ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﳌﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻬﻮﻳ ﺔ واﺳﱰاﺗﻴﺠ ﻴﺎت اﻟﺘ ﺜﺎﻗﻒ اﺳﱰاﺗﻴﺠ ﻴﺎت اﻟ دراﺳﺔ ﺗﺤﻠﻴﻠ ﻴﺔ ﻧﻈﺮﻳ ﺔ وﺣﺪة اﻟﺒﺤﻮث اﻻﺟﺘﺎﻤﻋﻴﺔ ﻋﺰام أﻣﻦﻴ 24 ﻛﺎﻧﻮن اﻷول / دﻳﺴﻤﱪ 2016

النسخ

1 ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﳌﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻬﻮﻳﺔ واﺳﱰاﺗﻴﺠ ﻴﺎت اﻟﺘﺜﺎﻗﻒ اﺳﱰاﺗﻴﺠ ﻴﺎت اﻟ دراﺳﺔ ﺗﺤﻠﻴﻠ ﻴﺔ ﻧﻈﺮﻳﺔ وﺣﺪة اﻟﺒﺤﻮث اﻻﺟﺘﺎﻤﻋﻴﺔ ﻋﺰام أﻣﻦﻴ 24 ﻛﺎﻧﻮن اﻷول / دﻳﺴﻤﱪ 2016

2

3

4 ملخص البحث يهدف هذا البحث النظري إلى إلقاء الضوء على مسألة الهجرة بصورة عامة وآثارها النفسية في املهاجرين بصورة خاصة واإلحاطة -قدر اإلمكان- بالعوامل النفسية واالجتماعية والسياسية التي تؤد ي إلى تحقيق التكي ف النفس ي واالندماج االجتماعي الناجح للمهاجرين في مجتمعاتهم املضيفة. ولقد رك ز الباحث على الصعوبات النفسي ة التي تواجه هؤالء املهاجرين في املجتمعات الجديدة للفت االنتباه إليها وتوضيحها كي يتم تالفيها وتجاوزها. كما أشار إلى ضرورة الحذر والدق ة في تعميم هذه الصعوبات وآثارها النفسية في املهاجرين جميعهم موضح ا دور الفروقات النفسية واالجتماعية بين مهاجر وآخر. كما استعرض البحث بشكل مفص ل نسبي ا نظري ة استراتيجيات الهوي ة ونظرية استراتيجي ات التثاقف ال لتين تحاوالن اإلجابة بدقة على كثير من األسئلة املتعلقة بآلي ات التكي ف النفس ي واالندماج االجتماعي والصراع النفس ي الثقافي الذي يعيشه املهاجر. إن الضبط العلمي ملفهومي االندماج والت ماهي وبالتالي التمييز بينهما من خالل اعتبارهما ظاهرتين مختلفتين على الص عد الن فسي ة واالجتماعي ة والس ياسي ة يشكل أحد أهم النقاط التي حاول هذا البحث إبرازها. 1

5 املحتويات مقدمة... 4 أوال- اإلطاراملنهجي للدراسة إشكالية الدراسة أهداف الدراسة وأهميتها مفاهيم الدراسة منهجي ة الدراسة...8 ثاني ا: العلوم االجتماعية والهجرة... 8 ثالث ا: علم النفس والهجرة مفهوم الث قافة علم النفس عبر الثقافي وعلم نفس املثاقفة رابع ا: الهجرة كسيرورة مرحلة ات خاذ القرار بالهجرة مرحلة تنفيذ القرار مرحلة الوصول واالستقرار خامس ا: اآلثار النفسي ة للهجرة صدمة االستئصال الثقافي الحنين والحداد ال الشعوري االكتئاب والذهانات األمراض النفس/جسدية حاالت االدمان اإلدمان الكحولي وإدمان تعاطي املخد رات إدمان وسائل التواصل االجتماعي الكبت الجنس ي وإدمان األفالم اإلباحية

6 سادس ا: الهجرة وديناميات التكي ف واالندماج نظرية استراتيجيات الهوية لكارمل كاميليري مفهوم الهوي ة الهجرة واستراتيجيات الهوي ة أوال- استراتيجيات الهوية من أجل تجن ب الص راع الثقافي أ. استراتيجيات تجن ب الص راع عن طريق االنسجام البسيط: ب. استراتيجي ات تجن ب الص راع عن طريق االنسجام املركب: ت. استراتيجيات تخفيف الصراع الثقافي: ثاني ا إستراتيجي ات الهوي ة من أجل إعادة االعتبار للذات: أ. استراتيجي ات الهوي ات التابعة ب. استراتيجي ات الهوي ة التفاعلية نظرية استراتيجيات التثاقف لجون بيري مفهوم املثاقفة...Acculturation 38 استراتيجي ات التثاقف الفرق بين االندماج والتماهي وم حددات التثاقف خاتمة وتوصيات قائمة املراجع مراجع بال لغة العربية مراجع بال لغة األجنبية

7 مقدمة في زمن العوملة وتفكك الحدود الجغرافية أصبحت الهجرة جزء ا أصيال في تركيبة واقعنا املعاصر 1 فعلى الرغم من أن هذه الظاهرة قديمة جد ا غير أنها تسارعت تسارع ا متزايدا في العقود األخيرة لتصبح بذلك جزء ا ال يتجزأ من عملية التكامل العاملي حتى أن بعض علماء االجتماع أطلقوا على أيامنا هذه "عصر الهجرة". 2 وتؤدي حركات الهجرة إلى التنوع اإلثني والتعدد الثقافي في معظم املجتمعات ويمكننا القول إن عملي ة املثاقفة الناتجة عن التواصل الثقافي أصبحت سواء على صعيد الفرد أو الجماعة واقع ا ال يمكن إنكاره وال يمكن ألحد العيش بمعزل عنه. 3 ومنذ أن تفاقمت ظاهرة الهجرة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في/إلى أميركا الشمالية وفي النصف الثاني من القرن العشرين في/إلى أوروبا املحتاجة إلى اليد العاملة في أعقاب الحرب العاملية الثانية 4 حاول الباحثون في مجال العلوم االجتماعية واإلنسانية دراسة تأثيرها في املجتمعات امل ضيفة وفي املهاجرين أنفسهم. وفي املدة األخيرة ازداد االهتمام باآلثار النفسية للهجرة في املهاجرين كما كث ف الباحثون في مجال علم النفس دراساتهم وبحوثهم حولها وحول آليات التكي ف النفس ي واالندماج االجتماعي لهؤالء املهاجرين وتبلورت هذه الدراسات في تخصص مستقل داخل علم النفس حمل اسم: علم نفس املثاقفة d acculturation(.(psychologie سنتناول في هذه الدراسة التحليلية النظري ة واحدة من أهم املسائل وثيقة الص لة بالربيع العربي وال سيما بعد تحويل هذا الربيع إلى حروب أهلي ة. ونعني هنا مسألة الهجرة وموجات اللجوء الكثيفة إلى أوروبا. سنبادر في البداية إلى إلقاء الضوء على كيفية تناول العلوم االجتماعية لظاهرة الهجرة وفي الفصل الثاني ا تاريخي ا موجز ا عن بعد أن نعطي تعريفا ملفهوم "الثقافة" الذي سيرافقنا طيلة هذا الدراسة سنقد م عرض عالقة علم النفس بالثقافة ونشأة علم نفس املثاقفة كفرع من علم النفس عبر الثقافي وأهدافه وذلك (1) C.Camilleri, Le champ et les concepts de la psychologie culturelle. Dans C. Camilleri et G. Vinsonneau (dir.), Psychologie et culture : Concepts et méthode, (Paris : Armand Colin 1996). (p. 9-80). )2( -أنتوني غ دنز علم االجتماع فايز الصباغ )مترجم( ط 1 )بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية/املنظمة العربية للترجمة تشرين األول/أكتوبر 2005( ص 331. (3) B.Troadec, Approche culturelle et interculturelle comparative : vers une intégration de paradigmes complémentaires. Communication présentée au VIIIème Congrès de l Association pour la Recherche InterCulturelle (ARIC). (Université de Genève : septembre 2001), )4( وذلك بعد وصول موجات الهجرة من املستعمرات ال تي نالت استقاللها. 4

