مجلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة واإلبداع العدد الثالث 2013

ملفّات مشابهة
قررت وزارة التعليم تدري س هذا الكتاب وطبعه على نفقتها الريا ضيات لل صف االأول االبتدائي الف صل الدرا سي الثاين كتاب التمارين قام بالت أاليف والمراجعة

1

Microsoft Word - 47-Matthew

صندوق استثمارات اجلامعة ومواردها الذاتية ( استثمارات اجلامعة الذاتية ) مركز مركز استثمارات الطاقة املتجددة االستثمارات مركز اإلمام للمالية واملصرفية ا

د ع اء ك م يل بن ز ياد د ع اء ك م يل بن زياد ( رح ه هللا( م ا لل ه م إن ي أ س أ ل ك ب ر ح م ت ك ال تي و س ع ت ك ل ش ي ء و ب ق و ت ك ال تي ق ه ر ت ب ها

آذار 2017 B الص ف الث اني م ساب ق ة ال لغاز الد و لي ة في الر ياض ي ات االسم ال شخصي: اسم العا ئل ة: الص ف : اسم المدرسة: بلد ة اسم المدرسة: عنوان مكا

الجامعة الأردنية

ش ط TRANQUILITY ش ط Tranquility دومي ي ه منتج سك رائ ص ي ئ ب ت ست ى إق م م ا ر ا و. ا ط ط ا ع ة التصم د م ا ن س ا عم ري وأس ب ء ه ا ا م ا ي سي أجن سكن

منطقة العاصمة التعليمية عدد الصفحات / مخس صفحات التوجيه الفني للغة العربية الزمن / ساعة واحدة اختبار الفرتة الثالثة يف مادة اللغة العربية للصف العاشر

الم ب س ط ة الع ر ب ي ة الت ر ج م ة Language: العربية (Arabic) Provided by: Bible League International. Copyright and Permission to Copy Taken from th

Layout 2

الدِّيكُ الظَّرِيفُ

المواصفات الاوربية لإدارة الابتكار كخارطة طريق لتعزيز الابتكار في الدول العربية

Cambridge University Press Cambridge IGCSE Arabic as a First Language Coursebook Luma Abdul Hameed, Hanadi Al Amleh, Shoua Fakhouri

الذكاء

Microsoft Word - ٖٗخص عربÙ−

من نحن يف 2007 / 9 / 2 صدرت جريدة كصحيفة يومية وطنية شاملة تسعى إلى مواكبة التطورات احمللية و االقلميية والعاملية بشكل موضوعي ومبتكر إلى جانب تبني امل

النشرة األسبوعية للواجبات المدرسية الصف: االول أ ب ج د ه و النشرة رقم : 6 اليوم والتاريخ المادة الواجبات اختبار بالدرس الثالث حرف الباء من صفحة 23 إلى

Guidelines for gender-inclusive language in Arabic_Toolbox/ Self-paced activity: Apply the guidelines to a text تطبيق الوثيقة التي تحتوي على أفضل المم

Microsoft Word - 50-John

دبلوم متوسط برمجة تطبيقات الهواتف الذكية

REPUBLIQUE ALGERIENNE DEMOCRATIQUE ET POPULAIRE وزارة التعليم العالي والبحث العلمي Ministère de l enseignement supérieur et de la recherche scientifiq

نـمو المتعلم

م ق د م ة الفهرست ال ف ص ل ال أاو ل : م راج عات ق ب ل ي ة ال م ف عول ب ه ال م ب ت د أا و ال خ ب ر الن ع ت ال ع ط ف ال ع د د و ال م ع دود )11 19( ال ف

الحل المفضل لموضوع الر اض ات شعبة تقن ر اض بكالور ا 2015 الحل المفص ل للموضوع األو ل التمر ن األو ل: 1 كتابة و على الشكل األس. إعداد: مصطفاي عبد العز

6 الجمهورية الج ازي رية الديمق ارطية الشعبية مديرية التربية لولاية الطارف و ازرة التربية الوطنية امتحان البكالوريا التجريبي في مادتي التاريخ والجغ ارف

اسم المفعول

البكريةA5.indd

هاروت وماروت كما وردت يف القرآن الكريم )من خالل تفسري ابن جرير الطربي - -ت 310 ه املسمى جامع البيان يف تفسري آي القرآن ) دكتور سناء بنت عبد الرحيم بن

اسم الطالب: ألمدرسة األحمدية الخميس 24 آذار ربيع الثاني 2442 إمتحان فهم مقروء فصلي للصف الخامس إق أر النص التالي ثم أجب عن األسئلة التي تليه:

الدرس : 1 مبادئ ف المنطق مكونات المقرر الرسم عناصر التوج هات التربو ة العبارات العمل ات على العبارات المكممات االستدالالت الر اض ة: االستدالل بالخلف ا

1

الرسالة األسبوعية/ الصف السادس 2018 / 9 - األحد 16 أولياء األمور الكرام : إليكم الرسالة األسبوعية وما سيتم إنجازه هذا األسبوع: األسبوع الماضي : تم اال

منحهما جائزة "الوسام الذهبي لإلنجاز": - Monitoring Media إتحاد المصارف العربية يكر م عدنان وعادل القص ار في القمة المصرفية العربية الدولية في باريس Ta

2 nd Term Final Revision Sheet Students Name: Grade: 4 Subject: Saudi Culture Teacher Signature 1

حالة عملية : إعادة هيكلة املوارد البشرية بالشركة املصرية لالتصاالت 3002 خالل الفرتة من 8991 إىل مادة ادارة املوارد البشرية الفرقة الرابعة شعبة نظم امل

. رصد حضور المرأة في وسائل اإلعالم المحلية 2017

اامتح ن الج ي الم حد امتح ن البك ل ري ( الد رة الع دي : ي ني ) 4102 المست ى 0 من س ك البك ل ري الشع أ المس لك مس ك الع الشرعي شعب الع التجريبي شعب الع

ص)أ( المملكة العرب ة السعود ة وزارة الترب ة والتعل م اإلدارة العامة للترب ة والتعل م بمحافظة جدة الب ان النموذج ة ( تعل م عام ) انفصم اندراسي األول ان

E-EH/ 3'EJ 'D('1H/J >> (BH) P 'D9DEP *BHI 4HC) O 'D#EEP

ن خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ 15 من شوال 1439 ه الموافق 2018/6/29 م م ن ال م ن اه ي الل ف ظ ي ة ن ا م ن س ي ئ ات أ ع م ال ن ش ر ور أ ن ف سن ا

) NSB-AppStudio برمجة تطبيقات األجهزة الذكية باستخدام برنامج ( ) برمجة تطبيقات األجهزة الذكية باستخدام برنامج ( NSB-AppStudio الدرس األول ) 1 ( الدرس

توزيع املساقات الدراسية في برامج ماكاديمية على ماقسام العلمية )1( قسم القانون الدولي العام م املساق القانون الدولي العام التنظيم الد

عناوين حلقة بحث

اململكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة اجملمعة عماده خدمه اجملتمع كليه الرتبية بالزلفي دبلوم التوجيه واالرشاد الطالبي ملخص منوذج توصيف مق

دائرة التسجيل والقبول فتح باب تقديم طلبات االلتحاق للفصل األول 2018/2017 " درجة البكالوريوس" من العام الدراسي جامعة بيرزيت تعلن 2018/2017 يعادلها ابتد

easy - translation

Microsoft Word - حلقات 2الجودة لمدير التعليم مشروع نهائي عائشة.docx

ص)أ( المملكة العرب ة السعود ة وزارة التعل م اإلدارة العامة للتعل م بمحافظة جدة الب ان النموذج ة ( تعل م عام ) انفصم اندراسي األول انفترة انثانثت العام

وزارة الترب ة بنك األسئلة لمادة علم النفس و الح اة التوج ه الفن العام لالجتماع ات الصف الحادي عشر أدب 0211 / 0212 األولى الدراس ة الفترة *************

دليل ضريبة القيمة المضافة التأجير التمويلي

اشارات رقم النتيجة الجلوس نتيجة امتحان التعليم المفتوح يناير )2016 ) 1 المستوى الثامن- شعبة االرشاد ( قديم ) جامعة عين شمس كلية االداب- التعليم المفتو

الحروف المتشابهة شكلا - لعبة إنشاء خطوط المحتوى: 12 غطاء قنينة لوحة بوليجال 12 بطاقة صفراء دائرية الشكل )لكتابة الحروف المتشابهة شكال

Microsoft PowerPoint - د . ابراهيم بدران ، بوربوينت.ppt [Compatibility Mode]

جامعة حضرموت

المدة : 5 دقي. النش ط : ال راءة. المست ى : قس التحضير.. 9 عن ان الدرس : أربط بين الص الحرف ( (. رق ال حدة : الك ءا ال عدي : يتعرف ع الص ) ( المسم ع ث

مخزون الكلنكر الرجاء قراءة إعالن إخالء المسؤولية على ظهر التقرير المملكة العربية السعودية قطاع المواد األساسية األسمنت فبراير 2017 ٣٠ ٢٥ ٢٠ ١٥ ١٠ ٥ ٠

Diapositive 1

استمارة تحويل طالب يتعلم في الصف العادي لجنة التنسيب إلى )التقرير التربوي( استمارة لتركيز المعلومات حول العالج المسبق الذي حصل علية الطالب\ة الذي يتعل

الاتصال الفعال بين المعلم والطالب

))اوراق عمل مادة التوح د(( اولى متوسط مالحظة: ال غن عن الكتاب الدراس

Microsoft Word - article-pere-salah

الشريحة 1

هيئة السوق املالية التعليمات املنظمة لتمل ك املستثمرين االسرتاتيجيني األجانب حصصا اسرتاتيجية يف الشركات املدرجة الصادرة عن جملس هيئة السوق املالية مبو

Al-Quds University Executive Vice President Hasan Dweik, Ph.D. Professor of Polymer Chemistry جامعة القدس نائب الرئيس التنفيذي أ. د. حسن الدويك أستاذ

Morgan & Banks Presentation V

حساب ختام موازنة السلطة المركز ة للسنة المال ة 2013 م قسم) 23 (:وزارة الصحة العامة والسكان فرع ( 02 ) :المعهد العال للعلوم الصح ة صنعاء

لقانون العام للمساواة في المعاملة - 10 أسئلة وأجوبة

قوانين اإلستعارة هذه هي قوانين اإلستعارة التي تسري في المكتبات الشعبية في كل من بيورهولم, نوردمالينغ, روبيرت فورش, اوميو, فيندلن و فيينسس. بطاقة المكت

الوحدة األولى المالمح البشرية للوطن العربي عنوان الدرس : سكان الوطن العربي أوال :أكمل الجدول التالي: 392 مليون نسمة %5.3 %39.9 %60.1 عدد سكان الوطن ال

16 أبريل 2019 االطالق الرسمي للجائزة

دليل المستخدم لبوابة اتحاد المالك التفاعلية

حساب ختام موازنة السلطة المركز ة للسنة المال ة 2013 م قسم) 21 (:وزارة التعل م العال والبحث العلم فرع ( 3 ) :مستشف الكو ت الجامع

األزهر الشريف قطاع املعاهد األزهرية عدد أوراق اإلجابة )10( ورقة خبالف الغالف وعلى الطالب مسئولية املراجعة والتأكد من ذلك قبل تسليم الكراسة الرقم السرى

مقدمة حظيت الصناعة المالية اإلسالمية منذ انطالقتها باهتمام كبير من قبل المختصين والباحثين والمؤسسات العلمية الداعمة في سبيل تطوير أدواتها لمواكبة النم

Microsoft Word - Q2_2003 .DOC

كيفية تفعيل خدمة IIS ونشر موقع ويب على الشبكة احمللي السالم عليكم اصدقائي الكرام في هذا الكتاب سنتناول ما هي خدمة المعلومات وكيفية التفعيل ونشر الموقع

اسم المدرس: رقم المكتب: الساعات المكتبية: موعد المحاضرة: جامعة الزرقاء الكمية: الحقوق عدد الساعات: 3 ساعات معتمدة نوع المتطمب: تخصص اختياري عنوان المق

Microsoft Word - ?????? ??? ? ??? ??????? ?? ?????? ??????? ??????? ????????

مكثف الثالثة الوحدة البوابات املنطقية 1 هاتف : مدارس األكاد م ة العرب ة الحد ثة إعداد المعلم أحمد الصالح

دولة فلسطين و ازرة التربية والتعليم العالي المبحث: تكنولوجيا المعلومات / النظري بسم هللا الرحمن الرحيم مدة االمتحان : ساعتان نموذج تجريبي مجموع العالم

السيرة الذاتية للدكتور محمد شلال العاني

التقريرالسنوي لمالكي الوحدات البيت 52 الفترة من يناير 2017 إلى ديسمبر 2017 تقارير الصندوق متاحة عند الطلب وبدون مقابل

تأثير اتفاقيتي الشراكة عبر المحيط الهادئ والشراكة في التجارة والاستثمار عبر الأطلسي على الدول العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

تحصن القرار الاداري - دراسة مقارنة

اإلصدار الثاني محرم 1436 ه الكلية: القسم األكاديمي: البرنامج: المقرر: منسق المقرر: منسق البرنامج: تاريخ اعتماد التوصيف: العلوم والدراسات اإلنسانية رما

جاهعة الوسيلة هركز الشبكات و أنظوة اإلعالم و االتصال والتعلين الوتلفز و التعلين عن بعد مودل Moodle التعل م نظام استخدام "دل ل االلكترون للطلبة" نظام ا

مؤتمر: " التأجير التمويلي األول " طريق جديد لالستثمار لدعم وتنمية المشروعات القومية والشركات الصغيرة والمتوسطة تحت رعاية : و ازرة االستثمار و ازرة اال

)) أستطيع أن أفعلها(( المادة : لغة عربية الصف و الشعبة: السابع االسم : عنوان الدرس: ورقة مراجعة )) العمل الفردي (( األهداف: أن يجيب الطالب على جميع اأ


الــــــرقم الــــقياسي لتكاليف اإلنــــشاءات مــشاريع األبـــــــراج ﺍﻟـــﺮﺑــﻊ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ 2017 )سنة األساس (2013 ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻹﺻﺪﺍﺭ : ﺩﻳﺴﻤﺒﺮ 2017 الـرقم الـــ

أاعمال الر سل 507

CME/40/5(b) Madrid, April 2015 Original: English لجنة منظمة السياحة العالمية للشرق األوسط اإلجتماع األربعون دبي اإلما ارت العربية المتحدة 5 أيار/مايو

منح مقد مة من مبادرة ألبرت أينشتاين األكاديمية األلمانية لالجئين إلى النازحين السوريين في لبنان يعرف باسم "دافي (DAFI) العام األكاديمي الجامعي 4102/41

Microsoft Word - 55

طور المضغة

Microsoft Word - Kollo_ ARA.docx

م ج ل ة الض اد ل ل غ ة الع ر ب ي ة العدد - 12 ديسمرب 2016 اإل م ام الخ ب ير الم غ ر ور و ح د يث الد ود ة! الش اف ع ي م ن م ح ن ة الو ل ي ة إ ل ى م ن ح

النسخ:

مجلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة واإلبداع العدد الثالث 2013

مجلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة واالبداع تصدرها رابطة الكتاب السوريني رئيس التحرير: د. صادق جالل العظم مديرا التحرير: حسام الدين محمد وخطيب بدلة هيئة التحرير: عادل بشتاوي فرج بيرقدار عبد الرحمن حالق ابراهيم اليوسف حليم يوسف ابتسام تريسي احمد عمر االخراج: روني شنودة املراسالت: باسم مجلة اوراق على العنوان التالي: AWRAQ 11 Lionel Road North Brentford Middlesex TW8 9QZ UK هاتف: 00442087589223 Email: awraq@syrianswa.com Website: www.syrianswa.com االشتراك السنوي: األفراد في البلدان العربية )100 دوالر امريكي( وفي البلدان االوروبية )130 دوالرا امريكيا( وفي امريكا وباقي بلدان العالم األخرى )180 دوالرا امريكيا(. املؤسسات: في البلدان العربية )130 دوالرا امريكيا( وخارج البلدان العربية )200 دوالر أمريكي(. صدر هذا العدد برعاية من مؤسسة»بناة املستقبل«وبالتعاون مع املتوسط لتنمية القراءة والتبادل الثقافي

احملتويات 9 رجل سوريا الظاهر اخلفي صادق جالل العظم 12 املشروع الوطني الفلسطيني: أفكار وأسئلة عزمي بشارة عد ي الزعبي وحسام الدين محمد وعي الثورة: فكر ياسني احلاج صالح منوذجا 24 عد ي الزعبي اسئلة الثورة 25 ياسني احلاج صالح: حوار التحول الدميقراطي في سوريا صار متعذرا 30 64 من مجتمع القضية الكبرى إلى مجتمع املشكالت الصغيرة ياسني احلاج صالح 67 املثقفون واملخابرات ياسني احلاج صالح 71 حول مسألة الهوية الوطنية السورية ماهر مسعود 85 عن اإلصالح الديني في»أساطير اآلخرين«راتب شعبو 97 السجن الكتابة الثورة بكر صدقي 101 فجوة محفورة في اللحم سلوى النعيمي 107 بني سجني االحتالل واالستبداد ياسر خنجر 110 املؤرخ الفوري واملثقف املختص زياد ماجد 114 أسئلة الثورة الفكرية عمر قدور 119 باخلالص يا شباب! أمجد ناصر 123 ذكريات أكثر منها شهادة فرج بيرقدار 127 ياسني احلاج صالح على كوكب»األمير السجني«أحمد عمر 131 ياسني احلاج صالح عبر»الفيسبوك«سليم البيك 135 املكان وحدة لقياس األلم دارا عبداهلل 140 مذكرات معتقل في السجون السورية د. محمد جمال طحان 153 حلظة صمت... عبد العزيز كوؤدو 157 صورة القائد العظيم خطيب بدلة 160 حزب الدكان هشام الواوي 165 ال نعرف شيئا عن الشام سوى قبر أبي راجي بطحيش 168 املضارب محمد جميح 170 للقصائد هنا نكهة املثلجات متام هنيدي 175 دقيقة صمت نسرين طرابلسي 181 ال أحد يستطيع جتاهل الطني فادي عزام 183 سالم عليك حمص فراس النجار 187»إبرة الرعب«: موسم القصاص السوري رفقة شقور 191 إعالم ما بعد النازية: فلسفة الكذب! كرمي عبد

قواعد النشر في املجلة دعوة الى الكتاب واالدباء والباحثني ترحب مجلة أوراق باسهامات املفكرين والكتاب واالدباء والباحثني من االجتاهات الفكرية والسياسية كافة وتقتصر شروط النشر في املجلة على النقاط التالية: 1 ان تكون املساهمات املرسلة غير منشورة سابقا. 2 في الدراسات املوثقة مبصادر ومراجع يلتزم املساهمون بذكر اسم املؤلف وعنوان الكتاب ومكان النشر وتاريخه واسم الناشر وفي حالة االحالة الى مجالت يذكر اسم كاتب املقالة وعنوانها ورقم العدد وتاريخه ورقم الصفحة. تلتزم املجلة بنشر كل املواضيع التي توافق عليها هيئة التحرير والتي تستوفي معايير النشر املوضوعية )بالنسبة للدراسات( او االبداعية )بالنسبة للنصوص االدبية(. تستلم املجلة النصوص مطبوعة على بريدها االلكتروني Awraq@syrianswa.com واذا فضل املساهم ارسالها بالبريد فيرجى ارفاقها بقرص مدمج او شريحة ذاكرة. 3 أن ال يريد حجم الدراسة او البحث عن خمسة آالف كلمة إال باتفاق سابق مع ادارة حترير املجلة ويفضل ارفاق الدراسة مبلخص صغير عنها ال يتجاوز 50 كلمة. 4 ان ال يزيد حجم مراجعات الكتب عن 1500 كلمة ويدو ن في أسفل املراجعة عنوان الكتاب واسم مؤلفه ومكان نشره وتاريخه وعدد الصفحات. 5 يرفق مع كل دراسة او مقالة او نص تعريف بالكاتب وعمله احلالي 6 ال تعاد املواد املعتذر عن نشرها الى أصحابها. 7 يجري اعالم الكاتب بقرار هيئة التحرير خالل شهر من تاريخ تسلم النص. 8 حتتفظ املجلة بحقها في نشر النصوص املجازة للنشر وفق خطتها التحريرية. 9 تلتزم بتقدمي اشتراك مجاني ملدة سنة لكل شخص يساهم في الكتابة لها ما دامت مستمرة في النشر 10 باستثناء احلاالت التي تطلب فيها املجلة من كتاب بعينهم االشتغال على ملف او دراسة او نص ادبي اعتبار ذلك عمال مأجورا تقدر هيئة التحرير قيمته على ان تبلغهم بذلك مسبقا فان كل املساهمات األخرى ستكون غير مأجورة.

9 رجل سوريا الظاهر اخلفي صادق جالل العظم منذ اندالع االنتفاضة الشعبية في سوريا حتو ل ياسني احلاج صالح الى أبرز شخصية سياسية ثقافية فكرية تغوص حتت األرض وتبحث مبذكراتها الدورية من قبو ما في العالم السفلي. لكن بخالف رجل القبو الروسي دوستويفسكي غير معروف اإلسم وفارض العزلة على نفسه بنفسه فإن إسم ياسني معروف جيدا جدا وهو لم يفرض أية عزلة طوعية على نفسه للحظة واحدة بل اضطر اليها اتقاء النتقام نظام القهر احلاكم والذي ما زالت سوريا ثائرة عليه. منذ تلك اللحظة حتو ل ياسني ايضا إلى رجل سوريا اخلفي ولكن الظاهر الظهور كله وبخالف رجل أمريكا اخلفي لرالف إليوت الذي ال إسم له اآلخر فإن ياسني ليس بل إسم بالتأكيد كما أنه لم يع د نفسه منذ البداية رجل سوريا اخلفي كما فعل بطل الرواية إياها. وعلى شاكلة الشخصيتني الروائيتني املذكورتني فان لياسني أيضا رواية جديرة بالسرد في حد ذاتها. رواية حتمل في طي اتها الصمود التحد ي القهر االضطهاد السجن التعسفي التعذيب باالضافة الى العزلة املفروضة بالعنف واالختفاء املفروض بالقوة الغاشمة. وهي أيضا رواية التأمل في الذات وفحص النفس وامتحانها ورواية التجاوز والتسامي ومراجعة الوعي والضمير معا.

10 وجدت الثورة السورية في ياسني رجلها القابع في القبو السفلي األشهر والباعث مبذكراته الدورية املنعشة الى عالم»فوق األرض«. كما وجدت فيه أكثر شخصياتها اخلفية ظهورا وسطوعا كمشارك في الثورة ومعل ق على تتابع أحداثها ومتعمق في مضامينها وناقد النحرافاتها. دخل ياسني احلبس السياسي في سن العشرين وخرج منه في سن السادسة والثالثني. وما أن استعاد حريته في ربيع دمشق وأنشطته وحركته الرامية إلى إعادة إحياء املجتمع املدني في سوريا مبا يعنيه ذلك من مواطنة وحقوق وحريات وقضاء مستقل واحترام لشرعة حقوق اإلنسان العاملية. لم يتوقف نشاط ياسني الفكري وانتاجه الثقافي إن كان هو موجود فوق األرض أو غائصا حتتها ففي مذكراته من حتت األرض أضاء ياسني أحداث الثورة ومعانيها ومغازيها متناوال أبعادها الطبقية والريفية واملدينية واملذهبية وعالقاتها االقليمية والدولية وتقاطع ذلك كله مع لعبة السلطة والثروة في سوريا وغير سوريا. أما في مذكراته من فوق األرض وأشهرها»باخلالص يا شباب«فقد قدم إسهاما خالقا وجديدا إلى عالم أدب السجون. ومع أن فكر ياسني متجذر في األرض السورية وملتزم بالواقع السوري تبقى آفاقه عاملية إنسانية شاملة. فتحية لياسني احلاج صالح على شجاعته وتواضعه والتزامه العميق بالثورة وعلى التضحيات التي قدمها من أجل مستقبل أكثر كرامة وحرية ودميقراطية لسوريا وللسوريني جميعا.

12 املشروع الوطني الفلسطيني: أفكار وأسئلة حول املأزق واآلفاق عزمي بشارة ي حار الباحث عند الكتابة ع ن قضي ة فلسطني بني واجب ه الوطني واإلنساني من جهة وض ر ورة تو خ ي املوضوعي ة )الن سبي ة( الست قراء الوقائع اجلارية وإلج راء م حاكمات عقلي ة مفيدة م عر في ا م ن جهة أ خرى. وت ثير هذه الدو امة تداعيات متعل قة بالتفاؤل والت شاؤم الل ذ ي ن ق د ي قود إليه ما الت حليل املوضوعي. فه ل ي بن ى األمل على التحليل العلمي الذي ق د ي دفع إلى تشاؤم العقل أم على إرادة العمل وتفاؤل اإلرادة م ن أجل التغي ير وأقصد ذلك العمل الذي يستند إل ى معرفة الواق ع ولكن ه بتفاؤ ل اإلرادة ي غي ره بص نع وقائع جديدة. أنا م ن حاز إل ى فكرة أن األمل ي قوم على العمل وإرادة التغي ير وأن العمل مي كن أ ن ي سترش د بالتحليل العقالني ولكن األمل ال ي قوم عليه. ال ت ناق ض بني املعرفة العلمية م ن جهة والواجب الوطني واملمارسة الفاعلة من أجل هدف

13 م حمود مثل احلرية والعدالة من ج هة أ خرى. هذا أ ك يد فالغاية األساسية للمعرفة العلمية في العلوم االجتماعية واإلنسانية هي احلرية. ولكن يحتاج املرء إلى ق د ر م ن التفاؤ ل الت نويري لك ي ي ؤ م ن أن املعر فة العلمي ة هي األداة املثلى لتغيير املجتمعات نحو األفضل وفي الس عي نحو العدالة. ب ي د أن أ حداثا ك ب رى وكوار ث ع ظمى جر ت منذ القرن الثام ن عش ر ق ر ن هذا التفاؤل التاريخي بالتقد م جعل ت نا أكثر ر ي بي ة جتاه االعتقاد بالتحالف امل ط لق بني امل عرفة والتنوير والع دالة. ول غرض االستمرار في العمل م ن أجل ما هو أفضل مبعايير احلرية والعدالة ن فض ل املبدأ الذي يقول إن علينا بو ص ف نا علماء وباحث ني أ ن ن قوم بواجب نا العلمي مبوضوعي ة وعلي نا في الوقت ذات ه أن ن قوم مبا متليه علينا املواقف األخالقي ة التي يت ضم ن واجب نا الوطني جتاه شعب نا بانحياز كام ل. واألخالق في حالت نا ك ما في كل حالة م رتبطة بف هم نا للخير والشر ك ما أن ها مرتبطة باالنتماء إلى اجلماعة الوطني ة واإلنساني ة فهذه طبيعة الق ي م. ونحن ن ختلف على تدريج اجلماعة األخالقية م ن األضي ق إلى األع م اإلنساني أ و م ن األع م اإلنساني إلى األضي ق. ولك ن هما على كل حال تلتق يان في القضي ة الوطني ة إذ ا كانت عادلة فاجلماعة الص غر ى ه نا هي اجلماعة الك ب رى ألن قضي ة اجلماعة هي ذات ها قضي ة إنسانية في الوقت ذات ه وألن الشعب هنا ي تعر ض إل ى ظل م باملقاييس اإلنسانية الكو ن ي ة. نحن ن تحد ث عن ظ لم واقع بحق شعب بأكمل ه ومشروع استيطاني متواص ل ومالي ني من امل هج رين م ن وطن هم وأبنائ هم الذين حاف ظوا على ه وي ت هم كالجئني فلسطيني ني فيم ا ي سم ى الش تات الفلسطيني وم الي ني آخرين يعيشون في واقع فص ل عنصري استعماري حتت االحت الل. ل قد ع م ل كثير ا خالل العقود األخيرة على إيجاد تسمية أ خرى للقضي ة الفلسطينية م ن نوع»أزمة الشرق األو سط«)التي ل م ن ع د ن سمع بها( وتسميات لهذه الو قائع م ن نوع»الداخل واخلار ج«و»الس لطة الوطني ة الفلسطيني ة في الضف ة الغربي ة«و»عر ب إسرائيل«و»احلكومة امل قال ة«و»عملية الس الم«و»القدس والضف ة «كأن ه ما ك يانان... هذا إذ ا ل م نأخ ذ بعني االعتبار االنتشار املف رط في امل عجم التداولي اإلعالمي الس ياسي الدولي ل ت سم يات صهيوني ة مباشرة مثل»عر ب أرض إسرائيل«و»يهودا والسامرة«و»املستوطنات الشرعية وغير الشرعي ة«وغي ر ها. لكي ن كون قادرين على إطالق ح كم قيمي واضح على ما يجر ي في بالد نا بشأن قضي ة فلسطني ال بد م ن ت نقية الطاولة م ن ك ل هذه امل صطلحات والط بقات امل تراكمة التي خل فت ها الهيمنة الصهيوني ة على اخل طاب السياسي ب شأن فلسطني وصراعات األيديولوجيات واألنظمة العربية واملفاوضات السياسي ة وإ سقاطات صراعات اله و ي ة والتاريخ في أوروبا وأميركا بشأن املسألة اليهودي ة عل ي نا وغير ذلك كثير. عند ها ميكن نا أن ن رى قضي ة فلسطني كقضي ة شعب س ل ب وط ن ه وه ج ر م ن أرض ه. وعند ها مي كن نا أيض ا أن ن رى أن ه خالل إقامة الكيان السياسي على أرض هذا الوطن

