تعميم الحداثة ونقلها خارج الغرب األوربي وخارج الواليات املتحدة األمريكية بجملة من املبادئ, منها: نقل التكنولوجيا وتسويقها إلى مختلف شعوب العالم. اعتماد أسلوب الحوار من خالل حوار األديان والثقافات والحضارات. الحرص على حماية حقوق اإلنسان. املحافظة على البيئة والحد من التسلح النووي وغيره. الدفاع عن الحريات الفردية والجماعية وحماية األنظمة الديمقراطية في العالم. فالعقالنية التي قام عليها الفكر الليبرالي الحداثي واملبادئ التي تمثل تها القوى الكبرى أخذت طابع العوملة وصفة الكونية من خالل حرص القوى املهيمنة على نشر ثقافة العوملة الفكرية والفلسفية والتي تم ثل في جوهرها النموذج الثقافي الفكري والفلسفي الغربي األمريكي بجميع خصوصياته النموذج الذي ارتضاه الغرب لنفسه وفرضه على غيره من خالل عوملة املناهج التربوية عن طريق العوملة التي تجل ت فيه تربويا وثقافيا وفكريا وفلسفيا. 2- تداعيات العوملة على الثقافة كان للوضع الثقافي في جو العوملة أثره البارز على ثقافات الشعوب في األطراف التي تعرضت وحدتها للتصدع والتشقق وطرحت لديها إشكالية العوملة والخصوصية الثقافية وإشكالية العوملة والوحدة الثقافية والفكرية والدينية وإشكالية العوملة وتاريخ الثقافة وماضيها وحاضرها ومستقبلها مما 53
يعني أن العوملة نابعة من الشعور بالعظمة وصادرة عن إرادة الهيمنة يقول محمد عابد الجابري: العوملة UNIVERSALITE- إرادة الهيمنة وبالتالي قمع وإقصاء للخصوص ي. أما العاملية GLOBALISATION UNIVERSALISME فهي طموح إلى االرتفاع بالخصوصية إلى مستوى عاملي: العوملة احتواء للعالم والعاملية تفتح على ما هو كوني عاملي. نشدان العاملية في املجال الثقافي كما في غيره من املجاالت طموح مشروع ورغبة في األخذ والعطاء في التعارف والحوار والتالقح. إنها طريق األنا للتعامل مع اآلخر بوصفه أنا ثانية طريقها إلى جعل اإليثار يحل محل األثرة أما العوملة فهي طموح بل إرادة الختراق اآلخر وسلبه خصوصيته وبالتالي نفيه من العالم العاملية إغناء للهوية الثقافية أما العوملة فهي اختراق لها وتمييع. واالختراق الثقافي الذي تمارسه العوملة يريد إلغاء الصراع اإليديولوجي والحلول محله.. الصراع اإليديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير املاض ي والتشريع للمستقبل أما االختراق الثقافي فيستهدف األداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع: يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم: اإلدراك. 3 وكان إلشكالية الخصوصية الثقافية والعوملة وقعها الكبير على الثقافة والفكر واملعتقدات الدينية في العالم أجمع, وفي العالم العربي واإلسالمي الحديث واملعاصر بصفة خاصة خاصة وهو العالم األكثر استهدافا من قبل العوملة ألسباب تاريخية وعقدية وجيوسياسية وإستراتيجية وإذا كان املركز والعوملة قد حرصا على تفتيت العالم العربي واإلسالمي سياسيا هدرا للطاقة وضربا للوحدة وقضاء على التكتل والتجمع إلى سني وغير سني إلى بربري وغير بربري إلى عربي ومسلم إلى غيرها من الثنائيات والثالثيات وأكبر منها تكريسا للصراعات الطائفية واملذهبية والنزاعات العرقية والجهوية وغيرها فإنهما حرصا على ذلك من قبل ومن خالل املدخل واملقدمة إلى ذلك أي االنطالق من تفتيت العرب واملسلمين ثقافيا وعقائديا