8 لتعريف القارئ به. أم ا في الفصل الثالث من هذه الدراسة فسنتطرق لظاهرة الهجرة كسيرورة اجتماعية ونفسية لها مراحل متداخلة ومتتالية عدة يمر بها املهاجر وفي الفصل الرابع سندرس بصورة مفص لة نسبي ا اآلثار النفسية لهذه الس يرورة في الفرد املهاجر. وأخير ا سنلقي الضوء في الفصل الخامس بصورة مفص لة ومع أمثلة من الواقع على ديناميكيات التواصل الثقافي وآليات التكي ف النفس ي واالندماج االجتماعي عند املهاجرين. أوال- اإلطاراملنهجي للدراسة 1- إشكالية الدراسة ي عد موضوع تكي ف املهاجرين مع مجتمعاتهم املضيفة من أبرز القضايا التي تشغل بال املفك رين والباحثين في مجال العلوم اإلنسانية في الوقت الراهن. وقد تزايدت الحاجة إلى النظر في ديناميات التكي ف النفس ي اله وي اتي واستراتيجيات التثاقف التي يلجأ إليها املهاجرون في مجتمعاتهم الجديدة منذ أن تفاقمت ظاهرة الهجرة في النصف الثاني من القرن العشرين في املجتمعات الغربية. ويبدو أن نا نحن السوريين بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مض ى إلى دراسة ظاهرة الهجرة والنظريات الن فس_اجتماعية التي اهتمت بها وبآثارها النفسية على الفرد املهاجر. 5 فالهجرة الس ورية القسري ة في معظمها -إن لم تكن في كل ي تها- الناتجة عن أهوال الحرب التي أعلنها النظام االستبدادي منذ اليوم األول 6 ت عد من أكثر الظواهر التي تركت أثر ا في املجتم ع السوري برم ته وستستمر أثارها لثورة السوريين عليه الديموغرافية واالجتماعية والنفسي ة عقود ا طويلة. وال الفت للنظر هو أن هذه الظاهرة لم تسترع - حت ى اآلن على األقل- بالشكل الكافي والوافي اهتمام الباحثين واملفكرين والس ياسي ين املهتم ين بالشأن الس وري وربما يعود ذلك إلى صعوبة االنشغال بهذه املسألة وبآثارها االجتماعية والنفسية في الوقت الذي ت دمر فيه أحياء ومدن بأكملها ويموت فيها اآلالف من األبرياء تحت القصف بأنواع األسلحة الروسية واإليرانية جميعها. كما أن ه من املالحظ أيضا أن املكتبة العربي ة بصورة عامة مازالت حت ى اآلن تفتقر إلى األبحاث والد راسات ا مهم ا في فضاء علم النفس امل عاصر ز الن ظري ة وامليداني ة في مجال علم نفس املثاقفة الذي بات يشغل حي )5( )6( بالطبع يجب التمييز بين "املهاجر" و "ال الجئ" وهذا ما سنشير إليه في املبحث الثالث من هذه الدراسة. في هذه الدراسة سنرك ز على اآلثار النفسية واالجتماعية الس لبية ولكن يجب علينا التنويه على أن للهجرة أيضا آثارها النفسية واالجتماعية والديموغرافية اإليجابية بمثل التنوع الثقافي واالنفتاح على اآلخر املختلف وتحسين الشروط املادية وغيرها. 5

9 في الغرب منذ النصف الث اني من القرن العشرين الذي ود عناه. هذا على الرغم من أن البلدان العربية ت عد من أولى البلدان امل صد رة للمهاجرين وتتأثر مجتمعاتها تأثر ا كبير ا ومباشر ا بهذه الظاهرة. ا لتاريخ عالقة علم النفس بالثقافة ونشأة علم نفس املثاقفة وأهدافه ت قدم هذه الدراسة عرضا موجز من أجل تعريف القارئ العربي به ومن ثم تحاول الكشف عن أهم اآلثار النفسية للهجرة على الفرد املهاجر وعن آليات تكي فه النفس ي واالجتماعي مع واقعه الجديد وذلك من خالل محاولة اإلجابة على األسئلة اآلتية: كيف يتصر ف الفرد حين يكون م جبر ا على تغيير مجتمعه والعيش ضمن ثقافة جديدة بعيدة عن ثقافته األصلي ة وما آثار هذا التغيير في بنيته النفسي ة ما هي االستراتيجيات الهوياتي ة التي يلجأ إليها من أجل االندماج مع مجتمعه الجديد وما الفرق بين االندماج االجتماعي والتماهي الن فس ي باملجتمع املضيف ما هي العوامل الذاتي ة واملوضوعي ة التي تلعب دور ا مهم ا في اختيار تلك االستراتيجيات الهوياتية 2- أهداف الدراسة وأهميتها تهدف هذه الدراسة إلى تقديم بحث نظري تحليلي شامل عن موضوع الهجرة من منظور علم النفس وآثارها النفسية وآليات االندماج والتكي ف النفس ي وستتعرض لنظري تين أساسيتين ضمن هذا املجال: نظرية 7 حيث أث رت هذه " استراتيجي ات اله وي ة" التي كان ألعمال "كارمل كاميليري" الد ور الرئيس في بلورت ها الن ظرية تأثير ا كبير ا في أعمال الباحثين الفرانكفوني ين في مجال علم النفس التثاقفي وكذلك نظري ة كبيرة على الباحثين التي كان لها انعكاسات 8 الت ثاقف" للباحث الكندي "جون بيري" " استراتيجي ات الن اطقين باللغة االنكليزي ة في هذا املجال. وتنبع أهمية هذه الدراسة من أهمية األهداف التي تسعي إليها ومن حساسية موضوع الهجرة وآليات التكي ف النفس ي للمهاجرين الذي تتناوله بالبحث ويمكن تلخيصها في النقاط الت الية: أوال على الصعيد النظري تعتبر هذه الد راسة األولى من نوعها عربي ا وهي بذلك ستشكل مرجع ا نظري ا معرفي ا مهم ا للباحثين العرب في مجال علم الن فس التثاقفي. وكما نو هنا أعاله فبالر غم من أهم ي ة هاتين الن ظري تين ومساهمتهما في دراسة أزمة اله وي ة ومسألة التكي ف الن فس ي للمهاجرين لم نجد لهما ترجمة كاملة وكافية في الل غة العربي ة. (7) C.Camilleri, Identité et gestion de la disparité culturelle : Essai d une typologie. Dans C. Camilleri, J. Kastersztein, E. M. Lipianski, H. Malewska-Peyre, I. Taboada-Léonetti et A. Vasquez (dir.), Stratégies identitaires, (Paris : 1990), p (8) J. W. Berry, D.Sam, Acculturation and adaptation. Dans J. W. Berry, M. H. Segall et Ç. Kagitçibasi (dir.), Handbook of cross-cultural psychology, Vol. 3, (Boston: Allyn & Bacon,1997), p

10 ثاني ا على الصعيد التطبيقي ست شك ل هذه الد راسة أداة للبحوث امليداني ة على املهاجرين من الشباب العرب إلى أوربا وخاص ة بعد موجات اللجوء التي تلت تحويل الربيع العربي إلى حروب أهلي ة وهي بذلك ستساعد الباحثين العرب ومراكز البحث العربي ة على دراسة أزمة الالجئين وتكي فهم النفس ي واالجتماعي ونجاحهم في املجتمعات األوربي ة. ثالث ا ستشكل هذه الدراسة حافز ا للباحثين العرب والسوريين ومراكز البحث العربية واملهتمة باملسألة السورية على وجه الخصوص للبدء بدراسات نظري ة وميداني ة تتناول موضوع الهجرة السورية واآلثار النفسية واالجتماعية املترت بة عليها كما ستلفت النظر إلى أهمية القيام بمؤتمرات علمي ة وورشات عمل حول موضوع الهجرة واالندماج االجتماعي للمهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة. 3- مفاهيم الدراسة اعتمد هذا البحث النظري التحليلي اعتم اد ا أساسي ا على ثالثة مفاهيم رئيسة وهي مفهوم الثقافة )Culture( ومفهوم الهوية )Idnetité( ومفهوم املثاقفة.)Acculturation( سيتم عرض كل منها وشرحه ضمن اإلطار العام للبحث وذلك كي ال تبدو مجتزأة من النظريات التي اعتمدها علماء النفس من أجل دراسة ظاهرة الهجرة وآثارها النفسية في املهاجرين. وبالطبع سنكتفي بتقديم شرح موجز نسبي ا لهذه املفاهيم وذلك من خالل وجهة نظر علماء النفس االجتماعيين فقط فهذه املفاهيم الثالثة تمث ل مباحث أساسي ة في ميدان العلوم االجتماعي ة بصورة عامة ورب ما كان عرض كل من ها وشرحه بشكل واف وتفصيلي يحتاج إلى بحث خاص متكامل عابر لالختصاصات وهذا بعيد كل البعد عن أهداف هذه الدراسة. أم ا بالنسبة إلى املفاهيم األخرى بمثل مفهوم استراتيجي ات الهوية identitaires( )Stratégies واستراتيجي ات التثاقف d acculturation( ) Stratégies فسيتم أيض ا عرضها وشرحها ضمن اإلطار العام لهذا البحث وذات السبب. 7

11 4- منهجي ة الدراسة البحث العلمي هو دراسة مبني ة على تقص وتت بع ملوضوع معين وفق أسس وقواعد متفق عليها وذلك. 9 هذه القواعد واألسس املت فق عليها لتحقيق هدف محد د: إم ا إضافة معرفي ة جديدة أو/ وحل ملشكلة ما هي ما يقصده العلماء باملناهج العلمية. ولقد اعتمد الباحث في تنفيذ هذه الدراسة األسلوب الوصفي في دراسة الحقائق واملفاهيم املتعل قة بمحور البحث من أجل بناء منظومة معرفية متكاملة تت ضح فيها إشكالي ة الدراسة وخلفياتها وأهمي تها وأهدافها وذلك بالرجوع إلى عدد من املراجع العلمية النظرية واملقاالت والدراسات امليدانية املنشورة في مجالت عاملية متخصصة لتحليلها واالستفادة منها في عرض ما توص لت إليه حول مسألة الهجرة وآثارها الن فسية ودينامي ات التكي ف النفس ي واالجتماعي عند املهاجرين. وبما أن بحثنا هذا نظري بحت يفتقر إلى التحقيق امليداني عن طريق املقابالت البحثية أو االستبيان أو املالحظة أو املنهج التجريبي يمكن أن نطلق عليه اسم "بحث وصفي مكتبي" أو "تشخيص وصفي مكتبي" وهو يعد خطوة أولى لدراسة ميداني ة شاملة عن املهاجرين السوريين في أوروبا. وألن األبحاث املكتب ي ة تتأث ر تأثر ا كبير ا بنوعي ة املصادر العلمي ة التي تعتمدها فلقد حرصنا على اختيار وفي مجالت عاملية متخص صة 10 مراجع ومقاالت وبحوث منشورة في مراكز أبحاث عاملية معترف بها ومحك مة ولعلماء نفس معروفين على مستوى العالم وت درس أبحاثهم في ك بريات الجامعات العاملية كما تجن بنا قدر اإلمكان مقاالت الرأي الصحفي ة والسياسي ة. ثاني ا: العلوم االجتماعية والهجرة الهجرة ظاهرة اجتماعية تنعكس على املجتمع برم ته وعلى جميع مؤس ساته اإلدارية والقانونية ت عد والسياسية واالقتصادية واإلعالمية والفكرية. لذلك نجد أن العلوم جميعها تقريب ا تناولت هذه الظاهرة بالدراسة والبحث: علم السكان وعلم الجغرافية وعلم التاريخ واالقتصاد والقانون وعلم االجتماع وعلم )9( غريب مرزا يوسف فخر الدين يوسف سالمة مقدمة في مناهج البحث العلمي االجتماعي ط 1 )معهد الجمهورية ملنهجيات البحث العلمي أيار 2016( ص )10( من أجل توثيق املراجع األجنبية اعتمد الباحث دليل (APA) (American Psychological Association) وهو الدليل املعتمد عاملي ا من أجل البحوث العلمية في مجال علم النفس. ويلتزم الباحث األسلوب العلمي املتبع في كتابة املراجع وأسماء الباحثين واالقتباس والرجوع إلى املصادر األولية وأخالقيات النشر العلمي وما يتضمنه الدليل من إرشادات ذات صلة بعناصر تقرير البحث. لالطالع:./ 8

