دور اللغة العربية في وحدة األمة إعداد األستاذ الدكتور جهاد يوسف العرجا 1435 ه 2014 م 1
الحمد هلل رب العالمين حمدا طيبا مباركا فيه وبعد إن اللغة هي المرآة التي تعكس الفكر أو الوسيلة التي يتم بها التعبير عن األفكار وتبادلها فالعالم اللغوي )هنري سويت( يرى أن التعبير عن الفكر عن طريق األصوات اللغوية وكان ابن جني ) 392 ه( قد رأى في خصائصه أنها أصوات يعبر كل قوم بها عن حاجاتهم. ويعرفها العالم اللغوي )سابير(: بأنها وسيلة لتوصيل األفكار واالنفعاالت والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي يستخدمها الفرد باختياره. إن اللغة تعد سمة من سمات اإلنسان االجتماعي التي بها يتميز دون غيره من الكائنات األخرى وهي وسيلته إلى كل ما أنجز من تراث وأبدعه ويبدعه من حضارة. وتتعاظم وظيفة اللغة وأهميتها يوما بعد يوم مع التقدم البشري في الحضارة المعاصرة حضارة االتصال والمواصلة حتى أضحى دورها يفوق كل دور جوهري كان لها في السابق فالكلمة اليوم أكثر سيولة وأبعد مسارا عن طريق وسائل االتصال اإللكترونية عبر الفضاء وعبر األقمار االصطناعية. إن اللغة منهج فكر وطريقة نظر وأسلوب تصور إنها رؤية متكاملة تمدهاخبرة حضارية متفردة ويرفدها تكوين نفسي متميز. فالمتكلم بلغة )ما( يفكر بها فهي في كيانها تحمل تجارب أهلها وحكمتهم وخبرتهم وفلسفتهم وبصيرتهم. فاللغةعملة أبدية أزلية متداولة بين الناس وإذا كانت الدول تنشيء القوانين وتسن التشريعات لحماية العملة من التزوير فمن باب أولى أن تصون اللغة من التدنيس والتدليس حتى ال يتعرض العلم والفكر الذي تحمله إلى اإلفالس. واللغة العربية من بين اللغات لغة عتيدة فهي لغة حضارة ولغة حي ة وهي لغة القرآن الكريم ووعاء العقيدة اإلسالمية يتجسد فيها البيان العذب المشرق الجميل والمعنى الرائع البديع وتبرز فيها البالغة والفصاحة وقد سماها القرآن الكريم )اللسان العربي المبين( فهي أداة الفكر العلمي في مرحلة ازدهاره فكانت لغة العلماء في العالم على مدى قرون ولغة الثقافة الخصبة المتنوعة والفن اإلنساني المبدع. لقد صمدت اللغة العربية خالل القرون الطويلة بفضل انفتاحها المستمر على الثقافات والحضارات وقطعت مراحل حضارية وفكرية لم تقطعها اللغات األخرى في طول عمرها وبذا ينبغي الحفاظ عليها واالهتمام بها فهي لغة معطاءة زاخرة بالكنوز الثمينة واالهتمام باللغة العربية والحرص عليها واجب ديني وواجب وطني ألنها الوعاء الذي يحوي ثقافة األمة وفكرها وحضارتها وتراثها. إن هللا عز وجل قد حبانا بهذه اللغة الجميلة سهلة النطق والفهم القادرة على التعبير والتمثيل وقد كرمها هللا جل وعال وحفظها من كل سوء ونعمة فقال: إن ا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون يوسف: 2 2
كل ذلك يتطلب منا أن نحذو حذو السلف الصالح في الحفاظ على لغتنا ولكن الواقع لألسف يثبت عكس ذلك فما نراه أن أبناء العربية يسعون لتعلم اللغات األخرى )األجنبية( بشغف كبير في حين أن أحدهم ال يكاد يملك القدرة على النطق الصحيح بمفردات لغته العربية. إن الحفاظ على اللغة العربية ينبثق من اإليمان العميق بأنها لغة القرآن ولغة نبي هذه األمة ومن ثم كان لزامذا على كل مسلم أن يتعلمها ويجتهد في التخاطب بها قال أبو منصور الثعالبي في مقدمة كتابه )فقه اللغة وسر العربية(: من أحب هللا تعالى أحب رسوله محمدا صلى هللا عليه وسلم ومن أحب الرسول العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العرب والعجم ومن أحب العربية ع ني بها وثابر عليها وصرف همته إليها ومن هداه هللا لإلسالم وشرح صدره لإليمان اعتقد أن محمدا صلى هللا عليه وسلم خير الرسل واإلسالم خير الملل والعرب خي ر األمم والعربية هي خي راللغات واأللسنة واإلقبال على تفهمها من الديانة. لقد ساعدت اللغة العربية منذ نزول القرآن الكريم بها هذه األمة على تشكيل