14 م ور ست باستمرار سياسات عنصري ة واستعماري ة وما زال ت مت ار س م ن دون توق ف. وت ل خ ص هذه حتت عنوان املصادرة أو االستمالك أو الس ط و امل سل ح بد ء ا م ن مصادرة األرض واستمالك ها وم ن ح ها لو افدين بتبريرات مختل فة ونهاية مب صادرة التاريخ والذ اكرة وحت ى األسماء وهو االستمالك الذي حت و ل في الواقع إلى عملي ة إحالل كام لة. ال ن حتاج هنا إلى تصنيف البشر بني أخيار وأشرار فليس املظلومون أخيار ا بالضرورة وال الظامل ون أشرارا كأ فراد. وم ن يق ع في فخ هذه التصنيفات ي ب تعد ع ن م فهوم العدالة ويبدأ في محاكمة الفلسطيني ني مبعايير التفو ق األخالقي وغير ها من األوهام مم ا وقع فيه خ يرة املثق فني الفلسطيني ني ويبدأ من ناحية أخرى في التعامل مع الطرف اآلخر كم عسكر الش ر أو كشياطني ال كظامل ني في فوت ه ف ه م ما يجري اجتماعي ا وسياسي ا واقتصادي ا عند م ن ميار س االحت الل ويفوت ه التمي يز الص حيح بني م حت ل وواقع حتت االحت الل. فم ن يناض ل ضد االحتالل هو صاحب قضي ة عاد لة. ولك ن هذا ال ي عن ي أن الوقوع حتت االحتالل فضيلة مث ل ما أن د خول الس جن بحد ذات ه ليس فضيلة. الن ضال ضد االحتالل عادل حت ى لو أ د ى إلى الس جن والن ضال ض د الس جن بغي ر ح ق هو نضال م ن أجل قضي ة عاد لة ب غ ض النظر عن طبيعة امل سجون وهكذا. وعلى النقيض م ن ذلك ي قع م ن يبتعد متام ا عن احل كم األخالقي في فخ اإلعجاب بالظال م ألن ه ير ى أن التطو ر والتقد م هم ا سبب ت ف و ق ه م حم ال»تخل ف ه«مسؤولية ف قدان ه احلقوق الوطنية والفردي ة... وقد ي عج ب املظلوم نفس ه بالظالم إذ ا فق د التوازن بني املعرفة الالزمة لتشخيص بنية الع القة بني احملت ل والواق ع حتت االحتالل م ن جهة واحل كم األخالقي علي ها من جهة أخرى. وال ن حتاج أيض ا إلى احلديث عن احلقوق التاريخي ة وتش ك ل القومي ات والقانون الدولي وغير ه لك ي ن ح ك م أن ظ ل م ا بي نا وق ع على الشعب الفلسطيني وأن هذا الظ ل م ما زال مي ار س وأن ه ي عيد باستمرار إنتاج مسألة استعماري ة مستم ر ة ومسألة متييز عنصري ي بدو أن العال م ي ستسه ل التعاي ش مع ها. إن البحث في احلقوق التاريخي ة والتبريرات التي ي سوق ها كل طر ف في د عم ها وم سألة و جود شعب فلسطيني وت شك ل ه واملسألة اليهودي ة في أوروبا وتداخ ل ها مع قضي ة فلسطني كمصدر خصوصي ة وتعقيد لهذه القضي ة وأث ر قضي ة فلسطني في الشعوب العربي ة ب ل في ص و غ القومية العربي ة أيديولوجي ا ون شوء األنظمة العربي ة األيديولوجي ة في خمسيني ات القرن الع شرين وأث ر الن كبة في املرحلة اللبرالي ة العربي ة بني احلرب ني والع القة بني ن كبة فلسطني ون شوء األنظمة العسكري ة العربي ة ك ل ها أسئلة ت دخل في م جال الدراسة والب ح ث الذي يتطل ب ت وخ ي أ كبر قد ر ممك ن م ن م عر فة احلقائق املوضوعي ة. هذا ما أ شغل نا في جدول أعمال نا البحثي عموما. وهذا ما يج ب أن ي ش غل نا الحقا... إضافة إلى ما ج رى ت ث بيت ه م ن كتابة تاريخية ت و ثيقي ة لتاريخ فلسطني والقضي ة الفلسطينية في مقابل السردي ة الصهيوني ة. ولي س

15 االنشغال بهذه املواضيع بديال عن املوقف القي م ي األخالقي واألفعال امل مار سة انطالقا منه والتي ت سم ى ن ضاال. وإذ ا كان م ن ح ق امل ؤس سة اجلامعي ة الصهيوني ة أن ت ستخد م العلوم االجتماعي ة النظري ة والتطبيقي ة وع ل م التاريخ وغي ر ه في ف ه م الع وائق أمام استيعاب الهجرة الصهيوني ة وتذ ليل ها وفي ف ه م البنية االجتماعي ة والثقافية لله ج رات وفي السوسيولوجيا العسكري ة وفي ف ه م تاريخ فلسطني وبنية الشعب الفلسطيني... وذلك ألغراض سياسات السيطرة وتبرير ها وفي ط ر ح ت وق عات م ن أجل املستقبل فما بال ك بالش عب الذي كان وما زال ض حي ة لل م مارسة الصهيوني ة! م ن حق نا بل م ن واجب نا أ ن ن سترش د بالتحليل العلمي مل ا ي دور من ح و ل نا في خ دمة قضي ة عادلة. ولهذا ن ع م ي ص ح مؤمتر أكادميي ع نوان ه»قضي ة فلسطني ومستقبل امل شروع الوطني الفلسطيني «. ول و سل م نا بو جود م نهج عقالني ون واي ا م عرفي ة حقيقي ة فس رعان ما ي تبني أن أحد الع وائق الرئيس ة أمام التفكير العلمي البحثي بشأن حال قضي ة فلسطني هو األ صنام املعر في ة التي قد يكون أصلها حتليليا عقالنيا في كل ح ق بة ولكنها ت غدو مقد سة وم ح ر مة على التفكير إلى حني. وهي في الواقع نتاج مرحلة م حد دة ولكن تقديس ها ي دوم غالبا حت ى بعد أ ن تنقض ي هذه املر حلة. ث م ة م راحل جر ى فيها التعامل مع قضي ة فلسطني كمسألة هجرة يهودي ة على ح ساب الس ك ان الفلسطيني ني وج رى بشأن ها م ناشدة الد و ل االستعماري ة لت ف هم ق درة فلسطني االستيعابي ة ون ظ ر إليها في مرحلة أخرى كمرحلة مطام ع بريطاني ة في املشرق وفي مرحلة ثالثة وخالل م و ج ة حر كات التحر ر الوطني ن ظ ر إلي ها كقضي ة نضال حتر ري م ن االستعمار. وفي م رحلة امل د القو مي ت ناق ش نا طو يال : م ن الذي يجب أ ن يسبق اآلخ ر الوحدة العربي ة أ م حترير فلسطني وكان لل يسار م صطلحات ه في ف ه م قضي ة فلسطني كقضي ة صراع طبقي في فلسطني ذات ها وفي اإلقليم ض د الصهيوني ة والرجعي ة العربي ة واإلمبريالي ة. وكان للتي ار اإلسالمي مصطلحات ه وكذلك للتي ار القوم ي. وقاد ت جميع ها إلى ت عميمات م ن زواي ا ن ظ ر م حد دة. ومع أن امل صطلحات هذه ت كون م فيد ة م ن زاوية النظر احملد دة هذه إال أنها ت صب ح م ض ر ة حني ت عل ن عن نفس ها ر ؤ ية شمولي ة إقصائي ة ت فس ر الواقع كل ه فتنته ي بإخضاع ه لأليديولوجيا. وهي حينذ اك ال ت كتفي بت خ ط ئة زاوية النظر األخرى بل ت ع د ها خ ص ما سياسي ا. وغالب ا ما ت خس ر األيديولوجيا العامل ني عال م املعرفة العلمية وعال م األخالق ألن ها ال ت نظر في الواقع لك ي تفه م ه بل لك ي ت نتق ي من ه ما ي ث بت نفس ها وحت ك م علي ه بأحكام غير علمي ة وهي م ن جهة أخرى حتد د القيمة املعيارية باإلجابة على سؤال ال عالقة له بها وهو الس ؤال: مع ي أو ض د ي أو السؤال: في م ص لحة م ن وبذلك ت خس ر خصوصي ة األخالق. وال ت كم ن امل هم ة في حت طيم األصنام وال في ت ف نيد زو ايا الن ظ ر ب ل في احتوائ ها وجت او ز ها. فليست زاوية الن ظر الطبقي ة كالما فار غا وال زاوية الن ظر القومي ة وال زاوية الن ظر اإلسالمي ة

16 الديني ة وال زاوية النظر اللبرالي ة فك ل ها زو ايا نظ ر ناب عة م ن الواقع وقد ت كون مفيدة إذ ا فه م نا م ن بع ها التاريخي وحدود ها لكن ها ت صب ح عائق ا أمام املعر فة وأمام األحكام األخالقي ة بشأ ن العدالة حني ت ص ر على أن ها ر ؤية شمولي ة ت ص ل ح لتفسير ك ل شي ء. وال أ رغب في هذه احمل اضرة االفتتاحي ة في م راج عة التاريخ على أهمي ة إجرائ ها وال في ت ف نيد زو ايا الن ظر املختل فة ب ل سأ حاول م الم سة م وضوع م ؤمتر نا الذي لم ي ج ر اخت يار ه ص د فة فق د كانت مبر رات املركز العربي لألبحاث ثالث ة وهي: أو ال ف ع ل أم ر ما في و ضع أجندة بحثي ة بشأ ن فلسطني تتجاوز ما ج ر ى حت ى اآلن. وثانيا إرسال إشارة م ن أكادميي ني عر ب وفلسطيني ني ت عب ر ع ن عد م الر ضى عن تهميش قضي ة فلسطني. وثالث ا التأكيد على احلاجة إلى بحث املشروع الوطني الفلسطيني ومستقبل ه في الظروف املتغي رة دوليا وإقليمي ا. وال ميكن جتاهل االعتقاد امل نتشر بأن املشروع الوطني الفلسطيني يعيش حالة انس داد حت ت م التفكير في مستقبل ه. وم ن دون مقد مة تاريخي ة أ قول إ ن املشروع الوطني الفلسطيني وق ف دائما وليس م نذ الستيني ات فقط عل ى ر جل ني األ ولى مقاو مة الظ لم والع د و ان املتمث ل ني باالستيطان والت وس ع وذلك ب د ءا باملقاومة السلبي ة ون هاية بالكفاح املسل ح على أشكال ه امل نظ م ة واألقل تنظيما. والثاني ة العمل الس ياسي وذلك م نذ أ ن ب دأ ت ات صاالت الهيئة العربية الع ل يا بالدول العربي ة واملجتمع الدولي قب ل عام 48 ومرورا مب ر حلة ات صاالت منظ مة التحرير لت ح صيل اعتراف بها بوص ف ها مم ث ال شرعي ا ووحيدا للشعب الفلسطيني وحت ى ط ر ح مشروع الد ولة الفلسطيني ة والص راع على حتقيق ه منذ السبعيني ات. ن د ر ك ن ي املشروع الفلسطيني هذ ي ن في مراحل ت طو ر القضي ة الفلسطيني ة كاف ة. وميكن كتابة التاريخ الوطني الفلسطيني احلديث عب ر الن ظ ر في ت الق يه ما وان فصال ه ما فف ي مراح ل كان فيها أحد هما يخد م اآلخ ر وفي مراحل أخرى مت اي ز ا وتقاط ع ا وفي أخرى ت ناق ض ا وان فص ال. واحتاج ك ل م ن احمل ور ي ن إلى ذاكرة ومبر رات خاصة بها )سرعان ما حتو لت إلى تاريخه اخلاص( كما استند إل ى عالقات دولية وعربية تس ند ه. وقد تعاي ش ا تارة في احل ركات نفس ها وحت ى في الشخوص أنفس هم وانفص ال طو را في حركات مختل فة وشخوص مختلفني اختلف ت في تشديد ها على هذي ن احمل ور ي ن كم رك ب ني في العمل السياسي وو ص ل االخت الف أحيان ا إلى ج ع ل أحد ه ما ه دفا والثاني و سيلة أ و في ج ع ل أحد ه ما حق ا واآلخر باطال وهك ذا. ومب ا أن كال م ن احمل ور ي ن است ند إلى حاضنة عربي ة وسياسات عربي ة مختل فة فق د فر قته ما في كثير م ن احلاالت الصراعات العربي ة ك م ا استند كل م ن احمل و ر ي ن إلى سياسات وصراعات دولي ة. ومي كن نا القو ل إن احمل ور السياسي انته ى عب ر طريق طويل إل ى التق و ل ب مب وجب ت سي د الدولة الق ط ري ة العربي ة املشهد منذ االستقالل على الر غم من ه يمنة األيديولوجية القومي ة في بعض امل راحل وإلى ت بن ي ط ر ح م شروع دولة ق طري ة فلسطينية هي الد ولة الفلسطيني ة في الضف ة

17 الغربي ة وق طاع غز ة. وكما انتهى الص راع العربي اإلسرائيلي عب ر تسي د الدولة الق طري ة إلى امل فاوضات املنفر دة لكل دولة مواج هة عربي ة مع إسرائيل على ح د ة كذلك انته ى أصحاب م شروع الدولة الفلسطيني ة إلى اإلصرار على أ ن يكون ت فاو ض ه م مع إسرائيل ث نائي ا منفص ال عن بقي ة امل سارات التفاوضي ة. وكانت حقيقة توف ر م ش روع سياسي لد ى أصحاب م شروع الدولة مصدر ق و ة لهم لفترة طويلة. ولك ن قبول مبدإ الدولة الفلسطينية دولي ا اقتض ى الت خل ي عن خ يار الكفاح املسل ح. وعلي ن ا أيض ا أ ن ن ضيف أن الت خل ي ع ن الكفاح املسل ح ل م ي ك ن لهذا السبب فق ط بل ساهم ت في الدفع إلي ه أيض ا تغي رات بنيوي ة في الوطن العربي وف ي ح واض ن الكفاح املسل ح وامتدادات ه العربي ة والدولي ة وذل ك بعد حرب لبنان 1982 وانهيار النظام العربي القدمي بعد ذلك ب ع ق د في حرب اخلليج الثانية 1991 وانهيار املعسك ر االشتراكي وغير ذلك. ومع حت و ل م شروع الد ولة بامل جمل إلى مشروع ي ج ري التوص ل إليه بالتفاوض مباشرة مع إسرائيل في مفاوضات ثنائية أو ما ي سم ى بالعملي ة السياسي ة ض ع ف ت مقاومت ه أمام ل غة الغر ب وإسرائيل ومصطلحات هما في ر ؤية قضي ة فلسطني ك م ا أصبح رهينة ميزان القوى املعبر عنه في عملي ة التفاو ض الثنائي. وفي حلظة تاريخي ة أخيرة مت ر د فيها على هذا املصير وعاد إلى الك فاح املسل ح عو دة عالي ة الت كل فة في االنتفاضة الثانية اض ط ر بعد ها إلى أ ن ي ختار بصورة قاطعة بني امل فاوضات كخ يار ي كاد يكون مصيرا أو قد را مكتوبا والك فاح املسل ح. وكان ياسر عرفات ضحي ة هذا التمر د األخير على محاو لة ف ر ض م وازين القو ى املتجسدة حتديدا بالتحالف األميركي املطلق مع إسرائيل في التفاوض على احلل الدائم وحتديد ا على موق ف ه بش أ ن الق د س. ومع ياسر عرفات ذهب ت ب قايا االزدواجية في امل و ق ف واختار أصحاب م شروع الدولة املفاو ضات خ يار ا ن هائي ا وحاس ما. وان فص ل الك فاح املسل ح حتت تسمية املقاومة لي شك ل خ يارا خارج العملي ة السياسي ة وم ن دون م شروع سياسي في احلقيقة وإن أ طلق م ن حني إلى آخر مبادرات سياسي ة وغير ها في م واجهة محاوالت شي طنت ه في الغرب. وليس صدفة أن ت تبن اه مب ثابرة قو ى م ن خارج منظ مة التحرير التي حت و لت مب جمل ها إلى م شروع الس لطة الوطنية الفلسطيني ة. وسوف نشه د أن الفصائل التي ت بن ت االستمرار في خ ي ار املقاومة املسل حة م ن خارج ما ي س م ى بالعملية السياسي ة سوف ت قع في املأ ز ق نفس ه حني ت دفع ها العملية االنتخابية إلى الت ور ط في م شروع س ل طة. لق د أ ق ص ت ع ملي ة التفاوض السياسي ني املتمس كني بخ ي ار املقاو مة عن السياسة إ ذ أ علن الط رفان الل عبة الوحيدة في املدينة. واشت ر ط على الط رف الفلسطيني أن ي ع د ها اخل يار الوحيد. وأصبح حت ى االحتجاج على بنيت ها غير امل تكافئة واإلمالءات التي ت س ود فيها والناجمة عن استفراد الطر ف اإلسرائيلي بالفلسطيني ني ي جر ي باأل دوات السياسي ة واأل ر و قة الدبلوماسي ة فق ط وأصبح التوج ه إلى األمم املت حدة على أهم يت ه ي ع د خطوة ثوري ة ألن ها ت تمر د على

18 االستفراد اإلسرائيلي به في املفاوضات الثنائي ة وهو أمر يزعج إسرائيل ألنه خروج عن التفاوض الثنائي. ولكن مع ذلك تبقى محاولة تصحيح اخلل ل في العملي ة السياسي ة جتري أيض ا بأساليب سياسي ة خاضعة مل وازين القوى. هنالك ح واش وهوام ش كثيرة لهذا التطو ر ومن ها بالط بع جت ذ ر ق و ة اليمني على الساحة اإلسرائيلي ة وق رار الواليات املت حدة الواضح بعد م ف ر ض إمالءات على إسرائيل مب ا في ذلك م سائل ع د ت ث وابت في السياسة اخلارجي ة األميركي ة مثل م عارضة االست يطان ومن ها أيض ا م أ ز ق التفك ك العربي منذ حرب اخلليج الث انية وغ ياب م شروع عربي مي كن ه أ ن ي حافظ على احلد األدنى من الثوابت في م واجهة إسرائيل واعتماد السياسات العربية على ر ض ى الواليات املت حدة وم بادرة السالم العربي ة التي ر فض ت ها إسرائيل وظل ت األنظمة العربية متمس كة بها فقط لك ي ال تفك ر في البدائل واختباء األنظمة هذه وراء امل فاوضات اإلسرائيلي ة - الفلسطيني ة م ت حج جة بالق رار الوطني الفلسطيني املستق ل واحترام إرادة الفلسطيني ني وعد م امل زاي دة وغير ذلك. واملهم هو أن املشروع الوطني الفلسطيني املتمث ل بالد ولة الفلسطيني ة أصبح رهينة عملي ة سياسي ة تفاوضي ة يرافق ها توس ع استيطان ي إح الل ي م ذ هل ي نجم عن ه على األرض ح ص ر كيان فلسطيني في ما ي سم ى املناطق»أ«و»ب«وهو ك يان م ن قوص الس يادة وال مان ع لدى إسرائيل أ ن ي سم ى دو لة ولكن ها ت ريد مع ذلك ثم ن ا في املقابل. واملهم أن يعيش هذا الك يان حالة انفصال عن تفاعالت املجتمع اإلسرائيلي ك ي ال ي ؤث ر في بنيت ه الدميوغرافي ة واالقتصادية والسياسية ولكن ال يسمح له م ن جهة أخرى ب أ ن ي تحو ل إلى دولة ذات سيادة على أرضها وال إلى امت داد عربي حمل يط ه. وهو بطبيعة احلال ليس حال لقضية الالجئني. هنا ال ي سع ن ي إال أ ن أقول إن بعض نا ت وق ع هذا السيناريو بت فاصيل ه منذ ت وقيع ات فاق أوسلو وبعض نا ل م ي توق ع ه وحت د ث ع ن سيناريو م ختلف يتوق ف خالل ه االستيطان ويقود إلى دولة وطني ة يتحو ل فيها ق طاع غز ة وحد ه إلى سنغافورة جديدة. هذا إذ ا افتر ض نا أ ن االجتهاد بح سن الن ي ة رائ د اجلميع في سبيل املشروع الوطني الفلسطيني. ولكن حتليل الوقائع القائمة حالي ا ي كاد يقود اجلميع إلى إدراك السيناريو الكارث ي. ولكن حني أصبح ت النتائج واضحة لل ج ميع ن ش أ خ الف جديد وهو ليس خالفا على قراءة الواقع ل أل سف فاجلميع ي درك املأ ز ق. وإمن ا اخل الف الفلسطيني الفلسطيني حالي ا هو صراع على الس ل طة. إن ه الص راع ال ذي مين ع من رؤية الواقع الفلسطيني الواح د واملو ح د والسياسات اإلسرائيلية الواحدة والصراع على السلطة أمر طبيعي املشكلة أن ه في حالتنا صراع على الس لطة قب ل مرحلة الدولة. أم ا بالن سبة إلى الك فاح املسل ح فس أ غ ن يك م ع ن اخللفي ة أي ض ا منذ ثورة 36 39 وصوال إلى نشوء فصائل العمل الف دائي ون ضال ها بع د الن كبة وانتهاء بحركات املقاومة اإلسالمي ة الفاع لة حالي ا. لقد أصبح الت خل ي ع ن الك فاح املسل ح شر ط ا للدخول في العملي ة السياسي ة وله ذا حت و ل ت امل قاومة امل سل حة إل ى خ يار خارج العملي ة الس ياسية ب ل ي ع د نق يض ا ل ها حت ى في

19 احلاالت التي ال ي ر ى فيها نف س ه كذلك. ولس ت في حاجة إلى إطالة الك الم عن التطو رات التي طر أ ت على الد و ل التي ع د ت حاض نة للك فاح املسل ح الفلسطيني. كم ا ل ن أ عد د لك م إنازات الك فاح املسل ح الفلسطيني بد ء ا م ن اإلناز القي م ي األخالق ي املتمث ل بع دم االستكانة للظ لم وم قاو م ت ه وم رور ا بص و غ اله و ي ة الوطني ة الفلسطيني ة ونهاية مب ا ي سم ى إعادة االنتشار اإلسرائيلية في املناطق احملتل ة التي التق ت فيها ضغوط الك فاح املسل ح الفلسطيني مع امل خاوف الدميغرافي ة الص هيوني ة. وهذه األخيرة كانت قائمة أكادميي ا ولكن ها حتو ل ت إلى حتريك الس ياسة بسبب الك فاح املسل ح فالش عب الس اك ن امل ستكني والشعب املقس م إل ى طوائ ف متصار ع ة ال ي شك ل خط ر ا دميوغ رافي ا. واحلقيقة الصلبة والث ابتة حالي ا هي أن إسرائيل س ع ت منذ انسحاب ها م ن طرف واحد من جنوب لبنان ثم م ن قطاع غز ة بعد ذلك بأرب ع سن و ات إلى أ ن حت و ل عمليات املقاومة إلى سب ب لل ح رب.casus belli كانت هذه إستراتيجي ة إيهود باراك وأرئيل شارون في االنسحابات م ن طر ف واح د من جنوب لبنان ومن غزة. وكان ت هذه إضافة جد ية إلى العقيدة العسكري ة اإلسرائيلية في بداية هذا الق ر ن. وكان الكفاح املسلح قد حتو ل سابقا من اخليار الوحيد لتحرير فلسطني إلى استراتيجية في مقاومة االحتالل في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي لبنان بعد العام 1982. وبعد االنسحابات من طرف واحد وحتديدا بعد عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006 وعلى غزة في عام 2008\2009 حت و ل ت املقاوم ة حتو ال ثانيا إلى خ يار إستراتيجي ة الد فاع ع ن الن ف س أمام احتمال أي عدوان إسرائيلي مقبل. إن ما ي ت م اإلشاد ة به حالي ا كمقاوم ة هو لي س ما س م ي مقاو مة في الساب ق فقد كان ت املقاومة إستراتيجي ة حترير ب غ ض النظر ع ن واقعي ت ها ثم حتو لت إلى خيار»مقاومة االحتالل«. ولكن املقاومة املسلحة املنظمة حالي ا هي استراتيجية دفاع عن الذ ات وع ن اإلقليم الذي ت س يط ر عل ي ه وهذا ال يقل ل م ن أهم ي ت ها. هذا إذ ا ما ن ح ي نا جان با اخلطابات التي حت و ل ها إلى ل ق ب جلماعة أو حز ب أو م ح و ر والتي ت أ ت ي في إطار صراع احمل او ر العربي ة. امل ش كلة أن هذا اخل يار الذي بات دفاعي ا ي ست خد م مؤخ ر ا في خ دمة أغراض أ خرى )وال أقصد حالة غزة احملاصرة(. ول هذا تقليد طويل في الس ياسات العربي ة وأ ق ص د استخدام العمليات ض د إسرائيل لتسجيل ن قاط سياسي ة داخلية أ و في الص راع بني الفصائل واألنظ مة. وهذا ي قود ن ي إلى ف كرة ال ب د م ن العودة للت أكيد علي ها في م رحلة ن ضال الش عوب العربي ة م ن أج ل احلري ة والدميقراطي ة. إذ ا كان ت قضي ة فلسطني قضي ة عدالة وحتر ر ك ما ق ل ت في املقد مة فهي ال تتناق ض مع العدالة للش عوب األ خ رى وال س ي ما م ن أبناء األ م ة الواحدة أ ي الش عوب العربي ة. لق د حم ل ت قضي ة فلسطني دائم ا ب ع د ي ن: األو ل ذلك املتعل ق بالعدالة وحت ى باله و ي ة العربي ة وال ذي ج عل ها مسأ لة ت تجاوز الق ي م إلى الو جدان ذات ه عند الش عوب العربي ة. وال

20 مي كن نا ه نا أ ن ن ق ص ي العديد مم ن و صل وا إلى احل ك م وه م ي رف عون ش عار حترير فلسطني فال ش ك في إ خالص كثير م ن ه م. ولك ن ال شك أي ض ا في أن حساسي ة الر أ ي العام العرب ي لقضي ة فلسطني أ غ ر ت األنظمة االستبدادي ة عل ى أنواع ها باس تخدام ها كأداة سياسي ة. وهذا هو الب ع د الث اني. لق د است خ د م ت قضي ة فلسطني في تب ر ير الق م ع وف ي م حاربة اخل صوم الذين كان وا ي ت ه مون باخل ي انة حت ى ول و حار ب وا م ن أ جل فلسطني وكان خ د م األنظمة وح ل فاؤ ها ي ش ر ع نون م ن في م ع سكر ه م حت ى ل و كان م ن م ؤي د ي التطبيع مع إسرائيل ب ل حت ى ل و تعاو ن مع إسرائيل مباشرة وي خ و نون م ن هو ض د مع س كر ه م حت ى ل و كان مناض ال فلسطيني ا. مي كن ن ي اجل ز م أن حتويل قضي ة فلسطني إلى أداة استخدامي ة ب ي د أنظمة استبدادي ة فاس دة ل م ي ضر ب ها أخالقي ا وقيم ي ا فق ط ب ل أ ض ر ب ها ف ع لي ا فاألنظمة ذات ها التي ل م ت و ج ه الطاقات إلى الص راع مع إسرائيل است خ د م ت قضي ة فلسطني في ل غ ة االستبداد بحي ث ل و ث ت اخل طاب التحر ر ي الفلسطين ي م ثل ما ل و ث ت في مرحلة ما كل م ة»ثو رة«و»م ج لس ثو رة«قبل أ ن ت ع يد الش عوب االعتبار لهذه امل ف ردات في األعوام الث الثة األخيرة. وأصبح بعض الل برالي ني العر ب م عج ب ا بإسرائيل كرد ة فع ل على فساد األنظمة الدكتاتوري ة التي ت تاج ر ب ه ا ش عارا ك م ا انحاز بعض الفلسطيني ني إلى دمياغوجيا األنظمة في مقابل االستسالم والتطبيع فأصب ح وا ه م أي ض ا أدوات ي تعامل ون في السياسة الفلسطيني ة ألهداف ال ع القة لها بفلسطني. لقد فات الكثير م ن الل برالي ني أن هذه األنظمة ت ستخد م قضي ة فلسطني في تبرير ع ج ز ها وت خ ل ف ها وأ ن قضي ة فلسطني ليست هي سب ب الع ج ز والتخل ف ب ل غال با ما كان ت العام ل الذي ف ض ح العج ز والتخل ف وغال ب ا ما كان ت الد اف ع إلى الت نمية. فال ذنب لفلسطني في استخدام األنظمة االستبدادية لها دمياغوجيا وبالعكس متاما إ ن هذا االستخدام يجعل م ن فلسطني ضحي ة مضاع ف ة. ق ل نا إذ ن إن اخل ي ار الس ياسي في مأ ز ق وإن خ يار الك فاح املسل ح في حال ة ان ف صال ع ن الس ياسة م ن خر ط في ص راع على وجود ه وحت و ل م ن إستراتيجي ة حترير إلى خ يار د فاع ع ن الن فس. فم ا األ ف ق الذي مي ك ن ب ح ث ه اآلن في ض و ء هذه احلال ة لق د ر ص د ت الس ياسة اإلسرائيلي ة بجانب ها األكادمي ي وجانب ها الس ياسي العم ل ي خط را شديدا في الث ورات العربي ة واحتماالت التطو ر الدميقراطي في الب ل دان العربي ة. ون ش ر عد د كبير م ن البحوث ع ن األخطار احمل د ق ة بإسرائيل نتيجة حتر ر الش عوب العربي ة ون شوء رأ ي عام عرب ي وعو د ة الب عد العرب ي لقضي ة فلسطني. ولكن ها عاد ت ل تعيش حالة است ق رار نتيجة ملظاهر الثورة امل ضاد ة التي انت ش ر ت والتي ت ظ ه ر وكأن ها رد ة على خ يارات الصناديق االنتخابي ة في حني أن ها في الواقع انقالب على امل سار الدميقراطي بر م ت ه مب ا في ذلك ق م ع حري ة التعبير والسيطر ة على الر أ ي العام وعو د ة املمارسات القمعي ة األ م ن ي ة. وت تج ل ى الث ق ة اإلسرائيلي ة بالن ف س حالي ا في تو س ع املمار سات االستيطاني ة داخ لي ا والعودة إلى الت عاون األ م ن ي مع بعض األنظمة والبناء على انقسام العال م العربي إلى م حوري ن س ن ي شيع ي خارجي ا وغي ر ذلك م ن