12 النفس. وكل علم من هذه العلوم تناولها انطالق ا من زاوية معي نة فعلم الس كان مثال يقوم بعمليات إحصائي ة وصفي ة لقياس حجم اله جرة وتأثيراتها في حجم الس كان ومعد الت نمو هم وتوزيعهم الجغرافي وكثافتهم واكتظاظهم وبنيتهم الجنسي ة والعمري ة واملهني ة. ويتحد ث خبراء التنمية عن أهمية الهجرة في كسر الركود االجتماعي وفي التنشيط املجتمعي بشكل عام. أم ا علم القانون فيدرس القوانين الضابطة لهذه الظاهرة وتشريعها وطريقة التعامل معها. ومن جهته يهتم علم االقتصاد بالعوامل االقتصادي ة كالفقر والتفاوت في األجور والتطور التكنولوجي والقطاع التقليدي والقطاع الحديث وآليات اإلنتاج والن ظام الرأسمالي واقتصاد الس وق ال تي تدفع إلى الهجرة كما يهتم بدراسة اآلثار االقتصادية للهجرة على البلد األم للمهاجر وعلى البلد املضيف أيض ا. وعلى صعيد علم االجتماع فقد شك لت الهجرة محور اهتمام عدد من الباحثين منذ بداية القرن العشرين حيث حاول العلماء دراسة دوافع الهجرة وتأثيرها في البلدان املضيفة. ولقد كانت الدراسات في هذا املجال محكومة بنظرة جزئي ة أ حادي ة أي دراسة ظاهرة الهجرة من وجهة نظر املجتمع املضيف وتأثيرها عليه غير أحدثت قطع ا مع هذه الدراسات وتناولت الهجرة ككل متداخل لها أن إسهامات عبد املالك صياد 11 دوافعها التي يجب وضعها في سياقها االجتماعي والتاريخي ولها تأثيرها في املجتمع األم للمهاجر واملجتمع املضيف له. 12 زت في وبصورة عامة أشار الباحثون املهتم ون بشؤون الهجرة العاملية إلى أن أنماط الهجرة وات جاهاتها تمي املدة األخير بأربع خصائص : التسارع: حيث ارتفعت أعداد املهاجرين عبر الحدود إلى مستويات غير مسبوقة وما زالت حركة الهجرة مستمرة على الرغم من محاولة الدول املستقبلة ضبطها. )11( )12( ي عتبر عبد املالك صي اد ) ( مؤس س سوسيولوجيا الهجرة وهو باحث جزائري كرس حياته لدراسة ميكانيزمات ظاهرة الهجرة وفهمها. درس صي اد في جامعة الجزائر حيث تعرف بعالم االجتماع الفرنس ي الشهير "بيار بورديو " )2002/1930( وبعدها سافر إلى فرنسا في 1963 وانضم إلى مركز علم االجتماع األوروبي ثم املركز الوطني للبحث العلمي ن فيه مدير ا لألبحاث في علم االجتماع حتى وفاته في 13 مارس نشر عشرات املقاالت املهم ة وكتب ا عدة أهم ها وع ي "الغياب املزدوج: من أوهام املهاجر إلى معاناة املغترب" الذي كتب مقدمته بيار بورديو. عبد هللا بلعباس "ظاهرة الهجرة عند عبد املالك صياد: من السياق التاريخي إلى النموذج السوسيولوجي" إنسانيات العدد 62 )تشرين األول/أكتوبر 2013( ص 26. )13( غدنز ص

13 2- التنوع: حيث قامت البلدان املضيفة باستقبال أنواع مختلفة من املهاجرين خالف ا لسياساتها الس ابقة القائمة على إعطاء األفضلي ة لفئات محد دة مثل العمال القادمين من مستعمراتها السابقة )النموذج الكولونيالي االستعماري للهجرة(. 3- العوملة: حيث اتخذت ظاهرة الهجرة طابع ا عاملي ا شامال وأصبحت تمس عدد ا أكبر من الدول سواء كانت مضيفة أو مصد رة للمهاجرين. 4- التأنيث: لم تعد ظاهرة الهجرة مقتصرة فقط على الرجال فلقد تزايدت أعداد النساء املهاجرات خالف ا لحركات الهجرة السابقة التي كانت حكر ا على الرجال في أغلب األحيان. ثالث ا: علم النفس والهجرة دفع تفاقم ظاهرة الهجرة وخاص ة في أعقاب الحرب العاملية الثانية علماء النفس إلى االهتمام بها وبآثارها النفسية. ولقد رك ز علماء النفس ج ل أبحاثهم على اآلثار النفسية للهجرة وعلى التكي ف النفس ي للمهاجرين في الب لدان املضيفة ولقد اعتبروا أن متغير الثقافة وطريقة تعامل الد ول املضيفة مع هذا املتغير هو من أهم العوامل التي يمكنها أن تلعب دور ا حاسم ا في الص حة النفسي ة للمهاجر. ا لعالقة علم في هذا املبحث سنلقي الضوء على مفهوم الثقافة و سنقد م كذلك عرضا تاريخي ا موجز النفس بالثقافة ونشأة علم النفس عبر الثقافي ومن ثم والدة ما ي عرف اليوم بعلم نفس امل ثاقفة هذا العلم الذي يهتم اهتمام ا خاص ا باملهاجرين ومشكالت الت كي ف التي يعانونها في املجتمعات الجديدة التي ق د موا إليها. 1- مفهوم الث قافة ت عد الثقافة Culture( ) من املكو نات األساسي ة لهوية اإلنسان وتأثيراتها عليه ظاهرة في جميع مناحي حياته وغالب ا ما يكون هذا التأثير ال شعوري ا. كما ي عد مفهوم الثقافة من أكثر املفاهيم الجدلي ة واإلشكالي ة في العلوم اإلنسانية واالجتماعية وذلك لتعد د معانيه من جهة والرتباطه الوثيق باعتبارات سياسي ة وأيديولوجي ة وبمسائل متعد دة كالحرية واالستبداد والديمقراطي ة والتعددي ة واالختالف والتطور واإلبداع من جهة أخرى. 14 )14( عبد الرزاق الداوي في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العوملة ط 1 )بيروت: املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات آذار/مارس 2013( ص

14 لن ندخل في تفاصيل إشكالية تعريف مفهوم الثقافة وتاريخه وعالقته باألنثروبولوجيا االجتماعية ولكن بصورة موجزة يمكننا القول أن كلمة Culture 15 والثقافية فهذا ليس من صلب موضوعنا هنا الفرنسية استخدمت في البداية للداللة على عملية ح راثة األرض وزراعتها وجني ثمارها وهي بذلك قريبة جد ا من كلمة أخرى لها املعنى نفسه AgriCulture ولم تدخل هذه الكلمة إلى قاموس األكاديمي ة الفرنسي ة بمعناها املجازي االستعاري إال في القرن الثامن عشر وهي بهذا املعنى لها داللتين اثنتين: األولى طبقي ة اجتماعية ألن الثقافة هي التي تميز االنسان الحضاري املثقف كالنبالء وطبقة األغنياء عن االنسان البدائي أو البربري كالفقراء وعام ة الشعب. والثانية هي أنثروبولوجي ة حيث إن الثقافة تدل على العناية بشؤون النفس والعقل والجسد عن طريق التربية والتهذيب والتعليم وهذا ما يميز االنسان عن الحيوان. 16 ويشير الع لماء إلى أن أو ل تعريف شامل ودقيق ملفهوم الثقافة قد مه عالم األنثروبولوجيا الثقافية اإلنكليزي إدوارد تيلور( ) Edward Tylor وبحسب تايلور "إن الثقافة أو الحضارة هي ذلك املرك ب الك لي الذي يشتمل على: املعارف واملعتقدات والفنون واآلداب واألخالق والقوانين واألعراف والقدرات وكذلك على جميع االستعدادات والعادات األ خرى التي يكتسبها اإلنسان بصفته عضو ا في مجتمع معين". 17 وعلى الرغم من النقد الذي القاه هذا التعريف باعتباره وصفي ا عام ا ال ي عطي أهمي ة للطبيعة الدينامي ة للظاهرة الثقافية وتنو عها وعلى الرغم من الخلط الذي يمكن أن نراه بين مصطلح الثقافة ومصطلح الحضارة كما كان رائج ا في أدبي ات القرن الثامن عشر فقد كان لهذا التعريف تأثير كبير في تعاريف مفهوم الثقافة التي تكاثرت في مراحل الحقة وتنو عت بحسب املدارس الفكرية والفلسفية ألصحابها ال بل يمكننا القول إن كل التعريفات ال الحقة ملفهوم الثقافة تعتبر بشكل أو بآخر م شتق ة من هذا التعريف وبذلك ي عتبر تايلور مؤس س املفهوم العلمي للثقافة ويعود الفضل له وألعماله في كون األنثربولوجيا الثقافي ة علم ي درس في الجامعات اليوم. فيما بعد كرس الكثير من الباحثين جهدهم لدراسة ظاهرة الثقافة وكل بحسب فرضياته ومواقفه النظري ة الفكري ة املختلفة ففرانز بواس ( ) Boas) (Franz وعلى العكس من تيلور يعتبر أن ه ال يوجد ثقافة بشرية واحدة وإنما ثقافات متعد دة وهذا الثقافات هي التي تؤثر على سلوك البشر وليست الحتمي ة العرقي ة كما كان سائد ا في تلك الحقبة التاريخي ة وهو بذلك أس س ملدرسة "النسبي ة الثقافية" Relativisme culturaliste ال تي تعد في زمننا املعاصر من أكبر املدارس الفكري ة وت عد إسهامات بواس ثورة على االتجاهات الع نصرية ال تي كانت في تلك الحقبة تربط بين االختالف والتعدد الثقافي من جهة وبين (16) D. Cuche, La notion de culture dans les sciences sociales, (Paris : La Découverte,1996). (17) Cuche, P 15. الداوي. )15( 11