وتراثيا وتاريخيا ألن الشعوب العربية واإلسالمية مازال التراث فيها حي ا يحركها في وجه عواصف العوملة ورياح ثقافتها التي تستهدف إقالع ثقافات الشعوب من الجذور وإعادة تشكيلها وفق ما تتطلبه ثقافة العوملة وسائر مصالح املركز. والصراعات السياسية في بلدان العالم العربي واإلسالمي بين أنظمة الحكم واملعارضة بمختلف انتماءاتها هي في منطلقاتها وفي جوهرها صراعات ثقافية وفكرية وإيديولوجية تحرص العوملة على خلقها وإذكاءها إليجاد التفرقة والقضاء على الوحدة الثقافية والفكرية والعقدية واملركز يعي جيدا دور الوحدة الثقافية في تجميع القوة والنهوض بالتنمية والتطور واالزدهار هو الوضع الذي عرفته الدولة اإلسالمية في أيام عزها الديني والثقافي والحضاري عموما وكان للوحدة الدينية وللرابطة الثقافية األثر األقوى في تحقيق تلك القو ة والعزة لهذا كان من حرص العوملة أن تجعل من الثقافة والفكر في العالم العربي واإلسالمي الحديث واملعاصر تيارات فكرية متصارعة واتجاهات داخل التيارات متباينة ومدارس فلسفية مختلفة تستمد شرعيتها من املوروث والوافد التيار اإلسالمي والتيار الليبرالي والتيار االشتراكي والشيوعي وكل تيار من هذه التيارات منقسم على نفسه فالتيار اإلسالمي فيه االتجاه السلفي األصولي 54
املحافظ واالتجاه السلفي املعتدل واالتجاه السلفي الجهادي التكفيري وغيره بل نجد كل اتجاه هو اآلخر منقسم على نفسه في مواقف تحددها أراء األفراد والفئات أما التيار الليبرالي القومي نجد فيه االتجاه الليبرالي التغريبي والليبرالية التوفيقية وهكذا مع التيارات القومية االشتراكية والتيارات الشيوعية وصار كل تيار يقدح في اآلخر ويطعن في مبادئه وأفكاره هذا يكفر ذاك وهذا يخو ن اآلخر. انتقل الصراع الفكري والديني والثقافي إلى الحياة السياسية واالجتماعية ثم تحول إلى عمل مسلح واقتتال بين اإلخوة األشقاء في الوطن وفي الثقافة وفي التاريخ وفي املصير املشترك هو الوضع الذي عاشته وال تزال تعيشه الكثير من شعوب العالم العربي واإلسالمي في لبنان وفي الجزائر وفي السودان وفي الصومال وفي غيرها. ومن جانب آخر نجد حقد الشعوب على العوملة واملركز يزداد بسبب محاوالت العوملة تشويه ثقافاتها وطمسها ومحو وحدتها أد ى إلى تنامي وتطور العنف الفكري لديها ضد العوملة واملركز وانتهى عند البعض إلى العمل املسلح ضد مصالح الغرب األوربي ومصالح الواليات املتحدة األمريكية وضد مصالح كل من يتجه في اتجاه العوملة واملركز فالهدف األساس ي من العوملة الثقافية تسخير كل وسائل اإلعالم واالتصال والنظم املعلوماتية ومؤسسات العلم والفكر والثقافة وكل النشاطات الفكرية والثقافية والعلمية من مؤتمرات وندوات وملتقيات وغيرها للوصول إلى ثقافة تتخطى الحدود السياسية والجغرافية مهما كانت صالبتها وتخترق حدود الدولة الوطنية والقومية وال تعترف بالخصوصية الثقافية والتاريخية والدينية ألي ة جماعة بشرية وتبحث عن مواطن التقاطع التاريخي والتشابه الثقافي والتماثل الفكري بين شعوب املعمورة بهدف توحيد القي م الفردية واالجتماعية التاريخية والجغرافية قيم االستهالك املادي والثقافي ولتصب في وحدة عاملية وكوكبة واحدة تحت سيطرة األمركة املتصهينة بالدرجة األولى والغرب األوربي املتقدم بالدرجة الثانية أما بقية بلدان العالم فتعيش التبعية واالستغالل