21 الظ واهر التي كاد ت الث ورات العربي ة ت ود ي بها وت ب د د ها. م ن ه نا ال ب د م ن العودة إلى التفكير في مستقبل امل شروع الوطن ي الفلسطيني على ض و ء املتغي رات التالية: 1. م أ ز ق امل فاو ضات 2. مأ ز ق الك فاح املسل ح 3. انشغال العال م العرب ي ملرحلة غير قصيرة بالثورة والث ورة امل ضاد ة حت ى ت ستق ر األ مور إلى دميقراطي ات عربي ة نامي ة كم ا ن أ مل. وق ب ل أ ن ن بدأ في التفكير في هذه األ مور علي ن ا أ ن ن ؤك د ما ي ل ي: أن خ يار مقاومة ممارسات االحت الل في ه د م بي ت أ و اقتالع شج رة أ و ب ناء مستوطن ة ل م ي تو ق ف خ الل مأ ز ق اخل يار ي ن ف ق د داف ع اإلنسان الفلسطيني في كل مناسب ة ع ن نفس ه وعائلت ه وأرض ه ض د الظ لم. ولك ن ل م جت ر م حاوالت جاد ة لت أطير طاقة املقاومة الهائلة هذه في إطار ن ضالي ومشروع وطن ي ي بدأ باألساسي ات هذ ه. ولذلك فم ا ع د ا الت ضخيم اإلعالمي لهذه احلالة أو تل ك من حاالت املقاو مة وذلك إم ا ت ست ر ا بقضي ة فلسطني في زم ن الث و رات غال ب ا ما ت ر ك اإلنسان امل قاو م أ و احل ي امل قاو م أ و القرية الص ام دة فريس ة الست ف راد الد ولة الصهيوني ة به أ و للذ هاب بح ث ا ع ن احل ق في احمل اكم الصهيوني ة مع أ ن ها م ن أ دوات االحتالل الر ئيسة. واملالحظة الثانية هي أ ن العال م في أي ام نا ي حتر م الشعوب العربي ة ألن ها ت ناضل ض د الظ لم ع موم ا وظ ل م األقر ب ني حتديدا وليس ض د ظ ل م إسرائيل فق ط. وال يتوق ع من ها أ ن تقب ل بظلم إسرائيل وهي ت ضح ي ض د ظلم أنظمت ها ذات ها. فالص راع على احلر ية والعدالة ال يتجز أ وأتباع األنظمة االستبدادية واألجهزة األمني ة ي ع ي رون م ن ي ناض ل م ن أجل احلرية والعدالة واملساواة بأن ه ال ي ناض ل م ن أجل حترير فلسطني وكأن ه م يف ع ل ون. إ ن أي م حاولة للتفكير في املشروع الوطني الفلسطيني مستقبال ت تطل ب العودة إلى هذه األساسي ات وهي التناقض القائم أص ال بني اإلنسان الفلسطيني على أ رض ه واملمارسات االستيطاني ة اإلسرائيلي ة حال ي ا. ون بد أ في الب ناء على ذلك م ن هنا ف ل ن ن ظ ر م ن حو ل نا ول ن م ع ن الن ظ ر بعيد ا ع ن الش عارات امل ج تر ة حت ى فق د ت مع ن اها: ث م ة عملي ة استيطاني ة واس عة جار ي ة في الق دس لتحويل مدينة القدس العربي ة إلى ما ي ش ب ه ما ج ر ى ل يافا التي ح و ل ت إلى ح ي / غيتو داخل تل أبيب. هذا بالس ط ر األخير ود ع ك م م ن الش عارات واخل طابات التي ت أخذ الناس إلى ك ل م كان إال املوضوع ذات ه. هذا هو املوضوع حت ويل القدس إلى مدينة يهودي ة ت شم ل غيتو عرب ي ا وجت ر ي عملي ة استيطان مكث ف ة ل ض م ما س م ي في عملي ة أوسلو بامل نطقة»ج«إلى إسرائيل في الواق ع وبالف ع ل وي ضر ب ح صار جائر على ق طاع غز ة ومي ن ع اخل الف الفلسطيني الفلسطيني والص راعات داخل مصر على طبيعة الن ظام م ن ات خاذ مو قف حقيقي وفعل ي لك س ر هذا احل صار وفي امل ن افي الجئون يج ر ي تشريد ه م اآلن مر ت ني وثالث م ر ات ويتعر ضون إلى ن كبات جديدة في سورية حت ى اضطر بعض هم إلى الل جوء إلى مخي مات لبنان التي ال ت كاد تت س ع مل ن فيها وحت ى وصل وا إلى إندونيسيا. ول ن أ حاول ل ل حظة أ ن أ كون شاعري ا به ذا الش أ ن فل ن أ حاول أ ن أ ستثير عواط ف ك م على اإلط الق. ولكن ي أ كتف ي

22 بالقو ل إن ه في مدينة الناصرة في فلسطني احملتل ة عام 1948 ف ت ح ت عائالت بيوت ع زاء لذ و يها الذين ق ت لوا في م جزرة الكيماو ي في ريف دمشق بعد أ ن جل أ وا إل يه م ن مخي م اليرموك. ي ح د ث كل هذا في الوقت الذي ي جر ي فيه إعالن إسرائيلي ع ن ن ق ل أمالك الالجئني عام 48 م ن»القي م على أمالك الغائبني«إلى أ ي د خاص ة يهودي ة شخصي ة واستثماري ة. ما ي عن ي في الواقع إنهاء مسألة الالجئني م ن طر ف واحد. نحن ن ش ه د ع ملي ا تصفية قضي ة الالجئني الفلسطيني ني وخامتة ذلك هي مطلب االعتراف العامل ي بإسرائيل كدولة يهودي ة. ل ن ي ص ع ب على الفلسطيني الذي يريد أ ن ي شخ ص مناطق الت ماس بني املشروع الصهيوني والشعب الفلسطيني لي بن ي علي ها وحدة وطني ة فلسطيني ة ت ب ل و ر خ طابا دميقراطي ا إنساني ا قادرا على مخاطبة الرأي العام العامل ي الذي أ همل ه خ يار الت فاو ض ح ني حص ر اجلهد في الع القات مع اإلدارة األميركي ة واإلدارات األوروبي ة بالد رجة الثانية وأ همل ه الك فاح املسل ح حني ب ن ى على اخلطاب الديني وحد ه للتحشيد والتعبئة م ن د ون الب عد الدميقراطي الذي كان كامنا في مفهوم حركة التحر ر. ول ن ي صع ب على الفلسطيني الذي يريد أن يشخ ص ن قاط الض عف اإلسرائيلية أ ن ي ر ى تأث ر ها البالغ بأ ي قرار بامل قاطعة وحتى بحمالت املقاطعة احملدودة ضدها وبأ ي محاولة للتعامل مع ها بوصف ها دولة استعمارية أ و دولة ف ص ل عنصري. فهي تريد أن ت ص و ر دولة دميقراطية )الوحيدة في امل نطقة( ضال عة في مفاوضات مع طرف فلسطيني على ن زاع ال ي عر ف فيه م ن الظال م وم ن امل ظ لوم. ول هذا فكل ما ظهر ت بواد ر حملة مقاطع ة دولية أ و إ دانة لالستيطان است نج د ت إسرائيل بالعملية التفاو ضي ة. ت هد د إسرائيل الس لطة بأ ن جل وء ها إل ى خ يارات ن ضالي ة حت ى م ن نو ع حمالت املقاطعة والضغط على إسرائيل سوف ي هد د امتيازات ها كس ل طة. ويبد و ل ي أ ن أي مشروع وطني فلسطيني سوف يق ف أمام هذ ي ن اخل يار ي ن وسوف يكون عل ي ه أ ن ي ختار وأن يدفع ثمن خياره إذا أراد اخلروج من املأزق احلالي ولو بالتصعيد التدريجي املدروس. امل نطل ق إل ى إعادة ص و غ املشروع الوطني الفلسطيني هو الواق ع على األرض س م وه ما ش ئت م»احتالل استيطانيحال ة أبرتهايد«ليس ت املسألة هي التسم يات ب ل هي ما ي ح ول بين نا وبني ط ر ح هذا الواقع الوطني الفلسطيني وواق ع الع د وان الصهيوني ب ك ل يت ه وليس كق ضايا من فصلة واملسألة هي أيض ا وجود ع نوان سياسي يتعام ل مع م جم ل الواقع الفلسطيني وي طر ح هذا الواقع بك ل يت ه بل غة م فهومة دولي ا. ويجب أن يكون تشكيل هذا العنوان املوحد هو الهدف من الوحدة الفلسطينية. فليس الهدف تشكيل حكومة موحدة وال عقد انتخابات. وهذه على كل حال أهداف تعيد إنتاج االنقسام. نحن ال نستطيع ن س خ جتر بة املؤمتر الوطني األفريقي بسبب وجود خ الف حول مفهوم الدولة في احلالتني وحول العم ل العربي - اليهودي املشتر ك خ الف ا للعمل املشتر ك بني الدميقراطي ني البيض والس ود م ن أجل دولة واحدة وبسبب املسألة اليهودية دولي ا وبسبب

23 امل فاوضات اجلارية على كيفي ة ف ص ل الشعب ني وليس على كيفي ة عيش ه ما سوي ة. وال نستطيع في الوقت ذات ه أ ن ن ن سخ جتر بة حركات التحر ر الوطني في الستيني ات فهذه مرحلة انقض ت بل غت ها وم حاور ها الدولي ة. ولك ن هذا ال مين ع أ ن نتعل م م ن جنوب أفريقيا وخطاب املؤمتر الوطني األفريقي عامل ي ا وم ن ن قاط ق و ة حركات التحر ر الوطني وقبل هذا كل ه أ ن نتعل م م ن تاريخ نا نحن لك ي ن ب ل و ر خ طابا ضاغط ا فعال على إسرائيل وقادرا ف ع ال على است قطاب أوس ع ت أ ييد مم كن في الرأي العام العربي وعلى الساحة العامل ي ة. املشكلة حالي ا هي الدفع باجت اه املشروع السياسي ال ذي ي رى معاناة اإلنسان الفلسطيني في سورية ولبنان وفي غز ة وفي القدس وبقي ة أرجاء املناطق الفلسطينية عام 1967 وي ر ى أيض ا إصرار إسرائيل على االعتراف بها كدولة يهودية وي ر ى تصفية أمالك الالجئني في األراضي التي احت ل ت عام 1948 كجبهة مواج هة واح دة. ل م أ خ ض في اقتراحات احل لول. فلقد طرح الفلسطينيون والعرب ما يكفي. ولم أخض في الن قاش ح و ل دولة واحدة أ و دولت ني مع أن ه ن قاش م فيد نظ ري ا وال ب د م ن خ و ض ه فأ نا أعتق د أن إسرائيل ت دم ر فعال أساس ح ل الدولت ني. فأ نا ال أ ؤ م ن بأن واجب الضحي ة حالي ا هو أ ن ت طر ح حلوال فاملوضوع اآلن هو التصدي ملا يجري على األرض. وط ر ح احللول مرة أخرى كأن ها بديل ع ن الن ضال السياسي والبرنامج السياسي الن ضال ي حال ي ا هو هروب إل ى األ مام. مرة أخرى النقاش حول»احللول«مهم ومفيد ولي فيه وجهة نظر. ولكن املهمة حاليا تكمن في إطار وطني شامل ملجمل طاقة املقاومة للشعب الفلسطيني وحركته السياسية. هذه أفكار وأسئلة ل ت جديد احل وار بشأ ن مستقبل املشروع الوطني الفلسطيني ان طالقا م ن تفاؤ ل اإل رادة حت ى حني تت شاء م امل عر ف ة. محاضرة ألقاها الكاتب في افتتاح املؤمتر السنوي الثاني ملراكز األبحاث العربي ة بعنوان:»قضي ة فلسطني ومستقبل املشروع الوطني الفلسطيني«7 9 كانون األو ل / ديسمبر 2013

وعي الثورة: فكر ياسني احلاج صالح منوذجا ملف من اعداد: عدي الزعبي وحسام الدين محمد

25 أسئلة الثورة أعمال ياسني احلاج صالح منوذجا عدي الزعبي أسئلة الثورة الفكرية مع دخول الثورة عامها الثالث نود ان نفتح ملف الفكر الذي رافق الثورة ودوره فيها. يحاول املفكرون واملثقفون السوريون فهم مجتمعهم وتغيراته كما يحاولون التفاعل مع ما يجري على األرض والتأثير عليه كما تأثروا هم به. هذه العالقة املتبادلة بني األحداث اليومية وبني محاولة فهمها وحتليلها والتأثير عليها هي املدخل الوحيد لكل محاولة جدية لبناء فكر للثورة وملا بعد الثورة. من هذه العالقة وما يرتبط بها من تساؤل محوري حول دور املثقف تنبع مجموعة أسئلة يبدو لنا أن اإلجابة عليها ستسهم بشكل مباشر في فهمنا ألنفسنا ولثورتنا وملستقبلها. تتوزع هذه األسئلة على عدة محاور. احملور األول هل قدمت الثورة فكرا يستطيع جتاوز الديكتاتورية ومنظومتها الفكرية هل هناك ثورة على مستوى الفكر تتناسب مع الثورة القائمة على األرض هل قدمت الثورة بديال دميقراطيا فكريا وهل الثورة تقطع مع ما قبلها هل القطيعة كاملة أم أن هناك نوعا من االستمرارية بني العمل الفكري والسياسي قبل الثورة وبعدها

26 احملور الثاني ما هو التفاعل املطلوب بني الفكر والثورة هل على الفكر تقدمي حلول للمشاكل التي تواجه الثورة وبأي معنى هل هناك نظرية للثورة مقياس ما للثورات نستطيع به أن نفهم ونحلل ونقي م األحداث اجلارية أم أن الثورة بحد ذاتها تقدم لنا ما يجعلنا نقيس به ناحها هل يحاول الفكر التأثير على احلراك الثوري هل يقوده هل يبقى منفعال به احملور الثالث حلظة الثورة مفصلية مبعنى أنها ال تترك أرضية مشتركة بني الثوار واالنظمة القائمة. ولكن من جهة أخرى كما نرى في سوريا بوضوح بني الثوار أنفسهم. هكذا تصبح كل اخليارات قابلة للنقاش مرة أخرى. رمبا كانت هذه أقصى درجات احلرية في تاريخ البلد. من إحياء اخلالفة إلى تقسيم البلد على أسس طائفية وعرقية إلى احللم ببناء دولة دميقراطية تعددية إلى دولة دينية سنية إلى دولة ليبرالية إلى حلول جتمع بني بعض مما سبق تعيش سوريا على وقع برامج مختلفة ومتناقضة أحيانأ وبرامج توفيقية في أحيان أخرى. ما الذي يقدمه الفكر في هذه املعمعة ما الذي قدمه وما الذي يستطيع تقدميه وماذا عن االنحيازات التي ينقسم إليها السوريني بني يساريني وليبراليني وإسالميني وعلمانيني وقوميني... إلخ. هل هذه انحيازات دائمة هل لها دور تفسيري هل يقوم املفكر في ظل الثورة بإعادة قراءة النحيازاته وخياراته أم أن هذه االنحيازات ستساعده على فهم الثورة وإخفاقاتها وإمكانياتها احملور الرابع يشكل انقالب مصر في 3 يوليو/ متوز 2013 ذروة الصراع املفتوح بني قوى اإلسالم السياسي واجليش املصري ويبدو أن القوى الليبرالية واليسارية والشبابية انحازت إلى اجليش في هذا الصراع. في سوريا كما في املنطقة بأكملها يبقى دور اإلسالم السياسي وطريقة التعاطي معه اإلشكالية األكبر. إلى اليوم لم تنجح ثورات الربيع العربي في تقدمي حل ملعضلة اإلسالم السياسي. بني ديكتاتورية اإلسالم السياسي نفسه ومحاوالت قمعه الديكتاتورية بدورها هل هناك مخرج يعود بعض هذه األسئلة بنا إلى التساؤل القدمي حول عالقة النظرية بالتطبيق فيما يبدو بعضها وكأنه ما زال بال إجابة منذ القرن التاسع عشر. البعض اآلخر مرتبط بأسئلة عاملية حول الدين والدميقراطية والقومية. كما أن احملاور مترابطة ومتداخلة بشكل كبير. ال توجد أجوبة سهلة لهذه األسئلة كما ال توجد أجوبة قاطعة. جملة هذه األسئلة هي ما سندعوه بأسئلة الثورة. لتقدمي قراءة في فكر الثورة سنأخذ أعمال الكاتب السوري ياسني احلاج صالح كمنصة للنقاش. في عمله يجسد ياسني إشكالية العالقة بني متابعة احلدث اليومي الثوري ومحاولة فهمه وحتليله والتأثير عليه وكيفية التأثر به. لذا رأينا أن نخصص ملف فكر الثورة ألعماله.

27 عمل ياسني احلاج صالح كأحد تعبيرات فكر الثورة لم يكتمل عمل احلاج صالح بعد فهو ما زال في بداية خمسينياته في منتصف جتربته الفكرية واحلياتية. لذا ال يسعى امللف إلى تقييم جتربته واحلكم عليها. الهدف من امللف مناقشة جوانب معينة من أعماله وطرحها للنقاش والنقد. احلضور الطاغي لألسئلة التي يطرحها احلاج صالح ومحاولته احلثيثة اإلجابة على أكثر األسئلة صعوبة من الطائفية إلى الهوية الوطنية إلى دور املثقف إلى مشكلة اإلثنيات واإلسالم السياسي ونقاده جتعل من عمله املادة األغنى للنقاش. تتكث ف في جتربته الشخصية والفكرية اليوم جملة األسئلة التي طرحناها أعاله. حاول احلاج صالح أن يبقى ملتصقا باحلراك الثوري وأن يتابع يومياته بدقة. هذه املتابعة جعلت عمله في سياق الثورة يسعى إلى هدف مستحيل: ما يبدو أنه توثيق للحراك الثوري بتعقيداته اليومية املتعددة واملتكاثرة بهدف فهم وحتليل ونقد الثورة من داخلها. هذا التشابك بني اليومي وامل عاش والعياني وبني محاولة الفهم النظرية مع طرح حلول وتصورات ملا ستؤول إليه األمور وكيفية الوصول إلى دولة دميقراطية جعلت من أعمال احلاج صالح أحد احملاور الرئيسية الفكرية خالل الثورة. أصبحت مقاالته ودراساته مادة رئيسية لكل املتابعني للشأن السوري سياسيا وإعالميا وملن يحاولون فهم األحداث والتأثير عليها. اليوم هو أحد أكثر الكتاب السوريني إثارة للجدل واألكثر قراءة بني املتابعني واملثقفني واجلمهور العام. من خالل وجوده اليومي على األرض طرح ياسني معظم األسئلة في احملاور الواردة أعاله. األسئلة إذن مستمدة من احلياة اليومية للسوريني على األرض ولكنها أيضا أسئلة عامة في ماهية اإلنسان وطبيعته ورغبته وقدرته على الوصول إلى حياة كرمية وسبل الوصول إليها في ظل ظروف استبداد محلي وقوى عاملية غير مكترثة لهذه اآلمال. التفاعل مع الثورة من داخلها وربط احمللي بالكوني كان ديدن أعمال احلاج صالح. معظم هذه األسئلة كان حاضرا في أعماله قبل الثورة. في»السير على قدم واحدة«ند قراءات إلشكالية الهوية الوطنية ولليبرالية واليسار في سوريا. في»أساطير اآلخرين«ند نقدا لإلسالم السياسي ونقدا لنقاده. مع بداية الثورة حتولت هذه األسئلة إلى أسئلة مصيرية مطروحة للنقاش العام على كل سوري في اللحظة التي حترر فيها السوريون نظريا على األقل بشكل كامل. معاجلة ياسني السابقة لم تكن مكتملة ولم تهدف باألصل إلى أن تكون مكتملة. كانت محاولته طرح األسئلة واإلجابة عليها بطرق غير تقليدية ترفض التسليم باألساطير املؤسسة واألجوبة النهائية واجلاهزة واالنحياز حلرية الناس أوال وأخيرا هي ما سيجعله الحقا الصحافي الباحث الذي يعيش الثورة على مستويني يومي عياني ونظري - بحثي. لم يسل م ياسني بنهائية الكيان السوري لم يسل م أيضا بأية أسطورة أخرى مؤسسة لهذا الكيان. كما أنه لم يسلم بأية أسطورة حول اإلسالم السياسي من أتباعه أم من نقاده. ينطبق األمر على ليبراليته ويساريته. هذا االنحياز للناس الفعليني

28 وإصراره على التواجد بينهم يرافقه حس نقدي يرفض األجوبة النهائية واجلاهزة سيجعل ياسني أحد الناطقني باسم فكر الثورة. رفض األساطير واألجوبة النهائية اجلاهزة ينبع من أنه ال توجد إيديولوجيا نظرية موج هة لعمله. أقصد باإليديولوجيا النظرية مجموعة تعاليم يقبلها الكاتب وتساعده على تفسير العالم من حوله وعلى طرح حلول للمشاكل التي تواجهه. ال ميلك ياسني مثل هذه النظرية. فقد تخلى مبكرا عن الشيوعية كمذهب مكتمل وبقي يساريا مدافعا عن األخالق التي شدته مبكرا إلى الشيوعية. هكذا يبدو أن عمله الفكري يعتمد على االنحياز إلى مجموعة قيم أخالقية وليس إلى نظرية مكتملة. أعتقد أن هذه القيم تبدو أقرب إلى قيم التنوير: الدفاع عن العقالنية واحلرية واملساواة. من انحيازه إلى هذه القيم ينبع عمل ياسني املتعدد االجتاهات. في كل محاوالته يضع ياسني هذه القيم نصب عينيه وليس اإليديولوجيا. من جهة أخرى هذا االنحياز يجعل األولوية دوما في صف الناس العيانيني وليس النظريات الكبرى. هذه اخلصال جعلت ياسني األقرب إلى الثورة في حلظتها املفصلية هذه. منذ ما قبل الثورة كان ياسني قد اكتسب هذه اخلصال مع اشتعال الثورة كان وجود ياسني اليومي على األرض واستعداده لطرح كافة األسئلة على تنوعها دون رسم حدود ملا ميكن أن تسفر عنه ضروريا للتعبير عن الثورة. عمل ياسني متشعب على كذا صعيد. باإلضافة إلى األسئلة الكبرى التي طرحناها أعاله عمل ياسني على قضايا وعوالم املساجني السياسيني في سوريا وجمع أعماله في»باخلالص يا شباب«. كما ساهم مع مجموعة من الشباب في تأسيس موقع»اجلمهورية«خالل الثورة وأجرى العديد من التحقيقات حول قادة اجليش احلر. بعد خروجه من السجن في منتصف التسعينات عمل في الترجمة لفترة قصيرة. هذا الغنى والتنوع في االجتاهات يعود إلى الرغبة في الفهم القائمة على االلتصاق بالعياني على تقدمي أقصى ما ميكن تقدميه في كافة االجتاهات وعلى إميان ثابت بالدور البن اء للفكر. اكتسب الرجل من األصدقاء واملريدين واخلصوم واألعداء خالل الثورة ما جعله شخصية عامة. ال يتسع املجال هنا للحكم على أعمال ياسني ونقاط قوته أو ضعفه وأهمية أعماله اليوم وغدا. ال تسعى هذه املقدمة إلى الدخول في تفاصيل إجابات ياسني على أي من األسئلة الكبرى حول الهوية الوطنية والطائفية والليبرالية واليسار واإلسالم السياسي وغير ذلك. الدراسات في هذا امللف ستتناول بعض هذه األسئلة بالتفصيل. حتاول هذه املقدمة اإلضاءة على الترابط بني عمل احلاج صالح وجملة األسئلة التي تطرحها الثورة. هذه اخلصال الواردة أعاله محاولة ربط اليومي- العياني بالنظري- البحثي ورفض األساطير املؤسسة في اإلجابة عن األسئلة الكبرى والتخلص من اإليديولوجيا النظرية مبعنى االنحياز إلى مجموعة قيم أخالقية وإلى الناس العيانيني وليس إلى النظريات هي ما سيجعل قراءة معظم أعماله جتربة فكرية مثيرة وما سيجعله الشخص املناسب للتعبير عن الثورة في معارجها

29 الطويلة واملتشعبة. ال حتتاج الثورات إلى أيقونات فكرية ولكن التعبير عن الثورة ال يحتاج بالضرورة إلى أيقونات فكرية. تعبر الثورة عن نفسها بطرق متنوعة يتجس د أحدها في أعمال ياسني احلاج صالح. ند هذه اخلصال عند العديد من املفكرين العرب والغربيني أفكر هنا ببرتراند راسل ونعوم تشومسكي و طه حسني على سبيل املثال, أي املفكرون الذين ال يبحثون عن أنظمة فلسفية فكرية مكتملة. ند هذه اخلصال في املقالني اللذين اخترناهما لتقدمي أعماله.

30 يعتبر ان شرعية مطلب اسقاط النظام مستمدة من واجب وطني واخالقي للتخلص من قاتل عام ياسني احلاج صالح: التحول الدميقراطي في سوريا صار متعذرا وهو ما ينبئ بسنوات من الزالزل والتفجيرات االجتماعية حوار: عدي الزعبي منذ انطالقتها طرح ياسني احلاج صالح أسئلة الثورة وحاول اإلجابة عليها. هذه هي فضيلة عمله األولى واألهم. من هنا وليس من موقع العارف أو احلكيم أصبحت أعماله أحد التعبيرات الرئيسة عن فكر الثورة. في هذه املقابلة املطولة سنعمل على الدخول في تفاصيل بعض إجاباته.

31 في احملور األول نركز على قضايا املثقف وعالقته بالثورة وكيفية تفاعله معها. احملور الثاني يتعلق باإلسالم السياسي وإشكاليات الطائفية والهوية الوطنية والتيارات العنفية اجلهادية في سوريا. احملور الثالث يناقش قضايا األخالق والقيم ومفهوم العقل وحضوره وإشكاليات العالقة مع الغرب. احملاور الثالثة متداخلة ومترابطة. قضايا املثقف جند في القسم الثاني من كتابك»السير على قدم واحدة«واملعنون»اقتصاد سياسي«قراءة منفتحة على الليبرالية التي متيز بينها وبني الليبرالية اجلديدة. ولكن في مقابلة منشورة في»باخلالص يا شباب«تقول إنك تخليت عن الشيوعية ولكنك ما زلت يساريا. كيف تستطيع التوفيق بني االثنني أي يسار تنتمي إليه اليوم وأية ليبرالية ترى أنك قريب منها دعني أقل منذ البداية إنه يتقدم لدي على اليسار واليمني وكل شيء آخر شاغل ثقافي فكري وأخالقي. أحب الثقافة أكثر من اليسار واليمني والوسط. الثقافة مصلحة عامة أساسية مثل االجتماع البشري نفسه بعد ذلك وعلى أرضيتهما ميكن أن تتمايز مدارس وتيارات يسار وميني. كمثقفني يلزم أن نعرف وننتج معرفة ومعاني وقيما ورموزا أن نسهم في تطور الثقافة قبل أية انحيازات اجتماعية وسياسية. هل ميتنع أن ننتج معرفة ونسهم في تطور الثقافة... إال إذا كنا يساريني أو ميينيني لست مقتنعا بذلك. وأظن الضعف الثقافي أحد مصادر عقم يسارنا ومييننا معا. ال جتد شيئا مهما حتت هذه اليافطات. تفضيلي الشخصي: كن مثقفا منتجا للقيم الثقافية أو ال ثم أ فض لك يساريا بعد ذلك. لدي شغف يساري لكني أفضل بالتأكيد ميينيا مبدعا ومنتجا للثقافة على يساري ركيك أو يقول األشياء نفسها طوال حياته. هشام جعيط أعز علي من أي يساريني توانسة وعبداهلل العروي على أي يساريني مغاربة. وال أفضل أن أكون مخطئا مع سارتر على أن أكون محقا مع رميون آرون على ما كان يقال في فرنسا في ستينات القرن العشرين. أريد أن أتعلم من آرون لكني يساري الهوى وأ فض ل مواقف سارتر )كرمزين طبعا ليمني ويسار مواقف سارتر في الشأن الفلسطيني كانت سيئة أكثر من الكفاية(. ميكن تعريف النزعة اليسارية بأنها االنحياز لألكثر حرمانا والكفاح مع الناس وبينهم من أجل حتكم أكبر لهم بشروط حياتهم والتخلص من االغتراب. على نحو ما عرفناها في

32 القرن العشرين الشيوعية شكل تاريخي لهذه النزعة شكل أنتج اغترابا واسعا حني جعل من احلزب /العقيدة/ الدولة صنما ي عبد ومنع عموم الناس من الكفاح لتغيير واقعهم. إذا متسكنا بهذا الشكل التاريخي املفوت فإننا نخسر املضمون التحرري للنزعة اليسارية أما إذا فضلنا هذا املضمون كان لزاما علينا أن نخلع الشكل الشيوعي. والتجربة حولنا تؤكد هذا االستدالل. انظر حال الشيوعيني السوريني واللبنانيني وما شابه ال شيء حترريا ال شيء يحمل روحا فتية ثائرة ال شيء غير تشكيالت ماضوية ومتحجرة ال حياة فيها. حالهم في أوروبا ال تبدو أفضل. من جهتي لم أعد شيوعيا منذ سنوات السجن في ثمانينات القرن العشرين وبتأثير متضافر من جاذبية الثقافة وتطلع إلى احلرية شخصي وعام. كنت قليل التقوى الشيوعية منذ البداية. وهذا رمبا لكوني لم أمر مبرحلة شيوعية تقليدية. في بدايتي كنت في إطار جتربة انشقاقية احلزب الشيوعي- املكتب السياسي جتربة حتمل تناقضات عديدة منها طاقة حتررية ونقدية كبيرة ال يكف عن تبديدها هيكل سياسي غير حترري لكنها وضعتني في إلفة مبكرة مع أمثال ياسني احلافظ وإلياس مرقص وعبد اهلل العروي وبرهان غليون أكثر مما مع لينني وكتب دار التقدم. كان من حسن حظي أني قرأت أعماال لهم قبل سجني عام 1980. بدا لي أن هناك فقرا ثقافيا شديدا في الشيوعية يتناسب مع التمركز حول الذات احلزبية/ العقدية والسلف املقدس. ولم أكن مستعدا للقول إن املشكلة في التطبيق وأن النظرية صحيحة. هذا شيء ال أقبله بخصوص الدين وهو يخاطب حاجات ميتافزيقية ومتعالية على التاريخ )خبرة املوت حتديدا( ومن باب أولى ال أراه مقبوال على نظرية تاريخية.»التطبيق«هو عالقة النظرية بالتاريخ وسوء العالقة بالتاريخ وقد متثل في شيوعية القرن العشرين ال ميكن أن يكون برهانا على اجلودة النظرية. األصح أن التطبيق يكشف تناقضات النظرية وحدود صالحيتها. هذه التناقضات واحلدود محرك للتطور الفكري وأظنها كانت محركا لتطوري الشخصي. وبفعل اختبار تلك التناقضات واحلدود لم أعد حتى أعتبر نفسي ماركسيا منذ أيام السجن أيضا وإن كنت وال أزال أعتمد كثيرا على أدوات التحليل املاركسي. لم أشعر يوما بارتياح للتحول من اعتبار الشيوعية التجسد الكامل لكل حقيقة وخير وجمال إلى اعتبارها كتلة مصمتة من الشر والباطل. فعل ذلك كثيرون من جيلنا وال أرى موقفهم سديدا. من املهم القول هنا إنه كان في متردنا السياسي والفكري على الشيوعية في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته الكثير من الشجاعة الفكرية واألخالقية خالفا ملا في نقدها واالعتراض عليها اليوم. لم يعد األمر مهما اليوم ولم يعد تعبيرا عن شجاعة. بل إن ما صار مهما هو احلفاظ على ما هو نقدي وحترري في الشيوعية أطروحات ماركسية كثيرة وجتارب حتررية كان أكثرها على هامش التيار الشيوعي الرئيسي.