15 االختالف البيولوجي والتعد د العرقي من جهة أ خرى. أما برونيسالف مالينوفسكي Bronislaw Malinowski ريقة التي ( ) فاهتم بالجانب الوظيفي للث قافة وبالنسبة إليه فإن الثقافة هي األسلوب أو الط يلبي من خاللها مجتمع معي ن حاجاته االنسانية. 18 بينما اهتم علماء آخرون كروث بنيدكت Ruth Benedict ( ) ومارغريت ميد ( ) Mead Margaret ورالف لينتون (1893- Linton Ralph ( 1953 بعالقة الث قافة بأنماط الشخصية أي إن كل ثقافة تنتج نوع معين من الشخصية. 19 من جهته رأى العالم الفرنس ي ليفي ستروس ( (Lévi-Strauss, أن الثقافة 20 هي منظومات من الرموز املترابطة مع بعضها وفي الصف األول من هذه املنظومات نجد منظومة ال لغة والعادات والتقاليد والقانون والفن والدين وهذه املنظومات ت عبر عن الحقيقة املادي ة واالجتماعي ة. 21 وبحسب ستروس يجب على العلماء د راسة الب نى ال الشعوري ة املشتركة بين الثقافات البشري ة جميعها واكتشاف املبادئ األو لية الكل ية والضروري ة التي تنظم طريقة عمل العقل البشري وهو ما يطلق عليه "القاعدة االنساني ة املشتركة" 22. أن التعريفات واملدارس الفكرية سنكتفي بهذا املوجز التاريخي املختصر ملفهوم الث قافة مع اإلشارة إلى جميعها القديمة منها واملعاصرة ات فقت على أن الثقافة هي املعاني واملنظومات الرمزية جميعها املشتركة بين أعضاء مجموعة معي نة وهذه املعاني والرموز تنتظم ضمن مجموعة/أنساق من القيم والعادات والتقاليد والقوانين واملعايير االجتماعية والتصو رات االجتماعي ة والس لوكيات املشتركة والفن واملعارف 23 جيني ة. وهذا التعريف تم تبن يه وتنتقل من جيل إلى آخر في مجتمع معي ن عبر مسارات ووسائط غير وراثي ة من قبل أغلب علماء النفس العاملين ضمن هذا املجال. (18) A.Amin, Dynamique interculturelle et processus d interculturation : Représentations sociales, identifications et sentiment d exclusion. Le cas des jeunes Français issus de l immigration maghrébine et turque (thèse de doctorat publiée), (France : Université Lyon 2, 2007), P. 27. (19) Cuche, p 34, )20( بالنسبة إلى ستروس نظام الثقافة ي ماثل في بنيته نظام ال لغة وهذا هو املبدأ ال ذي يجب أن تتم من خالله دراسة ظاهرة الث قافة. (21) C. Levi-Strauss, Introduction à l œuvre de Marcel Mauss. In M. Mauss (Eds.), Sociologie et Anthropologie (pp. VIII-LII), (Paris : P U F,1950), p. XIX (22) AMIN, Dynamique interculturelle et processus d interculturation, p. 32. (23) C.Camilleri, La culture et l identité: Champ notionnel et devenir. Dans C. Camilleri et M. Cohen- Emerique (dir.), Choc de cultures: Concepts et enjeux pratiques de l interculturel, (Paris : L Harmattan,1989). p

16 2- علم النفس عبر الثقافي وعلم نفس املثاقفة يمكن للمهتم بتطو ر األبحاث العلمي ة حول ظاهرة الثقافة وتأثيراتها على الس لوك اإلنساني أن يستنتج أمرين: األو ل هو أنه في املراحل األولى لهذه األبحاث لم يكن هناك أي اهتمام أو مجرد اهتمام بسيط بظاهرة التواصل بين الثقافات وتأثيرها على املجتمعات واألفراد 24 وهو ما يعرف اليوم باألبحاث عبر الثقافية Cross-cultural» 25». فلقد بدأت هذه األبحاث عبر الثقافي ة في القرن التاسع عشر وتنامى االهتمام بها في مطلع القرن العشرين. األمر الثاني هو أن الثقافة لم تكن من املفاهيم التي أعارها علم النفس اهتمام ا كبير ا خالل النصف األول من القرن العشرين وذلك على الرغم من أن عالقة علم النفس بالثقافة قديمة جد ا ولكنها كانت دائم ا تمر عبر األنثروبولوجيا الثقافي ة وتأث رت كثير ا بأعمال األنتربولوجيين األوائل من أمثال فرنز بواس وماغريت ميد وبينيدكت وغيرهم من الباحثين ال ذين أشرنا إليهم في الفقرة السابقة. 26 يمكننا القول إن البداية الرسمي ة لألبحاث عبر الثقافي ة في مجال علم النفس بدأت فعلي ا عام 1957 وذلك حين أعطت مجل ة علم النفس االجتماعي األمريكي ة األولوي ة لهذه األبحاث. في تلك املرحلة بدأ علماء النفس يلفتون الن ظر إلى دور الث قافة في الس لوك البشري مشيرين إلى أن معظم الن ظريات في علم النفس هي نتاج دراسات وأبحاث حصلت في املجتمع الغربي ومن ق ب ل باحثين غربي ين ومن نافل القول أن نتساءل عن مدى إمكاني ة تعميم هذه النظريات الغربي ة على أفراد الجنس البشري املتعد د وامل تنو ع الث قافات جميعهم. وهكذا ظهرت في سنة 1966 املجلة الد ولي ة لعلم النفس املتخص صة في األبحاث الن فسي ة "عبر الثقافي ة". وفي عام 1970 ظهرت ألو ل مرة املجل ة التي تحمل االسم الصريح "مجلة علم النفس عبرالثقافي" بينما تضم 27 تأس ست أو ل جمعي ة لعلماء الن فس عبر الثقافي ين عام 1972 وهي جمعية ناطقة باللغة االنكليزية أكثر من ثمانمئة عضو من أكثر من ست ين بلدا وعقدت هذه الجمعية مؤتمرها الثالث والعشرين في مدينة "نغاواي" في اليابان من 30 حزيران إلى 3 آب لهذه السنة. ومنذ تأسيسها أصبحت هذه الجمعي ة مسؤولة عن مجلة علم الن فس عبر الثقافي. في املقابل قام الباحثون الناطقون باللغة الفرنسية بإنشاء " الجمعي ة (24)L. Licata, et Heine, AIntroduction à la psychologie interculturelle,(bruxelles: De Boeck Université, 2012), p 52. )25( )26( بعضهم ي ترجم هذا املصطلح بال لغة االنكليزية cultural" " Cross إلى العربية "بالعبر ثقافي" وآخرون ي فض لون البين ثقافي وهي ترجمة املصطلح الفرنس ي."intercultrel" لن ندخل هنا في متاهات الترجمة وغموض املصطلحات فبرأينا املصطلحان لهما الداللة نفسها. عبد الناصر السباعي علم النفس عبر الثقافي )إصدار شبكة العلوم النفسية العربية العدد 2013( 27 ص 18- (27) The International Association for Cross-Cultural Psychology (IACCP)

17 في عام 1984 وعقدت هذه الجمعي ة مؤتمرها الخامس عشر في مدينة 28 العاملي ة للبحث عبر الثقافي" "أولندا" البرازيلية من 25 إلى 28 نيسان لهذا العام. إن الجمعي تين لهما األهداف نفسها تقريب ا ولكنهما تختلفان في نقطتين: أوال اللغة الرسمي ة يمكن القول لكل جمعية )فرنسية/إنكليزية( وثاني ا تعد الجمعي ة الناطقة باللغة الفرنسي ة عابرة لالختصاصات حيث يمكننا أن نجد بين أعضائها علماء اجتماع وعلماء نفس ولغوي ين وتربوي ين وأنثروبولوجي ين بينما الجمعية الناطقة باللغة االنكليزية مقصورة على علم النفس عبر الثقافي. وقد صدرت أولى املراجع املتخص صة في علم النفس عبر الثقافي في بداية الثمانيني ات في ست ة أجزاء أو لها عن النظريات واملناهج في علم النفس عبر الثقافي. 29 وجاء في هذا ا ملرجع أن علم النفس عبرالثقافي "هو الد راسة العلمي ة للسلوك البشري والعملي ات الذهني ة والنمو وعالقتهم باملحيط الثقافي". بعض الباحثين يحاولون فهم العالقة بين سلوك الفرد وثقافته التي عاش ضمنها culturelle) (Psychologie وآخرون يقومون بأبحاث م قارنة بين الثقافات في مجتمعات مختلفة transculturelle) (Psychologie بينما قسم آخر يعمل على دراسة تأثير الت واصل والتبادل الثقافي في املجتمع الواحد على الفرد وهو ما يعرف اليوم بعلم النفس املثاقفة d acculturation) (Psychologie وهذا العلم يهتم بشكل خاص باملهاجرين ومشكالت التكي ف ال تي يعانون منها في املجتمعات الجديدة التي ق د موا إليها. 30 رابع ا: الهجرة كسيرورة قبل التطر ق للحديث عن اآلثار النفسية للهجرة يجب أن ننو ه إلى أن الهجرة ليست مجرد عملي ة بسيطة تتمث ل بمغادرة الفرد لبلد معين من أجل االستقرار في بلد آخر وإنما سيرورة وآليات لها عد ة مراحل متداخلة ومتتالية يمر بها املهاجر ولكل مرحلة من هذه املراحل املرتبطة ببعضها البعض خصوصياتها وميكانيزماتها النفسي ة واالجتماعي ة املختلفة. وتتجلى هذه الخصوصيات وامليكانزمات في ثالثة مراحل يمكن تلخيصها على الشكل اآلتي: (28) L'Association internationale pour la Recherche Inter-Culturelle (ARIC). (30) Berry, Acculturation and adaptation. السباعي ص 24. )29( 14

