1 موقف ألمانيا من تهويد فلسطين 0104 0481 عبد الرؤوف سنو أعمال مؤتمر " وعد بلفور أبعاد تاريخية وجيوسياسية" الجمعية التاريخية اللبنانية قسم التاريخ في الجامعة اللبنانية الفرع الثاني 28 و 29 تشرين الثاني 2017 قد يتبادر إلى األذهان إن ألمانيا كانت بعيدة عن مشاريع اليهود لالستيالء على فلسطين وإن أول موقف لها في هذا الصدد جاء مطلع العام 1918. لكني سأثبت في هذه الورقة الفرضيتين اآلتيتين: إ ن "المسألة اليهودية" في ألمانيا دفعت حكومات بروسيا منذ أواخر الثالثينيات من القرن التاسع عشر إلى العمل على إيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين وإن الرأي العام األلماني تقبل هذا المشروع. إن عدم صدور إعالن ألماني لصالح الحركة الصهيونية قبل مطلع العام 1918 يعود إلى اعتبارات عدة منها العالقات المتينة بين ألمانيا والدولة العثمانية خالل حكم اإلمبراطور وليم الثاني والتحالف بين برلين واآلستانة خالل الحرب العالمية األولى وأخير ا إن ألمانيا لم تضع 1 في حسابها قدرة الحركة الصهيونية على تحقيق مشروعها في فلسطين. - - - مشروع ألماني مبك ر لتوطين اليهود في فلسطين على الرغم من صدور مراسيم لتحرير اليهود األلمان وإعطائهم المواطنة منذ العام 1812 لم تؤد هذه اإلجراءات إلى المساواة الكاملة بينهم وبين مواطنيهم األلمان وبالتالي حل "المسألة اليهودية" في ألمانيا وذلك نتيجة العوامل النفسية واالجتماعية والدينية التي كانت تؤدي دورها في عدم حصول دمج مجتمعي ومنها عنصرية األلمان تجاه "الغرباء" وانغالق اليهود اجتماعي ا واعتبار أنفسهم "قومية" 1 ال يحتوي األرشيف السياسي في و ازرة الخارجية األلمانية على أي ملف يتعل ق مباشرة بموقف ألمانيا من تصريح الوزير البريطاني جيمس بلفور. فتوجد ضمن مل فات "تركيا" و"سورية" و"اليهود في تركيا" و"االستيطان في آسيا الصغرى" و"أرشيف الحرب العالمية األولى" معلومات قليلة جد ا عن الخطوات المتدر جة أللمانيا تجاه المشروع الصهيوني الذي تكل ل بصدور التصريح األلماني مطلع العام 9191. وهذه الملف ات محفوظة تحت المفاتيح اآلتية: " (Politisches Türkei, 158, Die Beziehungen zwischen der Türkei und :.Archiv des Auswärtiges Amtes Berlin) Deutschland;. 195, Die Juden in der Türkei; 175, Die heiligen Stätten; 177, Der Libanon (Syrien); 189, Plan deutscher Ansiedlungen in Kleinasien, 1891 1913; 190, Die Beziehungen zwischen der Türkei and Vereinigten Staaten von Nordamerika.
2 ورفض محاوالت تنصيرهم كخطوة نحو دمجهم في المجتمع األلماني 2. من هنا لم تكن "الوطنية األلمانية" تتقبل تسرب "القومية اليهودية" إليها وال المسيحية اليهودية كعقيدة. وقد بلغ عدد اليهود في 3 غرب أوروبا عشية الثورة الفرنسية 000 ألف ثالثة أرباعهم في ألمانيا. دورا في تغذية روح العداء ض د اليهود من جراء وإلى جانب ذلك أدى التحول االقتصادي في ألمانيا هيمنة الرأسمال اليهودي على قطاعات مالية وصناعية وتجارية حتى أن الحرفيين األلمان تعرضوا لمنافسة شديدة من قبل نظرائهم اليهود 4. وخالل الحروب النابوليونية تصاعدت النبرة العدائية ض د اليهود األلمان. فدعا فريدريش لودفيغ يان ) (Friedrich Ludwig Jahn أحد أهم مناصري القومية 5 كل من الفالسفة يوهان األلمانية " إلى حرب صليبية مقدسة ض د الغرباء من فرنسيين ويهود" فيما دعا فيخته (Johann Fichte وإيمانويل كانط ) (Immanuel Kant وغيورغ هيغل ) (Georg Hegel إلى أمة ألمانية مسيحية 6 واعتبر األول أن اليهود يشكلون "دولة داخل دولة" مضيف ا ولـ "كي نحمي أنفسنا منهم علينا أن نفتح أرض الميعاد ونرحلهم جميع ا إلى هناك".7 واستمر عداء الأللمان لليهود في عصر بسمارك فكتب الموسيقار ريتشارد فاغنر ) (Richard Wagner يقول " : إنه يمكن تفسير تراجع قيم 8 الشعب األلماني حقيقة إلى االختراق اليهودي". وفي أجواء "المسألة المصرية" خالل ثالثينيات القرن التاسع عشر اعتلى الملك فريدريش وليم الرابع عرش بروسيا العام 1800 ما جعل دوائر قصره التي كانت تتنازعها فكرة تنصير اليهود األلمان وتصدريهم إلى فلسطين تلتف حوله وتطرح عليه مشروعها. ولم يكن هذا الموضوع جديد ا بالنسبة إلى الدوائر السياسية والدبلوماسية األوروبية في التاريخ الحديث. فبونابرت عندما زحف على فلسطين من مصر العام 1799 طلب العون من اليهود في مقابل توطينهم فيها واستعادة "مجد إسرائيل الضائع" ألن هم وفق رأيه " هم الورثة الشرعيون لفلسطين". وكرر القائد الفرنسي موقفه هذا في مناسبات 9 أخرى. والمعروف أن اللورد اليهودي البريطاني موسى مونتيفيوري ) (Moses Montefiore تقدم من دمحم علي باشا العام 1888 بمشروع تنمية استيطان زراعي وصناعي يهودي في فلسطين في سياق استقالل 2 عبد الرؤوف سنو المصالح األلمانية في سوريا وفلسطين 1091 1481 معهد األنماء العربي بيروت 7891 ص.04-89 3 Isaiah Friedman, Germany, Turkey, and Zionism 1897 1918, Oxford, 1977, 128; Abba Eban, Mon people. Histoire du people Juif, traduit de l Anglais par Max Roth, Paris 1970. 