بمختلف أشكاله. ففي األطروحة السابعة من أطروحاته حول العوملة يقول محمد عابد الجابري: ومع التطبيع مع الهيمنة واالستسالم لعملية االستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعور باالنتماء لوطن أو أمة أو دولة وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى إن العوملة عالم من دون دولة من دون أمة من دون وطن. إن ه عالم املؤسسات والشبكات العاملية عالم الفاعلين وهم املسيرون واملفعول فيهم وهم املستهلكون للسلع والصور واملعلومات والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما وطنهم فهو الفضاء املعلوماتي الذي تصنعه شبكات االتصال الفضاء الذي يحتوي-يسيطر ويوجه- االقتصاد والسياسة والثقافة. العوملة نظام يقفز على الدولة واألمة والوطن: نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات واملؤسسات والشركات املتعددة الجنسية وبالتالي إذابة الدول الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العاملية. والعوملة تقوم على الخوصصة أي على نزع ملكية الوطن واألمة والدولة ونقلها إلى الخواص في الداخل والخارج. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز ال يملك وال يراقب وال يوجه. وإضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العوملة يؤديان حتما إلى استيقاظ وإيقاظ أطر لالنتماء 55
سابقة على األمة والدولة أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب املذهبي الخ والدفع بها جميعا إلى التقاتل والتناحر واإلفتاء املتبادل: إلى تمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية إلى الحرب األهلية. 4 إن العوملة بتوج هاتها وأبعادها وتجلياتها املتعددة واملختلفة من جهة واملتداخلة واملتشابكة من جهة أخرى تمثل استعمارا قديما جديدا يتماش ى مع تحوالت العصر وهو استعمار موصول تاريخيا باالستعمار القديم تمثل العوملة فيه أبرز تحول يقود العالم تجاه أهداف الكوكبية العوملة هي ما بعد االستعمار باعتبار أن ال ما بعد في مثل هذه التعابير ال يعني القطيعة مع ال ما قبل بل يعني االستمرار فيه بصورة جديدة كما نقول ما بعد الحداثة. 5 وتمثل العوملة في الواقع اإلنساني املعاصر واقعا بعينه محتوما من األمركة والغرب األوربي املعاصر بكل ما أوتيا من قو ة وغلبة واقع تتسرب مؤثراته وآثاره وتداعياته بدون هوادة ومن غير توقف عبر كل املداخل لغزو حياة الشعوب فكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا وغيره وزاد في قو ة الغزو دور وسائل اإلعالم وتطور تكنولوجياتها فمن الجانب الفكري والثقافي وإذا كانت الثقافة تعبر عن مرحلة تاريخية بعينها وتتشكل في إطار الوعي التاريخي ألمة ومن خالله وتتعدد املسارات بتعدد الثقافات عبر التاريخ فإذا ما سيطرت ثقافة وذاعت وتحولت إلى ثقافة مركزية وأصبحت باقي الثقافات في األطراف وأصبح مسار الثقافة املركزية هو العصر والتاريخ واملسار لباقي املسارات يعادل الثقافة العاملية وغيرها ثقافات محلية. 