18 1- مرحلة ات خاذ القرار بالهجرة قبل أن يغادر الفرد وطنه يت خذ قراره بذلك وغالب ا ال يتم هذا األمر بين ليلة وضحاها وإنما يأخذ وقتا تتفاوت مد ته بحسب الظروف الشخصية واالجتماعية والس ياسية. فعملي ة اتخاذ القرار بحد ذاتها هي سيرورة معرفي ة معق دة يتم من خاللها اختيار تصرف معي ن أو فعل معين من بين احتماالت عدة ممكنة. أم ا األسباب ال تي تدفع الفرد إلى التفكير بالهجرة فهي متعد دة ومتداخلة منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو اجتماعي وآخر سياس ي. وبصورة عامة ي عد السعي إلى حياة أفضل والرغبة بالتحر ر من البؤس واألوضاع االقتصادي ة التي ال تطاق من أهم الدوافع إلى الهجرة. أم ا من حيث طبيعة قرار الهجرة وكيفية اتخاذه فيمكننا هنا الحديث عن الهجرة الطوعية وهي تعتمد على االختيار الحر للفرد وغالب ا ما تكون اقتصادي ة وعن الهجرة القسري ة أي اإلجباري ة وتكون نتيجة ا لحروب والكوارث الطبيعية واملواقف السياسي ة والصراعات األهلي ة. وبرأينا القول بأن هناك هجرة طوعي ة ينطوي ضمن ا على نوع من اإلجحاف فحتى حين يتخذ الفرد قراره بترك وطنه من أجل تحسين وضعه ووضع عائلته االقتصادي فهو بشكل أو بآخر مدفوع إلى ذلك ولو كانت ظروف وطنه االقتصادي ة جي دة وبالتالي ظرفه هو جي د ملا اختار الهجرة وترك وطنه وأهله. إذ ا يحق لنا التساؤل عن مدى حري ة الفرد فيما املهاجرين جميعهم هم بشكل أو بآخر م هج رين فجميع يتعلق بقرار الهجرة وبناء عليه يمكننا القول بأن الهجرات قسري ة ولكن بدرجات متفاوتة وذلك بحسب العوامل والظروف التي دفعت إليها. إن اتخاذ قرار الهجرة ليس باألمر الس هل والبسيط وفي األحول جميعها تترافق هذه املرحلة مع مشاعر روف فتصبح الخوف من املستقبل والترد د واليأس من الوضع الحالي واإلحباط وفقدان األمل في تحس ن الظ املغامرة والهجرة هي الطريق الوحيد للنجاة أو على األقل أفضل الخيارات املمكنة. 2- مرحلة تنفيذ القرار بعد ات خاذ القرار بالهجرة تبدأ مرحلة وضع آليات وخطط ملغاردة الوطن األم والوصول إلى الوطن الهدف أو املضيف. وطرق الوصول إلى الهدف إم ا أن تكون بطرق قانوني ة وت سمى حينئذ هجرة شرعي ة ويتم ذلك عن طريق الحصول على تأشيرة الدخول أو بطرق غير قانوني ة وغير نظامي ة وي طلق عليها اسم الهجرة غير الشرعي ة. تؤث ر األساليب التي اتبعها املهاجر من أجل الوصول إلى الوطن امل ضيف تأثير ا كبير ا في تكي فه واندماجه وبنيته النفسي ة فيما بعد فبعض هذا األساليب تت صف باملخاطرة الكبيرة حيث تكون حياة املهاجر بخطر من مثل عبور الحدود البرية والبحرية عن طريق شبكات مافيات التهريب وبالطبع ت عد قوارب املوت 15

19 املكتظة التي يستقلها الس وريون من أخطر الطرق املتبعة من أجل تحقيق هدف الوصول إلى أوروبا. فك ل من عاش تجربة هذه القوارب حت ى وإن مرت بسالم يتحدث عنها بألم وحزن وبأنها قد شك لت له صدمة لم يكن يتوق عها. ولكن الص دمة األكبر التي تترك أثر ا سلبي ا كبير ا في الصحة النفسية وعلى اإلحساس باألمان النفس ي لدى املهاجرين تبقى من نصيب أولئك الذين نجوا من أحداث قوارب املوت فالدراسات تؤكد معاناتهم النفسية والشخصي ة لسنوات عدة بعد نجاتهم من الحادث. إن تجربة الهجرة غير الشرعي ة قاسية ومريرة ومحفوفة باملخاطر ومع ذلك يؤكد معظم املهاجرين الذين لجؤوا إليها أنهم غير نادمين ألنه لم يكن لديهم أي خيا ر أو بديل آخر. 3- مرحلة الوصول واالستقرار على عكس ما يتوق عه املهاجر ت عد هذه املرحلة من أصعب املراحل وأطولها وأكثرها تعقيدا. فعلى الرغم من أن ه قد وصل إلى بر األمان ولم يعد هناك من مخاطر حقيقي ة أو مباشرة على حياته إال أن ه سرعان ما يصطدم املهاجر بالواقع ويكتشف أن هذا األمان أبعد مم ا كان يتصو ر وأن االستقرار والطمأنينة املنشود ين أعقد وأطول مم ا كان يتخي له ال بل خالفا ملا كان يتخي له فأغلب املهاجرين رسموا صورة مثالية مبالغ ا بها عن هذه املرحلة ولم يتصو روا مدى الص عوبات حتى في أدق تفاصيل الحياة ال تي سيالقونها في هذه املرحلة. وهذا البون الشاسع بين الص ورة امل تخي لة والواقع يترك أثر ا كبير ا في توازنهم النفس ي والشخص ي. وهو ما سنتعر ض له بالدراسة في مبحثنا اآلتي عن اآلثار النفسية للهجرة. خامس ا: اآلثار النفسي ة للهجرة أظهرت الدراسات بأن الهجرة سواء أكانت طوعي ة أو قسري ة كما هي الحال في أثناء الحروب والكوارث الطبيعي ة وفردي ة أو جماعي ة فإن لها آثارها النفسي ة في الفرد املهاجر. فأولى هذه الدراسات كانت في عام 1912 حيث أشار بوالك Pollak إلى أن االضطرابات العقلية هي أكثر شيوع ا بمر تين في أوساط املهاجرين في مدينة نيويورك مقارنة بالسكان األصلي ين وأيضا أودغار Odegaard توص ل إلى النتيجة نفسها في دراسة قام بها على املهاجرين النرويجيين إلى الواليات املت حدة األمريكي ة في عام 1932 حيث أظهرت دراسته أن هؤالء املهاجرين هم أكثر إصابة باأل مراض النفسية مقارنة بالنرويجيين الذين ما زالوا يعيشون في النرويج. وفي دراسات أخرى حديثة توص ل الباحثون إلى النتيجة نفسها أيض ا ومن هذه الدراسات يمكن ذكر البحث 16

20 ال ذي قام به السري وسيغال Sigal, 1975 Lasry et ودراسة بيري وكيم في عام Berry et Kim وتوسونيان Tousignant, 1991 وأريون Aroian, 1993 وفي عام 1997 قام العالم مورفي Murphy بدراسة نقدي ة تحليلي ة لهذه الدراسات ومي ز بين نوعين من الباحثين في مجال علم نفس املهاجرين: أولئك ال ذين قدموا فرضي ات عن جاهزي ة املهاجرين لإلصابة باألمراض النفسي ة واآلخرون ال ذين فض لوا التركيز على اآلثار النفسية السلبية للهجرة الناتجة عن التوتر ال ذي يسببه االستئصال الثقافي. هذا االختالف بين هذه األبحاث في تفسير سببي ة االضطرابات النفسية عند املهاجرين يعود في جزء كبير منه إلى التناقض بين الدراسات العيادي ة من جهة واألنثروبولوجي ة من جهة أ خرى. أما في الدراسات املعاصرة فما زال الجدل مستمر ا حالي ا حول احتمال وجود استعداد نفس ي لإلصابة باملرض النفس ي لدى املهاجرين أي استعداد فطري أو ما إذا كانت البيئة الثقافية والظرف االجتماعي واالقتصادي الذي يعيش فيه املهاجرون هم الس بب في اإلصابة باملرض النفس ي أي إنه م كتسب. وما زاد في ح د ة هذا الجدال هو أن املعطيات العلمي ة ما تزال متناقضة وغير كافية للبت في هذا األمر بخاص ة أن مناهج البحث املعتمدة وأدوات القياس املستخدمة ليست نفسها في البلدان جميعها وفي البحوث كلها فمثال غالبا ما تعتمد البحوث في مجال الصحة العقلي ة في كندا والواليات املتحدة األمريكية املنهج الكم ي بينما في فرنسا أغلب الدراسات في هذا املجال تعتمد املنهج التحليلي الكيف ي. 32 وفي األحوال جميعها تشير معظم الدراسات الحديثة ال تي تناولت مسألة اآلثار النفسية للهجرة إلى العالقة بين الهجرة وظروفها من جهة واالضطرابات النفسي ة والعقلي ة من جهة أخرى مع التأكيد على ضرورة اعتبار املهاجر كائن ا كل ي ا )بيولوجي- نفس ي- اجتماعي( وهي بذلك ترفض وجهة النظر التبسيطي ة والخطي ة التي تعتبر عامال واحد ا سبب ا لالضطراب النفس ي. 33 في الفقرات التالية سنقوم بعرض أهم اآلثار النفسية للهجرة واالضطرابات الشخصي ة ال تي ترافقها ولكن قبل عرضها يجب علينا التن ويه على أمور أساسية عدة: أوال تختلف هذه اآلثار واالضطرابات والعقبات من حيث شد تها ونوعها من مهاجر إلى آخر وذلك تبع ا لعوامل عدة أهم ها البنية النفسي ة الفردي ة لكل Devarenne-Megas, Psychopathologie et insertion sociale des migrants polonais en France, Revue H. )31( européenne des migrations internationales [En ligne], vol n 1, mis en ligne le 16 mai 2007, consulté le 21 octobre URL : Devarenne-Megas, H. «Psychopathologie et insertion sociale des migrants polonais en France» )32( )33( بوعون السعيد ويوسف عدوان "الهجرة الغير شرعية: قراءة أنثروبولوجية سايكوباتولوجية" مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية العدد 13 )كانون الثاني/ديسيمبر 2013( ص