217ff. ويعالج أبا ايبان مسألة تحرر اليهود في المجتمع األلماني والعقبات التي واجهونها في بروسيا منذ مطلع عصر الملك فريدريك الكبير. 4 سنو المصالح األلمانية ص.04-91 5 نق ل عن R.W. Greaves, The Jerusalem Bishopric, 1841. English Historical Review, 64 (1949), 328-52. : 6 Eban, 241. Joh. Gottlieb Fichte, Beitrag zur Berichtigung der Urleite des Publikums über die französische 7 Revolution, 1. Teil: Zur Beurteilung ihrer Rechtmässigkeit (1793). Beigefügt die Rezension von Friedrich von Gentz, Hrsgg. Von Richard Schottky, Hamburg, 1973, 1973, 115. 8 نقال عن Eban, 243. : 9 مؤسسة رس لن دمشق جرمانيا 2492 ص 202 200 وقارن تركي قاسم الزغبي اليهود وأرض كنعان دار بـ Abba Eban, 226, 263. :
3 ذاتي. أما الحكومة البريطانية فطالبها بحماية ما يقرب من 7 آالف يهودي في فلسطين وبأن تدعم 10 هجرة يهود أوروبا إلى البلد المذكور والسماح لهم بشراء األراضي هناك واالستيطان عليها. ومن جهة أخرى سأل أحد زعماء "جمعية يهود لندن" التي كانت تنشط في تنصير اليهود ونقلهم إلى فلسطين Society) (London Jew ملك بروسيا العام 1889 بالقول: "أال يستطيع الملوك المسيحيون أن يقدموا إلى اليهودي المسكين الذي ظل سجين ا لفترة طويلة شيئ ا من الحرية المسيحية " وبعد مرور العامين كتب كريستيان بونسن Bunsen) (Christian أحد أكثر المقربين من الملك البروسي والمروجين لمشروع تراسفير يهودي إلى فلسطين بشرط التنصير إلى غالدستون (Gladstone) وزير المستعمرات البريطاني ورئيس الحكومة الحق ا يقول: "... أال ترى مشيئة هللا في إنشاء كنيسة أنكليكانية وجماعة من المتنصرين اليهود على جبل صهيون في القدس أال ينبغي أن نفعل شيئ ا الستغالل األحداث 11 السياسية... التي تتحكم بها مشيئة هللا والتي يشكل تصادفها إشارات على انبعاث صهيون". لقد كان غالدستون من مؤيدي فكرة توطين اليهود في فلسطين لكن من زاوية مصالح بريطانيا االستراتيجية والتجارية في المنطقة. أما المقصود ب "األحداث السياسية" كما ورد في خطاب بونسن إلى غالدستون فكانت "المسألة السورية" وهي استعادة السلطنة سيادتها على والياتها السورية بفضل دعم أوروبا لها. ورأى بونسن أن على "الباب العالي" أن يرد "الجميل" ألوروبا بفتح أبواب فلسطين أمام هجرة اليهود 12 إليها. واعتبر في رسالة إلى زوجته "إن البداية تحققت إلعادة تكوين إسرائيل. وبسبب ضعفها السياسي في الدولة العثمانية احتاجت بروسيا إلى مظلة دولة أوروبية قادرة على تنفيذ مخططاتها. من هنا أشركت إنكلترا في المشروع ماليا وكنسي ا بعدما تالقت مشاريعهما لتنصير اليهود وتوطينهم في فلسطين. وفي العام 1801 جرى تأسيس "مطرانية القدس اإلنجيلية" في القدس على أن تتبع الكنيسة األنكليكانية في المملكة المتحدة. ونظر ا إلى مكانتها لدى الدولة العثمانية قامت بريطانيا بخطوات دبلوماسية لدى الباب العالي لتأمين أرضية دينية سياسية وبالتالي اعترافه بالمطرانية. فتم ذلك العام 13 1880 باعتراف الباب العالي بالملة البروتستانتية في أراضيه. 10 Isaiah Friedman, Lord Palmerstone and the Protection of the Jews in Palestine 1839-1851. Jewish Social Studies, 30 (1968), 29; Albert M. Hyamson (Ed.), The British Consulate in Jerusalem in Relation to the Jews of Palestine (1838 1914), 2. Vols., London 1939 and 1941, vol. I, LXVIII LXXI. وفي العام 9184 تأس س في باريس "األليانس" )التحالف اإلس ارئيلي العالمي( بهدف تقديم المساعدة السياسية والثقافية لليهود أينما وجدوا وتنمية المجتمعات اليهودية المختلفة عن طريق التعليم والتدريب المهني من خ لل فكرة وحدة اليهود في كل أنحاء العالم. وفي العام 9184 أقامت "األليانس" أول مدارسها "مكفيه يس ارئيل" لتعليم يهود فلسطين الز ارعة الحديثة. "األليانس". الموسوعة الفلسطينية 1 أيلول 2499 https://www.palestinapedia.net/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%84%d9%8a%d8%a7%d9%86%d8%b3/ 11 Friedrich Nippold, Christian Carl Josias Freiherr von Bunsen. Aus seinen Briefen und nach eigener Errinerungen geschildert von seiner Wtiwe, vol. II, Leipzig, 1969, 120 f. Kurt Schmidt Klausen, Vorweggenommene Freiheit. Die Gründung des Bisthms Jerusalem im Jahre 1841, Berlin Hamburg, 1965, 89. 12 نقال عن: عبد الرؤوف سن و "موقف ألمانيا من مشروعي تدويل القدس وإعادة توطين اليهود في فلسطين. 9104 9118(" 13