33 أما مطلب احلرية فولد في وضع شخصي محدد السجن. هنا أخذ يبدو لي أني متهافت التفكير ومتواطئ ضد نفسي إن بقيت على الوالء لنظام عقدي سياسي توفر كل نسخه املطبقة أوضاعا سياسية وحقوقية ال تسجل فارقا مهما عن سورية األسدية. وعبر هذه اخلبرة الشخصية وما حتص ل لي من ثقافة صرت أكثر تقبال لليبرالية لكن ليس ليبراليا. أفهم الليبرالية أنها التيار الفكري املبني حول فكرة احلرية. تيار تشكل في مطالع احلداثة األووربية ويختزن خبرة مزدوجة: خبرة االعتراض على االستبداد واحلكم املطلق وخبرة االحتجاج على السلطة الدينية والتعصب الديني. وهما تتقاطعان مع خبراتنا املعاصرة في هذين النطاقني. في مجاالت األخالق والدين واحلقوق هناك الكثير مما نتعلمه من الليبرالية. وأرى هناك مزيجا من اجلهل والتعصب في رفضها على هذه املستويات. في ثقافتنا ومجتمعاتنا أجد غريبا جدا أن نعترض على األخالقية الليبرالية القائمة على احلرية أو على التسامح الديني وحرية االعتقاد الديني أو على مبادئ حقوق اإلنسان. وحدهما الطغيان السياسي والديني يستفيدان من ذلك. ويفوتنا غالبا أنه حتى احلرية االقتصادية الليبرالية كانت مبدأ حترريا في مواجهة اإلقطاع. لكن مع انتصار الرأسمالية أظهرت التجربة التاريخية أن اقتصاد السوق احلرة الليبرالية دون تعديل سياسي يقود إلى تركز الثروات والفقر وإلى انقالب احلرية إلى ضدها حتى على املستوى احلقوقي. ورأيي أن رهان ماركس أقرب إلى تعميم الليبرالية منه إلى رفضها. شيوعية ماركس هي طوبى ليبرالية يتساوى فيها اجلميع حرية ومقدرات ويتفاوتون في املواهب فقط. احلرية الليبرالية التقليدية نخبوية يستفيد منها على نحو خاص األثرياء وأصحاب القدرات اخلاصة. الليبرالية اجلديدة جتاه الليبرالية التقليدية مثل الشيوعية جتاه املاركسية دوغما فقيرة تقترح وصفات جاهزة لالقتصاد واملجتمع محابية منهجيا لنخب الثروة والسلطة. ومنها قواعد»إجماع واشنطن«كوصفة للتنمية: خفض اإلنفاق العام تشجيع الصادرات رفع احلواجز احلمائية وحرية التجارة خصخصة األمالك العامة تعومي العملة رفع الدعم عن حاجات أساسية... إلخ. كانت سورية تسير في هذا االجتاه في سنوات حكم بشار. هذا التطور غير املقترن بأدنى حد من االنفتاح السياسي ساعد على ظهور وتشكل حلف اجتماعي من أصحاب الثروات والدخول العالية تابعني للنظام وال كمون دميقراطيا لديهم من أي نوع لكنهم يعتبرون أنفسهم متحضرين. بعد الثورة ظهر وجه فاشي لهذا التحالف محف ز أساسا بالشبح اإلسالمي وترفده املخاوف والهوامات الطائفية. ختاما أكثر ما يثير نفوري في مجال الفكر هو التمذهب اعتناق مذهب ناجز واعتباره

34 منبعا لكل احلقائق املهمة. هذه طماشة لست مستعدا لوضعها على عيني. تتساوى في ذلك عندي املاركسية مع الليبرالية مع اإلسالمية مع أي نظام فكري جاهز. أفضل خرق احلدود وكسر األسيجة وحتمل تبعات ذلك: أن نحتار وأن نضيع أحيانا. الطماشات ليست أحسن من أي شيء. دخلت السجن عام 1980 النتمائك للحزب الشيوعي السوري- املكتب السياسي. بعد خروجك لم تشتغل بالسياسة وإمنا بالكتابة. باملقابل كان الهم السياسي دائم احلضور في أعمالك. في الفترة السابقة كتبت عن األجسام السياسية املعارضة ورأيك في عملها وأهدافها ومنطلقاتها وأ شيع أنك ساهمت في عمل بعضها كلجان التنسيق احمللية وأنك أدليت برأيك في تشكيل املجلس الوطني واالئتالف وهيئة التنسيق. ال أعلم مدى دقة هذه املعلومات. باملجمل يبدو أنك ما زلت قريبا من السياسة مبعنى مباشر. ما هو الدور الذي يلعبه املثقف في السياسة هل يستطيع املثقف النقدي العضوي أن يكون كذلك دون االنخراط في الشأن السياسي العام املباشر بداية ليس لي ضلع في تأسيس»جلان التنسيق احمللية«ولم أعمل في نطاقها في أي وقت. ساهمت في كتابة عدد قليل من وثائق اللجان وثيقة سياسية في حزيران )يونيو( 2011 نالت وقتها اهتماما معقوال وكتبت وثيقتني ظننتهما أساسيتني: إعالن حول اجلمهورية وإعالن الكرامة وحظيتا باهتمام عام محدود. ال شيء تقريبا غير ذلك. ولست على عالقة بحزب الشعب وال أشارك في شيء من أعماله. إنه مكون من رفاق سابقني لي أثق بهم كأشخاص أكثر من اجلميع في املعارضة التقليدية. لكن أشعر أن مجمل حساسية املعارضة التقليدية وعاملها كله قد تقادما ولم يعد لديها ما تقدمه. رحبت باملجلس الوطني وقت تشكله وكتبت مقالني عما قدرت أنها مهامه وجبهات عمله. لكن يبدو أن املجلس كان يتحرك في مدارات جتعله أقل حساسية لكالم أمثالي. وكنت متشككا في دواعي تأسيس االئتالف وكتبت عن ذلك شيئا ويبدو أن ائتالفيني منزعجون من ذلك. وال أجد نفسي على ود مع النهج األبوي لهيئة التنسيق ورمبا أكون ذكرتها على نحو عارض مرة أو مرتني. بصورة عامة ال أريد االنخراط في التشكيالت القائمة أو حتى االقتراب منها. لكن ال أرى موجبا ملعاداتها واالنشغال بها وتسميم األجواء بالهجوم عليها. وجدت نفسي في الغالب في وضع متناقض. قريب من السياسة لكن أ فض ل الثقافة. السياسة موضوع أساسي في عملي لكن أعمل بأدوات املثقف. لم أنخرط في أطر سياسية منظمة لكني في اجلو وال أريد االبتعاد كثيرا عن قضايا السياسة والعمل العام. هذا التناقض تشكل في السجن. ال أستطيع ك )مثقف س ج ن( إن جاز التعبير أن أبتعد عن السياسة. لكن تفضيلي هو الثقافة وهي تشدني في اجتاه مغاير. السياسة تشتغل مبنطق تأليف القلوب أي التعبئة واحلشد والتوحيد والثقافة مبنطق

35 انشراح الصدر: الشرح والبسط والتوسيع. وهذا تفضيلي لكن السياسة وفي بلد ضعيف التشكل مثل بلدنا أكثر من غيره هي أيضا مبدأ لإلحساس بالواقع ومحركاته. لذلك ال أريد االبتعاد عنها كثيرا. هناك أسباب عامة أيضا لهذا املوقف. نحن في بلد ضعيف التشكل وفي ثقافة ضعيفة التشكل بنيويا وضعيفة متايز الوظائف. االبتعاد عن السياسة بذريعة الثقافة ميكن أن يكون قناعا لألنانية أو اجلنب أو لسياسة أخرى مستكينة للوضع القائم. هناك مثقفون فعلوا ذلك لكن ثقافتهم كانت سياسة مموهة منحازة إلى النظام و»العالم األول الداخلي«وال جترؤ على مواجهة نفسها. شكلوا حزبيات ثقافية متعصبة وضيقة وصراعية تقوم على احملسوبية والتمييز»طوائف«)لي جتربة شخصية ال تسر اخلاطر مع بعض أعالم»الفكر«هؤالء(. واجلوهر السياسي لهذه الطوائف الفرعية ظهر كثيرا جدا في الثورة. إن كان ال بد من أحزاب أفضل األحزاب السياسية الصريحة. أفترض أيضا أن هناك مثقفني يكرهون السياسة وال يريدون االقتراب منها. هذا موقف مفهوم بل طيب إن لم يستبطن األوضاع السياسية القائمة ويعتبرها طبيعية. كره السياسة حق شخصي لكن ال يستطيع املثقف أن يكون بال موقف أخالقي. هناك باملقابل مثقفون اقتربوا من السياسة كثيرا أثناء الثورة بخاصة إلى حد العمل كسياسيني. ال أرى ما يوجب ذلك. للثقافة أدواتها اخلاصة )املقالة والدراسة والكتاب واملوسيقى واألغنية والفيلم...( وكرامتها اخلاصة فلماذا ال ننخرط في العمل العام بأدواتنا ونحاول مواكبة الثورة بعمل جدي في مجالنا أفضل تصورا للسياسة يحيل إلى األبعاد الثقافية واألخالقية للعمل العام ال إلى األحزاب والتجمعات والصراعات السياسية. وأتصور أني وأصدقاء آخرين قمنا بعمل»سياسي«فعال أثناء الثورة سياسي غير سياسي إذا جاز التعبير. وأظن أننا محتاجون اليوم لتفكير جديد في مفهوم السياسة ذاته وكذلك لتشكيل أطر عمل عام»سياسية غير سياسية«. لست مثقفا عضويا ال أرتاح للمفهوم وخلفياته النظرية وال ملا يبطنه من تصور ك ت لي وملحمي للمجتمع )طبقات كبيرة أحزاب هيمنة صراعات تاريخية...( وإطارا وطنيا مستقرا للصراعات االجتماعية. وال أعتقد أن دوري العام كمثقف ينضبط مبفهوم املثقف العضوي. وأخشى أن الشكل الوحيد للعضوية اليوم بعد انحسار املوجة الشيوعية هو ارتباط املثقفني بروابط عضوية وراثية وليس بطبقات بهويات ال مبشاريع حتررية. التصور الكتلي للمجتمع يسهل أمر التحول يسهله أيضا حتلل اإلطار الوطني في بلدنا. أفضل من جهتي مفهوما للمثقف يجمع بني االنحياز والالمتاهي والنقدية. االنحياز لألضعف في الصراع االجتماعي والسياسي ل»الشعب«الذي يعني في هذا املقام الشرائح األكثر هامشية وحرمانا. والال متاهي للحفاظ على مسافة تتيح الرؤية وكترياق ضد الهويات

36 والنقدية كفاعلية مراجعة لكل ما هو قائم منفتحة مبدئيا على نقضه. استقر خياري العملي على االنخراط في الصراع االجتماعي والسياسي والفكري في مجتمعنا واخليار املنهجي على وضع النفس في مستوى ما يجري ويصير ويتحول ليس فوقه وال خارجه وال بعيدا عنه. هذا ليس خيارا فكريا مجردا بل هو خيار حياتي منط حياة فعال. ويبدو لي أنه في آن موقف معرفي متواضع ال يتعالى على عالم املمارسات االجتماعية استنادا إلى مذاهب أو توجهات سابقة على هذا العالم أو من خارجه هي ما يصدر عنه أكثر املثقفني في بلدنا والعالم العربي وهو أيضا موقف خصب يتيح اطراد القول وافتتاح نطاقات جديدة للكالم والتفكير وهو بعد موقف مفتوح انفتاح عالم املمارسات االجتماعية الالمتناهي وجتدده. ليس هناك فكر ينطلق من مذهب إال ويكون مغلقا حتى لو كان اسم هذا املذهب هو االنفتاح أو العلم. لكن هذا اخليار يعني العيش في التناقض وقبول التناقض. ومنه خاصة أال نستطيع احلكم على أوضاع عالم املمارسات أو جوانب منه بينما نحن منخرطون فيه. يقتضي األمر دوما سجال آخر نستمده من عمل الثقافة من التجريد الفكري واحلكم األخالقي. هذا السجل اآلخر يتكون بارتباط مع عالم املمارسات االجتماعية لكنه مستقل عنه أيضا. يحرك الثقافة نازع إلى التنظيم والتجريد واحلكم واالنفصال املتواتر عن نهر املمارسات العكر واملتدفق. الثقافة حتتاج إلى حجرة خاصة أو إلى كهف. ونحن ال نكف عن التحرك بني نهر هيروقليطس الدفاق وكهف أفالطون الظليل بني التدفق والتنظيم. هذا ليس سهال. لكنه التوتر املؤسس للثقافة. وبالطبع هذا اخليار يقتضي البقاء في البلد والعيش بني الناس. ليس هذا شرطا خارجيا للثقافة بل هو شرطها الذاتي. هذا هو السبب األساسي لبقائي في سورية. لم أبق لغرض سياسي بل بالضبط من أجل الثقافة. الثقافة هنا وليست في الغرب. من الغرب نتعلم تقنيات ونستعير أدوات تقنيات بحث وأدوت تفكير لكن ال نحصل على الثقافة. كفاعلية حتررية الثقافة تتكون هنا وحصرا هنا في نهرنا. رمبا يتوفر لنا كهف في الغرب لكن النهر هنا. ومن هذا الباب أجد نفسي في أزمة اليوم وأنا مضطر للخروج من البلد. هل يوجد ما يربط أعمالك املختلفة بحلقة متصلة فكرة رئيسية قد تساعد على فهم هذا التنوع: بني جتربة السجن كما نراها في»باخلالص يا شباب«ونقد اإلسالم السياسي ونقد نقاده في»أساطير اآلخرين«إلى التقارير الصحفية عن قادة اجليش احلر املنشورة في مجموعة»اجلمهورية«وصوال إلى عشرات املقاالت والدراسات املنشورة في»السفير«و»احلياة«و»األوان«و»احلوار املتمدن«... ومجمل األعمال املنشورة في كتب ومجالت متعددة. هل هناك محرك أساسي خلف هذا العمل الثقافي املتعدد االجتاهات أم أن تناول هذه املواضيع ال يحتاج إلى فكرة محر كة واحدة

37 نعم أفضل االعتقاد أن هناك موضوعا واحدا أو روحا واحدة احلرية. احلرية بأبعادها املختلفة التحرر السياسي حترر الفكر احلرية الدينية التحرر االجتماعي. كتاب السجن والكتابان عن سورية»سورية من الظل«و»السير على قدم واحدة«ثم»أساطير اآلخرين«حتمل هذا التطلب بجالء. وآمل أن احلرية ليست موضوعا خارجيا لهذا العمل بل هي روحه احملركة. أكثر شيء ال أطيقه أكثر حتى من السجن والتقييد السياسي هو القيود الفكرية أسر التفكير في إطار مذهب أو عقيدة يفترض أنها تقول كل شي مهم أو أساسي. هذا ضرب من التمسك بأب كبير معصوم لكن من شأنه أن يبقينا صغارا على الدوام. ومعادالته السياسية هي الطغيان السياسي أو الديني والضمور الثقافي. لدي ميل قوي أيضا إلى تنويع مواضيع الكتابة وتوسيع دائرة ما ميكن الكتابة عنه. أن نتناول أشياء لم يسبق تناولها وأن تكون املقاربة مبتكرة. املقاربات هي التي تصنع املواضيع وليس العكس. وأجد متعة خاصة في تناول أشياء وقضايا غير مطروقة أو من زوايا غير مطروقة. أنا كاتب هاو الكتابة هي اللعبة التي أهواها. وأظن دافع التنويع والتوسيع هذا متصل أيضا بنازع احلرية. الواحد منا ال يكون حرا دون خروج على املألوف وانفالت من الدروب السالكة. وال يكون حرا أكثر مما حني يلعب. لكن هذا يتعارض مع اضطراري منذ صرت كاتبا إلى الكتابة بانتظام في صحف ومجالت. الكتابة الدورية ليست لعبا. إنها»أكل عيش«على ما يقول املصريون. حاولت أن أجمع بني األمرين االلتزام بنظام دوري للكتابة واللعب بحرية واستمتاع. ليس األمر سهال. وبعد نحو عامني من الثورة صار صعبا فعال. توقفت عن الكتابة الدورية منذ أواخر آذار 2013 وآمل أال أضطر إلى العودة إليها. االسالم السياسي واشكاليات الطائفية يشكل سؤال الهوية الوطنية في سوريا أحد املواضيع الرئيسية التي تتكرر في أعمالك. قبل الثورة كتبت»إن ابتكار الشعب السوري هو التحدي األكبر املطروح على السوريني«. هل تستطيع الثورة ابتكار الشعب السوري أم أن سؤال الهوية سيبقى معلقا لفترة قد تستمر لعدة عقود بداية ماذا لدينا اليوم لدينا»سورية األسد«وهي تقتل من يثور عليها وتستخدم في ذلك أسلحة الدمار الشامل. ولدينا ميل قوي للتجزؤ احمللي ولتشكل إقطاعات دينية عسكرية تقوم على الطغيان بدورها مثل»سورية األسد«. وهما معا مضادتان لسورية العامة دولة جميع السوريني.

38 ولدينا عملية تاريخية مفتوحة ال نزال في فصلها األول الثورة الذي سوف تعقبه فصول أخرى دومنا شك. وقد تنتهي بدمار كلي للبلد. أعتقد أن سورية العامة مكسب جلميع السوريني وليس لبعضهم وهي أقدر على توفير فرص للترقي املادي واألخالقي واالجتماعي من سورية إسالمية أو من إقطاعيات صغيرة إسالمية أو كردية أو طبعا من إقطاعية أسدية. ومن هذه الزاوية أرى أن ابتكار شعب سورية هو العملية الصراعية التي سنخوضها بالتوازي مع الصراع الكبير من أجل حترير سورية وتوحيدها من اإلقطاعيات املتعددة األسدية واإلسالمية والكردية. بعبارة أخرى لدينا صراع مزدوج صراع إلعادة تشكيل سورية وصراع إلعادة تشكيل السوريني. وهما معا يتجاوزان الفصل احلالي من الثورة الذي قد ننظر إليه يوما ما كمدخل لعملية إعادة تشكل تاريخي واسعة للبلد. وأكثر ما ميكن أن يساهم في تشكل الشعب السوري في تصوري هو التحول من تفكير وممارسات متمركزة حول الهوية نحو تفكير وممارسات متمركز حول العمل والقيم والتطلعات االجتماعية. الناس يتساوون في هذا وال يتساوون في الهويات. والثورة تفجرت بداية ضد أوضاع امتياز ت نش ط الهويات وصراعاتها ومن أجل العدالة واحلرية للجميع. العمل من أجل إعادة بناء االقتصاد والتعليم واإلدارة واخلدمات العامة وكفاح سوريني مختلفي األصل من أجل شروط حياة غير مختلفة وأشكال التنظيم الذاتي التي قد يبتكرونها أو يطورونها من أجل ذلك هي العمليات التي أتصور أن يتشكل عبرها الشعب السوري وسورية اجلديدة. كلما كانت األوضاع أكثر صعوبة على مستوى شروط العيش وإدارة احلياة كان مرجحا للعالقات بني سوريني مختلفي األصول أن تكون أسوأ. بالعكس العمل من أجل تطلعات عامة )دخل أعلى تعليم أفضل خدمات أفضل...( ي قر ب الناس من بعضهم. الشعب يتكون في هذا الكفاح للتحكم بشروط احلياة. عموما في سياق الثورة أرى أن مسألة الهوية الوطنية ال حتل تأمليا وفكريا إنها تنحل في العمل على تغيير الواقع التخلص من النظام واستعادة السوريني حياتهم من أيدي الطغيان واإلقطاعيني القدامى واجلدد. الثورة هي التجربة املكونة لسورية اجلديدة وللهوية السورية اجلديدة. تعثر الثورة وفشل العملية التغييرية يفتح بابا لتحلل سورية مجتمعا وكيانا وهوية. نرى بعض مالمح ذلك اآلن. والتحلل يأخذ شكل حروب هويات: عرب وكرد سنيون وعلويون وإقطاعيات ضد إقطاعيات. وهذه صراعات منحطة ال تثمر حتررا وال قدرات عامة. وعلى مستوى عناصر بناء الهوية من األشياء التي تبدو لي منذ اآلن مقلقة وتستحق التوقف عندها ما يبدو من إضعاف أو حتى من جترمي العنصر العربي في تكوين سورية إن ملصلحة العنصر اإلسالمي أو ملصلحة تصور ضد عربي لسورية. هذا قصير النظر في رأيي وغير سديد. التحول من عروبة مطلقة إلى سورية مطلقة ال عروبة فيها مسلك متطرف ال

39 ميثل قطيعة مع البعثية بل هو بعثية مقلوبة. بدون عروبة سورية أخف وزنا وأقل متاسكا. هذا رغم أنه ال ريب في وجوب القطيعة مع العروبة املطلقة البعثية ملصلحة تصور دستوري للعروبة يجعل منها جزءا من سورية يربطها بعالم يحيط بها بدال من أن يفصلها عن العالم. يرى البعض بعد ثالث سنوات من الثورة أن املجتمع السوري حتول إلى كانتونات طائفية وعرقية مغلقة. يبدو أن في هذه املقولة شيئا من الصحة. تبدو األقليات ككتل صلبة أقرب إلى النظام فيما تبدو األكثرية السنية أقرب إلى الثورة. قد يبدو هذا كالما طائفيا ولكن هل من تفسير لهذه الظاهرة ال يقع في فخ الطائفية نفسها أي ال يعتبر الطوائف كتال صلبة مغلقة لها جوهر واحد ثابت أم ان املقولة بحد ذاتها غير صحيحة هل هناك مخرج من الطائفية األساس في الطائفية هو االمتيازات االجتماعية وليس التمايزات الثقافية أي املواقع التفضيلية الراهنة حيال السلطة العمومية واملوارد الوطنية وأجهزة الذكر العام وليس الفوارق الدينية املذهبية املوروثة. املسألة مسألة»نظام«إذا عنينا بالنظام الترتيب السياسي الذي يحرس أوضاعا قائمة على االمتياز وليست مسألة أديان ومذاهب. لكن فوارق األديان واملذاهب ميكن أن تكون أطر تنظيم ومتاه وتعبئة سهلة االستنفار حلفظ األوضاع االمتيازية وإعادة إنتاجها. ال أرى أية مشكلة في ما مييز مجتمعنا السوري ومجتمعاتنا املشرقية من تعدد ديني ومذهبي فمجتمعات األرض كلها مثلنا على تفاوت في الدرجة فحسب. املشكلة في الترتيبات السياسية التي قد تعمل على حتييد هذه الفوارق في النطاق العام أو بالعكس على حتويلها إلى ما يشبه أحزابا أو لوبي ات سياسية خفية. املشكلة أيضا في مقارباتنا الفكرية للمشكلة ومدى توضيحها ومتلكها معرفيا أو بالعكس تعميتنا لها وإسدال حجاب من الصمت عليها. في سورية اقترن التوظيف السياسي للتمايزات املوروثة وربطها بأوضاع امتيازية من قبل الفاعلني السياسيني الذي يتحكمون دومنا منافس بالدولة مع التكتم عليها من قبل فاعلني عامني ثقافيني بذريعة الوطنية. املثقفون املعنيون تواطأوا مع مفهوم أعمى للوطنية ووفروا األقنعة لطغمة طاغية كان مناسبا جدا لها أن متارس الطائفية من وراء حجاب. هذا كان ممارسا في سورية فعال وال يزال. لدينا عالقة معرفة/ سلطة مناسبة للطائفية ال ملقاومتها. األوضاع التي يقاربها السؤال بحذر هي نتاج بنية دامت عقودا ومتخضت عن نشوء»الطوائف«. الطوائف هي نتاج السياسة الطائفية أو ثمرة سياسات التمييز واالمتياز وليس مبتدؤها. مي ز كسلطة عمومية بني الناس تالعب بالفوارق بينهم قرب بعضا أبعد بعضا فتحصل على طوائف بدءا من جماعات ثقافية أقل تشكال.

40 ليس صحيحا أنه في البدء كانت الطوائف. ما لدينا في البدء هو فوارق ثقافية خاملة أو شبه خاملة»طوائف في ذاتها«ضعيفة الشحنة السياسية عموما. بالسياسة والدولة جرى حتويلها إلى طوائف لذاتها إلى تكوينات اجتماعية مشحونة بقوة أو ذات كهربائية سياسية قوية لها حقل جذب ونبذ فعال واالقتراب من الشاحن السياسي لها خطر وقد يكون مميتا. هناك متهم أساسي في هذه القصة النظام األسدي الذي توسل الطائفية كأداة حكم وارتكز إليها في عملية إعادة إنتاجه الذاتية وعمل على تغذية الطائفية في املجتمع ككل. من جهة هذا ي طب عه ويجعله يبدو انعكاسا ملجتمع طائفي التكوين. ومن جهة ثانية هذا يسهل انقالب أي صراع سياسي مضاد للنظام إلى»فتنة«أي صراع داخل املجتمع فينصب سورا إضافيا حلماية النظام في قلب معسكر العدو: املجتمع احملكوم. لكن لنقترب قليال من فيزيولوجيا الطائفية إن جاز التعبير أي إلى آليات عملها وأداء وظائفها االجتماعية والسياسية. حني نقارب الطوائف في عالقتها مبركز السلطة العمومية وهي ال توجد خارج هذه العالقة نراها مكونة من شبكات محسوبية متفاوتة الكثافة عالقات خدمة وتبعية وقضاء حاجات تربط بني محاسيب محتاجني وح سباء أو نافذين يتوسطون بينهم وبني املركز املقرر. واملقصود باحملسوبية ما نتكلم عليه عادة من»واسطة«أو»فيتامني واو«أو»ضهر«أو»غطاء«. احلسيب عبر روابطه اخلاصة ونفوذه وموقعه العام بخاصة ييسر مصالح محاسيب محتاجني فيحصل منهم على العرفان والوالء باملقابل. ونقول عن شخص إنه»مدعوم«حني يكون له»ظهر«قوي أو محسوبا على شخص نافذ. وأقوى»الظهور«في سورية عائلي عائلة حافظ األسد والعائلة األسدية عموما ثم أمني ضباط املخابرات. وتندرج ضمن عالقة احملسوبية أيضا أشكال محاباة األقارب سواء القرابة الدموية أو اجلهوية أو الطائفية لكن أيضا التوسط مقابل املال )احلسيب يثري يزداد»حسبا«وينمو»حسابه«( وكذلك التوسط للرفاق واإلخوان احلزبيني )أحزاب»اجلبهة الوطنية التقدمية«شبكات محسوبية منظمة ومعترف بها(. وهو ما يفيد منذ اآلن للقول إن الطوائف أقرب إلى منظمات سياسية متر إعادة إنتاجها بإعادة إنتاج األوضاع السياسية القائمة على االمتياز وتعيش وتتماسك طاملا هذه األوضاع مستمرة. يفيد أيضا القول أيضا إن الطائفية عالقة سياسية محروسة بالقوة وليست جوهرا ثقافيا أو تعبيرا عن جوهر ثقافي. والشبكات داخلية عموما محصورة ضمن كل واحدة من اجلماعات الدينية واملذهبية )رمبا إال على مستوى البرجوازية العليا( وعالقة احلسيب باحملسوب قلما تكون عابرة للجماعات. نتكلم على طائفية لهذا السبب بالذات. ألن جماعات خاصة عارضة تشكلت حول شبكات للواسطة وقضاء حاجات مشروعة )وطلبات غير مشروعة( للناس ويغدو االرتباط بالشبكات مصلحة جلميع أفرادها ألنها تلبي مصاحلهم وتيسر أمورهم وحتميهم

41 من جرائر أعمالهم أحيانا. هذا الدور العام جلماعات خاصة هو ما يحولها إلى طوائف. الطائفية هي العملية االجتماعية السياسية التي تؤدي بجماعات خاصة عارضة إلى التحول إلى متحدات عامة ترتبط إعادة إنتاجها بإعادة إنتاج النظام السياسي الذي يستجيب على نحو تفضيلي لهذا الضرب من تلبية احلاجات وال يوفر لعموم السكان أقنية عامة شرعية تضمن قضاء حاجاتهم على قدم املساواة. وكلما كان عدد النافذين في جماعة أكبر )رجال سلطة ضباط كبار رجال دين رجال مال وجهاء محليون شيوخ عشائر...( كانت عالقات التبعية ضمنها أقوى وارتباط احملاسيب باحلسباء النافذين أشد وعالقتها مع مركز السلطة أمنت. ماذا يفعل احلسباء يسهلون أمور محاسيبهم من تسيير معاملة عند الدولة إلى تأمني وظيفة إلى صفقات كبرى مرورا بتأمني زيارة سجني سياسي أو تأمني جواز سفر أو رفع منع سفر. وباآللية نفسها يتحولون هم إلى مقصد للمحتاجني وجهاء وأعيان. وبفعل هذه الشبكات الفاعلة تندار اجلماعات إلى داخلها وتلتئم حول عالقة احملسوب باحلسيب وتتجه أنظارها وتوقعاتها عبر هؤالء احلسباء أو الوسطاء نحو مركز السلطة التي هي املفتاح العام: هنا تفتح كل األبواب )أو تغلق بإحكام( تقضى احلاجات )أو لن تقضى أبدا( وتنحل كل عقدة )أو متتنع على كل حال(. واجلماعات املشدودة األنظار إلى املركز لن تنظر حولها إال بعني املنافسة وال تتفاعل مع من هم حولها. عبر هذه العمليات تتشكل اجلماعات كطوائف. وفي تقديري أن الشبكة العلوية )رجال سلطة ضباط مخابرات وجيش رجال مال( هي األقوى تليها الشبكة املسيحية )مطارنة ورجال مال أساسا(. وال نستطيع التكلم على شبكة سنية عامة لكن هناك شبكات جهوية أقواها الشامية )رجال مال ومشايخ(. شبكات احملسوبية ليست متساوية قوة وفاعلية ونفوذا. وتقيس كثافة شبكات احملسوبية وفاعليتها قوة النسيج الطائفي كلما كانت الشبكة أكثف وعدد النافذين أكبر كان النسيج الطائفي أمنت وأقوى التحاما. ثم إن قوة التحام الشبكات تقيس شدة الوالء للنظام. شبكة محاسيب أقوى يعني نفوذا أكبر في النظام ووالء أشد للنظام أي للموقع االحتكاري الذي يتحكم بالسلطة العامة واملوارد الوطنية واحلركية االجتماعية. والء يبلغ درجة التماهي. وضعف والء يبلغ حد االغتراب حني ال يوجد من يساعدك في تسيير مصاحلك املشروعة وال قانون أو سياسة عامة حتميك. وهذه خبرة شائعة جدا في»سورية األسد«وأكثر من يعاني منها سكان أرياف وأحياء طرفية وهم في غالبيتهم سنيون.»الظلم«هو هذا: انغالق األبواب العامة في وجهك وفقدانك»الظهر«)الدعم( و»الغطاء«)احلماية(. ولن جتد بني احلسباء طبعا مثقفني أو قادة رأي أو قادة سياسيني مستقلني. هؤالء ينتمون إلى عالم فيه قانون وحقوق عامة ومؤسسات عامة فاعلة. وال يكاد يسير شيء بالقانون في