21 شخص والحال االجتماعي ة والعمر والوضع االقتصادي ودرجة الثقافة والخلفي ة االجتماعي ة وأسباب الهجرة )طوعي ة-قسري ة فردي ة-جماعي ة شرعي ة-غير شرعي ة(. ثاني ا ال ينطبق ما سنقوله في هذه الفقرات على املهاجرين جميعهم حتم ا وكما أن املهاجر ال يعيش بالضرورة كل ما سنعرضه ويجب الحذر من التعميم والحتمي ة في هذا املجال فالقوانين واملالحظات في العلوم االجتماعي ة واإلنساني ة تختلف كثير ا عنها في العلوم الطبيعي ة والرياضي ة. ثالث ا ما سنعرضه في هذه الفقرات توص لنا إليه من خالل أبحاثنا النظري ة في مجال علم نفس املهاجرين ومن خالل مالحظاتنا اليومي ة أيض ا واحتكاكنا اليومي بجزء كبير من املهاجرين وذلك بحكم عملنا وأصولنا الثقافي ة املشتركة. رابع ا وأخير ا ننو ه إلى أن ه ال يمكننا اإلحاطة املستفيضة بكل ما يعانيه املهاجر وال بجميع اآلثار النفسية واالضطرابات الشخصية التي تترافق مع عملية الهجرة فهذا يحتاج إلى كتاب مستقل بحد ذاته ولكن ما سنعرضه فيما يلي يعد أهم ها وأكثرها شيوع ا في صفوف املهاجرين وهي: 1- صدمة االستئصال الثقافي ذاتها صدمة إن للهجرة خصوصي اتها ومي زاتها التي قد تتجاوز كل االعتبارات فمغادرة البلد األم تشكل بحد نفسي ة كبيرة وخاص ة إذا كانت الفروق الثقافي ة واالجتماعي ة واالقتصادي ة كبيرة بين البلد األم والبلد املضيف بمثل الفروق بين البلدان العربية والبلدان األوروبي ة مثال. فما إن يصل املهاجر إلى البلد األوروبي ر بالنسبة إليه الثقافة والعادات والتقاليد واملعايير وأسلوب الحياة وحتى حت ى يشعر بأن كل ش يء قد تغي أحاسيسه الجسدي ة: لون السماء والطبيعة والوقت والفصول والحرارة واألصوات والروائح واألطعمة وال لغة وحركات الناس ونظراتها وشكلها فأ دق تفاصيل الحياة اليومي ة تأخذ شكال جديد ا بالنسبة إليه. هذه الفجوة بين بيئة البلد األم وبيئة البلد امل ضيف واختالف املعايير والقيم الثقافي ة والسلوكي ات Réapprentissage existentiel وهذا ما ي شكل 34 االجتماعي ة ت جبر املهاجر على "إعادة التعلم الوجودي" بالنسبة إلى بعض املهاجرين نوع ا من الص دمة الثقافي ة. بالطبع بعد وصوله إلى مجتمعه الجديد وفي بداية األمر يعيش املهاجر مرحلة انبهار بالحضارة الغربية وباملجتمع الغربي ويمكن اعتبار هذه املرحلة عبارة عن "شهر عسل" بينه وبين بيئته الجديدة حيث الطابع العام لهذه املرحلة هو حب االط الع واملعرفة والشعور باألمان اآلني واآلمال بالنجاح وتحقيق الطموحات واألحالم. إنها مرحلة الفضول والفرح والبهجة باألشياء الجديدة. ولكن هذه املرحلة تنقض ي بسرعة بعد أشهر أو أسابيع ورب ما أي ام قليلة وخاص ة بالنسبة إلى طالبي اللجوء حيث يصطدم هؤالء بمعامالت األوراق الرسمية وإجراءات ال لجوء التي غالب ا ما تكون طويلة ومعقدة نوع ا ما ويغلب عليها الطابع البيروقراطي مم ا يزيد في تعقيدها. ويبدأ اإلحساس بالص عوبات بعد أن يعي امل هاجر أهمي ة حاجز ال لغة (34) Hanna Devarenne-Megas, «Psychopathologie et insertion sociale des migrants polonais en France». 18

22 . وهذا يول د لدية شعور ا بالص دمة أطلق 35 وصعوبات التواصل والتعبير عن الذات وفهم كل ما يحيط به.Déracinement 36 عليها علماء النفس صدمة االستئصال الثقافي 2- الحنين والحداد ال الشعوري بعد مرحلت ي االبتهاج وصدمة االستئصال الثقافي تبدأ مرحلة جديدة ت عد من أخطر املراحل على املهاجرين وعلى اندماجهم وهي مرحلة الحنين nostalgie للوطن وللماض ي. 37 وظاهرة الحنين للوطن أي استذكار املاض ي الجميل )كم كن ا سعداء في وطننا( ترتبط ارتباطا وثيقا بظاهرة الهجرة وهو أمر طبيعي وال يشك ل بحد ذاته حالة مرضي ة أو شذوذا نفسي ا ال بل يمكن أن ي شكل نوع ا من عمليات االسترخاء ال تي تعيد للفرد نشاطه فالحنين له عالقة بنشاط الذاكرة املعرفي وعملها وبقدرة الفرد على تحديد هوي ته من خالل مرجعي ة املاض ي وهو ما أطلقت عليه الباحثة جوديت ستيرن 38 اسم الذاكرة الشاشة Mémoire écran حيث ترتبط هذه األخيرة بذكريات مسترجعة من خالل مثيرات حس ية شعوري ة بسيطة جد ا ولكنها ذات بعد زماني فبعض املأكوالت والروائح تعيدنا إلى زمن مرتبط بذكريات محددة يتم إسباغها بطابع إيجابي أو مثالي Idéalisation وي شكل هذا أحد وسائل الدفاع عن األنا املثالي Moi idéal أمام مشاعر الفقدان والخسارة ولذلك يمكن للحنين أن يقوم بوظيفة سيكولوجي ة مهمة ويساعد على الحفاظ على العالقة مع البلد األم. ولكن الخطورة تكمن عندما يتحو ل الحنين إلى أحد أشكال النكوص régression كرد ة فعل دفاعية ال شعوري ة على اإلحباط والواقع املؤلم وتعبير ا عن الحاجة إلى الدفء واألمان املفقودين وكرد ة فعل على الضياع الوجودي ففي هذه الحالة يمكن أن يتحو ل املاض ي إلى سجن ال يستطيع املهاجر الخروج منه ويصبح الحنين عبارة عن نشاط مفرط للذاكرة الستحضار مواضيع وأزمنة يستحيل استرجاعها ومرتبطة ببعد عاطفي مشحون باأللم ألم فقدان ما هو عزيز وما هو غالي. 39 ومن هنا يبدأ حلم العودة إلى أرض )35( ت عتبر اللغة أهم العقبات التي يعانيها املهاجر وغالبا ما تكون سبب ا في كثير من حاالت سوء التفاهم والفهم وتؤدي باملهاجر إلى أن يطلق أحكام ا غير واقعية أو مشوهة على املجتمع املضيف. (36) A. Yahyaoui, Exil et déracinement, thérapie familiale des migrants. (Paris: Dunod, 2010). (37) M. Breviglieri, De la cohésion de vie du migrant : déplacement migratoire et orientation existentielle, Revue Européenne des Migrations Internationales, vol. 26, n 2, (2010), P (38) Stern, J. (1996). L immigration, la nostalgie, le deuil, Revue Filigrane, n 5, pp بوعون السعيد ويوسف عدوان ص 231. )39( 19