4 وعلى الرغم من تعيين اليهودي المرتد إلى المسيحية ميشال سالومون الكسندر (Michael Solomon Alexander) أسقف ا على المطرانية لم تحقق هذه األخيرة نجاح ا في عهده أو في عهد خلفه صموئيل غوبات Gobat) (Samuel سواء في استقطاب اليهود إلى المذهب البروتستانتي أو في قبولهم باالنتقال إلى فلسطين. كما فشلت المطرانية في جذب اليهود المحليين أو أتباع الكنائس العرب في فلسطين إلى المشروع. فكانت هناك مقاومة في المنطقة تجاه المذهب البروتستانتي الجديد. وفي العام 1881 فسخت بروسيا شراكتها مع بريطانيا بعدما أصبحت دولة كبيرة في عهد بسمارك. أما عن السبب الرئيسي في فشل مشروع المطرانية فهو أن ارتباط اليهود المحليين المقيمين بفلسطين كان ديني ا ما جعلهم يقاومون فكرة تنصيرهم. ولم تتمكن المطرانية بعد مرور 08 عام ا من إنشائها من تنصير سوى العشرات. وهؤالء لم يتنصروا بفعل دوافع دينية بل لظروف اقتصادية خاصة أن يهود فلسطين كانوا يعيشون في فقر مدقع. كما عارضت الزعامات اليهودية خارج ألمانيا تنصير أبناء قومها ونشطت في تقديم مقومات اقتصادية لهم وبخاصة في فلسطين لمقاومة مشاريع تنصيرهم. وقد ثبت خطأ االفتراض بأن اليهودي األوروبي الذي يقدم على التنصر سيهاجر إلى فلسطين ألن تنصره كان الخطوة األساسية لتحطيم الحواجز الفاصلة بينه وبين المجتمع األوروبي واالندماج فيه. وبذلك تصبح العودة إلى فلسطين بعيدة عن تفكيره. وعندما حصل الترانسفير اليهودي إلى فلسطين خالل عهد هتلر عاد اليهود األلمان إلى أرض الميعاد كيهود ضمن مشروع الحركة الصهيونية لتهويد فلسطين وليس كمرتدين إلى المذهب البروتستانتي. - وعد بلفور "ألماني" متأخ ر من دون الدخول في األسباب المعروفة لنشوء الحركة الصهيونية فقد سعى هرتسل زعيم المنظمة الصهيونية من دون نتيجة لعرض مشروعه على رئيس وزراء ألمانيا أوتو فون بسمارك. لكن الترويج الفعلي لتهويد فلسطين حصل في وقت متقارب مع وصول اإلمبراطور وليم الثاني إلى عرش ألمانيا العام 1888 واعتماده سياسة "الزحف نحو الشرق" بكل أبعادها اإلمبريالية. وكان زعماء الحركة من اليهود األلمان أو اليهود الشرقيين الذين درسوا في ألمانيا فتطلعوا إلى العاهل األلماني للحصول منه على الدعم انطالق ا من وجوب رعاية المشروع من قبل دولة كبيرة مع استعدادهم لجعل الصهيونية من 14 أدوات سياسة التوسع األلماني. واعتقد هرتسل أن ألمانيا قد تكون أكثر الدول التي يمكن الحصول على إعالن منها بدعم المشروع الصهيوني. فهي دولة أوروبية كبيرة يمكنها أن تمارس تأثير ا حاسم ا في الباب العالي وإذا ما تمكن المرء من أن يجعل العاهل األلماني يتدخل لمصلحة الصهيونية فإن السلطان العثماني لن يرفض طلبه في هجرة يهودية إلى بالده. من هنا عرض هرتسل على اإلمبراطور خطة من ثالث نقاط: تقوية الدولة العثمانية المستهدف ة بالمشروع اقتصادي ا وإخراجها من أزمتها المالية ومساعدة ألمانيا للحصول على موطئ قدم في الشرق األدنى وأخير ا حل "المسألة اليهودية" في ألمانيا بوقف الهجرة اليهودية إليها من شرق أوروبا التي تفاقمت منذ اغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني العام مجل ة تاريخ العرب والعالم )9110-9119( 89/82 ص 01 88(. Francis R. Nicosia, The Third Reich & the Palestine Question. With a New Introduction by the Author, New Brunswick/London, 2000, 1-2. 14
5 16 15 1881 وبالتالي ازدياد العداء للسامية في أوساط المجتمع األلماني. فكان العرض األول يغري السلطنة للقبول بالمشروع فيما يجعل العرض الثاني من اليهود رأس جسر لالستعمار على مقربة من قناة السويس شريان المواصالت العالمية. فيكون أللمانيا حليف هناك. وقد حصل الجزء الثالث من الخطة على تأييد يهود ألمانيا والمعارضين للسامية. ومن المؤشرات على استحسان ألمانيا المشروع الصهيوني محاولة اإلمبراطور األلماني خالل زيارته لالستانة العام 1898 إغراء السلطان العثماني للقبول به. أما السبب المباشر لذلك فهو تقرير الوزير األلماني المفوض في برن كريستيان فون تاتنباخ Tattenbach) (Christian von الذي حذر من حرب داخلية Kampf) (Kultur بين القومية اليهودية والقومية األلمانية نتيجة الوعي القومي بين اليهود 17 ورفضهم من قبل مجتمعهم األلماني المسيحي. وعندما قرأ اإلمبراطور التقرير علق عليه بالجملة اآلتية: "دع اليهود يذهبون إلى فلسطين وكلما أسرعوا في الهجرة كلما كان أفضل. ولن أضع أية 18 عراقيل في طريقهم". لكن السلطان عبد الحميد الثاني رأى في توطين اليهود في فلسطين نوع ا من االستقالل الذاتي لرعاياه ما يهدد سيادة السلطنة فرفضه. وهذا ما جعل الخارجية األلمانية تتخلى عن 19 دعم المشروع كي ال يسيء إلى عالقاتها بالسلطنة انطالق ا من مصالحها المتشعبة فيها. بناء على ذلك لم تتزحزح الحكومة األلمانية بين األعوام 1898 و 1917 عن موقفها الرافض لالستيطان اليهودي في فلسطين مراعاة لعالقاتها بالسلطنة التي كانت في نمو. وفي محاولة الستثارة ألمانيا اعتقد هرتسل أن الحركة الصهيونية بحاجة إلى دعم مسيحي - صهيوني