42»سورية األسد«وليس هناك حقوق عامة للناس بصفتهم»مواطنني«. ما هو احملرك في هذه العملية كلها الفئة احلاكمة املستولية التي ال ينضبط حكمها بقواعد عامة مطردة. وهي قوة تطييف إيجابية وواعية جدا توفر بكامل الوعي فرصا حملاسيب ال توفرها لغيرهم. لديك فرصة أكبر في أن تقبل في الكلية احلربية )أو في اإليفاد اخلارجي أو السلك الدبلوماسي والوظيفة العامة عموما( إن كنت من الفئة س. هذا يحول صفتك السينية العارضة إلى منبع امتياز يحولك إلى شخص مشحون بشحنة مرغوبة من وجهة نظر حتقيق املصالح وشحنة سلبية من وجهة نظر األقل امتيازا. كيف ال تعم الطائفية املجتمع وهذا في األصل هو منبع ظهور النافذين واحملاسيب. إن السلطة العمومية التي يفترض أن يتساوى الناس في نظرها كمواطنني هي منبع التمييز والالمساواة. هي»ظهر«خاص و»فيتامني«خاص و»غطاء«خاص و»دعم«خاص لقطاعات من السكان أكثر من غيرهم وذلك على أساس اعتباطي من وجهة نظر الدولة الوطنية القرابة. هذا سيجعل منابتنا اخلاصة العارضة واالعتباطية مقترنة بامتيازات أو بحرمانات عامة. قد يفضل مثقفون أال يروا ذلك اختصاصهم بالعمى العام يوجب عليهم عدم الرؤية. لكن كيف ملن حرموا نعمة العمى أال يروها كيف لعامة الناس أن يتعاموا عما يرونه ويلمسونه كل يوم وكيف للوعي الذاتي الطائفي أال ينمو اخلالصة أيضا أن األصل في الطائفية هو أن مركز السلطة العمومية هو امل مي ز العام مضخة التمييز العام. وأن الطائفية مصنوعة من مكاسب وامتيازات وليس من متايزات موروثة. أعتقد أن في هذه املقاربة ما يسهم في عقلنة ظاهرة الطائفية وإخراجها من دهاليز العقائد والهويات واملاضي إلى ضوء املصالح واالمتيازات واحلاضر. ولعلها أيضا جسر حتليلي متني يربط بني الطائفي والطبقي أو يظهر أساس الطائفية في امتيازات ومصالح متفاضلة وغير عادلة وليس في هويات ال تتفاضل. وميزتها األساسية إظهار أن الطوائف ال تعيش إال بالنظام العام أنها ليست كيانات اجتماعية أو ثقافية خاصة بل هي منظمات سياسية عامة مثل»املنظمات الشعبية«ومثل»اجلبهة الوطنية التقدمية«. وهي بعد جتيب على سؤالك: ملاذا تبدو األكثرية السنية أقرب إلى الثورة أو عتبة متاهيها بها أخفض من غيرها هذا ألن عدد احلسباء في وسطها أقل أي ألن قطاعات واسعة منها»مظلومة«مفتقرة إلى»الواسطة«و»الظهر«و»الغطاء«ووالدعم«. تبقى األموال التي تدفع الرشوة واالضطرار لدفعها مثار غضب جمهور مفقر يرى موارده تشح ويستنزف جيبه في كل وقت حني ينجب ولدا وحني يبني بيتا وحني يزو ج ابنا. وبالطبع هناك سنيون نافذون في مراكز املدن األكبر بخاصة وجتدهم لذلك منسجمني مع موقعهم ومتحفظني على الثورة أو معادين لها صراحة. املسألة دوما مسألة امتيازات

43 وليست عقائد وأصول. يجد نفسه أقرب إلى النظام املستفيدون من شبكات محسوبية فاعلة تيسر مصاحلهم وتضعهم في موقع ممتاز في النظام العام. لديك الكثير مما تخسره إذا تغير النظام طبعا لن تريده أن يتغير. وميزة هذه املقاربة أيضا أنها تسهل لنا تصور مخرج من الطائفية: رفض التمييز على مستوى السلطة العمومية ونظام العدالة االجتماعية والقانونية واحلريات العامة. الطائفية )والعشائرية واجلهوية...( منت واتسع نطاق تأثيرها مع استتباع السلطة القضائية والتمركز حول السلطة وتفاقم االستبداد وافتقار األفراد إلى حمايات اجتماعية. الطوائف والعشائر عبر عالقات احملسوبية تشكل أطرا وسيطة بني سلطة مستبدة تعسفية وأفراد وجماعات محلية منكشفة وبال حماية. على أن هذه املقاربة الداخلية و»الفيزيولوجية«للطائفية حتتاج إلى إكمال خارجي من مجال استراتيجيات السيطرة السياسية. ما الذي يجعل بعض شبكات احملسوبية أكثف من غيرها أضمن للتماهي بالنظام من غيرها أعتقد أنه قرار سياسي بل تأسيسي اتخذه حافظ األسد منذ وقت مبكر من استيالئه على احلكم بل منذ وقت أبكر ويتمثل في منح أبدية حكمه موقع األولوية العامة العليا. هذا اقتضاه توكيل موثوقيه وذوي قرباه بالركائز األمنية لنظامه أو باألحرى الوظائف األمنية التي تضمن إعادة إنتاج النظام وهي أوسع بكثير من األجهزة األمنية ومتتد عبر مؤسسات الدولة كلها من اإلدارات إلى املدارس واجلامعات إلى املشافي وتخترق حزب البعث على جميع مستوياته. هذا باب أول للتمييز واالمتياز فتح بالتدريج أبوابا أخرى. شبكات احملسوبية تشكلت في سياق مينح الروابط الشخصية وعالقات القرابة والثقة واملعشر األولوية على الرابط الوطني العام والعالقات املجردة العمياء عن أصول األشخاص وفصولهم. وخالفا ملا يرشد إليه التفكير الطائفي فإن األصل في مشكلة الطائفية ليس من يحكم بل كيف يحكم بالقانون أم باحملسوبية بقواعد عامة للعدالة أم بالقرابة االعتباطية الطائفية ممكنة أيا يكن من يحكمون وممن ينحدرون. ليس ألن األسرة األسدية علوية لدينا طائفية في سورية بل ألن حكم هذه األسرة قائم جوهريا على احملسوبية وهو ما بلغ ذروته في توريث حافظ البنه حكم البلد. الطائفية ممكنة جدا إن كان في احلكم نخبة أو أسرة سنية املنبت وحتكم باحملسوبية. ترافق نقدك لإلسالم السياسي مع نقد لنقاد اإلسالم السياسي. كما دعوت إلى قيام مؤسسة موحدة تضبط تناثر السلطات الدينية كمقدمة لإلصالح الديني. اتسمت هذه الدعوة باجلدة ومبخالفة ما هو متواتر عن اإلصالح الديني. بعد ثورات الربيع العربي أين ترى اإلسالم السياسي ونقاده وهل ما زلت ترى في توحيد السلطة الدينية مقدمة لإلصالح الديني

44 عندي مشكلة مع مختلف تيارات الفكر اإلسالمي. فهي متمركزة حول ذاتها ومكتفية مبا لديها وما لديها قليل فكريا وأخالقيا. ترى من هو املفكر اإلسالمي غير املنفتح على تيارات فكر أخرى الذي يعطيك شعورا باحلرية أو يغنيك روحيا أو يفتح لك أبوابا جدية للمعرفة أو يزودك بأدوات جدية للتفكير قليلون جدا. وفوق ذلك جتد غرورا وجهال مبا حتقق في الغرب والعالم من إنازات فكرية وسياسية وأخالقية وجمالية كبيرة وإقرار بالتقدم التقني وحده كأن هذا جاء من فراغ كأنه منعزل عن إنسانية متحررة ومبدعة وعن آفاق تفكير وتخيل مفتوحة. وأكثر ما ال يدركه اإلسالميون في تقديري أن الغرب متفوق علينا أخالقيا قبل أن يكون متفوقا ماديا وسياسيا. في عمومهم الغربيون أكثر عدالة وأكثر حرية وأكثر استقامة وأكثر غيرية وقبوال للمساواة منا ومن اإلسالميني بيننا بخاصة. في سجلهم جرائم كبيرة لكن ألن قدراتهم كبيرة إن على فعل اخلير أو الشر. وفي سجلهم اعتراض على جرائمهم كبير جدا ومشرف. في سجلنا جرائم كبيرة قياسا على قدراتنا واعتراض على جرائمنا صغير. ضميرهم حي أكثر من ضميرنا. ليس في األمر خصوصية. األمر ببساطة أنهم واجهوا أنفسهم أكثر منا واشتبكوا مع مواضيهم وتصارعوا مع أشباحهم وشياطينهم أكثر منا. ومن أبرز ما تالحظه عند إسالميينا السوريني اليوم غياب البعد األخالقي متاما في مشروعهم أو مشروعاتهم. قضايا العدالة واملساواة واحلرية واإلخوة بني البشر والكرامة اإلنسانة املتساوية غائبة باملطلق عن تفكيرهم. كأفراد قد جتد إسالميني أخالقيني لكن ال أخالق في مشروع اإلسالميني. يتجنبون قضايا القيم عبر املزايدة باسم شرع اهلل: هل هناك شيء أحسن من شرع رب العاملني! وهذا برأيي ما سيحكم على هذا املشروع باإلفالس بعد حني. املزايدة باسم اهلل أو الدين ال تغني عن وجوب االلتزام بالغير باملخالف قبل املماثل. ومن ال يعدل حيال املختلف لن يعدل حيال املؤتلف. وظلم الغريب من ليس منا مدرسة نتعلم فيها ظلم القريب. لكن عندي أيضا مشكلة مع التيار العريض لنقد اإلسالم عموما السياسي منه وغير السياسي وهي طابعه الضيق والعقالنوي. لم يخرج نقد اإلسالم من إشكالية العالقة بني الدين والعلم أو الدين والعقل التي ظهرت منذ أيام محمد عبده بل بصورة ما منذ رفاعة الطهطاوي. تختلف اإلجابات اإلسالم متوافق مع العقل أو هو قابل للتوافق أو هو غير متوافق باملرة لكن اإلشكالية ذاتها لم تنتقد إشكالية التمركز حول العقل. يبدو اإلسالم وفق هذه املقاربة عقال وهو ما صار يقال فعال في ثمانينات القرن العشرين على يد كل من محمد عابد اجلابري ومحمد أركون وآخرين وهذا مع رد العقل إلى بعده املعرفي. والعقل اجليد هنا هو املتوافق مع»العلم«أو مع»العقالنية«أو مع احلداثة أو مع الغرب. والعقل السيء هو غير املتوافق وهو ظالمي وق دامي وخرافي.

45 ويفترض أن العقل اجليد يتوافق أيضا مع الدميقراطية أو مع العلمانية وهي مفهومة دوما كعقليات أو ك»ثقافة«. لكن ملاذا ينبغي أن يتوافق اإلسالم وهو دين عاملي وعنوان حلضارة كبيرة وميراث عمره 14 قرنا مع أي شيء غير نفسه نحن اليوم في وضع متدهور حضاريا لسنا أحرارا إن لم أقل إننا عبيد أخالقنا رقيقة ونظمنا السياسية هي األسوأ عامليا وثقافتنا ضعيفة اإلبداعية واالستيعاب إلبداع الغير ومغرورون ال ن طاق رغم عالتنا الكثيرة. مستعد أيضا للقول إن هذه األوضاع متصلة بوضع اإلسالم املعاصر بل وتكوينه األصلي. لكن هذا يعني أنه آن األوان ألن نشتغل على ميراثنا التاريخي الكبير بجدية أن نصارع ما فيه من شر وجنون وقبح وغباء أن ننتج من الثقافة ما ينافس نظمه الروحية واألخالقية والتشريعية ويفتح أبوابا جديدة للمخيلة والضمير. وأن نسائله حتديدا عن مدى ما يوفره للمسلمني كيال نقول للناس جميعا من العدالة والكرامة اإلنسانية. لسنا مجتمعا جاء من الفراغ أو نشأ لتوه. وراءنا مخزون تاريخي هائل وعلينا تنظيمه و»تصفيطه«جيدا كي نستطيع أن نستقل عنه. ليس مسلكا جادا تلفيق األمور في صورة أن نكوم أشياء قدمية في أحد نصفي مخنا وأشياء جديدة في نصفه اآلخر لنحصل على مخ متوازن. وال يثمر أيضا أن نرمي بانفعال أشياءنا املوروثة على قارعة الطريق لنصبح حديثني. لكن املشكلة األساسية عند نقاد اإلسالم املعاصرين واألقدم في رأيي هي ضمور البعد األخالقي في عملهم. قضايا العدالة واحلرية والكرامة وفعل اخلير أو العمل الصالح ال تشغل بالهم. ومواقفهم في احلياة العامة أيضا مجردة من البعد األخالقي من اإلحساس مبحن الناس وآالمهم وما يبدو أيضا من انعدام قدرتهم على التعاطف والتضامن اإلنساني. وفي عملهم تترك قضايا القيم خارج الثقافة. قضايا اإلميان والروح أيضا. القضايا احلقوقية كذلك. ماذا يبقى يبقى»العقل«وقد ارتد إلى إيديولوجية نرجسية ال تكف عن التملي في ذاتها واإلعجاب بذاتها. يبقى غالبا أيضا شيء عكر موتور وكاره خال متاما من صفاء النفس وانشراح الصدر عند أكثر النقاد. على أرضية نفسية ومعنوية كهذه ال يظهر شيء متحرر قابل للحياة. واضح في تصوري أن لدينا مشكلة مزدوجة: في اإلسالم وفي نقد اإلسالم. من هنا النقد ونقد النقد. أما بخصوص مأسسة ومركزة السلطة الدينية فقد تولدت الفكرة من معاينة تناثر السلطة الدينية في اإلطار السني وما تسببه من فوضى فكرية وروحية وسياسية. هذا يفتح الباب ملزايدات عقدية وسياسية ال تنتهي يفوز فيها األشد تطرفا. وهو منبع الضطراب النفوس

46 واالضطراب السياسي أيضا. من شأن قيام مركز ديني حائز على الشرعية أن يحد من هذه الظاهرة وأن يعوض جانبا من الضعف التنظيمي العريق في مجتمعاتنا وأن يكون أقدر على اتخاذ قرارات إصالحية حتظى بقبول عام في الشأن الديني. ماكس فيبر يقول بارتباط بني وجود هيئة دينية مخصوصة أو اختصاص ديني وبني عقلنة التعاليم الدينية. ثم إني وجدت ما يسند هذه الفكرة عند مثقفني مرموقني مثل اإلسالمي فهمي جدعان ومثل العلماني املذهبي محمد الشرفي ومثل أمني معلوف وجورج قرم. ويبدو لي اليوم أن السياق الذي تولدت فيها حاجتنا إلى مركز سياسي عام وشرعي ميكن أن ينزع الشرعية السياسية عن أية مجموعات طائفية ومتطرفة ويلم شتات البلد هو ذاته السياق الذي يسوغ التفكير بضرورة نشوء مركز ديني عام وشرعي ينزع الشرعية الدينية عن أية جماعات متطرفة وطائفية ويسهم في تشكل سورية اجلديدة. هذا السياق هو انحالل البلد إلى إقطاعيات وحالة الفوضى العامة التي نتجه إليها. وفي العموم أرى أنه ينبغي ألمثالنا أن يبذلوا مزيدا من االهتمام بهذه القضايا. اإلسالم عنواننا في العالم واسم إلحدى مشكالتنا الكبرى اليوم ويصادف أننا نحوز أدوات قد تساعد على التفكير في وضعه ووضع املسلمني من موقع يجمع بني النقدية وبني االنتماء لهذا العالم. مساهمتي في هذا املجال هي عمل ثقافي توسيع قضايا النقاش العام لتشمل الدين. ليست عمال إصالحيا وإن يكن موضوعها اإلصالح الديني. وقد ميزت في هذا الشأن بني إصالح هو إعادة هيكلة للدين وتعاليمه وإصالح يطال موقع الدين في احلياة العامة. من شأن مأسسة ومركزة للسلطة الدينية تسهيل األمرين معا. اليوم قضايا الدين وموقعه في احلياة العامة تفرض نفسها علينا أكثر من أي وقت سبق. أعتقد أن مسألة اإلصالح تزداد راهنية بقدر ما يبدو أن الدين يشغل موقعا متوسعا في احلياة العامة ويطالب لنفسه مبوقع السيادة السياسية والعقلية والرمزية. هذا تطلع خطر وغير مقبول من وجهة نظر نهوض مجتمعاتنا ووحدتها وترقيها املادي واألخالقي. بالعكس أتصور أننا نتطور بصورة سليمة بقدر ما نسير نحو أوضاع اجتماعية وسياسية وثقافية ينزاح الدين فيها عن موقع السيادة. وهذا هو معنى العلمانية في نظري. أميل إلى تعريف العلمانية بأنها الفصل بني الدين والسيادة وليس بني الدين والسياسة. ليس هناك مسوغات وطنية أو أخالقية الستثناء اإلسالميني من العمل السياسي إن هم التزموا مبيثاق عام يفصل بني الدين )وكل عقيدة اجتماعية أخرى( وبني كل من العنف والوالية العامة. تركيا منوذج يؤشر على االجتاه الصحيح. وبقدر ما نتكلم على إزاحة من موقع السيادة فإن من غير املتصور أن جتري هذه العملية دون صراعات اجتماعية وسياسية يحتمل جدا أن تكون عنيفة. لكن ينبغي للموجه فيها أن يكون قيم العدالة واحلرية. اإلسالميون ليسوا عادلني وال يضمنون ملجتمعاتنا احلرية والترقي

47 األخالقي. بالعكس بقدر ما إن اإلسالميني في عمومهم يعتبرون العنف أداة سياسة عادية وهو ما يحول في رأيي دون تكون سياسة إسالمية ودون الترقي األخالقي للمسلمني فإننا رمبا نلج اليوم حقبة من العنف السياسي والديني قد تطول. لكن الالإسالميني لم يكونوا عادلني وحترريني. أمثال حافظ األسد وزين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي قمعوا اإلسالميني وقمعوا اجلميع. ولم يندرج حظر اإلسالميني يوما ضمن مسعى عام للنهوض العام وللتحرر االجتماعي والسياسي. في الثورة السورية هناك صعود لتيارات عنفية مرتبطة بالقاعدة ولتيارات إسالمية أخرى أقل تشددا وغير مرتبطة بالقاعدة حتارب النظام و تقد م بديال عنه. األمر يدعو للتشاؤم. قد يعني سقوط النظام إيقاف املجزرة املفتوحة منذ أكثر من عامني ولكن يبدو أن السوريني ما زالوا بعيدين عن حتقيق حلمهم في بناء دولة دميقراطية تعددية. ملاذا لم تقد م الثورة البديل الدميقراطي هل البديل الدميقراطي ممكن في سوريا دعنا نفصل بني األمرين:»البديل الدميقراطي«وظهور التيارات اجلهادية وصعودها. حتى بدون ظهور اجلهاديني التحول الدميقراطي صار متعذرا في سورية بسبب اخلراب االجتماعي واملادي الواسع وضعف أو انهيار املؤسسات الوطنية واالنقسام املجتمعي والتباعد النفسي العميق بني السوريني على مستويات متعددة وضعف اإلجماعات الوطنية السورية والسيولة االجتماعية والسياسية العالية. كل هذا ينبئ بسنوات طوال من الزالزل والتفجرات االجتماعية. يلزم أن نفصل أيضا بني مطلب إسقاط النظام ومطلب الدميقراطية. في رأيي منذ صيف 2012 صار مطلب إسقاط النظام يستمد شرعيته الكاملة من الواجب الوطني واألخالقي للتخلص من قاتل عام وليس من أي شيء يتعدى ذلك. الثورة السورية ثورة دميقراطية في محركاتها تفجرت ضد منط ممارسة السلطة وشاركت فيها كتل شعبية كبيرة واعتمدت لشهور الكفاح السلمي ثم مزجت به حتى حزيران 2012 املقاومة املسلحة التي تصدرت املشهد بعدئذ. لكنها حتولت حتت وطأة كل هذا العنف واالنكشاف الهائل ملاليني الناس إلى هذا اجلحيم الذي نراه بذهول ونتحرك فيه كالسائرين في نومهم. وقد تكون الثورة السورية دميقراطية أيضا باملعنى التاريخي لعبارة ثورة دميقراطية مبعنى أنها املسار املتعرج القابل لصواعد ونوازل وقفزات وانتكاسات املفضي إلى تشكل أمة حديثة والقطع مع السلطانية احملدثة دولة واجتماعا وتدينا. لكن حتى لو كانت الثورة كذلك فهذا ال يعني حتوال قريبا نحو أوضاع دميقراطية. أما استمرار الربط بني الثورة بعد 120 ألف ضحية على األقل وكل هذا الدمار وبني الدميقراطية فيدل ببساطة على كسل فكري على عدم تبني أين نحن وما هو الواقع الذي نعيشه.

48 فإذا أضفنا إلى ذلك مشكلة اجلهاديني والقاعدة صار الكالم على الدميقراطية أكثر إثارة للسخرية. لدينا تشكيالت عنفية عدمية تشكل ما يشبه إقطاعيات دينية عسكرية في بلد يفتقر إلى مركز سلطة عام وشرعي. املركز األسدي هو إقطاعية كبيرة مسلحة وقاتلة. من أين تأتي الدميقراطية ينبغي أوال أن تكون لدينا دولة تكوين سياسي وطني ولو»هر تك «ليبنى عليه أي شيء. رمبا نكون بحاجة إلى ديكتاتورية وطنية مؤقتة تلم شتات البلد وتقضي على اإلقطاعيات اجلديدة واإلقطاعيني اجلدد. لدينا وضع غير نظامي يفلت من كل قياس ونحسن إلى أنفسنا في مثل هذه الشروط أن تدربنا على تفكير غير نظامي. وعموما أتصور أننا حيال عملية إعادة تشكل هائلة اجتماعية ونفسية وسياسية وثقافية ودميغرافية ورمبا جغرافية ال نعرف ما ميكن أن تتمخض عنه. نحن أمام أزمة تأسيسية وليس أزمة سياسية. وأخشى أننا سنرى من األضاحي والقرابني أكثر مما رأينا حتى اليوم. تقدمي بعض ما في رؤوسنا قربانا على مذبح تفكير غير نظامي قد يكون بديال أكثر إنسانية من تقدمي رؤوسنا ذاتها. أعتقد أن أول حتد يواجهنا بخصوص اجلهاديني في سورية هو أن هذا التطور أخذنا على حني غرة لم نتوقعه وال نزال لم نفهمه. أقر بوجود فجوات كبيرة في فهمي أحاول تداركها ما أمكن. ويبدو أن هناك الكثير من الغوامض واألسرار في األمر وأن جالءها بقدر املستطاع هو واجبنا األول كمثقفني. ال نستطيع أن نوضح شيئا ألحد وعمل أمثالنا هو التوضيح والشرح إن لم يكن األمر واضحا لنا نحن بالذات. ثم إننا لن نتمكن من اقتراح أية سياسات عملية إن لم نفهم وبقدر ما أرى ال يبدو أن أحدا يعرف شيئا أو يحاول معرفة شيء. أريد أن أقترح بعض القضايا هنا حول اجلهاديني. أوال إن مساحة ظهورهم تتناسب طردا مع اخلراب العام في املجتمع والعمران والنفوس ومع شعور قطاعات واسعة من السوريني بأنهم متروكون ملصيرهم وبال أمل. هذه الظاهرة مرتبطة كثيرا باآلفاق املسدودة واليأس يأس األفراد ويأس املجتمع وفقدان الثقة باجلميع. مبن يثق السوري اليوم بنظام يقتله مبعارضة ركيكة باألمم املتحدة بالغرب ال أحد. هذه تشكيالت تثق كثيرا بعدم ثقتها بأحد بعدم جدارة أحد بالثقة. ترفض العالم املعاصر والدول واملجتمعات املعاصرة وتزدهر حني تتوفر مسوغات الرفض. وهي متوفرة اليوم.»اإلسالم«لديها اسم لعدم الثقة بأحد ولرفض كل شيء. هذا ألن اإلسالم عموما ومنذ قرنني تقريبا ناف للعالم وغاضب منه وحاقد عليه. ثانيا إنها تستقطب جمهورا من الغاضبني احلاقدين على املجتمع. صنفان منهم: صنف الساخطني بسبب الفقر واحلرمان شبان يعانون من حاجات مادية ضاغطة ويعوضون عنها

49 بسلطة ال حتد على غيرهم ثم حاقدون على الدولة واملجتمع معا بسبب االعتقال والتعذيب والسجن. غير قليل من قادة تشكيلي القاعدة السوريني»جبهة النصرة«و»الدولة اإلسالمية في العراق والشام«هم نزالء سابقون في سجن صيدنايا أفرج عنهم النظام في شهري نيسان وأيار 2011 وعن بعضهم قبل الثورة. هذا يفسر جانبا من قسوتهم ومما يبدو من نازع تعويض لديهم أو مكافأة على آالمهم وتضحياتهم. كنت سجينا وأعرف جيدا أن هذا نازع قوي عند السجناء السابقني وإن لم يتظاهر بالطريقة نفسها عند اجلميع. معلوم أن أمين الظواهري كان سجينا أيام السادات في سبعينات القرن العشرين وتعرض لتعذيب وحشي. وكذا كان سجينا زهران علوش قائد»لواء اإلسالم«)تشكيل سلفي يجاهد منطلقه الغوطة الشرقية وله امتدادات مهمة خارجها وينال دعما سعوديا كبيرا( ومثله حسان عبود قائد حركة أحرار الشام السلفية بدورها )التشكيالن األخيران ليسا مرتبطني بالقاعدة بل أقرب إلى العداء لها(. أما أبو مصعب الزرقاوي فكان سجينا جنائيا في األردن و»اهتدى«في السجن. أظن أن املظلوميات الشخصية سواء كان مصدرها الفقر أم السجن جتد في املظلومية اإلسالمية العامة ما يعطيها بعدا كونيا وغيبيا ويزودها ببعد خالصي. املؤامرة الغربية بل الصليبية اليهودية هي كل»العلم السياسي«عند مجاهدي القاعدة بل هي في صلب عقيدتهم الدينية. ثالثا من متابعة األوضاع في بعض مناطق الشمال والشمال الشرقي تولد لدي انطباع بأننا نبالغ بالكالم على تطرف ديني وتشدد ديني وإرهاب إسالمي وجهاد... يتعلق األمر بقدر كبير باألحرى مبجموعات شبه إجرامية عصابات من أناس قساة كثيرون منهم أصحاب سوابق جنائية يسرقون ويستولون على ملكيات عامة وخاصة. ويبيحون ألنفسهم ذلك بذرائع دينية. ال أقول إن هذا يستنفد الظاهرة لكنه جانب مهم منها وأعتقد عموما أننا في عالم أكثر تدهورا مما توحي به مقاالت التطرف اإلسالمي واإلرهاب اإلسالمي من تنظيم سري تآمري محكم. قد تنطبق هذه الصورة على دوائره العليا لكن حواشيه متدهورة ورثة ومتتزج السلطة فيها بالعنف واجلرمية. على أننا في حضرة أشكال الفتة واستعراضية من القسوة اإلرهابية من اإلعدام املشهدي في ساحات عامة إلى السيارات املفخخة. عادة تقترن القسوة بالسرية. اجلماعة أقرب إلى استعراض قسوتهم. وأقدر أن الغرض هو الترويع العام السريع املفعول. التكفير يسوغ القسوة ويشكل مقياسا لها ويشرع استباحة الكفار املفترضني. بل إن محرك التكفير هو تشريع االستباحة ورفع أية حماية عن املعنيني. ليس ألنهم كفرة يستباحون يجري التوسع في التكفير مبا يسهل التوسع في االستباحة.»داعش«التي تكفر