هويتها وقد تسابق أبناء الحضارات األخرى ممن عاشوا في كنف اإلمبراطورية اإلسالمية إلى إجادة العربية والتسابق في اإلبداع ووضع المؤلفات بها فأصبحت أسماؤهم رموزا بارزة في بعض فروع المعرفة كما كان )سيبويه( في النحو و)الجرجاني( في البالغة و)البخاري( في الحديث و"الزمخشري" في التفسير. إن هدم اللغة العربية يحمل في طياته تقويضا لمفاهيم اإلسالم ألن العربية لغة القرآن والقرآن كما هو معلوم ال سبيل إلى ترجمته ترجمة صحيحة إلى أي لغة أجنبية. وقد شهد للغة العربية بعض المستشرقين المنصفين قال: اللغة العربية لغة وعي ولغة شهادة وينبغي إنفاذها سليمة بأي ثمن للتأثير في اللغة الدولية المستقبلية. وقد أكد اللغويون على العالقة الوثيقة بين اللغة والهوية ألن اللغة هي بمثابة الوعاء الذي تشكل فيه الهوية وهي التي تجعل لكل مجتمع كيانه الثقافي والحضاري الذي يميزه عن سائر القوميات والهويات األخرى. وإذا كانت مسألة اللغة مسألة هوية وتماسك مجتمعي وتراث حضاري ورمز سيادة تاريخية وحضارية فهي بجانب ذلك مسألة تنموية وفكرية واقتصادية تنافسية ألنها دافعة للنمو المعرفي المبكر وأداة نقل المعرفة والمعلومات إلى عموم القوى المنتجة. إن األمة التي تخسر لغتها تضيع هويتها وخصوصيتها وتخسر ذاتها ومستقبلها. فكان البد من اعتمادها وسيلة التخاطب والكتابة والثقافة والتعليم سبيال إلى تأكيد الذات القومية والتحرر من االحتالل والتبعية والسيطرة األجنبية وتكريس الهوية. إال أن اللغة العربية على غرار أوضاع لغات الحضارات الكبرى تفرز نقاط قوة وضعف وهذا يتطلب خطة تأهيلية متجددة ودائمة للغة العربية. إن اللغة العربية اليوم مهددة في وجودها مع أنها لحام األمة الفعلي وضميرها ووعائها الثقافي والفكري وسبيل العبارة عن مواقفها الحضارة وعن دينها ولسان المحافظة على هويتها وخصوصيتها. 3
إن كثيرا من الظواهر تستحق أن نقف عندها ألنها تؤثر تأثيرا سلبيا على اللغة العربية ومنها: 4 1 إحالل العامية محل الفصحى: وأعنى بذلك ظاهرة التمسك بالسمات اللهجية في اللفظ. ونقول: إن احترامنا للعامية بوصفها لغة التعامل اليومي في بلدنا ال ينبغي أن يكون على حساب وحدة اللغة أو على حساب الفصحى وإذا تطور خطابنا فاقتربت العامية من الفصحي لكان لنا العزاء في ذلك إال أن الذي حدث هو العكس فقد زحفت العامية على خطابنا على نحو أدى إلى تراجع مستمر للفصحى. ومن ظواهر التمسك بالعامية في األلفاظ: 2 لفظ الثاء سينا والذال زايا والظاء زايا مفخمة مثل: يسعون حسيسا )حثيثا ( وبلغ أرزل العمر)أرذل( والعسور على جس ة )العثور على جث ة(. لفظ القاف غينا فنخلط بين االستقالل واالستغالل والقريب والغريب. لفظ الضاء ظاء فال نمي ز بين ضل وظل وحضر وحظر وضن وظن وهذا محزن حقا. تحويل الم التعريف جيما قبل الجيم نحو: مكافحة ج ريمة واإلقامة جبرية جاعلين الجيم صوتا شمسيا في حين أنها في الفصحى من األصوات القمرية. وإن التخلي عن بعض مظاهر العامية في اللغة العربية هو حرص على وحدة اللغة التي هي أهم أركان وحدة األمة ألن اللهجات ال ضابط لها وال قواعد. إن اللغة العربية هي القاسم المشترك في العالم العربي ولن يستطيع أحد إذا سافر إلى المغرب مثال أو المشرق أن يتفاهم مع إخوانه هناك إال بالعربية التي يفهمها الجميع فلو قلت ألحدهم: كيف حالك لفهمها الجميع ويقولها المغاربة بلهجتهم الدارجة: كيداير ويقولها الجزائريون: وشراك ويقول أهل سوريا: إيشلونك ويقول أهل الخليج: إيشحالك. ونقول جميعا : اآلن ويقولها أهل المدن: هل ق أو ه ل ويقولها أهل الريف والبادية: هالقيت وريف حمص: هلقيتينة وأهل مصر:دي الوقت وصعيدهم: دلوقيت ومنهم من يقول: ها الساع وربما تصير هس ا وتصبح عند الجزائريين: دروك ونسمع لفظ: الحين وقد تسمعه: الحز وأمثال هذا كثير. ولو اعتادوا العربية ورجعوا إليها لفهم الجميع بعضهم على بعض بسهولة. ظاهرة