23 الوطن ويبدأ معه التغن ي برائحة تراب الوطن وأشياء ومواضيع البيت العتيق ولذلك كله دالالت نفسي ة بالغة. هذا الحلم يبدأ ولكن ه ال ينتهي فصدمة االستئصال الثقافي التي يعيشها املهاجر تترافق دائم ا بشعور بالخسارة وفقدان املنزل واألهل واألصدقاء والذكريات وفقدان الطمأنينة واالستقالل واملكانة االجتماعي ة. وهذا ما يول د لدية نوع ا من االحساس باإلخفاق واإلدانة الذاتي ة وعدم القدرة على التصرف والتفكير بشكل مرك ز والشرود الدائم وشعور بالهزيمة واإلحباط وحزن عام يسيطر على كيانه وكينونته وي دخله في حالة تشبه إلى حد بعيد حال الح داد غير املنتهية 40 غالب ا ما يعيشها املهاجر بشكل ال شعوري االكتئاب والذهانات غالب ا ما يعاني املهاجر - وخاص ة في الفترة األولى- الوحدة والشعور بالعزلة االجتماعي ة وباالغتراب وصعوبات التواصل مع اآلخرين. وغالب ا ما يدخل في حالين من الص راع اليومي : األولى مع نفسه من خالل حنين ملا ض سعيد وذكريات سعيدة يعيشها عن طريق الخيال والثانية مع اآلخرين للبحث عن ذاته وتأمين حاجاته املادي ة والنفسي ة وإلثبات وجوده. ويترافق هذا مع إحساس بفقدان املعايير االج تماعي ة التي تعل مها بين أهله واملعالم الثقافي ة االعتيادي ة ال تي تربى عليها. فانتقال اإلنسان من بيئة ومجتمع يألفهما ويعرفهما ويعرف كيفي ة التصرف فيهما إلى مجتمع آخر يجهل قيمه وقوانينه وثقافته غالب ا ما يول د لديه خوفا من املجهول ونزوح ا نحو الش ك والحذر من كل ما يحيط به وشعور ا دائم ا بالقلق والتوت ر. الت ي ذكرناها أعاله وحال الحزن والقلق ولم يستطع املهاجر الخروج إذا ما استمرت طويال حال الحنين منهما فإن ه يدخل في حال اكتئاب état de dépression تبدو معاملها عليه وإن حاول جاهد ا التظاهر بالبهجة. وغالب ا ما يكون هذا االكتئاب انفعالي ا ذا أسباب نفسي ة املنشأ psychogène تعود إلى الظروف الص عبة ال تي يعيشها املهاجر التي أشرنا إليها في الفقرات السابقة وهذا الن وع من االكتئاب عصابي يرتدي صبغة الضيق النفس ي والقلق الش ديد مع األرق واإلحساس الدائم بالتعب وأحيان ا دون أي عنصر تقليدي. ولكن هذا ال ينفي أن ه من املمكن أن للتعبير عن كآبة في املزاج أو الوجدان كالبكاء أو التعبير الكالمي 42 (40) J.Stern, L immigration: la nostalgie, le deuil, p 19. (41) F. Couchard, Fla psychologie clinique interculturelle, Les topos, (Paris: Dunod,1999), p. 15. سليم عنابي أنور الجراية محمد بسباس جمال التركي "الهجرة وأمراضها النفسية" مجلة الثقافة النفسية )42( املتخصصة العدد 23 املجلد السادس عشر. )تموز/يوليو 2005(. ص

24 تكون أسباب االكتئاب عضوية املنشأ endogène كما في حاالت االكتئاب امليالنخوليا Mélancolie وهو أحد أشكال الذهان االكتئابي الهوس ي 43 و لكن يبقى هذا النوع أقل شيوع ا بكثير من االكتئاب االنفعالي. وت عد الذهانات psychose من أهم االضطرابات النفسي ة ال تي من املمكن أن يعانيها املهاجرون وهذه زات خاص ة ينفرد بها املهاجرون من أصول عربي ة وإسالمي ة 44 فهي تقتصر على الشعور الذ هانات لها مي باالضطهاد والدونية وتوه م املرض وانحطاط القيمة واملطالبة املتكر رة بالحقوق املسلوبة سواء أكانت حقيقي ة أم مجرد صنيعة خياالت مضطربة. وهنا البد من التنويه إلى أن الدراسات أظهرت أن قسم ا من هؤالء املهاجرين لديهم استعدادات خاص ة للمرض النفس ي ولم يكن عامل الهجرة وضغوطاتها إال أرضي ة خصبة لظهور املرض. 4- األمراض النفس/جسدية حال التوت ر املستمر والقلق الدائم تفقد املهاجر بعضا من مناعته الجسدي ة والنفسي ة التي كان يتمتع بها في بلده األم وتجعله أكثر هشاشة وعرضة لألمراض النفس/جسدية.Psychosomatique فنرى مثال أن كثير ا من املهاجرين يشتكون من اضطرابات النوم والشهي ة والهضم واملفاصل والص داع املزمن وآالم غير معروف مصدرها. حركي ة ودينامي ة الشخصية وهذا مصدره بعض املهاجرين يعانون خلال يصيب وقد لوحظ أيضا أن اختالل في أساليب الدفاع األو لية املوجودة أساس ا في بيئتهم األولى أي بلدهم األم ويلجؤون -في نطاق الحيل الدفاعية ال الشعورية- إلى التهرب من اآلخرين والعزلة واالنطواء ملدة قصيرة ومن ثم إلى اإلنكار Négation فاإلسقاط Projection ورد الفعل Réaction formation فنراهم يحم لون البلد املضيف وأهله كل الضيق الذي يجتاح كيانهم فغالب ا ما نسمع من هؤالء أن البلد كئيب والجو بارد وممطر والناس محرومون من القيم األخالقي ة وهم باردون وفاقدون لإلحساس وعنصري ون وال يحب وننا وال 45 يوجد لديهم عالقات اجتماعية...إلخ. ورصدت الدراسات النفسية حاالت كثيرة من األعراض النفس/جسدي ة عند املهاجرين وهي ناتجة عن مظاهر االكتئاب التفاعلي Réactive dépression 46 ال تي تتجلى في اضطرابات وسرعة دقات القلب وقروح (43) Petit Larousse de la psychologie, 2005, p )44( عنابي ص 140. )45( عنابي ص 133. ز بشاااااااااااااعور حاااد من اليااأس والحزن هي ال ر التي تختلف في حاادتهااا وماادتهااا وتتمي )46( حااالااة االنف عااال يااة من االك ت ئاااب العاااب واالنز ع اج االك ت ئاب ي بساااابب عوامل خارجية يمكن معرفتها وتحديدها أو بساااابب اإلجهاد البيبي أو بساااابب الظرف الحياتي 21

25 املعدة واالثني عشر واآلالم امل زمنة واضطرابات القولون والص داع النصفي وآالم الكبد واملعدة. كما في أوساط 47 أشارت دراسات أخرى إلى شيوع العن ة الجنسي ة والوهن النفس ي والتعب واألعراض التحو لية املهاجرين أكثر من غيرها. 5- حاالت االدمان ي عد اإلدمان من األخطار التي يمكن أن يعانيها املهاجرون بشكل كبير واملقصود باإلدمان هنا هو أي سلوك متكر ر بغض النظر عن العواقب الضا رة بصحة الفرد أو حاالته العقلية أو حياته االجتماعي ة يحاول صاحبه التقليل منه أو االبتعاد عنه ولكن ه ال يستطيع ويرافق هذه املحاولة نوع من الغضب واملزاج الس يئ والحزن. ومن مظاهر الس لوك اإلدماني أوال الرغبة امللحة باالستمرار به للشعور بآثاره النفسية والجسدية اإليجابية بحسب املدمن )كالسعادة وال لذة والرض ى( أو لتجنب اآلثار امل زعجة التي تنتج من عدم القيام به وثاني ا محاولة إخفائه والتقليل من أهمي ة الوقت ال ذي يستلزمه هذا الس لوك. 48 ويمكننا الحديث عن ثالثة أنواع من اإلدمان منتشرة في أوساط املهاجرين وهي على الش كل اآلتي: اإلدمان الكحولي وإدمان تعاطي املخد رات تبدو ظاهرة اإلدمان الكحولي بشكل خاص عند املهاجرين ال ذين كانوا يتعاطون الكحول أصال في بلدهم األم ولكن بعد تجربة الهجرة غالب ا ما يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل فاقدين قدرتهم على التواصل وخصوص ا في الس نة األولى بعد الوصول إلى البلد املضيف فيلجأ بعضهم إلى تعاطي الكحول وسيلة لتخفيف القلق وللهروب من هذا الواقع القاس ي وتوت راته النفسي ة. ولكن قد يكون تعاطي الكحول وخاص ة عند بعض الشباب واملراهقين ناتج ا أيض ا عن رغبة املهاجر في إظهار وبرهنة تقدميته ومجاراته للمجتمع األوربي واندماجه فيه. والخطورة ال تكمن في تعاطي الكحول نفسه وإن ما في أنه وبمرور الوقت ونتيجة )47( ر املحيط بالشاااااااخص وعادة تزول مع زوال السااااااابب أو مع تفهم وإدراك الشاااااااخص للحال كما يسااااااامى أيضاااااااا باكت ئاب ت غ ي الحاال ت. اضاااطرابات نفساااية مفاجئة منشاااؤها نفسااا ي وليس عضاااوي ولكن ها تتحو ل في ظاهرها إلى أعراض جسااامي ة مما يوهم بوجود أمراض جسدي ة. )48( عادل الدمرداشااااااااااااا ي اإلدمان مظاهره وعالجه سااااااااااااالسااااااااااااالة عالم املعرفة )الكويت: املجلس الوطني للثقافة والفنون واألدب آب/ أغسطس( ص