لفتح أبواب البالط 20 األلماني لها. ووجد ضالته في دوق بادن الكبير فكتب له في أيلول 1897 يبلغه بتحفظ الحكومة األلمانية على مشروع تهويد فلسطين وأن هذا سوف يجعل "الحركة الصهيونية العالمية" تسعى إلى الحصول على دعم بريطانيا وحمايتها وحثه على التدخل لدى اإلمبراطور. لكن وزير الخارجية برنهارد فون بيلوف Bülow) (Bernhard von قابل هرتسل في فيينا في أيلول 1897 وأبلغة صراحة 21 أن مشروعه ال يجذب إال فقراء اليهود العاجزين عن إقامة دولة في فلسطين أو استعمارها. من هنا اكتفت الحكومة األلمانية بتكليف سفيرها في اآلستانة مارشال فون بيبرشتاين (Marschall von Bieberstein) بمتابعة الموضوع مع "الباب العالي". لكن السفير كان معاديا للصهيونية ويعتقد أن تأييد 22 بالده لها سوف يسيء إلى عالقاتها بالسلطنة فبقي على موقفه هذا حتى نهاية عهده العام 1912. وهذا ما جعل الحركة الصهيونية تنتظر تعيين خلفه هانس فون فانغنهايم Wangenheim) (Hans von 23 الذي لم يقدم سوى الوعود والدعم األدبي. لكن وفاة فون فانعنهايم في تشرين األول العام 1918 Eban, 261ff. 15 16 17 18 19 20 21 22.2 Nicosia, على محافظة الع لقات األلمانية الفلسطينية. من إنشاء مط ارنية القدس البروتستانتية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية 9109 9102 المؤس سة العربية للد ارسات والنشر بيروت 9119 ص 909. Eban, 229f.; 241-242. نق ل عن: محافظة ص 900. Nicosia, 2-3. Giniewski, 136. Marvin Löwenthal, The Jews of Germany, Philadelphia, 1944, 235-7; Giniewski, 137-8. Nn 23 محافظة 900. Friedman, 187-8.
6 سببت نكسة لتوقعات الحركة الصهيونية. أما قنصل ألمانيا العام في القدس باول فون تشندورف (Paul Tischendorf) von فأبلغ السلطات العثمانية في المدينة بأن الدعوة إلى كيان يهودي كما جاء في 24 كتاب هرتسل "الدولة اليهودية" Judenstaat) (Der محض خيالية وبعيدة عن الواقع. إن فشل هرتسل في إقناع بيلوف بالمشروع الصهيوني كما معارضة السفير األلماني في األستانة تهويد فلسطين وما يشكله من ضرر على المصالح القومية العثمانية جعال هرتسل يطلب مقابلة شخصية مع اإلمبراطور عبر سفير ألمانيا في فيينا البارون فيليب تسو أويلنبورغ Eulenburg).(Graf Philip zu فأبلغ عن طريق أويلنبورغ بتعاطف اإلمبراطور مع المشروع الصهيوني واستعداده لمقابلة وفد صهيوني خالل زيارته إلى القدس في سياق رحلة طويلة ستنقله إلى اآلستانة وبالد الشام. إن توجه اإلمبراطور وليم الثاني نحو الشرق جعل هرتسل يتوقع حدوث تحول في سياسة ألمانيا في اتجاه الشرق وإن وصول العاهل األلماني إلى المدينة المقدسة له أكثر من معنى حتى أن أعلن "إن 25 الصهيونية ستمكن اليهود من حب ألمانيا ثانية"" في إشارة إلى خيبة أمل اليهود حتى حينه من موقف ألمانيا السلبي من نشاطات الصهيونية. وكتب في مذكراته معلق ا على تضافر األحداث لمصلحة الحركة الصهيونية يقول: "ستذهب با صاحب الجاللة إلى فلسطين. وسيكون لموكبكم عظمة رمزية. وستذه ل هذه الرحلة أهل الشرق وتقل ق بال أهل الغرب. غير إننا إذا نظرنا ملي ا في األمر نجد أن هذه الرحلة اإلمبراطورية الجديدة إلى صهيون ستترك أثر ا ال يمحى في التاريخ إذا 26 كان لها عالقة مع الحركة الصهيونية الجديدة". وفي 18 تشرين األول و 2 تشرين الثاني 1898 حصل لقاءان في األستانة والقدس على التوالي بين هرتسل والعاهل األلماني حدد الزعيم الصهيوني مطلبه من ألمانيا بإنشاء "شركة قانونية تحت الحماية األلمانية" تشرف على الترانسفير اليهودي إلى فلسطين. فوافق اإلمبراطور على الفور وتم التوافق على لقاء ثان بينهما في فلسطين. وفي القدس ألقى هرتسل خطاب ا أمام الإلمراطور وقدم له أليوم ا يحتوي على صور للمستعمرات اليهودية في فلسطين حدد فيه هرتسل أهداف الصهيونية وهي: "إيجاد وطن معترف به ومضمون للشعب اليهودي في فلسطين". وفي رده على هرتسل قال العاهل األلماني: "إن جميع الجهود التي تهدف إلى النهوض بالزراعة في فلسطين ألجل رخاء الدولة التركية يمكنها أن 27 تحصل على اهتمامي وعطفي مع مراعاة كاملة واحترام لسيادة السلطان". وبالفعل كانت كلمة العاهل األلماني رفض ا مهذب ا ألماني الحركة الصهيونية في تأسيس وطن قومي 28 للهيود في فلسطين بمساعدة ألمانيا. وعلق وزير الخارجية األلمانية بيلوف في مذكراته على الرفض Neville Mandel, Turks, Arabs and Jewish Immigration into Palestine, 1882 1914, Middle Eastern Affairs, St. Anthony Papers, no. 4, 17 (1965), 87. 24 25 26 27 28 نق ل عن: محافظة ص 908. نق ل عن: محافظة ص 908. Politisches Archiv des Auswärtiges Amtes Berlin, Preussen 1, Nr. 1, vol., 7a, Bülow an Wolff, A 12624, Nov. 2, 1898; Das Deutsche Kaiserpaar im Heiligen Lande im Herbst 1898. Nach authentischen Berichten und Akten, Berlin 1899, 287f. Yisraeli, 143.