6 إن ثقافة العوملة في عصرنا تشك لت في الوعي التاريخي الغربي األوربي واألمريكي الحديث واملعاصر سيطرت وانتشرت فأصبحت تشمل كل ثقافات شعوب األطراف بوجود من يتبناها في عدد قليل أو كثير إن تمك ن املركز األوربي الحديث واملعاصر من وهي ثقافة املركز في األصل والنشأة والتكوين والهوية. امتالك أسباب السيطرة ونشره ثقافته في ربوع العالم خارج حدوده في مختلف ثقافات العالم جعل اتجاه الثقافة األوربية هو االتجاه التاريخي لكافة الثقافات هو األمر الذي عرفه اإلنسان في ماضيه الثقافي والحضاري مع الثقافات الشرق القديم مثل الثقافة الصينية والثقافة الهندية والثقافة الفارسية والثقافة املصرية وبعدها ثقافة اليونان القديم ثم الثقافة اإلسالمية وغيرها فكل منها كان يشكل املركز وغيره يمثل األطراف مما يؤكد تعدد وتنوع املسارات الثقافية في التاريخ وثقافة العوملة الغازية واحدا من الثقافة مهما كان املسارات الثقافية تنكر للحقيقة التاريخية التي تمتاز بالحياد واملوضوعية وهي أن مسارها والوعي التاريخي الذي تكو نت وترب ت تنطوي على ما هو ثابت وما هو متغير على الخاص واملشترك الخاص يلزمها ويعكس عناصر ذاتها وخصوصيتها أما املشترك فهو إنساني عاملي عام ملك للجميع مثل الحكمة الشرقية القديمة والحكمة اليونانية والحقيقة اإلسالمية والتقدم الفكري والثقافي والعلمي والتكنولوجي الحديث واملعاصر. إن أصول ومصادر وتجليات الثقافة الغربية الحديثة واملعاصرة التي تسهر العوملة بكل ما أوتيت من قو ة على ترويجها ارتبطت كلها بحركة اإلصالح الديني والفكري والسياس ي والتربوي وبالثورة على القديم في الفكر والالهوت والسياسة وغيرها وبالتقدم العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية مما أد ى 56
إلى ظهور فلسفة جديدة وقي م ثقافية جديدة أفرزها الوعي التاريخي في الغرب األوربي الحديث أهم ما تميزت به هذه الثقافة والفلسفة هو ارتكازها على عدد من القي م وهي قي م مستمدة من الطبيعة البشرية ومما يعطي األولوية القصوى للجانب الحياتي في الدنيا من اعتبار للقي م األخالقية والدينية مثل االعتماد على العقل والعقالنية ونبذ كل ما ال يقبله العقل واتخاذ الحرية والتحرر سبيال في الحياة الفردية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية وإبعاد كل ما يعيق ويقيد أو يمنع سير اإلنسان نحو التقدم واالزدهار في شتى املجالت هذا ما تقوم عليه النظرية الليبرالية وفلسفتها االقتصادية والسياسية الحرية والتعددية والتداول على السلطة وإبعاد الدولة والتوجيه مهما كان مصدره من التأثير في الحياة االقتصادية وارتكاز االقتصاد على الحرية وامللكية الفردية وعلى قوانين السوق الحرة ومن قي م الثقافة الغربية الحديثة التوج ه العلمي واإليمان بالعلم الذي حل محل كل فكر وكل حقل معرفي عرفه اإلنسان توج ه أقص ى كل صنوف التجل يات الثقافية الكالسيكية من فلسفات وديانات وآداب وأخالق وفنون علوم وغيرها إال ما يخدم املسار العلمي والعقالني الحر القائم في الوعي التاريخي والحضاري في الغرب األوربي الحديث املسار العلمي في الثقافة الغربية وانفصاله عن سائر املسارات غير العلمية جعله يقطع أشواطا رائدة في دراسة الطبيعة والطاقة واإلنسان ومعرفة العالقات الثابتة بين الظواهر واكتشاف القوانين التي تتحكم في تلك العالقات التقدم العلمي وحاجة اإلنسان إلى التأثير في الطبيعة والسيطرة عليها وتسخير ظواهرها وتحويل الطاقة من صورة نافعة إلى صورة غير نافعة كل هذا فج ر الثورة الصناعية والتطور التقني الذي أصبح ميزة من ميزات العصر وأبرز تحول أث ر في حياة اإلنسان اليومية وبصفة مباشرة من خالل