26 للظرف القاس ي والتوت ر قد يتحو ل هذا التعاطي إلى نوع من اإلدمان. وغالب ا ما يتم التعاطي عند هذا النوع من املهاجرين بصفة فردية وانزوائي ة. 49 وفي معظم الحاالت يؤد ي اإلدمان الكحولي املزمن إلى رضوض نفسي ة حاد ة وخطرة يصحبها فقر لغوي وانكماش عاطفي وفي بعض األحيان إلى الخرف املبك ر وأمراض الكبد وإلى تأثيرات سريري ة تصيب بشكل مباشر الجملة العصبي ة. أم ا بالنسبة إلى تعاطي املخدرات فهذا النوع من اإلدمان في أوساط املهاجرين ناتج بصورة كبيرة عن محاولة النسيان والهروب من ظروف الغربة وقسوتها ومحاولة العيش في عالم آخر خيالي ولكن مثالي. وأكثر من يقع في فخ هذا النوع من اإلدمان هم فئة الشباب من املهاجرين غير املتزوجين حيث يمكن أن يكون التعاطي فرصة ووسيلة لل تواصل مع اآلخرين وخاص ة في حالة املدمن على الحشيش واملاريغوانا. ولكن هذه الوسيلة هي مجرد حل سحري يقلب داللة املصير خالل لحظات تأثير املخد ر املتمثل في الراحة والبهجة واملتعة والتعالي على الغربة ومعاناتها إال أن ه انتحار بطيء وأكيد بمقدار الغرق فيه هو يعالج املوت الوجودي في البداية كي يؤد ي إلى املوت البيولوجي فيما بعد. 50 وغالب ا ما يؤد ي إدمان املخد رات إلى فقدان التفكير السوي واإلدراك الص حيح وإلى العزلة وبخاصة في حالة الهيروئين وحبوب الهلوسة. إدمان وسائل التواصل االجتماعي إن إدمان "الفيس بوك" و"الواتس أب" وغيرها من وسائل التواصل االجتماعي ي مكن اعتباره من أكثر أنواع اإلدمانات شيوع ا في أوساط املهاجرين فغالب ا ما تدفع حال العزلة االجتماعي ة ال تي يعيشها املهاجر لجوء إلى العالم وصعوبات تعلم اللغة واالندماج والتواصل مع اآلخرين إلى الهروب من العالم الحقيقي وال لقد تحو ل الناس عبر الحيز 51 االفتراض ي حيث العالقات االجتماعي ة م تاحة بسهولة أكثر. وكما يقول بوديار االفتراض ي ال الم تناهي إلى مجموعة من النصوص والص ور والوثائق واألصوات والرسائل الوافدة ولقد أحدثت وسائل التواصل االجتماعي تحو الت جذري ة في مالمح حياتنا اليومية ال تي تهاوت فيها الحدود بين ما هو محلي وما هو عاملي. )49( )50( عنابي ص 142. مصطفى حجازي اإلنسان املهدور: دراسة تحليلية نفسية ط 3 )الدار البيضاء املغرب: املركز الثقافي العربي 2013( ص 214. )51( غدنز ص

27 وعلى الرغم من أن هذه الوسائل فتحت آفاقا جديدة أمام البشر الكتشاف العالم االجتماعي وتفعيل طاقاتهم املتوفرة وتوجيهها إلى البناء واإلبداع وزيادة مجاالت املعرفة وقدرتهم على تقب ل اآلخر وتقب ل التغيير إال أنها وفي الوقت نفسه ت شكل تهديدا قوي ا بتقويض العالقات والقيم االجتماعية. فعلى الرغم من أن املهاجر وعبر هذه الوسائل يتواصل مع غيره ويتولد لديه شعور ا بأن حياته االجتماعي ة غني ة وتلب ي له بعض الحاجات النفسية االجتماعية الضرورية كحاجة االنتماء للجماعة ولألسرة وحاجة تقدير الذات مع املجتمع وتقدير الجماعة واإلحساس باملحبة واالهتمام إال أنها سبب أيضا في عزلته وقلة تفاعله 52 امل ضيف وعائق أمام نجاحه وخاص ة حين تتحول إلى سلوك إدماني. 53 وهكذا على سبيل املثال ال الحصر تحو ل "الفيس بوك" من وسيلة ات صال إلى وسيلة انفصال. صحيح أن الفيس بوك هو تقريب ا النافذة الوحيدة للتواصل مع الوطن األم بالنسبة للمهاجرين وصحيح أن ه اختصر الزمن واملسافات وأعطى فرصة التعبير للجميع وبحري ة وصحيح أنه وفر فرصة "للذكاء الجماعي" على حد تعبير مصطفى حجازي أي املشاركة في قضايا الكون وبناء رأي عام محلي وعاملي إال أن ه يبقى 54 وتشكيل جماعات ضغط ملساندة القضايا العادلة والتأثير على القرارات بشأن هذه القضايا عاملاااا افتراضي ا من خلف الشاشة والحقيقة الفيسبوكي ة هي حقيقة افتراضي ة مم ا يفتح األبواب لكل أشكال اإلسقاط واالستعارة والتماهي وحب الظهور وتسويق الذات واإلنكار والتسويغ واالرتكاس واالنتقائي ة في اختيار املعلومات. ولقد تحو ل "الفيس بوك" إلى وسيلة للهروب ورهاب اجتماعي واغتراب نفس ي وبات هو البيت واملأوى وهو الص ديق واألسرة هو منص ة التعليم واللعب وهو الفرد واملجتمع. والخطير في استخدام "الفيس بوك" هو سهولة تحو له إلى سلوك إدماني وخاص ة في حاالت امللل والفراغ والوحدة وهكذا أصبح بعض املهاجرين يقضون ساعات طويلة في استخدام اإلنترنيت وبطريقة الفتة للن ظر مع ما ينطوي على ذلك في كثي ر من األحيان من حاج ة إلى العزلة عن اآلخرين خالل وقت االستخدام وهذا ما أطلق عليه الباحثون في هذا الص دد ما ي عرف "بانطوائية الكمبيوتر". 55 والستخدامات "الفيس بوك" أهداف متنو عة بعضها واع وآخر الواع فهناك من يستخدمه لتحقيق أغراض علمي ة ونشر أفكار وآراء ثقافي ة أو سياسي ة و آخر ألغراض الترفيه والتسلية وهو ما يبدو األكثر )52( لقد اقتحم الفيسبوك الحياة العائلية بحيث قل ل فرص التواصل والتفاعل ضمن العائلة الواحدة فما بالك في تواصل املهاجر مع املجتمع امل ضيف. )53( في هذه الحال تلب ي وسائل التواصل االجتماعي حاجات نفسية ملح ة تدفع باملدمن إلى االنعزال عن محيطه. )54( حجازي ص 231. )55( فاطمة همال "انفصامي ة حقيقة االسم والهوي ة للشباب الجزائري عبر "الفيس بوك": وعي الذات إلى أين " )مؤس سة مؤمنون بال حدود تشرين األول/أكتوبر 2016( ص

28 شيوع ا. وهناك من يستخدمه للدردشة في أموره الخاصة مع ذكر تفاصيل مم ا يؤد ي أحيان ا إلى فضائح "فيسبوكي ة". وهو أيض ا مكان لتفريغ الطاقات والهموم ومتنفس لحاالت االكتئاب ال تي تالزم عدد ا من املهاجرين ولكن هذا امل تنف س االفتراض ي انتقل في دورة انعكاسية من تفريغ شحنات سلبي ة من أجل الراحة في التعبير عن الحاالت النفسية إلى معز ز سلبي للحاالت الشعوري ة الس لبية ومعز ز سلبي للحاالت االجتماعية كالطالق العاطفي والتفك ك األسري واالغتراب والش ك وعدم الثقة والنبذ االجتماعي. 56 وهناك على الجانب اآلخر من يستخدم "الفيس بوك" للس رقة والنصب واالحتيال أو لنشر اإلشاعات واألكاذيب ووسيلة سهلة للتشهير وتشويه السمعة ولإلضرار بجهة معي نة أو للتجس س وتجنيد املخبرين. ربما إحدى الظواهر ال الفتة للنظر على "الفيس بوك" وهي أكثر من غيرها "ظاهرة النجومية الس ريعة" ووهم النجاح الس هل الذي يدفع ببعض املهاجرين إلى اإلفراط في استعراض اإلنجازات أو تضخيمها من خالل عملي ات االستعارات االختزالية واإلسقاطات النفسية وعمليات التضليل غير املباشرة فيما ينشرونه عن أخبارهم في بالد املهجر وكذلك صور يكون الهدف الحقيقي منها هو إيهام اآلخرين بالنجاح واإلبداع وبهذه الطريقة تنهال عليهم املباركات والتبريكات واإلطراءات واملبالغات في املجامالت )رب ما بمحض خبر نجاح في امتحان اللغة للمبتدئين أو بقبول جامعي فإن بعض التعليقات تصف صاحب الخبر باملبدع واملتميز( حتى أصبح بعضهم يعتقد نفسه أنه شخصي ة معروفة لها كينونتها وحضورها وشهرتها وبدأنا نرى مؤخ ر ا استخدام كلمات مثل كاتب وصحفي وشاعر ومبدع ومفكر وباحث أو فنان كيفما شاء وكيفما كان. أم ا في الحقيقة فإن هذه النجومية االفتراضي ة ليست سوى عملية استبدال واقع فارغ مؤلم بواقع افتراض ي جميل هو مزيج من الواقع والخيال. وهنا تبرز أكثر مالمح االنفصام ال تي يعيشها املهاجر امل دم ن على "مسرح الفيس بوك" بحيث يكون له شخصي تان واحدة حقيقي ة وأخرى افتراضية مختلفة عنها رب ما بدرجة كبيرة. وتشير املالحظات جميعها إلى أن ه بمجرد غياب هؤالء النجوم عن هذا املسرح االفتراض ي تغيب تلك النجومية وتلك االعتبارات من شهرة وغيرها. إنها نجومية الوجبات السريعة التي ال تعم ر طويال شأنها في ذلك شأن كل ما هو سريع. 57 القاسم املشترك بين هذه االستخدامات لا "لفيس بوك" كلها هو ثقة عام ة الناس بهذا املوقع االجتماعي واستبعادهم -بوعي أو بدونه- احتماالت تعرض هم للخطر من خالله بحيث إنهم يضعون تفاصيل عن )56( همال ص 17. )57( حجازي ص