7 المهذب إلمبراطور ألمانيا بالنسبة إلى لمساعي الصهيونية لتهويد فلسطين بأن ه جاء عقب تصريح وزير الخارجية العثماني المرافق لرحلة العاهل األلماني بأن "ال عالقة للسلطان بالصهيونية وليس لنا أي 29 اهتمام بإنشاء دولة يهودية في فلسطين". لذا عندما عين بيلوف رئيس ل للحكومة األلمانية بين األعوام 1900 و 1909 اعتبر هرتسل ذلك "طالع ا سيئ ا" وقال: "هذا التعيين ليس في صالحنا". وجاء في مذكرات بيلوف حول تخلي اإلمبراطور األلماني عن تعاطفه مع المشروع الصهيوني بأن ه نتيجة اعتقاده بأن ه يصلح مالية السلطنة عن طريق إقراضها وإن اإلمبراطور اعتقد بداية أن تهويد فلسطين "قد يضع 30 حد ا الستغالل اليهود للمسيحيين" ويضعف نفوذ االشتراكيين األلمان في بالده المعادين له. لكن الحكومة األلمانية برئاسة بيلوف كان لديها رأي مخالف لإلمبراطور وهي شكوكها في والء يهود ألمانيا 31 للسلطان العثماني وعدم تقدير قوة الصهيونية على تحقيق مشروع تهويد فلسطين. وعلى ما يبدو فقد تغلب رأي الحكومة على موقف اإلمبراطور على األقل في تلك المرحلة. وقد عبر هرتسل عن خيبة أمله بعد مقابلته اإلمبراطور في القدس في تشرين الثاني 1898 فأحس ببرودة استقباله له والحظ أن األخير بدأ يسحب تدريجي ا من عرضه األول بتقديم دعمه لالستيطان اليهودي في فلسطين. والواقع أن العاهل األلماني لم يكن يريد إغضاب حلفائه العثمانييم والمسيحيين عنده في ألمانيا على حساب دعم 32 الصهيونية. ونزوال عند إلحاح دوق بادن الكبير لصالح الصهيونية وضع وزير الخارجية األلماني البارون أوزولد فون ريشتهوفن Richthofen) (Oswald von "مذكرة نهائية" حول موقف حكومته من الحركة الصهيونية وذلك بتاريخ 21 كانون الثاني 1900 وجاء فيها: "من ناحية المبدأ فإن الحكومة اإلمبراطورية رحبت على الدوام بالمساعي اإلنسانية )بالنسبة إلى االستيطان اليهودي في فلسطين(. وإذا وجد هذا السبب اإلنساني أو أن ه يخدم المصالح األلمانية فإن دعم وزارة الخارجية مؤمن بقوة. ومع ذلك وبتفحص أهداف الصهيونية عن قرب تبين أن ال مصالح ألمانية ضمنها. إن هرتسل ليس مواطن ا ألماني ا والحركة التي أسسها ال تجد سوى قلة من المؤيدين لها بين يهود ألمانيا.... ولذا ال يوجد تبرير للتدخل األلماني لمصلحة الصهيونية. باإلضافة إلى ذلك فإن االعتبارات السياسية المهمة تجعل من الصعوبة بمكان على وزارة الخارجية األلمانية دعم أهداف هرتسل". "فلسنوات طويلة" مضت المذكرة "ظلت تركيا في صراع مع القوى الكبرى لمنع إقامة حكم وطني ذاتي )داخل أراضيها(... كما تعارض بشدة تطبيق إصالحات تحت إشراف أوروبا. لذا فهناك خطر في حصول تعقيدات دولية وحتى خطر يتهدد السلم العالمي". وتساءلت المذكرة بالقول: "إن هرتسل يسأل حول شيء ال تزال الدول الكبرى حتى اليوم تفشل في الحصول عليه من السلطان... فال يوجد في فلسطين سوى عدد صغير من اليهود )على الرغم( من أن عدد اليهود ازداد من خالل المستوطنات الخيرية التي Bernhard von Bülow, Denkwürdigkeit, 4 vols., Berlin, 1930. Translated into English (Memories), vol. 2, London, 1931, 250. Bülow, II, 254. محافظة ص 920. Where Theodor Herzel Met Kaiser Wilhelm II. Ellis Shuman Writes, March 28, 2014 http://ellisshuman.blogspot.com/2014/03/where-theodor-herzl-met-kaiser-wilhelm.html 29 30 31 32
8 أقامها كل من البارون روتشيلد والبارون هيرش وقامت تركيا القلقة حول مصير فلسطين السياسي بفرض قيود على هجرة اليهود...." وأضافت المذكرة إن ه: "إذا قامت دولة أجنبية كألمانيا بتوسيع حمايتها للحركة الصهيونية فال شك أن مخاوف السلطان ستزداد وتسوء نتيجة ذلك أوضاع اليهود في الدولة العثمانية". وختمت المذكرة باآلتي: إن الخبراء المختصون ومستشاري وزارة الخارجية األلمانية للشؤون التركية يرون أن الوقت لم يحن بعد للتدخل لمصلحة الصهيونية. إن تدخال كهذا سيلحق األذى بالصهيونية ويقضي على خطط الدكتور هرتسل في تحقيق إفكاره. كما إن ه يدمر المصالح األلمانية األخرى في تركيا". يتبين من المذكرة أن ألمانيا كانت على استعداد لدعم اليهود في المجاالت اإلنسانية. أما تقديم دعمها لحركة سياسية تريد االستيالء على فلسطين التابعة لحليفتها الدولة العثمانية فكان هذا يتعارض مع مصالحها. باإلضافة إلى ذلك لم يكن فقراء اليهود في فلسطين عامل قوة سياسية بالنسبة إلى ألمانيا. وحتى دعم المدارس والمؤسسات الخيرية اليهودية أو تدخل القناصل األلمان في الواليات السورية لمصلحة اليهود في فلسطين لم يحصل قبل اندالع الحرب العالمية