اإلنتاج الصناعي لالستهالك اليومي ومن خالل تحول حياة اإلنسان من اعتمادها على وسائل وأساليب وتقنيات بدائية إلى وسائل وتقنيات متطورة جد ا يستعملها في سائر أعماله وفي مختلف مجاالت الحياة. ما تحقق بعد االعتماد على العقالنية وعلى الحرية وعلى العلم والتكنولوجيا صار التوج ه الحديث للغرب األوربي عقالني علمي حر وملا أقص ى هذا التوج ه كل ما هو غير علمي ومقدس أخالقيا كان أو دينيا أو غيره واهتم فقط بما هو طبيعي موضوعي وبشري وبما هو دنيوي ال ديني ترس خ الطابع العلماني في الثقافة الغربية وأصبحت ذات قي م استوحاها اإلنسان من وعيه التاريخي الحضاري الحداثي والتحديثي في مضمونه وفي املرحلة التاريخية بتحوالتها وتطوراتها املختلفة. إن الخصوصية الثقافية في الغرب األوربي الحديث التي ارتبطت بقي م الحداثة والتحديث والليبرالية من عقالنية وحرية وتعددية وعلمنة وتقانة وعلمانية وغيرها والتي تطورت واتسعت مجاالت استعمالها صارت تمثل النموذج الثقافي في املركز ومساره الذي يجب أن ي حتذى به في األطراف تضطلع باملهمة عدة جهات مهتمة بالعوملة ومؤيدة لها في املركز وفي األطراف عن طريق ثقافة العوملة وعوملة الثقافة ثقافة العوملة أي تعميم ثقافة املركز لتشمل ثقافات األطراف وتحتويها دونما اعتبار للتنوع الثقافي والفكري والديني وعوملة الثقافة أي تحويل ثقافات األطراف من خصوصياتها الضيقة ونقلها إلى سعة ورحابة العاملية واالنفتاح على ثقافة املركز واالندماج معها في جو من االنسجام والتوافق وفي الحالين معا سواء 57
عوملة الثقافة أو ثقافة العوملة فإن النتيجة واحدة ومحسومة هي أن ثقافات األطراف األجزاء ت صبح محتواة في ثقافة املركز الكل ليس على سبيل التفاعل الثقافي الند ي وإنما على سبيل إعادة تشكيل ثقافة املركز لثقافات األطراف حسب ما تقتضيه الحاجات واملصالح املختلفة للمركز ودون مراعاة حاجات ومصالح األطراف وملا كانت الثقافة الغربية ذات طابع علماني فهي ال تتقيد باملفاهيم غير العلمانية كالدينية واألخالقية بل لها العداء وتبدي ومن لغريب أن عداء الثقافة العلمانية الغربية املادية الحديثة ينصب أساسا على الثقافة اإلسالمية بل إن لقادة الغربيين السياسيين وقادة الثقافة والفلسفة والفكر يصوبون سهامهم نحو الثقافة اإلسالمية ويتخذون منها العدو الرئيس ي لثقافتهم العلمانية املادية وكثير من آراء بعض هؤالء القادة مثل الرئيس نكسون وفوكويامنا وهتنجتون وغيرهم وصراع الحضارات وحوار الحضارات تتجلى فيها هذه األفكار املعادية للفكر اإلسالمي. 7 إن جو ثقافة العوملة وعوملة الثقافة حريص كل الحرص على صهر ثقافات األطراف في ثقافة املركز وكان له تأثير ملموس في هذه الثقافات وفي أهلها فأصبح للثقافة الغربية مرو جون في األطراف مما أد ى إلى االختالف بين دعاة العوملة ومعارضيها وكثيرا ما تحو ل االختالف إلى نزاعات وصراعات مسلحة والحقيقة أن الكثير من النزاعات والصراعات الدموية وغير الدموية هي نتيجة صراع بين أنظمة سياسية وثقافية دخيلة ليبرالية وغيرها من جهة وبين تيارات وتنظيمات محلية ذات انتماءات ثقافية ودينية وتاريخية موروثة وكثيرا ما لعبت العوملة الثقافية والسياسية دورا في تمزيق وحدة الهوية ووحدة الخطاب الديني وحدة الخطاب القومي ووحدة الخطاب الوطني السياس ي من نماذج هذا التمزق والهوية املفقودة حال الجزائر والتي لم يستقر فيها الخطاب السياس ي على مفهوم واضح يحدد خصوصيات املجتمع الجزائري وبالتالي انتماءاته السياسية يوظف هذا الخطاب مفاهيم غير قارة لتحديد هوية الجزائر مثل مفهوم األمة الجزائرية حينا وأحيانا أخرى مفهوم األمة العربية ثم مفهوم األمة اإلسالمية بكل ما يحمله هذا األخير من تنوع وشمولية وأخيرا دخل مفهوم املتوسطية. 