50 اجلميع هي األقسى. جبهة النصرة وأحرار الشام أقل تكفيرا وأقل قسوة. تكفير أقل يعني قسوة أقل واستباحة أقل. وفي كل األحوال التكفير حراسة المتياز وتسوير لسلطة على نحو ما هو التخوين عند البعثيني. وعموما أميل اليوم إلى االعتقاد بأن التكفير املرسل يؤسس حصرا لنهج فاشي وممارسات سياسية فاشية نهج إبادة واستئصال أي خصوم سياسيني مقدرين مبا في ذلك استباقيا. أميل أيضا إلى أنه ال ميكن مواجهة نهج التكفير الفاشي هذا دون مراجعة مبدأ التكفير ذاته رمبا في اجتاه حتويله إلى أداة فكرية لتمييز العقائد اإلسالمية عن غيرها أي ليصبح»الكفر«و»اإلسالم«مبدآن لصون تكامل املعتقد اإلسالمي مع فصل الدين والكفر عن الدولة والسيادة. بعبارة أخرى يتعني على الفكر اإلسالمي نقل التكفير من نصاب السلطة والسيادة )التخوين والتكفير من اخلصائص الذاتية للسيادة( إلى نصاب االعتقاد واإلميان. وألن التكفير في بنيته ذاتها أصلح للممارسات الفاشية اليوم فإن املجموعات اإلسالمية األكثر حترزا في التكفير مسوقة إلى القطع مع النهج التكفيري والتحول إلى منظمات سياسية تقر بأنها ال حتوز شرعية مبدئية تفوق غيرها و بالعكس تتحول إلى نهج داعش التكفيري الشامل والفاشي. رابعا ال أستبعد بل أرجح صالت خفية بني بعض هذه املجموعات وبني أجهزة ودوائر دولية منها النظام وأجهزته. تواطؤ خفي في احلالة األخيرة. إذا كان يبدو أن النظام أجهزته األمنية بخاصة هو اجلهة الوحيدة في سورية التي تنبأت بهذه»األمارات السلفية«منذ وقت مبكر فرمبا ألنها صنعت ما تنبأت به أو أسهمت بقدر طيب في صنعه. هناك غوامض كثيرة في الظاهرة وهناك انتشار سريع لها مبا يثير التساؤل حول منابع قوتها ومواردها. ليس من شأن منظمة سرية إرهابية محاربة من اجلميع أن تتوسع كل هذا التوسع وتقيم في مقرات معلومة وتتصرف مبوارد ال يبدو أنها تخشى أن تشح. ليس هذا حال احملار ب املطار د. أفرج النظام عن جهاديني في وقت مبكر من الثورة. كثير منهم كانوا في العراق حيث احلدود بني البعثيني املتحالفني بعد االحتالل األميركي مع النظام السوري )وأكثرهم سنيون( وبني القاعدة متداخلة وحيث يحتمل أن النظام السوري استفاد من دعمه لألولني الختراق األخيرين وجتنيد بعضهم. ومما ال جدال فيه اليوم أن النظام يتجنب ضرب مواقع ل»داعش«في الرقة علما أنهم يحتلون مقرات معلومة وبارزة جدا ال يخطئها حجر يرمى من حلب باجتاه الرقة على ما عبر بعض من سمعتهم وعلما أن النظام ال ينقطع عن قصف مناطق في املدينة. والشيء املثير أن جماعة»الدولة...«م قن عون في الرقة يتصرفون ويفكرون بأنفسهم كمنظمة سرية رغم أنهم انتحلوا ألنفسهم اسم دولة. وال أظن هذا التحجب ملا ينبغي أن

51 يكون عاما وعلنيا إال تعبيرا عن الطابع اخلاص جوهريا لهذه املجموعة. الطابع اخلارجي أيضا قياسا ملجتمع محلي. وأعتقد استطرادا أن القناع مؤشر على حتول في شخصية كيان املقنعني أو هو إعالن الختالفهم وتغيرهم )أنا لم أعد أنا( وكذلك لالنفصال عن بيئاتهم وأوساطهم احلياتية املعتادة وحتولهم السياسي والعقدي واحلياتي. وقد يكمل االنفصال بقناع بآخر: انتحال فصحى تراثية ركيكة تنفصل بدروها عن محكية البيئات احمللية. الفصحى التراثية محملة باخليال االمبراطوري ومن املشروع التساؤل عن مدى قطيعة الفصحى احلديثة معه. خامسا هنا ضرب من االرتباط بالعشيرة. يبدو أن بعض العشائر تشكل أطر استقبال وانتشار جاهزة لهذه املجموعات بينما تظهر عشائر أخرى ابتعادا عنها. يبدو أيضا أن يتعلق األمر يتعلق أساسا بتنافس على السلطة والنفوذ واملوارد مما يحتاج إلى تقص تفصيلي. وبينما يبدو أن العشيرة توفر قاعدة اجتماعية جاهزة أو تكاد النتشار هذه املجموعات يبدو أن مبدأ سلطويا دينيا يجعلها مستعصية على ضروب احملسوبية والضغوط االجتماعية املميزة للبيئات العشائرية. ال أتردد في وصف هذا املبدأ باالستعماري مزيج من االستعالء شبه العنصري والشعور بالرسالة اخلاصة ومن القسوة الالمتناهية ومن اخلارجية أو االنفصال عن املجتمع املخترق ومن هندسة اجتماعية تتوسل العنف األقصى. القاعدة استعمار وحشي مثل كل استعمار ومواجهته هي صراع حترري. الفظيع في حالنا أننا نخوض صراعا بالغ القسوة ضد االستعمار األسدي وأنه من االستحالة مبكان بناء جبهة وطنية عريضة للتحرر من االستعمار القاعدي في مثل شروطنا. ورمبا يلعب القناع عنا دورا أيضا: إذ يجعلهم يغدون غير معروفني فإن القناع يضع املقنعني في منأى عن الضغط االجتماعي من معارفهم وذوي قرباهم على ما شرح لي ناشط متعاون مع حركة أحرار الشام اإلسالمية عن بعض مقنعي احلركة. ومن املشروع أن نتساءل في هذا املقام عن جذور هذا املبدأ االستعماري في الفكر اإلسالمي احلديث والقدمي. وهنا ندنا في تصوري مرة أخرى أمام تصفية حساب واجبة ونهائية مع االمبراطورية ومخيلتها وأشباحها التي ال تكف عن ارتياد آفاقنا الفكرية والدينية والنفسية واللغوية. ما يريده اإلسالميون وما أخذه منهم القوميون العرب قبل أن يعاود األولون استالمه هو»الفتح«والسلطة االمبراطورية ليس التحرر وال االستقالل وال العدالة وال النهوض احلضاري وال النمو االقتصادي. حديث»من بدل دينه فاقتلوه«هو مبدأ سلطة وامبراطورية وليس مبدأ إميان ودين. مبدأ قوة وليس مبدأ عدالة. تصفية احلساب مع االمبراطورية في الثقافة والدين واللغة هي ما ميكن أن تكون منطلق جتددنا الروحي وحتررنا السياسي.

52 ال تكفي هذه التقديرات بخصوص مجموعات القاعدة. لدينا مركب عدمي من الالثقة واحلقد والعقيدة واجلرمية واملخابرات والعشيرة واملخيلة االمبراطورية نحتاج إلى مزيد من املعاينة واملعلومات التفصيلية والبورتريهات الشخصية كي نفك غوامضه. ومن الوجهة العملية نحتاج قبل كل شيء إلى إحلاق الهزمية بالنظام أوال لقطع كل ما يحتمل من روابط خفية لهذا الكيان العدواني الشرير مع هذه التشكيالت العدوانية الشريرة بدورها ثم ألن سقوط النظام هو شرط ظهور مركز سلطة وطني شرعي أوال يستطيع أن ينزع الشرعية عن أية جماعات خاصة ومواجهتها ومخاطبة عموم السوريني في شأنها وإلى سياسات اجتماعية واقتصادية وخدمية تنعكس حتسنا في أوضاع ومقدرات الشرائح األكثر فقرا في البلد وبال شك إلى إجراءت قمعية فاعلة ملواجهة األنوية اإلجرامية لهذه املجموعات. بعد هذا كله يبدو لي أن هناك شرط إمكان إسالميا مستقال لتوليد هكذا ظواهر وأظنه يستحق نظرا مستقال. فإذا اصطلحنا على أن»العقل«هو طبقة املدركات املزامنة ألوضاعنا الراهنة ومشكالتنا و»الضمير«هو طبقة القيم املزامنة أيضا فإن انهيار هاتني الطبقتني )اقترن في سورية بانهيار اإلطار الوطني للصراع بدءا من صيف 2012 في تقديري( يفضي إلى ظهور طبقات أقدم وهي أقل مالءمة ملعاجلة مشكالت اليوم والتوجه السليم في شأنها ضرب من»العقل«و»الضمير«)على نحو ما نتكلم عن الشعور أو الوعي يحيل إلى طفولة الفرد وطفولة اجلنس البشري(. وكلما كانت هذه الطبقات أقدم كانت أقرب إلى قطب اجلنون والشر الكامن في أعماق كل إنسان وفي أعماق اإلنسانية منها إلى عقلنا املالئم وسلوكنا املسؤول. هذا بصورة تخطيطية جدا حصل لدينا بإيقاعني متفاوتني: إيقاع بطيء مديد في عقود احلكم األسدي الذي أفضى إلى نكوص سورية نحو حكم ساللي عصبي وإيقاع سريع أثناء الثورة مع حتطم اإلطار الوطني للحياة والعمل والتفكير واحلكم وظهور الطبقات األقدم الدينية. في احملصلة يظهر»عقل«عصبي ديني ال يقدر على التوجه السديد في عالم اليوم فيعمل على حتطيمه كي ينتج عاملا مزامنا ملا لديه من عتاد فكري. هذا هو الالعقل. وضمير عصبي ديني ال يسعف في التصرف املسؤول في عالم اليوم فيدينه ويلعنه وينتج أطر اجتماع وعيش تالئم ما لديه من أخالقية. وهذا هو الالضمير. فإذا كانت طبقات ال وعينا وال عقلنا وال ضميرنا تظهر على السطح اليوم بفعل انهيار اإلطار الوطني حلياتنا فإن اإلسالميني اخللص على نحو من يتمثلون في التيار السلفي اجلهادي بخاصة كانوا أقرب إلى هذه الطبقات القدمية: الدين في صيغته األوامرية السلطوية االمبراطورية. الفكر والسياسة اإلسالميان ينتجان ما نرى من عنف وقسوة وتدهور وبدائية إنتاجا طبيعيا

53 وحتميا بقدر ما ينكران إنتاجية التاريخ والدور الفاعل للزمن. تساعدهما في ذلك نظم التوحش التي أطاحت بكل ما له قيمة من تراكمنا التاريخي ووفرت لهما قاعدة اجتماعية واسعة مفقرة سياسيا وثقافيا أكثر حتى مما هي مفقرة ماديا. في عالم اإلسالم الديني والفكري لدينا استعداد قوي إلنكار الزمن نراه مجرد عرض خارجي ال يصيب جوهر عقيدتنا ومأثوراتنا وطقوسنا وغاية ما يتسبب به هو أن يعلوها الغبار. ننفضه )ننفض التاريخ( مرة كل قرن على يد مصلح يبعثه اهلل لألمة فيرجع الدين إلى نضارته األولى. عبد اهلل العروي سمى هذه اآللية: السنة. السنة عملية ديناميكية حلذف احلدث أو حتييد حدثيته وإدراجه في مخطط الزمني قدمي. قد يسمى احلدث بالبدعة. ماذا يعني إنكار فاعلية الزمن يعني رفض أن نكبر أن ننضج ونتمرس مبشكالت زمننا أن نعقل ونتحمل املسؤولية يعني أن نبقى أطفاال. يعني الطغيان. الطاغية هو الشخص الذي يريد جتميد الزمن كي يبقى طفال وتلبى جميع رغباته بال حدود مثل األطفال. ومبا هو يعني الطفلية والطغيان فإن في رفض التاريخية وإنكار الزمن ومقاومة التغيير إرادة االحتفاظ بسلطة مطلقة مقدسة ال متس. يقول مديرو الدين إن اإلسالم صالح لكل زمان ومكان من أجل أنفسهم وسلطتهم. اإلسالم»سبب«جللب الدنيا لهم على ما قال أبو العالء املعري قبل ألف عام. وسينتج الرافضون املنكرون بنية اجتماعية مضمرة في تصورهم لالعتقاد اإلسالمي بنية قدمية وعنيفة ميتنع أن تطابق بالفعل عالم املسلمني األول أقرب إلى شبحه لكنها متنحهم موقعا إلهيا موقع من يحوز سلطة ال جتادل. إسالم القاعدة هو األكثر إنكارا للتاريخ واألشد إطالقا وعنفا وجنونا وأنانية وشرا. لكن ليس هناك من يتقبل التغير التاريخي تقبال إيجابيا يعتبره خيرا عاما من اإلسالميني املعاصرين. ولذلك الباب يبقى مفتوحا عند اجلميع نحو النكوص نحو الالعقل واجلنون والطفلية والطغيان والشر. حني نقاوم تشكل الطبقة احلديثة من املدركات والقيم العقل والضمير أو حني تنهار هذه الطبقة مع انهيار عالم الدولة الوطنية كله على ما هو حاصل لدينا اليوم فإننا ند أنفسنا في عالم األعماق عالم مسحور يجول فيه اجلن والعفاريت واألشباح والشياطني. هذا هو العالم الذي يعيش فيه مجاهدو القاعدة وال يبتعد عن تخومه عموم اإلسالميني. أعتقد أن من املناسب هنا الكالم على تغول الدين على نحو ما نتكلم على تغول الدولة أحيانا. أعني على حتول الدين إلى غول قوة ال إنسانية ساحقة ال شكل لها وال نظام وال دستور آلة لطحن البشر وتعليبهم طحن نصفهم وتعليب نصفهم اآلخر. ومثلما يؤدي تغول الدولة إلى تصرفها على نحو مجنون وإجرامي على ما تفعل الدولة

54 األسدية اليوم ويفتح الباب للدولة الفاشلة واملجتمع غير القابل للحكم يحتمل في تصوري أن يؤدي تغول الدين وسلوكه املجنون على نحو نرى مظاهره املتفاقمة منذ عقود إلى الدين الفاشل العاجز عن تلبية احلاجات الروحية للمؤمنني وإلى حتول مجتمعاتنا إلى حشود بشرية متوحشة غير قابلة لإلميان ألي إميان. ومثلما يلزم عمل على اجلبهة االجتماعية والسياسية ملواجهة هذه التشكيالت العنفية يلزم أيضا عمل على اجلبهة الدينية. هذا يطرح بحدة مسألة إصالح الدين أن يتصالح مع عمره ومع التاريخ. لقد انقلب خير املسلمني العام اإلسالم انقالبا ضروريا إلى قوة عنف وتدمير. ال بد من اإلصالح. ال بد من تصفية حساب مع االمبراطورية في تفكيرنا وثقافتنا ولغتنا وتديننا. ال بد من إطالق املاضي وتوديع الطفولة. مقاومة التغيير مسلك طفلي شائع لدينا في مجاالت السياسة والدين والثقافة وآن أن ندخل عالم النضج. من يستطيع اإلصالح إنه واجب اجلميع. لكن على املستوى الديني رمبا يلزم املسلمني مؤسسة دينية شرعية واثقة بنفسها حتى تستطيع أن تعقلن وتصلح وحتدث. هي نفسها عالمة عقلنة وإصالح وحتديث. وقد يكون املدخل إلى ذلك مؤمتر إسالمي عام يتالقى فيه رجال اإلسالم للتداول في أوضاع دين املسلمني. االخالق ومفهوم العقل والعالقة مع الغرب في»أساطير اآلخرين«ربطت مبدأ حرية االختيار الديني بإمكانية وجود منظومة أخالقية تسمح للناس بالتعبير عن أنفسهم في معرض انتقادك لإلسالم السياسي الذي ما زال يرفض هذا املبدأ وبالتالي يصادر إمكانية وجود أي منظومة أخالقية. ترى أيضا أن غياب احلرية في دول االستبداد العربي تؤدي إلى غياب أي منظومة أخالقية. هل ترى احلرية شرطا ضروريا إلمكانية وجود منظومة قيم أخالقية وهل الثورة على االستبداد الديني والسياسي بهذا املعنى هي حكما ثورة أخالقية طبعا. ال أخالق دون حرية. مبدأ املسؤولية األخالقية يفترض احلرية كمقتضى ذاتي. ثم إنه إذا كان موضوع األخالق هو عالقات الناس ببعضهم وجب أن يكون جميع الناس أحرارا من أجل حياة أخالقية للجميع. الشخص غير احلر هو شخص غير مسؤول. وهو ميكن أن يفعل أي شيء ألنه غير حر. احلر ال يفعل كل شيء. من يفعل كل شيء هو الطاغية الذي ال قانون له. احلر يفعل أشياء كثيرة توسع مساحة حريته وحرية غيره ألنه مسؤول ويتوقع املسؤولية من غيره. لذلك الواحد منا ال يكون حرا إال إذا تعاون مع غيره وساهم في حترر غيره. هنا تكون احلرية منتجة خالفا حلرية

55 أنانية نستهلكها كي نفعل ما نريد ألنفسنا. وأعتقد أن احلرية تتجلى أساسا في إنتاج القيم واملعايير والضوابط األخالقية. إنتاجنا من الضوابط مؤشر على حريتنا وعلى تطلبنا للحرية. وضعف إنتاجنا وهو شديد الضعف بالفعل مؤشر صادق ال على قلة حريتنا فقط وإمنا على ضعف إحساسنا باحلاجة إلى احلرية على أننا ال نشعر كم أننا مقيدون. أعتقد أيضا أن املشكلة في حداثتنا على نحو ما هي مجسدة في واقع سياسي واجتماعي واقتصادي... معاصر في نظم سياسية بخاصة وعلى نحو ما جتري الدعوة إليها إيديولوجيا في أعمال مثقفني كثيرين هو بالضبط ضمورها األخالقي وضعف حضور التطلب األخالقي فيها. أي بالتالي ضعف تطلب احلرية. وأنت ترى أنه في أعمال الدعاة احلداثيني املكرسني ما ال يقل عن التحفظ على مطلب احلرية العام وحرية العامة وتشكك صريح بالدميقراطية وهذا بينما ال نشكو من وفرة احلرية في واقعنا السياسي واالجتماعي كما هو معلوم. هذا ألن تفكيرهم متمركز حول مواجهة اإلسالميني إلى درجة أن مثقفني سوريني مكرسني لم يقولوا طوال عقود جملة واحدة تدين الوحشية التي عومل بها إسالميون والوحشية املقاربة التي عومل بها أمثالنا. يخشون أن اإلسالميني هم من سيفوزون باحلرية فينقلبون ضد احلرية ذاتها وإن لم يبخروا صراحة لنظم الطغيان لن جتدهم ينتقدونها بشيء. هذا ال أخالقي. وهو سياسة قصيرة النظر أيضا. ميكن أن يفوز اإلسالميون وقتيا باحلرية لكن احلرية مكسب عام ودائم. واإلسالميون إما أن يشاركوا غيرهم مكاسبها وهذا عز الطلب أو ينقلبوا ضدها حني تعود مكاسبها على غيرهم فيمر الكفاح من أجل احلرية مبقاومتهم والصراع ضدهم. لكن كيف ملن لم يدافع عن احلرية ضد الطغيان األسدي أن يحوز صدقية أخالقية للدفاع عنها ضد اإلسالميني ورأيي أننا لن نكون حديثني فعال إال بقدر ما ننتج قيما وضوابط أخالقية دساتير سلوك وسياسة وعيش أي إال بقدر ما نكون أحرارا. الكالم الكثير على العقل ليس فقط لم ينتج تفكيرا حديثا وعقال حديثا وإمنا آل عند بعض كبار دعاته إلى جتديد مناهج التفكير القروسطية عبر تفسير الواقع التاريخي املتغير باملاهيات العقلية الثابتة. مجال احلداثة الفعلي هو في تصوري احلرية أي ظهور الفرد املسؤول والضمير املستقل. املستقل عن ماذا عن السلطات اخلارجية بالتأكيد لكن أيضا عن العقيدة املطلقة وعن املذهب الناجز وعن الهوية املوروثة وعن الدعوة اإليديولوجية اجلامعة. وخالفا لرد احلداثة إلى العقل وهو مسلك نرجسي ونخبوي يفضله املعجبون بعقولهم اخلاصة فإن التفكير في احلداثة كحرية وكضمير غيري جوهريا ألنه يقوم على مبدأ املسؤولية أمام الغير وحياله. إلى ذلك يبدو لي أن الالعقل نقيض العقل في اإلطار اإلسالمي والعربي ليس اخلرافات

56 واخلوارق والشطحات والعرفان... لدينا من هذا كله كثير لكن الالعقل يتجسد أساسا عندنا في اعتباط السلطة وتعسفها. السلطة عموما لكن أوال السلطة السياسية. ماذا يعني تعسف السلطة يعني أن سلوكها ال ينضبط بقاعدة أو مبدأ مطرد أو دستور. مبا يتحدد إذن باملزاج والهوى بنزوات املتسلط فردا أو أسرة أو طغمة وتفضيالته اخلاصة. الشخصي يحل محل القانوني وروابط الشخصي من أسرة وعشيرة وطائفة... محل الروابط القانونية العامة التي حت ي د الهوى وت فر د الناس. وإمنا في مجال اإلرادة والفعل والسياسة واالعتقاد وليس في مجال املعرفة والنظر وتعقل األشياء ند جتسدات الالعقل في ثقافتنا واجتماعنا. أسوأ التجاوزات في تاريخنا والظالم األكثر ظالما ينتسب إلى دائرة السلطة والسياسة وليس إلى دائرة التفكير واملعرفة وال حتى إلى دائرة الدين واالعتقاد. ظواهر السلطة لدينا غير عاقلة وغير عقالنية إن لم نقل إنها مجنونة وتعمل كمضخات للعنف واالعتباط والعشوائية والظلم والالقانون. هذا في املاضي واليوم. أسوأ ظواهر املعرفة لدينا ال يقارن سوؤها بتأثير السلطات التعسفية. هذه كلها كوارث مع استثناءات قليلة جدا. لذلك فإن البحث عن الالعقل في مجال املعرفة ال يخرج باجلوهري لدينا. وما يقوله املرحوم محمد عابد اجلابري عن العرفان ليس مقنعا في تصوري. الالعقل لدينا مجاله هو األخالق والقانون والسياسة والدين العقل العملي بلغة كانط أكثر من العقل النظري. باملقابل يبدو أنه كان للسلطة في الغرب دوما حدود ما وأعتقد أن الغرب في العصور الوسطى عرف اعتباطا على مستوى السلطة أقل مما لدينا. لذلك صلة باملراتب االجتماعية وبوجود أرستقراطية أو نبالة وراثية بال ريب. ولعل له صلة من نوع ما مبكانة مقررة للكنيسة لكن هذه بالضبط من املواضيع التي يتعني أن تدرس جيدا ونحن نتكلم على العقل والالعقل بدل تلك األدبيات التي ال تكف عن الكالم على املعرفة. وتعسف السلطة يقوض القدرة على التوقع واالحتساب والتخطيط ويحول دون ظهور قواعد وأصول لألفعال واملمارسات االجتماعية ومينع تشكل األشياء ويقوض االستقرار فيضعف التراكم املادي وتراكم اخلبرات ويقوض فكرة القانون ويضعف القدرة على التنظيم. وبفعل اعتباطية األوامر اخلارجية يتدهور مستوى االنضباط الذاتي ويعم التحايل واملراوغة في عالقات الناس بالسلطات. ويستحيل تكوين مفاهيم واضحة في شأن املمارسات واملؤسسات االجتماعية بالضبط لكونها تفتقر إلى روح ذاتي إلى مسمى مستقر في اسمه. وظاهر أنه ليس لدينا مؤسسات تاريخية مهمة قوية الشخصية. تاريخنا كثير البدايات التي تعود من الصفر. ومعلوم أن تعسف السلطة قرين للطغيان أي للتقييد املضاعف للحرية ليس تقييد الفعل على نحو ما يفعل االستبداد بل اإلجبار على الفعل املناسب للسلطة. وهو ما يحول دون عيش حياة أخالقية وليس فقط دون عيش حياة سياسة. االستبداد يحرمنا من

57 السياسة أما الطغيان فيحرمنا من األخالق فوق حرماننا من السياسة. ونحن نعرف ذلك من جتربتنا في»سورية األسد«حيث حرمنا من احلياة األخالقية واحلياة السياسية معا. هذا االستطراد يعيدنا إلى القول إن املجال االستراتيجي حلداثة منتجة في إطارنا االجتماعي الثقافي هو»العقل العملي«قضايا األخالق والقانون والسياسة واالعتقاد على نحو خاص. ورأيي أننا متأخرون عن الغرب في مجاالت األخالق والسياسة والتنظيم تأخرات حاسمة أما تأخراتنا في مجاالت العلم والتكنولوجيا واإلنتاج املادي فهي أهون بكثير. قيودنا املعوقة للتقدم ونصير حديثني حني نتحداها ونتحرر منها. أولها القيد السياسي الذي يتواتر أال يقف عن منعنا من فعل ما نؤمن به وإمنا يتعدى ذلك إلى إكراهنا على فعل ما ال نؤمن به وما ينتهك ضميرنا. وهو اآلن في بلدنا آلة قتل تعمل بطاقة ال نظير لها في العالم كله. القيد الديني الذي مينعنا من أن نعتقد بحرية ونفكر بحرية ونظهر أفكارنا وعقائدنا في املجال العام. وبعض تعبيراته تعمل اليوم كآلة عدوان وقتل إجرامية. وباتصال مع ما قلته للتو عن السلطة التعسفية يبدو لي أن»الشريعة«تقع في مركز النقاش حول العقل لدينا نظرا لكونها»قانونا «من نوع ما و»أخالقا «من نوع ما و»سياسة«من نوع ما.»العقل«هو التمييز بني هذه الدوائر والعمل على استقالل كل منها بنصاب ذاتي يخصه من أجل أن يستقل كل منها عن اآلخر. وعموما تشغل دائرة االعتقاد موقعا وسيطا بني دائرة املعرفة والفكر من جهة ودائرة السياسة والتنظيم االجتماعي من جهة ثانية ما يجعلها موقعا استراتيجيا للنظر في عقلنا والعقلنا. ثم هناك القيد املادي الذي يشد أكثرنا إلى التراب إلى حياة ضيقة فقيرة وحقود. وكذلك القيود االجتماعية املتنوعة التي تتجلى في النزعة احملافظة والتراقب االجتماعي )الكل يراقب الكل ويأسره في صورة ثابتة( واملوقف السلبي من املغايرة واالختالف واجلديد. وأيضا استبعاد النساء من احلياة العامة وهو في تقديري مصدر أساسي لفظاظة الذكور وتوحشهم وجفافهم ولنظرتهم البهيمية إلى املرأة كموضوع جنسي نتطلع إلى إباحته إن لم يكن منا وإلى تقييده واحلجر عليه إن كان يخصنا. وهو أيضا أحد مصادر ضمور احلس اجلمالي لدينا. في وجود املرأة النساء تعرف أن الذكور يتهذبون. احلضور الدائم للمرأة في احلياة العامة يهذب يربي الضمير والذوق ويرقي احلس اجلمالي. نحن نفعل أشياء كثيرة من أجل النساء. هذا طيب وجميل وأخالقي. وهن يفعلن أشياء كثيرة من أجلنا وبشجاعة أكبر. حترر البروليتاريا النسوية شرط ضروري ليتحقق لنا أي تقدم في التحرر االجتماعي. بخصوص الدين رأيي أنه ميتنع أن تتشكل أخالقية إسالمية أو أية حياة أخالقية للمسلمني دون فك ارتباط نهائي بني الدين والعنف لنتحول نحو دين اإلميان الشخصي والضمير. إن كان العنف في املتناول دوما العنف حيال األوالد والزوجة في احلياة اخلاصة أو

58 حيال غير املؤمنني أو األقل إميانا أو عموم احملكومني في احلياة العامة فكل ما يلزم هو شرائع تبرر هذه العنف. وهي موجودة في املخزن الكبير الذي اسمه التراث وفي اخلدمة. الضمير هنا فائض عن احلاجة. فقط حني ن فطم عن العنف نضطر إلى توليد منظومات أخالقية من أجل أنسنة اإلنسان. نوظف عندئذ في التربية وفي الثقافة وفي األخالقيات والقيم. بل أتصور أن حرية االعتقاد الديني مقوم ذاتي ملفهوم الدين نفسه. ال يستقيم الدين باإلكراه وال أي اعتقاد. اخلير ال يأتي باإلكراه الذي هو الالخير جوهريا. وسنبقى نحن املسلمني عبيدا أمة عبيد إلى حني يتقرر لدينا دون غمغمة أو جمجمة أن حرية االعتقاد الديني من الدين أن املرء منا يستطيع أن يكف عن كونه مسلما أن يتحول إلى دين آخر إن شاء وأن هذا شأنه اخلاص كشخص وليس شأن الدين أو األمة أو احلكومة. واحلقيقة أنه ليس اإلسالم السياسي وحده من يعترض على ذلك كما يقول السؤال. الفكر اإلسالمي املوروث منذ تشكل في اإلطار االمبراطوري العباسي وقبله يرفض مبدأ حرية االعتقاد. أتصور أن األمر أوثق صلة باالمبراطورية منه بالدين وبالسيادة اإلسالمية كأساس مشرع للسلطة االمبراطورية. لكن اإلسالم امتص منطق االمبراطورية وتسمم به ولم يجر فك االرتباط بينهما حتى اليوم. مبعنى من املعاني اإلصالح الديني هو تخليص اإلسالم من سم االمبراطورية ومن كل ما يحيل إلى السيطرة واإلكراه والتحكم بالناس. هذه وجه أساسي حلداثتنا أيضا: أن نندار من املاضي إلى احلاضر واملستقبل. وال تستقيم الدولة والسياسة أيضا دون فطام عن العنف واإلكراه أو دون تقييد ممارسة العنف بأصول وقواعد عامة متفق عليها. طاملا العنف في املتناول لن تقوم لنا سياسة وال دولة عامة. غاية ما ميكن أن يقوم هو دولة خاصة خلدونية نوبة في احلكم حتارب ضد الزمن. وما يكون شعار»إلى األبد«األسدي غير حرب ضد الزمن يشنها حكم عصبي أو رمبا حكم طغياني عاصف يخفق حتى في التطور إلى دولة خلدونية لكنه يتسبب في دمار عميم. بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال نعم الثورة ضد االستبداد حتركها بالفعل نوازع أخالقية وغضب أخالقي من عدوانية النظام وزبائنه وانحطاطهم وتطلع عام إلى العدالة واحلرية والكرامة اإلنسانية. غير عالم احملسوبية الشامل الذي تكلمت عليه في إجابة سابقة رمبا تكون سمعت بقول أشبه بنكتة يحصي وسائل الصعود االجتماعية في»سورية األسد«ويقول الكثير عن سلم القيم العام فيها هذه الوسائل هي: نوم تلمع أو أموال تدفع أو سيقان ترفع! أي القوة واملال واجلنس. والشكل األساسي للقوة ولعله الوحيد اليوم هو السلطة والقرب من السلطة. لكن العامل األخير اجلنس في رأيي ليس مستقال وهو تابع لعاملي السلطة املال. عامل السلطة هو األكثر استقاللية وهو يأتي باملال واجلنس يتلوه عامل املال الذي يأتي باجلنس لكن ليس بالسلطة حتما وأخيرا اجلنس الذي يأتي مبكاسب محدودة على نساء شابات

59 جميالت. القرابة من القيم االجتماعية املهمة وتتفوق على اجلنس لكن ليس على السلطة وال على املال. وقد تعززت كثيرا في السنوات األسدية ومعها محاباة األقارب املنتشرة التي هي من األوجه األبرز لنظام احملسوبية العام. وذروة احملاباة واحملسوبية هي توريث حافظ األسد السلطة البنه بشار دون استشارة للسوريني ودون كفاءة خاصة للشاب األلثغ. هذا انتهاك لضمائر السوريني قبل أن يكون انتهاكا ملفهوم اجلمهورية. وكما ال مكان في عالم احملسوبية للمثقف والسياسي ال مكان لهما أيضا في عالم النجوم واملال والقرابة والسيقان إال كموظفني وأتباع كحاشية لصاحب السلطة كاختصاصيي تعمية عامة أو كمهرجني على موائد ضباط املخابرات. وال مكان لعامة السكان. إنهم رعاع وحثاالت وقرباط ومتخلفني... هذه كلمات صارت تقال علنا في سورية بعد الثورة في وصف الثائرين. باملقابل هناك انهيار لقيمة العمل. كم نسبة السوريني الذي يعيشون حياة كرمية من عملهم قليلون جدا. وانهيار قيمة العلم. من يعيش من العلم من إنتاج املعرفة ونشرها وأضيف في قراءة حالتنا األخالقية أن مؤسسات التنشئة االجتماعية لدينا تعاني من تدهور كبير في أداء مهامها. أولها األسرة التي يعجز اآلباء الفقراء ونسبتهم عالية وعدد أفراد أسرهم أكبر عن تربية األوالد أو توفير مستوى من املعيشة يصون كرامتهم. في مراهقتهم يتحول كثير من هؤالء إلى»معقدين«حاقدين على املجتمع. هذه مشكلة كبيرة وأظن أنه ظهر في الثورة كم أن نطاقها أوسع مما نتصور. وتقديري أن كثيرا من اجلهاديني هم»معق دون«معادون للمجتمع منحدرون من هذه البيئات. املدرسة تتدهور في سورية منذ 40 عاما بال توقف. رسميا منذ عام 1974 الذي تأسست فيه»منظمة طالئع البعث«. بالتزامن مع هذا الضرب من اخلصخصة السياسية للتعليم العام إن جاز التعبير وهو أحد وجوه خصخصة سورية ككل ملصلحة حافظ األسد ومحاسيبه أخذت تظهر الدروس اخلصوصية التي نخرت مع الزمن املدرسة وحولتها إلى هيكل خارجي فارغ ومحت احلدود بني املؤسسة العامة والبيئات اخلاصة للمعلمني والتالميذ )جتري الدروس في بيوت املعلمني أو بيوت التالميذ(. نحن في املدرسة أبناء األسد وفي البيت أبناء آبائنا. لسنا مواطنني أو متدربني على املواطنة في أي مكان. واملكون الوطني واملدني واألخالقي للتعليم تدهور مع الزمن بالتناسب مع انشغال النظام حصرا بأن تكون املدرسة معبدا آمنا للديانة األسدية.