األولى. إن تدخل ألمانيا العام 1898 إللغاء قرار عثماني يمنع اليهود من شراء األراضي عزته الحكومة األلمانية ألسباب إنسانية وليس 33 تقديم دعم سياسي ألماني الصهيونية. والواقع أن ه بعد اندالع الحرب العالمية األولى بقليل تحول الموقف األلماني من الحركة الصهيونية إلى نوع من "التعاطف" من دون أن يطرأ تعديل جذري على سياسة ألمانيا تجاهها. فتم استحداث "دائرة شؤون اليهود" Frage) (Abteilung für judische في وزارة الخارجية األلمانية. وقد عمل الزعيم الصهيوني المعروف ناحوم غولدمان Goldmann) (Nahum في قسم الدعاية للدائرة وكان على اتصال وثيق بزعماء الصهيونية. كما وضعت السفارة األلمانية في استنابول بناء على تعليمات الخارجية حقيبتها الدبلوماسية تحت تصرف الصهاينة لتأمين سرية االتصال بين مندوبيها في االستانة 34 وبرلين ويافا والقدس. وفي 22 تشرين الثاني 1918 أصدرت السفارة األلمانية في اآلستانه تعلميات إلى القناصل األلمان في فلسطين وسورية لحماية المستوطنات اليهودية والعطف على "المطالب المحقة 35 لليهود إلى المدى الذي ال يتعارض والمصالح القومية لألتراك". كذلك تعاونت القيادة الصهيونية مع ألمانيا من أجل إنشاء "لجنة تحرير يهود روسيا" في برلين ونتيجة ذلك حصل زعماء صهانية على جوازات سفر ألمانيا. وتعاونت القيادة الصهيونية مع ألمانيا من أجل إنشاء "لجنة تحرير يهود روسيا" في برلين ونتيجة ذلك حصل زعماء صهانية على جوازات سفر ألمانيا وكل ذلك للتأثير في أميركا وإبقائها على الحياد في الحرب. وباإلضافة إلى ذلك أسست ألمانيا "اللجنة الشرقية" (Komittee für Osten) den للتأثير في اليهود المحايدين وبخاصة في الواليات المتحدة األميركية. ومن مهامها David Yisraeli, Germany and Zionism. Germany and the Middle East 1835 1939, International Symposium, April 1975, Institut für Deutsche Geschichte, Tel Aviv 1975, 143. PAAA, Türkei 195, k 176807, Wangenheim an Ausw, Amt, Therpathia 6.2. 1915. نق ل عن:.144 Yisraeli, وقارن ب:.212 Giniewski, 33 34 35
9 36 مواجهة التأثيرات السلبية للسياسة العثمانية تجاه اليهود. وعندما تدخلت الدبلوماسية األلمانية لدى الباب العالي العام 1914 ضد إجراءات القائد العثماني جمال باشا بطرد يهود روس من فلسطين 37 يحملون جنيسات أجنبية بدت الحماية األلمانية للمستوطنات اليهودية هناك أكثر ثبات ا. واعتقد األلمان 38 أن موقفهم هذا قد يحسن من صورتهم في أوروبا وأميركا. ورغم ذلك ظل االعتقاد ساري ا لدى الحركة الصهيونية أن ألمانيا ال تضعها ضمن أولوياتها. وبعد العرض الذي تقدمت به "دول الوسط" في كانون الثاني 1911 إلبرام الصلح ومن على منبر مؤتمر "المجلس الصهيوني" في الهاي بتاريخ 20 آذار طالب الزعيم الصهيوني فكتور جاكوبسون Jacobson) (Victor كل من ألمانيا والدولة العثمانية بإصدار تصريح يتضمن تعاطفهما مع األماني الصهيونية معتبر ا أن الوقت قد حان إلصدار مثل هذا التصريح. لكن هذا الطلب لم يجد آذان ا صاغية في الخارجية األلمانية بينما عارضته السفارة األلمانية في األستانة. وعشية دخول الواليات المتحدة الحرب جددت الصهيونية مطالبتها الحكومة األلمانية بإصدار بيان لصالحها. لكن السفير األلماني في االستانة ريشارد فون كولمان Kuhlmann) (Richard von وجه رسالة إلى رئيس الحكومة األلمانية بيتمان هولفج Hollweg) (Bethmann في 21 آذار 1917 قلل فيها من تأثير اليهود على القرار األميركي بدخول الحرب وأن موقف الصهيونية لم يعد له قيمة بعد قطع واشنطن العالقات الدبلوماسية 39 مع برلين. وفي نيسان 1917 أعلنت أميركا الحرب على ألمانيا. وبعد "الثورة العربية الكبرى" ضد العثمانيين حاول جاكوبسون ومعه صهيوني آخر هو أوتو فاربورغ Wahrburg) (Otto العزف على نغمة تحالف صهيوني عثماني ضد عرب فلسطين وبالد الشام. فأعلنا أن الصهيونية تنسجم مع المصالح التركية وأ ن والء الصهيونية لتركيا تحكمه االعتبارات الجغرافية فإحاطة الغالبية العربية بالمستوطنات اليهودية في فلسطين يجعل األقلية اليهودية مرتبطة بحماية الدولة العثمانية وضمان الوالء لها. عالوة على ذلك قال الزعيمان اليهوديان: كما أن فلسطين تخدم "كجسر" يمكن أن يوحد العرب فإن فلسطين يهودية يمكن أن تخدم في تقسم األراضي العربية المأهوية. بمعنى: إذا قام العرب باضطرابات ضد تركيا فإن استيطان يهودي قوي في فلسطين سوف 40 يشكل ثقال موازن ا لهم. وهذا يذكرنا بالمؤتمر االستعماري الذي دعا إليه رئيس الحكومة البريطانية هنري كامبل - بنرمان Bannerman) (Henry Campbell - العام 1907 وخلص إلى ضرورة إنشاء كيان بشري غريب في فلسطين على مقربة من قناة السويس من أجل ضمان استمرار تفكك المنطقة 41 وتجزئها. وفي تقاطع لألدوار ومع تحقيق الجنرال البريطاني اللنبي تقدم ا في فلسطين من جهة السويس وبدء تضعضع الموقف العسكري أللمانيا والسلطنة حذرت "اللجنة التنفيذية األلمانية الصهيونية" صيف Giniewski, 212. Giniewski, 212. 36 37 38 39 40 41 محافظة ص 982-980. Friedman, 290 294. Friedman, 290f..01 شفيق الرشيدات فلسطين تاريخ ا... وعبرة... ومصير ا مركز د ارسات الوحدة العربية بيروت 9119 ص 09