8 تحرص العوملة على نشر ثقافة التفسخ واالنحالل األخالقي وثقافة الشهوة واملتعة وإذاعة أنشطة الترفيه واللهو واللعب والتسلية التي فيها مضيعة للوقت وهدر للجهد من دون فائدة ت ذكر ثقافة تزرع الفساد والتعفن واملسخ الفكري الذي ال يأخذ في االهتمام سوى الجانب الحيواني الشهواني في اإلنسان يعامله بطريقة آلية في الفكر واملمارسة بأتمتة صماء وبعقالنية مفرطة وبحرية مشبوهة وبعلمانية غير متوازنة ويسحب منه كل ما من شأنه يوفر له التوازن والتوافق بين ماديته وروحانيته من قي م عليا دينية وأخالقية وإنسانية وتحرص وسائل اإلعالم واالتصال على غرس قي م العوملة الثقافية في األطراف من خالل ما تبثه من أنشطة وبرامج تطبق فيها مناهج تربوية وتعليمية باسم التجديد والتطور في حقل التربية والتعليم والتكوين تستهدف من وراءها تربية وتكوين األجيال على قي م النموذج الثقافي الغربي واألمريكي وهو مطلب وطموح املنظمات العاملية الفكرية والثقافية والعلمية مثل منظمة اليونسكو وهي منظمات تعمل تحت إشراف وتوجيه املركز وتشرف على وسائل اإلعالم واالتصال التي تسعى للنيل من ثقافات 58
األطراف ومن خصوصياتها خاصة ممن يعارض العوملة الثقافية ويتمسك بعناصر هويته الثقافية جهات من املركز حريصة على تغليب نموذج ثقافة العوملة في التربية والتعليم والتكوين والتثقيف واملثاقفة والترفيه والتسلية وغيرها. ونجد أن باسم املثاقفة يتم انحسار الهويات الثقافية الخاصة في الثقافة املركزية مع أن اللفظ سلبي ACCULTURATION ويعني القضاء على ثقافة لصالح أخرى ابتالع ثقافة األطراف داخل ثقافة املركز. وتخفف بعض املصطلحات األخرى من مستوى عدم الندية بين الثقافات فتبرز مفاهيم التفاعل الثقافي التداخل الحضاري حوار الحضارات التبادل الثقافي وهي مفاهيم تنتهي إلى أن ثقافة املركز هي الثقافة النمطية ممثلة في الثقافة العاملية والتي على كل ثقافة احتذاؤها وي ستغل ضعف شعوب األطراف فيتم تغيير النظم واملناهج التربوية وتطوير الكتب املدرسية وغيرها في مؤسسات التربية والتعليم والتكوين عامة مثل ما يحصل في جامع األزهر بمصر وفي غيره استجابة لتحوالت العصر وتماشيا مع التطورات الحاصلة في التربية والتعليم في بلدان املركز واستجابة آلليات العوملة ومداخلها املتعددة مثل حاجة شعوب العالم إلى التسامح وإلى حوار والحضارات وإلى حوار الثقافات واألديان وتعايشها االستجابة وتمثل ما يترتب عنها كفيل بإفراز تداعيات خطيرة من شأنها أن تطمس الخصوصية الثقافية والسادة الوطنية واملعتقدات الدينية وتؤيد وتؤبد االحتالل والظلم الذي تتلقاه الشعوب العربية واإلسالمية وغيرها في مختلف أقطار العالم وتنتهي أسطورة التعددية التي طاملا قامت عليها حضارة املركز وعبر عنها وليم جيمس في عالم متعدد لصالح عالم أحادي الطرف. ثقافة تبدع وثقافات تستهلك ثقافة تصدر وثقافات تنقل والوطن هو الضحية ميدان لصراع القوى الكبرى