60 املؤسسة الثالثة هي املسجد. وهي أيضا مراقبة من قبل النظام وكانت تعمم تدينا محافظا اجتماعيا وداجنا سياسيا. ورغم أن الدين يقوم بدور أخالقية عامة أو شبه عامة إال أن أخالقيته غير حتررية يتفوق فيها البعد التشريعي على البعد الضميري أي اإللزام اخلارجي على االلتزام الداخلي. وهذا يبقي الضمير الشخصي ضامرا. يحل بدال منه شيخ اجلامع أو املفتي واليوم الداعية املجاهد في بعض املناطق. األخالقية الدينية أيضا أخالقية طائفية تنحصر فيها االلتزامات األخالقية حيال الشركاء في الدين أو هي على األقل تتفوق على االلتزامات حيال غير الشركاء. أما عند مجموعات اإلسالميني وبدرجة تتناسب مع تشددهم فإن العالم األخالقي يقتصر على شركاء املجموعة الضيقة وتتكفل عقيدة»الوالء والبراء«التي يتبناها بعضهم التيار السلفي والسلفي اجلهادي برفع ذلك إلى مستوى واجب ديني وجترمي االلتزام صافي النية حيال غير الشركاء في العقيدة. ويبدو أننا نعاين أزمتنا األخالقية وهذه األشياء كلها اليوم مع الفوران الهائل الذي مير به املجتمع السوري. كيف ترى العالقة مع»اآلخر«الغرب حتديدا خصوصا في ظل ما يتردد منذ منتصف القرن العشرين عن اخلصوصيات والثقافات املختلفة واملتعددة والدعوات للتخلص من املركزية الغربية التي استعمرت وفرضت قيمها على الشعوب األخرى كما يرى البعض. هل نتشارك مع الغربيني في مجموعة قيم إنسانية عابرة للثقافات وأية قيم هل هي قيم التنوير أليس هذا نوعا من اإلمبريالية كما يرى نقاد التنوير هل التدخالت الغربية املستمرة في مناطق عدة من العالم تعبير عن الهيمنة فقط أال ميكن إصالح ذلك وماذا عن احلالة السورية هذا موضوع مهم. لدينا اليوم ثالثة قوى ينسج تشابكها مصيرنا: الدين والدولة والغرب. ولكل منها وجه عام وإنساني ووجه غولي متوحش. وقد يكون وضعنا السوري مأساويا لكوننا نعاني من الوجه الغولي للدولة متمثال بالنظام األسدي والوجه الغولي لإلسالم متمثال بالقاعدة والوجه الغولي للغرب متجسدا على نحو خاص بإسرائيل لكن ليس محصورا بها. ثالثة وجوه مندارة نحو املاضي وحتمل سرديات مظلومية قوية. وليس هناك أقسى من قلوب من يستمدون شعورهم بالعدالة مما تعرضوا له من ظلم. الظلم أسوأ معلم للعدالة واملظلومية أسوأ مدرسة. بيننا وبني الغرب تشابك بنيوي طويل األمد تشاركت في تشكيله اجلغرافية مع التاريخ مع السماء مع اجليولوجيا. وقد سبق أن الحظ كثيرون أننا نلوم الغرب على سياسته في شؤون متنوعة ونطلب تدخله في الشؤون نفسها. قضية فلسطني هي املثال األبرز واليوم القضية السورية.

61 ولكن في احلالني لم نستطع أن نقول كالما موحدا في طلب العون. من جهة ألن بلدنا )وهذا ينطبق على فلسطني أيضا( ضعيف التشكل الوطني وال أحد ميلك من الشرعية ما يكفي ليتكلم باسم املصلحة الوطنية أو باسم الشعب السوري. سورية ليست فرنسا في احلرب العاملية الثانية وال أحد قادرا على إشغال موقع ديغول. ال لنقص جوهري في أهلية األفراد لدينا أو لنقل إن نقص األهلية احملتمل )بل األكيد( يحيل إلى نقص التشكل الوطني. نعيش في ظل دولة سلطانية محدثة قليلة العقل والضمير ردت مجتمعنا إلى عشائر وطوائف وإقطاعيات. ثم إنه لم يسبق أن جتاسرنا على طي سجالتنا القدمية التي تتقاسم العشيرة واالمبراطورية صفحاتها. ليس ميسورا أن نتكلم بصوت واحد واضح وحالنا كذلك. لكن من جهة ثانية هناك ازدواج الغرب. الغرب القوي األقدر على املساعدة هو أيضا الغرب غير الودود األقدر على اإليذاء وله في ذلك سوابق كثيرة. والغرب الذي تنتظم وفق قيمه املؤسسات الدولية في سجله انتهاكات هائلة لهذه القيم في بلداننا أكثر من غيرها. ثم أننا نخشى ونحن ننتقد الغرب على سياساته وأفعاله وغالبا ما نكون محقني في رأيي من عالم بال قيادة. ميكن لهذا أن يكون عاملا أكثر وحشية من عالم يقوده الغرب مبا يالئم مصاحله. فإذا أردنا أن نكون فكرة عما يشبه عاملا بال قيادة فحال العالم حيال وضعنا السوري مثال عليها. لدينا مذبحة مستمرة منذ ثالثني شهرا وأوليغارشية مجلس األمن معطلة ومع إحجام الواليات املتحدة والدول الغربية التي تشغل موقعا قياديا في النظام العاملي عن القيام بدور قيادي لوقف املأساة السورية وفي ظل ما نعلم من غياب من قيادة دميقراطية عاملية. لنا مصلحة كشعب منكشف وبلد أقرب إلى القاع العاملي بوجود قواعد عامة أيا تكن. بدون قواعد حالنا أسوأ ألننا أضعف. حالنا أسوأ أيضا حني يجري تعطيل القواعد على ما هو احلال اليوم. وتقديري أن العالم لم يعد موحدا وأن هناك تغيرا عميقا أصاب مفهوم العاملية أو الكونية في العقدين األخيرين. قبل حني كان هذا املفهوم يعني انبثاث قيم عاملية قيم التنوير وحقوق اإلنسان في التفكير واملؤسسات والتخطيط السياسي ومع اجتاه واحد للتاريخ يتكثف في مفهوم التقدم. اليوم مفهوم العاملية يحيل أكثر إلى جتاوز وتعايش الثقافات إلى الهجنة وتعدد القيم إلى النسببية الثقافية. أعتقد أن نهاية احلرب الباردة كانت فرصة لترقية الوحدة العاملية والتحول من وحدة موضوعية إلى وحدة ذاتية إن جاز التعبير أي إلى مركز سياسي عاملي مزود بصالحيات تنفيذية تتخلى له احلكومات عن جانب من سيادتها شكل أكثر فاعلية من األمم املتحدة وأكثر دميقراطية. لم يحصل ذلك. وعالم اليوم يعرض وضعا متناقضا فهو كروي وزمنيته واحدة على مستوى االقتصاد والتكنولوجيا لكنه منبسط ومتعدد الزمنيات على مستوى

62 السياسة. عالم حديث وما بعد كوبرنيكي على مستوى العمليات االقتصادية واملعلوماتية وبطليموسي وقروسطي على مستوى تنظيمه السياسي. حالت دون التكور السياسي للعالم ودون نشوء سلطة أو قيادة عاملية دميقراطية مصالح أوليغارشية مجلس األمن وأنانية الدول الكبرى وانكفاء احلركات التحررية والتغييرية العلمية نحو عداء سلبي أو ممانع للواليات املتحدة. وإذ بقي العالم السياسي منبسطا بعد زوال معسكر كبير كان ينازع على القيادة العاملية لم يبق سالكا غير درب التجزؤ العاملي احلالي. ورمبا ظهرت نظرية»صراع احلضارات«من باب إسباغ الشرعية على التجزؤ العاملي حلظة بدا أن العالم صار أكثر تقاربا واختالطا. ويتوافق هذا التجزؤ والتشكل»الثقافي«للعالم مع تعمم الرأسمالية كونيا من جهة ومع ضرب من التوازن الدولي يحاكي بصورة ما التوازن األوروبي في القرن 19 لكن د فع ثمنه في منطقتنا التي أنهكت األميركيني فعال في السنوات املنقضية من هذا القرن. وهناك اليوم ما يقارب عودة إلى القرن التاسع عشر أيضا والسياسات القومية التي تؤكل فيها البلدان الضعيفة أو تستخدم لتسوية فروقات احلساب بني القوى التي على القمة. لكن بدل»املسألة الشرقية«لدينا رمبا املسألة اإلسالمية. واجلديد هو دخول آسيا عبر الصني والهند نادي القمة الدولية الذي كان حكرا على قارتي أوروبا وأميركا. بلدنا اليوم أقرب إلى ضحية النحسار االمبريالية والتدخالت االمبريالية كما أخذت بالظهور في أواخر القرن التاسع عشر وعاشت أكثر من قرن منه إلى ضحية لالمبريالية. إنه ضحية منطق املصلحة القومية في أشد أشكالها أنانية املنطق الذي تشغل فيه إسرائيل وإيران موقعا متقدما. لكن قبل اجلميع نحن أمام طغيان محلي إجرامي استفاد من تكوين اجتماعي معقد ومن مواريث تاريخية غير مسواة ومن أوضاع إقليمية ودولية غير عادلة. بخصوص القيم أعتقد أن التاريخ مفتوح على الالنهاية. هناك موجات تاريخية وانبعاثات للماضي وانطالقات متجددة وليس هناك أي سبب لالعتقاد بأن املوجة الراهنة أبقى من سابقاتها. مم تتشكل هذه املوجة من أربع حركات: العوملة الليبرالية اجلديدة ما بعد احلداثة واألصولية )اإلسالمية خصوصا لكن املسيحية واليهودية والهندوسية أيضا(. وفي عمومها هي موجة محافظة وغير حتررية. غائب كليا عن اللوحة حركة اعتراض عاملية حية. اليسار القدمي إما متعفن أو هو أكثر تفتتا من أن يسهم في تشكيل الوضع العاملي أو يعدل من مزاج املوجة العاملية احلالية. وفيما يخصنا تختلط علينا األزمنة والتحديات من زمن مواجهة الطغيان السياسي القاتل إلى زمن مواجهة الطغيان اإلسرائيلي واملساندة الغربية )والروسية والصينية والهندية( له إلى زمن االشتباك الفكري والسياسي واالجتماعي مع الطغيان الديني ثالثة

63 غيالن وثالث استعمارات قاسية وثالث صراعات من أجل التحرر واالنعتاق. أفضل مقاربة قضايا القيم الفكرية واألخالقية من هذه الزاوية من زاوية صراعاتنا الفعلية وليس من زاوية معروض قيمي عاملي جاهز نتحزب جلانب منه ضد جانب. أنحاز مبدئيا لقيم عاملية لكن ليس لفكر التنوير األصلي الفرنسي بخاصة وال بخاصة لتناسخاته عندنا. يبدو لي أنها لم تأخذ من التنوير األصلي الفرنسي األملاني غير عداء طائفي وغير حترري لإلسالم )من مونتسكيو إلى فولتير إلى هيغل( وغير والء ملا يفترض أنه»استبداد مستنير«. فكريا وأخالقيا يبدو تنويريونا السوريني قياسا إلى فولتير في مثل وضعية»الرئيس املنتخب«بشار األسد قياسا إلى فريدريك الثاني. أفترض أن إشغالنا هذا املوقع القريب من القاع العاملي واملقتلة التي تسير في بلدنا منذ أكثر من عامني ونصف مع وقوف ميني العالم ويساره إلى جانب النظام وحكوماته أيضا تضعنا في موقع مؤهل مبدئيا لفحص عقل العالم وضميره. القيم العاملية التي انحاز لها هي املشاركة في الكفاح من أجل عالم مغاير أعدل. مشاركة آخرين في جتديد معانيه وتغيير سياسته وحتويل نظمه االقتصادية. وبقدر ما يبدو أن التغيير السوري مسألة عاملية فإن املشاركة في تغيير العالم مسألة سورية. مسألتنا مثل غيرنا ورمبا أكثر من غيرنا. وأيا يكن مآلها السياسي يتوجب علينا إكمال الثورة في الثقافة. هذا تطلعي الشخصي. ثورة في الثقافة وإنتاج املعنى وفي أفق عاملي دوما هي ما ميكن أن تكرم عناءنا الرهيب طوال ألف يوم»حتت أنظار غربية«وعاملية ال مبالية إن لم تكن متواطئة.

64 من مجتمع القضية الكبرى إلى مجتمع املشكالت الصغيرة ياسني احلاج صالح يعاني مجتمع الثورة السوري من ألف مشكلة لكنه ي ظهر حيوية متعددة املستويات أيضا فغير أشكال متنوعة من املقاومة في ظروف بالغة العسر طوال عامني تلفت النظر جهود مجتمع الثورة على مستويني: التنظيم الذاتي والتعبير املتعدد األدوات عن الرأي. في غير مكان من البلد تتشكل مجالس محلية منتخبة مبقدار ما تسمح الظروف حتاول تنظيم أوضاع السكان في مناطقهم مبا فيها الشؤون األمنية واملقصود بهذه خاصة ضبط جتاوزات متنوعة وتعديات على الناس واألمالك في هذه املناطق ومنها أيضا ضمان التموين وتوزيعه واالهتمام بالشؤون الصحية... وغير ذلك من القضايا احلياتية للناس. ليست كل هذه التشكيالت منتخبة بعضها بادر إليه مواطنون متطوعون لتسهيل شؤون احلياة في محيطهم وبعضها يتبع تنظيمات أو منظمات من أبرزها اإلسالمية. يلفت االنتباه اهتمامها بالتعليم الديني طبعا بينما ليس هناك تعليم لألطفال منذ أكثر من عام في العديد من املناطق وهذا كارثي طبعا. الوجه الثاني حليوية مجتمع الثورة أو باألصح مجتمعاتها املتنوعة هو أشكال تعبيرية متنوعة تتمثل بخاصة في عشرات الصحف واملجالت اجلديدة وانفتاح شهية السوريني

65 على التعبير عن أنفسهم بصور شتى ال تقتصر على الكتابة والكالم بل تشمل أيضا الالفتة والغرافيك والصورة والشريط املصور واألغنية وغيرها. مستوى الصحف اجلديدة من حيث احليوية والتنوع ال يقار ن بصحف النظام ويعمل فيها ويصدرها بكلفة محدودة ويوزع نسخها الورقية شباب وشابات أساسا. هي حتمل حساسية جديدة شابة مغايرة كثيرا حلساسية اجليلني السابقني على نحو يتجسد في أسماء كثير من هذه الصحف اجلديدة:»طلعنا عاحلرية«)جلان التنسيق احمللية(»عنب بلدي«)داري ا(»زيتون«)إدلب(»حنطة«)السلمية(»سنديان«)الالذقية(... يتعثر بعضها ويتوقف ويعود إلى احلياة. وأول داللة لذلك أن سورية تنتج اليوم من األسماء والكيانات والذاتيات الفردية واجلمعية ما لم تنتج طوال خمسني عاما من احلكم البعثي هي تنتج احلرية. وجها إعادة التشكل االجتماعي والوطني هذان التنظيم الذاتي والتعبير هما ما مينح فكرة احلرية في سورية مضمونا إيجابيا يتجاوز إسقاط النظام. ال شيء من ذلك أو يشبهه من طرف مجتمع النظام املكافح من أجل العبودية واألسير لغروره وانحطاطه الثقافي واألخالقي. ال شيء من ذلك أيضا لدى املعارضة املنظمة. وهذا ليس للقول إن أحوال مجتمع الثورة أو مجتمعاتها احمللية املتنوعة واعدة ومبش رة فالواقع أنه ميكن التكلم على مظاهر انحالل واسعة عن تهتك شديد للروابط االجتماعية حتى على املستويات احمللية عن انتشار العنف وعن توسل العنف لتصفية حسابات متنوعة أو جلني مكاسب خاصة. ال تفي صيغ التنظيم الذاتي باحلاجة في معظم املناطق وال تزال عوامل االنحالل والتبعثر واألنانية أقوى حضورا وأثرا من عوامل االلتئام والتعاون والعمل املشترك. ما يظهر اليوم في شروط الثورة أن نسبة السوريني الذين ال ضوابط ذاتية لهم عالية. هذا التكوين البشري هو قاعدة الطغيان وسنده وتقليص هذه النسبة من التحديات الكبيرة التي ستواجه السوريني اجلدد في مستقبل قريب. احلرية التي تكسب بالثورة سيتعني إعادة كسبها عبر تربية الضمير واالنضباط الذاتي. مع ذلك ليست مظاهر االنحالل هذه غير صعوبات عملية كبيرة وكثيرة لكنها واضحة ومن شأن تخصيص جهد ووقت وموارد ملواجهتها أن يحقق تقدما سريعا في معاجلتها وحلها. هناك مشكالت أشد عسرا تتصل باملجموعات اإلسالمية اجلهادية التي ال تخفي تطلعها إلى مثال للتنظيم االجتماعي والسياسي ال يتغاير كثيرا مع ما عرفته سورية منذ نشوء كيانها املعاصر وإمنا هو يفيض على الكيان السوري ذاته ويتجاوزه نحو ضرب من األممية اإلسالمية. وفي غياب ديناميات واقعية تسند هذا النموذج ال ميكنه أن يتحقق بغير عنف مهول.

66 هذه املجموعات حتوز حاليا شرعية مزدوجة من مواجهتها لنظام قتل عام ومما تعرض له اإلسالميون من استبعاد طوال نصف قرن فضال عن الشرعية اإلسالمية العامة لكنها تطرح مشكلة ال تختلف عن املشكلة التي تعاني منها سورية في ظل النظام البعثي واألسدي بخاصة من حيث إرادة الطرفني رد املجتمع السوري املتنوع الفائض التنوع إلى مجتمع قضية كبرى واحدة يفترض أن تتمركز حولها حياة السوريني وثقافتهم وسياستهم. إنها»اإلسالم«في حالة و»القضية العربية«في حالة وقد آلت األخيرة إلى تخوين املجتمع على نحو يبيح قصفه بصواريخ»سكود«وتدمير البلدات وأحياء املدن فوق رؤوس ساكنيها على ما نرى اليوم. للتكفير والتخوين بنية واحدة وكالهما سياج للسلطة املطلقة واألممية اإلسالمية أكثر حتى من األممية العربية من حيث كونها طوبى بال سند واقعي تؤسس ملصادرة حياة احملكومني من قبل أقلية ال بد أن حتكم بالطغيان. كثير على الثورة السورية أن تواجه نظاما احتالليا مدعوما من دولتني قوميتني شديدتي القسوة وتبطن سياسة أجهزة القتل فيها نزعة ثأر تاريخي )»كربالء«... إلخ( وتثقل كاهلها تشكيالت دينية مقاتلة شديدة التعصب ترفع قضيتها فوق الناس وتريد حكم اجلميع غصبا عنهم. وفوق هاتني مشكالت ما ال يحصى من املشكالت احلياتية اليومية. لكن هذا هو احلال وال مهرب منه. وهو يطرح في ما يتجاوز التخلص من الشب يح العام مشكالت اإلصالح االجتماعي والتربوي واألخالقي مبا في ذلك حفز قيم التواضع في مواجهة الغرور والتنظيم في مواجهة االعتباط والتسامح في مواجهة التعصب واحترام املجتمع في مواجهة املزايدة السياسية والفكرية عليه أي ضد التشبيح. وليس غير مشاركة أكبر عدد من السوريني في شأنهم املشترك والتوسع في صناعة احلرية عبر التنظيم الذاتي والتعاون وعبر متلك الكالم والتعبير واملقاومة طبعا مبا فيها املسلحة ما ميك ن سوريني من متلك التغيير والتحكم مبحصالته. الرهان هو التحكم بشرط احلياة والتحول نحو مجتمع املشكالت الصغيرة الكثيرة بعد ما يكاد أن يقارب 6 عقود من القضية الكبرى الطاحنة للبشر. مجتمع القضية الكبرى لم يحقق تقدما ال على مستوى القضية الكبرى املزعومة وال على مستوى املشكالت الصغيرة التي ال تعد. مجتمع املشكالت الكثيرة هو مجتمع الكثرة من الناس مجتمع الناس الذين يحررون أنفسهم بينما يغيرون حياتهم مبقدار ما إن مجتمع القضية الكبيرة الواحدة هو مجتمع الطغيان واملوت. نشر املقال في»احلياة«بتاريخ 3 آذار/مارس 2013

67 املثقفون واملخابرات... ياسني احلاج صالح يتعذر تصور نقيضني أشد تباعدا من املثقف ورجل املخابرات إلى حد أنه ميكن تعريف كل منهما بتقابله مع اآلخر. املثقف رجل العالنية الكشف واإلظهار والعرض )ورمبا االستعراض(. من املألوف أن يقول إنه ينوي أن يكشف عن كذا أو إنه اكتشف كذا أو أظهر أو أثبت أو أبان أو عرض أو أوضح. باملقابل شغل رجل املخابرات موجه نحو السرية واخلفاء والتكتم واحلجب والكبت والقمع واحتكار املعلومات. املثقف يعلن كل ما يعرف رجل املخابرات يكتم ما يعرف ويحجبه عن العموم. وبينما قد يصاب املثقف بداء االستعراض فإن الداء الذي قد يصاب به املخابراتي هو»االستسرار«أي إمساك املعلومات كغاية بحد ذاته أو السرية للسرية. ومنذ عصر التنوير قبل قرنني ونصف املثقف رجل نور استعاراته تتصل بالنور والضوء والرؤية وكشف األسرار وإظهار احملجوبات وتعرية احلقائق فيما جماعة املخابرات رجال ظل وخفاء وأسرار وكتمان وتعتيم ومتويه وصوال إلى تعمد نشر معلومات غير صحيحة والقيام ب«عمليات قذرة«. هنا ينتقلون من احلجب السلبي إلى احلجب الفاعل والتشويش. ال تكتسب معارف املثقف قيمة إن لم تطرح في املجال العام أي أمام أنظار اجلميع فيما تفقد معلومات رجل السلطة السري كل قيمة إن جرى تداولها في املجال العام. يريد املخابراتي أن يكون كل شيء مكشوفا أمامه ولو بالعنف. هو وحده هو غير مكشوف. أما

68 املثقف فيريد أن يكشف كل شيء لكن دون عنف ودون إخفاء نفسه. لكن في احلالني ثمة رباط بني األمن باملعرفة. املثقف يأمن إذا عرف ونزع الغرابة واخلفاء عما يدرس وإذا ع رف ايضا. واملخابراتي يأمن إن عرف ونزع السر عما هو محجوب عنه واحتكر املعرفة لنفسه. لكن معرفة األول غاية بذاتها فيما غاية معرفة الثاني هو السلطة. وأمن املثقف قابل للتعميم في مجتمعه أو في مجتمع البشر ككل. فيما أمن رجل السلطة خاص مشروط بنزع أمن آخرين. وألن املعرفة أداتية عند رجل املخابرات فإنها ترتد إلى معلومات. والعالم عنده ال يتوحد إال كموضوع للسلطة فإن كانت معرفة املخابرات مصدرنا األوحد ملعرفة العالم تكونت لدينا صورة عن عالم مفتت متناثر ال يتماسك دون سلطة فوقه. شرط املثقف هو احلرية وهذه شرط عمل أكثر مما هي قيمة يؤمن بها أو دعوة يباشرها. وهو مييل إلى تعميم هذا الشرط كما مييل إلى تعميم معارفه. هذا ينبثق من مفهوم املثقف دون أن يعني ذلك أن كل مثقف يطابق هذا املفهوم املبني بدوره على التجربة املكونة له في عصر التنوير والتي كرسها املثقفون األكثر جدارة باالحترام منذ ذلك الوقت. اإلنسان قيمة عند املثقف من هذا الباب باب احلرية للعموم. اإلنسان بسالمة جسده الشخصي وبضميره املستقل عن السلطات وعن العقائد والقبائل أيضا وعقله املستقل وحقه املطلق في احلياة واحلرية هو ما ميكن أن يكون قيمة مطلقة عند املثقف. عند املخابرات القيمة املطلقة هي السلطة. وهذه مناهضة مبدئيا للحرية وتفترض قابلية غير متناهية عند اإلنسان للتشكل وإعادة التشكل. ال حرمة جلسده بل هو قابل لإليالم والتعرية والفسخ والطي واللي والتمزيق واالختراق واحلرق والبتر والقطع... وضميره املستقل هو عدو محتمل يتعني التغلب عليه وكشف مضمراته وخباياه. عند املخابرات للحياة واحلرية ولإلنسان ذاته قيمة نسبية وحدها السلطة لها قيمة مطلقة. ووحدها السلطة حرة. على أن الفارق األهم بني الثقافة العاملة واملخابرات هو في النظرة إلى العالم. يعتقد املثقف أن العالم قابل للشرح أنه ليس ثمة أسرار جذرية فيه وإذا حزنا املعلومات الضرورية )ويفترض أنه ليس ثمة حائل جذري دون ذلك( واألدوات الفكرية والتقنية الالزمة فإننا نستطيع معرفة العالم وإتاحة هذه املعرفة جلميع الناس. العالم ممكن الشفافية في عني املثقف. هو أيضا عالم غير مخاتل ال يتعمد تضليلنا وما من أبواب موصدة دون»أسراره«. رجل املخابرات باملقابل ال يكتفي بحجب معلومات بل ينتج معلومات مزورة يعطي صورة غير حقيقية عن األشياء. يفعل شيئا ويخفيه أو ينسبه إلى غيره. يضع جواسيس في وسط من يعتبرهم خصومه يضلل ويخاتل. يتآمر. ويقتل. ومقياس أمنه أن يتجسس الصديق على صديقه. الصداقة مثل الضمير عقبة يوجب املخابراتي على نفسه أن يتغلب عليها. وليس ثمة ما يثبت أنه ال ينجح في إخفاء أفعاله أو في تقدمي صورة غير حقيقية عن الواقع. على سبيل املثال عرفنا في مطلع صيف 2007 أن للموساد ضلع في تدبير عملية مطار

69 عنتيبي في أوغندا قبل 30 عاما. كم هي العمليات التي ال نعرف شيئا عنها وقد ال نعرف عنها شيئا أبدا هل اغتيل ياسر عرفات هل عمليات»جند الشام«في سورية مفبركة هل اغتيال علماء عراقيني من صنع املوساد هل هناك أصابع خفية إسرائيلية أو أميركية أو إيرانية.. في احلرب الطائفية في العراق كم من العمليات التي نسبت ملقاتلني إسالميني ارتكبها في الواقع عسكر اجلزائر وقبل ذلك هل اغتيل جمال عبد الناصر هذه أشياء قد ال نعرف عنها شيئا أبدا أو ال نعرف عنها إال بعد انقضاء وقت طويل بعد أن تكون اجلهات املعنية بها حققت أهدافها ورمبا دفعتنا نحن خصومها من حيث املبدأ للتصرف مبا يناسبها. وهذا أمر يقلق عقل املثقف ومفهومه لنفسه قبل أن يصدمه كفاعل أخالقي أو كمواطن. يقلق ألنه يهدد بتزييف العالم وتاليا بجعل افتراض املثقف عن عالم قابل للشرح وممكن الشفافية تبسيطيا وساذجا. وما نخاف منه ليس املؤامرات بحد ذاتها فهي فاعلية بشرية قدمية معروفة ما نخافه هو أن ال نعرف أبدا إن كان ما نعرفه حقيقي أم مزور. أو أن نعرف متأخرين جدا حني ال نفع من املعرفة. ونخاف إذا كانت املؤامرات واخلطط السرية والبروتوكوالت احملجوبة عن األنظار صحيحة أن كل ما نعلمه ونتعلمه هباء ال قيمة له. كيف نأمن على عقولنا إذن كيف ال نشعر أننا ريش في مهب الريح إننا نخاف من املؤامرات على هويتنا كمثقفني أكثر مما نخاف منها على وجودنا ذاته. املثقف ينتقد»نظرية املؤامرة«ألنه مثقف ألن تعريفه كمثقف يتعارض مع التسليم بعالم مخاتل فيه مناطق عتمة واعية أي تراوغ جهودنا إلضاءتها وحتركه إرادات مغرضة تتعمد تضليلنا. نشأ املثقف أصال ضد السحر وعقائد األسرار واملعجزات وكل أنواع الظالميات واإلرادات النزوية املتعالية املنسوبة للجن أو العفاريت أو املالئكة أو اآللهة. لكن ما كان يخطر بالبال أن البشر الذين هتكوا»أسرار الطبيعة«ومتكنوا من»نزع السحر عن وجه العالم«وطردوا اجلن واألرواح اخلفية منه سوف يفخخون العالم بأسرار من صنعهم ويبثون فيه أشباحا وينشرون فيه ظلمات يعسر تبديدها وقد يورد كشفها إلى املنايا. والواقع أننا قد نقبل كمثقفني وجود مؤامرات لكن موقفنا من تأثيرها املعرفي غير واضح: إما أن نعتقد أنها تلغي بعضها أو أنها ال تكاد تؤثر على معرفة الواقع أو أننا نعرفها دوما بطريقة ما. أو نفترض أنه ملا كانت املؤامرات موافقة ملصالح املتآمرين فيسعنا أن نستغني مبعرفة املصالح عن معرفة وقائع التآمر. لكن معرفة الوقائع الصحيحة هي التي تعر ف املثقف ومنها أصال نبني مفهوم املصلحة املركب والتقديري دوما. فإذا احتجبت عنا معرفة الوقائع كان من احملتمل أن نبنى مفهوما مختال للمصلحة ال يصلح لشرح العالم. ولعلنا في صرفنا لنظرية املؤامرة نصدر عن مفهومنا ألنفسنا كأبناء للتنوير ولدورنا املفترض كشارحني للعالم ال عن اطالع ومعرفة كافية للمؤامرات واملخابرات وعالم األسرار احلديث. نغفل عن نوع جديد من الظالمية التي تصنعها السلطة عن أسرار وخفايا وألغاز ومعجزات تختلف عن تلك التي ميزت العصور الوسطى األوربية لكنها مضادة للتنوير مثلها.