10 العام 1917 وزارة الخارجية األلمانية من أن سعي الصهيونيين للحصول على دعم الدول الكبرى لمشروعهم سوف يرفع من سمعة تلك الدول على حساب ألمانيا لدى يهود وسط أوروبا وشرقها كما 42 لدى الواليات المتحدة األميركية. وطالبت اللجنة وزارة الخارجية األلمانية بأال تترك الدول الكبرى 43 األخرى تحتكر لنفسها دعم الصهيونية. وكتب ريشتارد ليشتهايم Lichtheim) (Richard ممثل الحركة الصهيونية في اآلستانة وهو من مؤيديي منح ألمانيا حمايتها للصهيونية محذر ا دوائر برلين بالقول: "نحن مدينون أللمانيا بالكثير ولكن مجريات األحداث في الحرب أجبرت الصهيونية على االتصال بالدول األنكلو سكسونية والحصول على مساعدتها". وأضاف: "لقد بدأ مركز الثقل لسياسة الصهيونية يتحول شيئ ا فشيء في اتجاه لندن وواشنطن.... وهذا نتيجة االستعداد الواضح للحكومتين 44 البريطانية واألميركية لدعم أماني الصهيونية". وبعد دخول الواليات المتحدة الحرب إلى جانب دول "الوفاق الودي" منتصف العام 1917 ازداد موقف ألمانيا برودة من الحركة الصهيونية. فقد أصاب الفشل سياسة برلين في إبقاء واشنطن على الحياد. وبعد صدور "إعالن بلفور" مطلع تشرين الثاني من العام نفسه وسقوط القدس بأيدي بريطانيا وفرنسا أواخر العام المذكور ظهر بوضوح أن الحركة الصهيونية أصبحت األداة لتعزيز المصالح البريطانية وليس ألمانيا. من هنا بدأ اليهود في ألمانيا وقيادات وصحف ألمانية يضغطون على حكومة برلين لتحقيق شيء ما وتبني تصريح لصالح الصهيونية بعدما جرى توجيه االتهامات لها بأن ها فشلت 45 في الحصول على التعاطف التقليدي لليهود وبالتالي إحجام واشنطن عن دخول الحرب. وفي سلسلة من المقاالت الصحفية لكتاب ألمان جرى حث السلطنة على القبول باالستيطان الصهيوني ألن ه سيكون مفيد ا لمنطقة شديدة التخلف ينقل الحضارة إليها. ووجهت انتقادات إلى الحكومة األلمانية بأن ها فوتت فرصة االستفادة من دعم يهود العالم وبأن اليهود في الواليات المتحدة وروسيا الذين أظهروا سابق ا مشاعر ودية تجاه ألمانيا قد انقلبوا ضدها بعد "إعالن بلفور". وسخرت بعض األقالم من تقليل الحكومة األلمانية من قدرة الحركة الصهيونية العالمية التي أصبحت عامل مهم في السياسة الدولية. أخير ا لفت مقال االنتباه إلى أن ألمانيا ال يزال بإمكانها استعادة التأييد لها من قبل الصهيونية وتقوية مركزها الدبلوماسي وقد يكون هذا مفيد ا لها على أبواب مؤتمر السالم. لكن األقالم تلك كلها أسفت لفشل ألمانيا "في استخدام قوة الصهيونية العظيمة... تاركة الساحة لبريطانيا لتحقق انتصار 46 أخالقي سهل". وفي مناخ "إغالن بلفور" وما سببه من ضغط الرأي العام اليهودي واأللماني على حكومة برلين بعث الوزير األلماني المفوض في برن كونراد رومبرغ Romberg) (Konrad يحث حكومته على أال تخسر حربها الدعائية ضد "الوفاق الودي" وبأن الوقت لم يفت بعد إلصدار إعالن منفرد لصالح الصهيونية من دون السلطنة. وقد جرت دراسة تقرير رومبرغ على أعلى المستويات في برلين. ومرة Nicosia, 3. Giniewski, 212-13. Richard Lichtheim, Rückkehr: Lebenserinnerungen aus der Frühzeit des deutschen Zionismus, Stuttgart, 1970,366f. Nicosia, 4-5 حول ردود الفعل في الصحافة األلمانية على وعد بلفور ارجع: 341-2 Friedman, 42 43 44 45 46