باملال والسالح وتضيع الخصوصية لصالح الصراعات املحلية والدولية ويصمت الحوار الوطني ويشق صف الوطن. فاملعركة إذن بين الخصوصية والعوملة ليست معركة بريئة حسنة النية أكاديمية علمية بل تمس حياة األوطان ومصير الشعوب 9. خاتمة ما زاد في تفاقم الوضع الفكري والثقافي في اتجاه التدهور واالنحطاط في عاملنا العربي واإلسالمي ظاهرة العوملة في الثقافة املعاصرة من خالل فرض ثقافة العوملة ثقافة الحداثة وثقافة ما بعد الحداثة وقي م الغرب األوربي وأمريكا الشمالية الفكرية واملادية والعملية في الحياة عامة كل هذا صار يمثل التوج ه الثقافي العام األوحد الذي تفرضه قوى املركز في معادلة املركز واألطراف في سياق العوملة عامة والعوملة الثقافية خاصة على جميع شعوب العالم بما في ذلك الشعوب العربية واإلسالمية التي تئن تحت وطأة االستعمار ومخل فات االستعمار وتحت ضربات الغزو الفكري والثقافي املوجعة في قلب الهوية العربية اإلسالمية ناهيك عن اآلالم التي تعانيها أمتنا العربية واإلسالمية بسبب الذين يطعنون كرها ومكرا في قي م ورموز هويتنا الدينية والثقافية. 59
يستغل املركز كل الوسائل واألساليب املتاحة املشروعة وغير املشروعة لتمرير املخطط الثقافي واملشروع الفكري للعوملة الثقافية وللجمع بين ثقافة العوملة وعوملة الثقافة أي التوحيد بين االنتشار واالنصهار انتشار ثقافة العوملة التي هي ثقافة املركز القوي الطاغي املتجب ر وانصهار ثقافة من في األطراف الضعيف املتهي ب املقهور املغلوب على أمره املركز يستغل سائر وسائل اإلعالم واالتصال ووسائل التثقيف واملثاقفة والتجارة واملال واالقتصاد والسياسة والفن والعلم والتكنولوجيا وغيرها وحتى الجيوش وقوة الحديد والنار إن استدعت الضرورة ذلك في ظل هذه األوضاع الثقافية والفكرية الفاسدة املتعفنة لم تستطع أمتنا الحياة على املوروث وحده وال هي تمس كت به وال أن تحيا على الوافد وحده وال اندمجت فيه بل تعيش حقيقة أزمة مشروع فكري وثقافي وهي أزمة يعد ها العديد من املفكرين واملثقفين بأنها املعضلة األم التي وراء تخل فنا. وفي أزمتنا الثقافية يقول أحد الباحثين: "فاملجتمع العربي محكوم بمنظومة قي م ثقافية شاملة موظ فة بإتقان لتكريس التجزئة في الوطن العربي وربط هذا األخير بالسوق الرأسمالية العاملية وتعميم الجهل وتعميق التخلف وترويج نمط الحياة االستهالكية املجنونة وخنق املشاعر القومية ولجم أي نزوع بنائي لدى الجماهير وإيقاظ املظلم من املاض ي الغابر وجعله جاثما باستمرار على صدر الحاضر وممسكا بتالبيبه" 10. الهوامش 1- جياللي بوبكر:العوملة مظاهرها وتداعياتها نقد وتقييم عالم الكتب الحديث األردن الطبعة 1 سنة 2011 ص 229. 2- جرار ليكلراك: العوملة الثقافية ترجمة جورج كتورة ص 333. 3- محمد عابد الجابري: العرب والعوملة ص 301. 4- املرجع السابق: ص 304-303. 5- محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر املعاصر ص 135. 6- حسن حنفي: حصار الزمن إشكاالت ص 448. 7- محمد الجوهرى حمد الجوهرى: العوملة والثقافة اإلسالمية ص 116. 8- عبد الباسط عبد املعطي: العوملة والتحوالت املجتمعية ص 213. 9- حسن حنفي: حصار الزمن إشكاالت ص 497-496-495-494. 10- حامد خليل:أزمة العقل العربي دار كنعان للدراسات والنشر دمشق سوريا الطبعة األولى سنة 1991 ص.55 60