التسكين: وهي ظاهرة مألوفة منذ زمن طويل فاللغة العربية تجيز السكون ألجل الوقف وقد حذفت بعض الحركات اإلعرابية في بعض القراءات القرآنية وورد التسكين في كثير من الشعر إال أن التسكين في هذه األيام بلغ حدا ال يجوز السكوت عنه. كتسكين كلمة في وسط الجملة كالمضاف والمضاف إليه والموصوف و وصفته نحو: رئيس الوفد وغير صحيح واللقاء القصير. وأخذنا نسمع السكون في أواخر كلمات تعودنا سماع حركاتها األخيرة نحو: ليس وسوف وحيث ونحن ومع والذين. وهذا كله جريا على القاعدة "سكن تسلم" إال أن اآلثار السلبية لذلك كثيرة ومنها:
5 4 جزم المضارع المرفوع أو المنصوب نحو: الرئيس يسافر غدا ولن يحض ر االجتماع. جر االسم المرفوع أو المنصوب وذلك بوضع كسرة منعا اللتقاء ساكنين. حذف التنوين الدال على النصب واأللف التي تحل محله في حالة الوقف نحو: ليس صحيح كان هذا واضح. 3 الظاهرة الثالثة: إحالل كلمات أجنبية محل الكلمات العربية وهذا ما نهى عنه رسولنا الكريم صلى هللا عليه وسلم ووصف من يفعل ذلك باألحمق. فقد انتشرت في لغة التخاطب اليومي كلمات مثل: تشاو )مرحبا ( أوكي )طيب أو نعم( مرسي )شكرا ( هاي )مرحبا ( باي )مع السالمة( وغيرها من المفردات التي أبدلنا هللا خيرا منها. الظاهرة الرابعة: إبدال حروف العربية بأخرى من لغات أخرى وظهر هذا بوضوح في وسائل االتصال الحديث كرسائل المحمول أو غير ذلك. ونحن ال نريد أن نصل إلى ما وصلت إليه بعض الدول اإلسالمية التي استبدلت الحروف العربية بالحروف الالتيتية كاللغة التركية أيام أتاتورك. ومع ذلك فنحن لن نذهب إلى التشاؤم فنحن نتحدث هنا عن إضعاف الفصحى وهزيمتها ال عن احتماالت موتها ألن وجود القرآن الكريم وثباته ضامنان الستمرار اللغة إلى يوم الدين أما لماذا هذا الضعف في العربية فلعدة أسباب منها: الهزيمة النفسية التي تجتاح العالم العربي صاحب ذلك حطا من شأن الذات وانبهارا بالعالم الغربي بكل ما فيه من اللغة إلى نمط الحياة والسلوك. انهيار النظام العربي وغياب المشروع أو الحلم المشترك وتراجع حس االنتماء. هبوب رياح التغريب على البنيان العرب وذلك من جهتين: 1. شرائح النخبة التي تعلقت أبصارها بالغرب وانسحقت أمام كل شيء فيه. 2. انتشار قنوات البث الفضائي العربي ساعد في الترويج للعامية في كل قطر. ولعالج ذلك البد من توفرما يلي: 1 إرادة سياسية تدرك أهمية اللغة العربية وتعلن انحيازها لها فيما تمارسه من أفعال وما تتبناه من خطاب. 2 تنشيط جهود مجامع اللغة العربية كي تصنع بين أيدي المعنيين البدائل العربية للمصطلحات األعجمية التي تشيع بينهم. 3 البد من بذل أقصى جهد ممكن لضمان أن يتحدث أهل التربية واإلعالم والسياسة بالعربية الفصحى. 4 التأكيد المستمر أن التعليم رسالة وليست مهنة أو حرفة فال يتصور أن يحب التلميذ اللغة العربية إال إذا كان من يدرسون له يحبون ويعشقون اللغة العربية ويتحدثون بها. 5 تقديم برامج ل لطفال باللغة العربية السليمة. 6 االجتهاد في ربط وتجديد مفردات اللغة بكل مستحدث ومخترع ومبتكر. 7 ال يشغل وظيفة إعالمي إال من كان جديرا بهذا العمل. 8 رصد استشراء العامية والسوقية واللغة المبتذلة في الفضائيات العربية وتوقيع العقوبات الرادعة على المخالفة منها.
9 تعويد األذن سماع العربية الفصيحة في البيت وتعويد اللسان النطق بها ويساعد على ذلك قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف وقراءة تفسير كليهما بصورة مستمرة فالتكرار كفيل بتقويم اللسان. 10 قراة القصص الهادفة والكتب ذات األسلوب الرصين بصوت مسموع له دور في صقل لغتنا الفصيحة والدربة عليها والمران. هذه بعض األفكار التي أرجو أن تساهم في رفع مكانة اللغة العربية بين أبنائها وتسترد حيويتها وتسترد األمة مزيدا من مالمح شخصيتها وهويتها وتسترد المعرفة مزيدا من التوطين واالنتشار الحقيقي بين مختلف طبقات األمة. 6