11 أخرى رفض الكونت غيورغ هرتلينغ Hertling) (Georg الذي أصبح للتو رئيسا للوزراء في ألمانيا متقرحات رومبرغ وكتب على تقريره كلمة "كال" كبيرة (NEIN) فيما كتب مساعد وزير الخارجية على التقرير: "ال معنى له".(UNSINN) وقد وجدت الحكومة األلمانية أن ها ليست في موقع إلصدار تصريح لصالح اليهود بشكل منفرد عن تركيا وبأن ه سيكون ضعيف التأثير في اليهود ألن اليهودية ليست ممثالة للصهيونية. ولكن بعد ستة أسابيع فقط من هذا الرفض الحاسم انقلبت األمور وقرر 47 اإلمبراطور وليم الثاني الخروج عن سياسة عدم المباالة تجاه الصهيونية. بعد سقوط القدس بأيدي اإلنكليز في 9 كانون األول 1917 قررت الخارجية األلمانية إعادة مناقشة الموضوع مرة أخرى ورأت وجوب اعتماد سياسة جديدة واالتصال بالحكومة العثمانية إلصدار تصريح لصالح الصهيونية وتم ذلك في 12 كانون األول 1917. وبعد ثالثة أسابيع تقريب ا )2 كانون الثاني 1918( زار رئيس الوزراء العثماني طلعت باشا برلين والتقى الزعيم اليهودي الفرد نوسيغ Nossig) (Alfred وبحثا معه أوضاع اليهود في السلطنة وأبلغ الوزير العثماني األلمان أن بالده سوف تعيد النظر بأوضاع اليهود بشكل يرضى به اليهود حالما تعود القدس وجنوب فلسطين إلى السيادة العثمانية. ونشر التصريح في اليوم التالي في الصحف األلمانية. أما سبب استجابة األستانة السريعة فيعود إلى اعتقادها بأن ها لن تخسر شيئ ا بعدما سقطت فلسطين بأيدي البريطانيين وإن فلسطين سوف تعاد إلى سيادتها في أي تسوية مقبلة للسالم. كما أن تقديم تنازالت للصهيونية في فلسطين برأي العثمانيين سوف يعزز موقع السلطنة في "مؤتمر الصلح". وال 48 ننسى أن اندالع "الثورة العربية الكبرى" شجعت السلطنة على إصدار التصريح. أما الحركة الصهيونية فحاولت إخفاء نواياها في االستيالء على فلسطين باإلدعاء أن اإلعالن البريطاني ال يتحدث عن دولة يهودية وال يمس بسيادة الدولة العثمانية وإن تنفيذ اإلعالن يقع على السلطنة كما على غيرها 49 من الدول الكبرى. تلقت الحكومة األلمانية التصريح العثماني وما صرح به طلعت باشا في برلين بارتياح واستدعت وزارة الخارجية زعامات صهيونية إليها وسلمتهم بيان ا جاء فيه: "نرى أن ه من الجدير االستجابة ألماني األقلية اليهودية في تطوير ثقافتها وشخصيتها في البالد التي لها فيها تطور متين وأسلوب حياة متميز. ونحن نقدم لهم وعلى استعداد لتقديم دعمنا الخير لجهودهم في هذا االتجاه". وأعربت الحكومة األلمانية عن ترحيبها "باإلعالن الصادر حديث ا عن الصدر األعظم طلعت باشا وبخاصة الحكومة العثمانية السامية تماشي ا مع موقفها الودي من اليهود والرغبة في تعزيز االستيطان في فلسطين بمنحهم هجرة غير مقيدة واستيطان وفق قدرات البالد االستعابية وإقامة 50 حكم ذاتي وفق قوانين البالد وحرية تنمية ثقافتهم". وعلق لويد جورج George) (Lloyed رئيس الحكومة البريطانية على التصريح األلماني بالقول: "ليس هناك دليال أفضل على قيمة تصريح بلفور... Friedman, 342-3. 47 48 49 50 محافظة 988. Friedman, 343. Quoted from Nicosia, 5.
12 من حقيقة أن ألمانيا دخلت في مفاوضات مع تركيا في 51 إلى الصهيونيين". محاولة لتوفير خطة بديلة من شأنها أن تتوجه وإلحاق ا باإلعالن افتتحت الحكومة األلمانية على الفور وفق سياستها الجديدة "قسم شؤون اليهود" في وزارة الخارجية بإشراف البروفسور الصهيوني األلماني موريتز سوبرنهايم Sobernheim).(Moritz وحثت برلين اليهود ومؤيديهم على العمل على إحداث توازن بين ألمانيا و اللجنة البريطانية الفلسطينية" Committee) (British Palestine وهي مجموعة من األشخاص اليهود والعلمانيين داخل الحكومة البريطانية وخارجها هدفهم تأمين دعم من الرأي العام البريطاني للمشروع الصهيوني في فلسطين. وفي أيار 1918 تأسست في برلين بدعم كامل من الحكومة األلمانية "اللجنة األلمانية لتجشيع االستيطان اليهودي في فلسطين" (Deutsches Komitee zur Förderung der jüdischen (Deutsche Pro Palästina وتعرف أيضا باسم "لجنة فلسطين األلمانية" Palästinasiedlung).Komitee) ولفتت اللجنة انتباه شخصيات يهودية وألمانية من ك ل األطياف السياسية واأليديولوجية وتجمعها قناعة واحدة بأن خدمة المصالح األلمانية السياسية واالقتصادية واالستراتيجية يكون أفضل بوساطة دعم المشروع الصهيوني في فلسطين. وحددت اللجنة هدفها السامي ب "تعزيز الجهود الصهيونية بخلق وطني يهودي في فلسطين...ألن ه... ظاهرة ذات أهمية تاريخية قصوى تحظى بعناية فوق العادة من السياسة األلمانية". وشددت اللجنة على ما "ستجنيه ألمانيا من المكاسب السياسية واالقتصادية والثقافية وتدعيم مركزها االستراتيجي المهم في الشرق األوسط من خالل تعزيز التأييد 52 اليهودي لها حول العالم". ولما كان األوان قد فات على ألمانيا لالستفادة من الصهيونية فقد تالشت المشاريع المشتركة بينهما فقامت حكومة برلين بحل تلك اللجنة. 51 52 نقال عن: 18. printing, 1967, Sami Hadawi, Bitter Harvest. Palestine between 1914 1967, New York, Third نق ل عن: Egmont Zechlin, Die deutsche Politik und die Juden im Ersten Weltkrieg, Göttingen, 1969, 434 5.