70 التنديد بنظرية املؤامرة يغدو موقفا دوغمائيا في مثل هذه احلالة ينقذ من خالله املثقف نظرته إلى العالم دون ما يثبت أن العالم ميتثل فعال لهذه النظرة. وتاليا يغدو اإلزراء بنظرية املؤامرة»عائقا معرفيا«ال يحول دون معرفة املؤامرات فقط وإمنا أوال دون معرفة عالم ال تكف املؤامرات عن تشويهه وال يكف فيه رجل السلطة السري عن التآمر واخلتل وتزوير صورة األشياء وحتريف األقوال واألفعال وإنتاج عالم مختلف كثيرا عن عالم التنوير. هل نتحدث هنا تاريخيا هل لدينا أسباب لالعتقاد بأن املخابرات واملؤامرات تخرب العالم اليوم أكثر مما كانت تفعل قبل 20 أو 50 أو 100 عام هذا ما نشعر به. عالم اليوم فيه أسرارا ومؤامرات كثيرة. وفيه فوارق في املعرفة والتطور التقني والقدرة املالية تتيح للبعض التالعب بغيرهم وتعمد تشويش مداركهم وفبركة»وقائع«وتصنيع»حقائق«مع احتمال أال ينجح املتالعب بهم بكشف ذلك أبدا. أي أننا نغدو موضوعا منفعال فتتدنى حريتنا وإنسانيتنا وتتراجع سيطرتنا على شروط حياتنا إلى درجة مقلقة. وفي»الشرق األوسط«املنطقة التي قد تكون عش دبابير املخابرات في العالم أجمع مخابرات األميركيني واإلسرائيليني واألوربيني واحلكومات العربية.. املنطقة التي ترمى شعوبها بأنها أسيرة نظرية املؤامرة كيف يستطيع املثقف أن يقف عند صورة العالم بوصفه قابلية أكيدة للشرح والشفافية من يضمن أن ما نعرفه ليس شيئا صنع خصيصا من أجلنا عرضا جلوهر من صنع بشري كأن عالقتنا بالغرب تغدو ميتافيزيقية. كأن الغرب الذي لطاملا جهد للتخلص من امليتافيزيقا نح أخيرا في طردها إلينا. وفي بالدنا حيث تتفوق املخابرات على اجلان والعفاريت وحيث ينتشر االشتباه وليس دومنا أساس دوما بأن وقائع األمور ليس كمظاهرها كيف لنا أن نتيقن من أننا نعرف أو أن ما نعرفه هو األشياء املهمة وما اآلثار احملتملة لذلك على مستقبل الثقافة واملعرفة وكيف يكون التنوير حني تكون املخابرات وأهلها مصدرا رئيسا للتعتيم وحني تكون احلياة مهددة ومشوهة وملعوبا بها هل يبقى للمعرفة أي مفعول أمني وهل تبقى معرفة أصال )نشرت في»احلوار املتمدن«بتاريخ 2008/6/20(

71 حول مسألة الهوية الوطنية السورية: قراءة نقدية في كتابات ياسني احلاج صالح ماهر مسعود سنتناول في هذه الورقة مجمل طروحات ياسني احلاج صالح الرئيسة حول مسألة الهوية الوطنية السورية التي حاول إيضاحها في مقاالته السياسية حول املوضوع ثم جمع معظمها في كتابه»السير على قدم واحدة سوريا امل قالة«وهو واحد من عدة كتب منشورة لياسني كانت ميزتها اجلامعة على ما نرى هي حتطيم كالسيكية الكتابة ونسقية الطرح الثقافي والسياسي ملشكالتنا املعاصرة عبر تالفي املواربة والتجريد واإليحاء واإلشارة البعيدة املعهود والدخول مباشرة وبجرأة إلى قلب الب نى السياسية الدينية والثقافية املتكل سة وتفكيكها من الداخل بل حتطيمها منهجيا والتأسيس لتجاوزها بعقل مفتوح على الكوني والفلسفي والتاريخي وروح مهمومة باحمللي والداخلي. وكأن ياسني أراد حتطيم قيود السجن الذي عاشه طويال بتحطيم قيود الواقع وقيود الفكر املتمث ل واملمتثل لهذا الواقع وأراد نسف األساس النظري واألخالقي والسياسي لثقافة السجن وسجن الثقافة املديد عربيا وإسالميا و»سوري ا «. واملعروف عن ياسني أنه من بني النخبة السياسية املعارضة التي خرجت من سجون األسد في التسعينيات كان األكثر حيوية فكرية وثقافية واألكثر دفاعا عن األمل واحلياة أمام املوت السريري الذي تركته سنوات السجن الطويلة في قلوب املعتقلني ورمبا في حيواتهم أو تفاعلهم مع احلياة كما أن امليزة التي مي زت ياسني عن غيره في املجال السياسي هي

72 كسره لقيود اإليديولوجيا ذاتها التي أدخلته السجن و»خيانة الوصايا«املغلقة للعقائد احلزبية الضيقة وانطالقه نحو الفكر احلر واملعرفة املنفتحة كما جتلت في كتابه الهام»أساطير اآلخ رين«أو»السير على قدم واحدة«أو»باخلالص يا شباب«وأعمال أخرى. سنوضح بداية رؤية ياسني النقدية للهوية الوطنية السورية كما جتلت في زمن البعث بأشكالها املتعددة ثم نناقش نقديا بعدها خالصة تصوراته النقدية ذاتها مع دعوة مضمرة وصريحة لنقاش أكثر توسعا حول مستقبل بلدنا سوريا. مدخل فلسفي يبدو املنطق األرسطي فقيرا وضحال في مقاربته ملسألة الهوية أو هو صوري وأداتي مبا يكفي جلعل مبدأ الهوية القائم على»ما هو هو«و»الشيء هو عني ذاته«و»أ هي أ«حتجب أكثر مما ت ظهر فاملبدأ هذا يفرض نفسه كنتيجة أكثر من كونه»مبدأ«من حيث إن املقصود األساسي للمعرفة احلق ة هو معرفة ما هو هذا الشيء الذي هو عني ذاته وما هي هذه ال أ التي هي أ ولذلك مضت الفلسفة ومضى العلم في حتطيم هذا املبدأ وتلك الهوية»األصلية«لألشياء ومفاهيمها املعبرة عنها فانشطرت هوية الذرة إلى عدد ال متناهي من اجلزيئات ليبرز التعدد القابع داخل هوية الذرة وأخذ هذا الفعل مسارا في التفكير والتحليل واالكتشاف البشري غي ر جوهريا في التفكير الفلسفي وجعل من هوية األشياء و»حقيقتها«عنصرا مركبا وليس بسيطا بأي حال كما دعا الفلسفة املعاصرة بأهم أعالمها منذ نيتشه إلى التركيز على االختالف خلف التشابه ورؤية التعدد في أصل الهوية وفصلها وبات االختالف هو السمة اجلوهرية في كل ثبات واحدي وتوحيدي وهووي وأصبح اختزال التعدد واالختالف بهوية واحدية هو»صناعة«وإجراء اتفاقي وتعاقدي أكثر من كونه حقيقة وماهية ثابتة»للكلمات واألشياء«. وهذا»البارادامي«أو النموذج اإلرشادي يصح في الطبيعة كما في املجتمع وفي السياسية كما الثقافة وفي عالم الكبائر )املاكروفيزياء( كما في عالم الصغائر )امليكروفيزياء(. في فشل صناعة الهوية السورية عروبة سوريا البعثي ة بنقل التفلسف إلى ميدان السياسة ند أن سوريا فشلت عبر تاريخ تأسيسها احلديث في صناعة هوية تعاقدية متثل مكونها التعددي وقد فشلت بذلك بكل املعاني املمكنة للهوية التوحيدية التعاقدية أي سياسيا وثقافيا واجتماعيا.. واقتصاديا واستعاضت عن التمثيل التعاقدي بالتوحيد العقائدي والعقدي واأليديولوجي ذلك أحد جذور االستبداد والطغيان الذي ما زال قابعا فوق صدور السوريني اليوم والهوية العقدية هنا ميكن تشبيهها وإرجاعها ملبدأ الهوية في منطق أرسطو من حيث صوري تها وجتريدها وانعدام فاعليتها تبعا ملضمون

73 متعني ومتنوع واستنادها إلى مقولة ال إما/أو الشهيرة التي تقسم العالم إلى قسمني متنابذين متناقضني وقيامها على حذف النقيض واملختلف خارج عاملها نحو عالم متث ل سياسيا في سوريا بطرد املعارضني السياسيني من الوطنية ورفع احلماية القانونية والسياسية واالجتماعية عنهم ونفيهم الفعلي والرمزي خارج الهوية الواحدة املكتفية بذاتها واملساوية لذاتها دائما وأبدا. سوريا دولة إقليمية قائمة منذ تسعة عقود وني ف وحائزة على استقاللها عن االنتداب الفرنسي منذ أقل من سبعة عقود بقليل. كانت سوريا مركز النشاط االنفصالي عن العثمانيني والنواة املفترضة للمملكة العربية التي قادها امللك فيصل بني شوطني عثماني وفرنسي والتي كان يؤمل أن متتد من جبال طوروس إلى بحر العرب ومن املتوسط الشرقي إلى اخلليج والكيان السوري»مصطنع«. هكذا كان يراه أهله منذ البداية. ويحيل االصطناع هذا إلى واحد من أصلني»طبيعينيالوطن العربي«أو العشائر والطوائف وامللل واإلثنيات. ولطاملا كانت سياسة السوريني توقا إلى»الطبيعي«وليست اضطالعا جديا باصطناع كيان بلدهم والعمل على تطبيعه. وسواء متثل»الطبيعي«في الطائفة والعشيرة كما في زمن االنتداب الفرنسي الذي نشأت بوجوده أربع دول م شك لة على أساس طائفي وإثني دون أن يكتب لها النجاح وال االستمرار أو في الوطن العربي بعد االستقالل فقد كانت سوريا في احلالني بلدا يريد التخلص من نفسه. بعد االستقالل عاشت سوريا مرحلة نشطة لكن قلقة ومتغيرة سياسيا متثلت باالنقالبات العسكرية املتكررة مع مرور فترة دميقراطية برملانية بني عامي 1958-1954 وهو العام الذي شك لت فيه سوريا وحدة سياسية مع مصر عبد الناصر لم يكتب لها االستمرار أكثر من أعوام ثالث مع بقاء عبد الناصر مثال القومي العربي بكل ما يعنيه املثال من قداسة متعالية»سماوية«وابتعاد عن أرض الواقع )مث ل حافظ األسد ومعمر القذافي فيما بعد وكل بطريقته نسخا هزلية وأكثر راديكالية وتسل طا من ذاك املثال عينه(. هوية سوريا القومية العروبية بدأت تأخذ طابع اإلطالق مع انقالب البعث األول في 8 آذار 1963 بالتزامن مع إعالن حالة طوارئ ما زالت مستمرة إلى اليوم )مع إلغاء شكلي سنة 2011( إال أن انقالب البعث الثاني على نفسه هذه املرة في 23 شباط 1966 تكلل بعد أربعة أعوام باستالم حافظ األسد للسلطة كأول رئيس أقل وي بأيديولوجية قومية عربية في سوريا. إال أن أقلوية الرئيس خالل ثالثني عاما من حكمه وثالثة عشر عاما من حكم وريثه لم تكن هي بحد ذاتها مشكلة سوريا بل إن التباعد الذي ازداد عاما تلو آخر بني»الفكر«القومي للحزب )القائد للدولة واملجتمع( والذي كان شخص الرئيس الراحل ووريثه )امل طال ب بالرحيل( أمينني عامني له و»العمل«الطائفي والتطييفي الضي ق للسلطة التي مثلها كال الرئيسني هو أصل املشكلة السورية احلديثة وفصلها. عاشت سوريا فترة»استقرار«سياسي بئيس منذ عام 1970 حتى انطالق الثورة ضد

74 نظامها بداية 2011 لكن واقعها كدولة مستقلة وكمجتمع مركب بقي مفتقرا إلى»معرفة«أو متثيل يضفي عليه االتساق والشرعية. باملقابل ند»تعريفا «عروبيا لسوريا لم يكن مطابقا لواقع دولتها ومجتمعها في أي وقت فالتمثيل العروبي للدولة الذي عبرت عنه أيديولوجي ة حزب البعث كان متثيال قسريا واختزاليا وفرض هوية سياسية غير مطابقة على كل من الدولة واملجتمع معا وأدى دورا ثنائيا خطيرا بتناقضاته نحصد اليوم أثمان استقراره القسري املديد. فف ر ض اإليديولوجية العروبية القومية على الدولة السورية جعل منها كيانا ناقصا وهش ا على الدوام. هي جزء من الوطن العربي املوحد»طبيعيا «واملقسم»على يد االستعمار«تسعى هذه الدولة الكيان إلى العودة نحو»الطبيعة األصلية«املوحدة دون أن تصل ولكنها تستفيد من هذا الفراغ األبدي في نقص الواقع العروبي في أغراض سياسية واقعية جدا ليس أقلها طمس التعدد االجتماعي واإلثني والقومي وخنق التعدد السياسي واأليديولوجي في إطار الهوية الواحدة للدولة ونظامها الذي ميثلها ويختزلها ولشخص الرئيس تاليا الذي ميثل ويختزل الدولة والنظام معا. الهوية العروبية لسوريا مث لت ما يسميه ياسني احلاج صالح»أول جذور الفاشية السورية«كما نرى جتلياتها القصوى بأفجر صورها منذ 15 مارس/آذار 2011 حتى اليوم وذلك عبر الصيغة البعثية للقومية العربية وهي»عقيدة العروبة املطلقة«. تقضي هذه العقيدة بأن سوريا»قطر عربي«ومثل ذلك البلدان العربية األخرى التي يشكل مجموعها»الوطن العربي«وأن عروبة هذه األقطار ماهوية وثابتة ومستغرقة كليا جلميعها سكانا وأرضا ودولة. ولكن بفعل جتريدها الشديد وانفصالها عن أي واقع فعلي وجتمدها الفكري على ما كان في األصل إنشاء بالغيا فقيرا مع بقاء محتواها الشعوري البارانوئي آل األمر بالعقيدة البعثية إلى التمركز كليا حول شخص احلاكم حافظ األسد في سورية وصدام حسني في العراق. وما كان ينسب لألمة العربية الواحدة من أمجاد يوجد في شكل مكثف في حزب البعث وهذا محقق على أمت صورة في الرجلني األمينني العامني السابقني للحزب في بلديهما. هما حارسان للطهر الوطني وحائالن دون العدوى الغريبة واألجنبية. وملا كان احلزب واحدا تعريفا على نحو ما هي األمة العربية واحدة لزم أن يكون له أمني عام واحد. لذلك كان كل من األمينني العامني خائنا في عني نظام اآلخر. كان تركيب هذه العقيدة موجها نحو حظر االنشقاق الداخلي وجترميه من جهة ونحو عزل السوريني في»الداخل«عن»اخلارج«العدواني واملتآمر من جهة ثانية. أما جترمي االنشقاق السياسي والفكري الداخلي فيجد ترجمته العملية في مؤسسة اعتقال سياسي كانت نشطة منذ بداية احلكم البعثي وتكفل بها في عقود احلكم األسدي م رك ب أمني م كون من أجهزة أمنية كثيرة غير متمايزة الصالحيات لكنها تشترك في الوحشية. وقد يكون فرع فلسطني في دمشق رمزا لها لكونه وعبر اسمه بالذات اجلسر الذي يربط بني العقيدة القومية في صيغتها املطلقة وبني التعامل الوحشي مع االنشقاق الداخلي. الفرع التابع جلهاز

75 األمن العسكري تشكل أصال من أجل مالحقة جواسيس إسرائيل احملتملني. لكن التطابق بني النظام والوطنية سه ل تضييق الشقة بني النشاط املعارض وبني التعامل مع العدو. فسورية في حالة حرب تعريفا ودوما مع»العدو الصهيوني«وفق العقيدة القومية املطلقة وكل معارضة داخلية هي إضعاف للوطن أو تواطؤ مع العدو موجب ألشد العقاب. وما تعرض له ألوف املعتقلني السياسيني وبينهم فلسطينيون كثيرون في هذا املكان يسوغ اعتبار فرع فلسطني أحد رموز الفاشية في سورية. في اخلطاب الرسمي السوري ليست سوريا عربية ألن أكثرية سكانها عرب بل هي عربية مبعنى ماهوي ثابت وغير تاريخي. الشعب عربي واألرض عربية والدولة عربية. وبالتالي أن ينفرد بحكمها حزب عربي مطلق عروبوي يغدو من باب حتصيل احلاصل. وأن حترم جماعات غير عربية األكراد بخاصة من حقوقها الثقافية والتعبير عن شخصيتها ميسي أمرا نابعا من هوية البلد بالذات. ولكن ما تضمره هذه الهوية املطلقة للبلد هو أنها ال تفترض أن السوريني جميعا عرب فقط وإمنا جتعل من عروبة مجر دة بال مالمح والء أو ل وحيدا ونهائيا لهم. هذا التصور أسس لسياسة تذويب قومي لم تنجح في تذويب أحد لكنها غر بت الكرد في سورية وإن اقتصرت محصلتها على إجالئهم الكلي من املجال العام السوري وليس من البلد ذاته. وهناك اليوم ما قد يتجاوز ربع مليون كردي محرومني منذ نحو نصف قرن من اجلنسية السورية وهو واقع ساعدت العروبة املطلقة على إضفاء الشرعية عليه وإضعاف حساسية عموم السوريني حياله. الكردي غير مرئي وغير مسموع في سورية ومن املفهوم أن يثير هذا أشد سخط الكرد وقد يأخذ شكل عداء للعرب واألكيد أنه سيثير غير قليل من املشكالت السياسية والكيانية في وقت قريب. في طائفية العروبة لعبت الهوية العروبية لسوريا البعثية دورا طائفيا امتيازيا ألنها أوال : أقصت سياسيا واجتماعيا وثقافيا كل ما ليس عربيا في املكون السوري وثانيا : مارست فعال بارانوئيا مميزا للطوائف بل للعنصر الطائفي في الطوائف عامة واملتمثل بعقدة اضطهاد موجهة نحو اخلارج ملحوقة بجنون عظمة موجها نحو الداخل وجنون العظمة هو حامل العنصرية والشوفينية في كل مكان. وثالثا : قامت بتسييس العروبة أي جعلت ما هو عام أو ما يفترض أنه هوية جامعة موضع استثمار سياسي لطرف بعينه وتاليا مثار تنازع وخصام وهذا التسييس عينه هو ما أفقدها مفعولها اجلامع املفترض. رابعا : احتكرت لذاتها معنى خاصا من العروبة يخو ن كل خارج عن القالب احملدد سوري ا وهي بذلك ال تختلف عن حركات إسالمية سلفية ومتطرفة تدعي احتكار اإلسالم وت كف ر )مبوازاة التخوين( كل ما عداها من اإلسالمات املتنوعة. بحيث لم تسلم دولة عربية شرق أوسطية أو خليجية أو حتى

76 مغربية من تهمة التخوين والتآمر مع العدو الصهيوني مرة واالمبريالي مرة أخرى وقد شاهد اجلميع أثناء الثورة ديباجة )العرب العاربة والعرب املستعربة( السيما بعد عزل النظام من اجلامعة العربية. العروبة املطلقة موازية لإلسالمية املتطرفة التي نشهد أمثلتها خالل الثورة السورية في جبهة النصرة ودولة العراق والشام اإلسالمية فكالهما يرد املجتمع السوري إلى هوية فوق سورية مثالها في املاضي املثالي املصف ى من ماضيه العياني وكالهما يستجدي العنف كوسيلة أساسية لفرض»هويته«التي يفترضها هوية أصيلة وأصلي ة للسوريني وكالهما إقصائي ملكونات سوري ة موجودة ولكن بفارق أن إقصاء العروبة يعتمد التخوين وإقصاء التطرف اإلسالمي يعتمد التكفير وأخيرا كالهما يفترض أنه النموذج الوحيد للعروبة أو اإلسالم وممثال فريدا له أو لها. نسخة محلية لعقيدة العروبة املطلقة تطرف النظام امل شاهد اليوم لم يعد يستند إلى عروبته املطلقة وحدها منذ عدة سنوات بل أضاف إليها نزعة»قومية سورية«شوفينية بدأت بالظهور منذ ال 2005 )عام خروج اجليش السوري من لبنان( حتت مسمى»سوريا أوال «وبالتزامن مع صعود رأسمالية ملبرلة تقودها عائلة األسد ومخلوف مبشاركة بل تبعية أوالد مسؤولني وضباط كبار جمعوا ثرواتهم بالفساد ونهب املال العام أي بدخول عامل الثروة إلى املركب األمني السياسي والعسكري القدمي. ونزعة»سوريا أوال «هذه ليست سوى نزعة تبسيطية قومية مصغرة تشارك البعثية العروبية نزوعها إلى االستبداد وإن كان من موقع النقيض متاما فكما كانت البعثية»تنزع إلى رد سوريا إلى العروبة ورد السوريني إلى عرب حصرا وكما تنزع اإلسالمية اليوم وأمس إلى رد سوريا إلى اإلسالم والسوريني إلى مسلمني حصرا «فإن نزعة»سوريا أوال «أرادت فصل سوريا عن عروبتها وإسالمها معا ولكن ليس بنبذ الصيغة اإلطالقية وغير الدستورية للنزعتني السابقتني بل لتكريس نزعة إطالقية جديدة خل صها منوذج»التطوير والتحديث«لعهد بشار األسد والذي عنى بالضبط سيطرة عائلته وأقربائه على ثلثي اقتصاد البلد بعد رسملته وتوحشه وخصخصته وليشكل ثالثي السلطة واألمن والثروة حالة مافيوزية نادرة في تاريخ سوريا بانفالتها وفسادها وال عقالنيتها كما قدرتها على حماية النظام االستبدادي وشراء الذمم في داخل سوريا وخارجها. على عكس اسمها لم تتجه نزعة»سوريا أوال «نحو السوريني بتعددهم اإلثني والطائفي والقومي وإظهار غناهم الثقافي والسياسي وتنوعهم االجتماعي بل نحو إخفاء هذا التنوع مجددا في سوريا لصالح مسحهم بهوية واحدة جديدة»آنتي عروبية«هي هوية شكلية مجردة حتمل اسم»السوري ة«بدل»العروبية«القدمية للبعث ولكن مثل سابقتها أظهرت تلك النزعة بعد الثورة أن املقصود بسوريا هو نظامها واملقصود بنظامها هو رئيسها حتديدا فاملطابقة بني الرئيس والنظام والدولة والوطن جعل من 8 مليون نازح اليوم )حسب تقارير

77 األمم املتحدة( خارج الوطن والوطنية كما جعل من قل ة هزيلة وطائفية وبال ذمة أو ضمير أخالقي ممثلة»لسوريا أوال «في احملافل الدولية وعلى شاشات التلفزة مثلما جعل من»السوريني أوال «مجموعة من الشبيحة الذين ميارسون أقصى طاقات العنف والتشبيح جتاه السوريني الذين ليسوا»أوال «. هؤالء باملجمل هم نخبة التطوير والتحديث التي قادها وريث القائد اخلالد. نحو عروبة دستورية عروبة سوريا هي جزء من هويتها دون أن تستغرق تلك الهوية وليس بالضرورة أن تكون العالقة بني سوريا والعروبة عالقة استبعادية كما كانت في الصيغة البعثية فالكثير من»السوري ة«ال يعني القليل من العروبة كما في نزعة»سوريا أوال «ونقد الهوية العروبية كما رسخها البعث ال يعني بأي حال ترسيخ الوطنية السورية ضد العروبة فذلك سيجعل من الوطنية السورية نزعة قومية استبعادية ال تختلف بشيء عن القومية العربية التي مثلها البعث ذاته ومن املمكن لعروبة دستورية أن جتعل عالقة سوريا بالعروبة عالقة تكامل ال تنافس أو استغراق أو إزاحة والتكامل يكون بتقاسم الوظائف بحيث تسند وظائف التماهي والتمكني واالندماج السياسي لسوريا والوطنية السورية كما تسند وظائف استراتيجية واقتصادية وثقافية لعروبة سوريا ضمن محيطها العربي الذي تشكل سوريا عمقه االستراتيجي وهذا باملجمل ما حافظت سوريا األسد على عكسه بل قلبه رأسا على عقب. واحلقيقة أن هذا التمثيل املعرفي املقلوب ناجت عن متثيل سياسي مشوه بدوره ومديد و»ال«ميكن التحول نحو الدميقراطية دون املساس بتلك التمثيالت املعرفي ة املوروثة التي تأسس عليها االستبداد وهي كما قلنا متثيالت قومية تفترض هوية بسيطة عروبية أو إسالمية أو شامية أو سورية. ولنقل أيضا أنه آن األوان ألن تكف العروبة عن دفع ثمن متثيلها القومي أي اعتبارها هوية بسيطة متجانسة ت فرض على مجتمعات عياني ة شديدة التركيب«. ال يصعب أن نتصور اليوم عروبة دستورية تتمايز عن العروبة املطلقة التي يحتفي بها القوميون العرب من بعثيني وغيرهم والعروبة الدستورية تقوم على إدراك ثالثي األبعاد. )1( إن الدول القائمة وقائع اجتماعية وسياسية ودولية صلبة )2( إن العرب مكو ن واحد فقط وإن كان أكثريا في الغالب من مكونات هذه الدول )3( إن العرب جميعا أجزاء من متعدد أكبر هو العالم يؤمل أن يتصرفوا فيه يوما بصورة متقاربة. والعروبة الدستورية ميكن أن تكون احلل ملشكلتني: عروبة مطلقة متمذهبة ومتصلبة توافق»القومية العربية«وعداوة للعروبة ليست ضئيلة الشيوع وتنزع نحو اإلطالق هي ذاتها كما هو حال نزعة»سوريا أوال «.

78 هويات ما دون سوري ة مقابل الهوية العروبية الواحدة واملجر دة التي عممها نظام البعث السوري تبرز إلى السطح هويات متعددة ما دون سورية وترتكز الرؤى الغربية واالستشراقية عامة على هذه الهويات لترى سوريا عبارة عن فسيفساء تضم مجموعات بشرية مختلفة دينيا ومذهبيا وقوميا وغير قابلة للتجانس بل هي متجاورة على ما توحي به كلمة»فسيفساء«وعصي ة على االندماج الوطني وهذه النظرة»الطبيعانية«والعمودية للهوية ليست جديدة كما قلنا سابقا بل تعود إلى زمن االنتداب الفرنسي وتصوراته عن»املشرق العربي«والذي يعود بدوره إلى ما يسمى في األدبيات السياسة»املسألة الشرقية«قبل قرنني من الزمان. في املجتمع السوري ليس جميع السوريني عربا بينهم أكراد وسريان وأرمن وشركس.. وليس كل السوريني مسلمني بينهم مسيحيون ويزيديون وعدد ضئيل جدا من اليهود وليس جميع املسلمني من مذهب واحد ثمة خمسة مذاهب على األقل: سن ة وعلويون ودروز واسماعيليون وشيعة وليس جميع احملسوبني على أديان أو مذاهب مؤمنني ثمة أفراد يصعب تقدير نسبتهم غير مؤمنني بعضهم معاد للدين وليس جميع املؤمنني ملتزمني بأداء فروضهم الدينية بينهم من ال يفعلون وكثيرون منهم يتفاوت التزامهم كثيرا. هذا التعدد»الهوياتي«لسوريا ليس تعددا سياسيا على أية حال بل هو تعدد ثقافي ديني وقومي وإثني وطائفي كما هو تعدد اجتماعي وأهلي في أصله وفصله لكن تسييسه الذي مت مرة عبر طمسه وكبته ومنع النقاش العلني فيه أو حوله كما في عهد األسدين ومر ة عبر التخويف به والتخويف منه. جعل منه مشكلة وطنية بدل كونه موضع غنى وثراء ومتيز عرفته سوريا عبر تاريخها وحضارتها القدمية. اقتران الكبت والطمس والتخويف من جهة باالمتياز والتمييز على أسس طائفية محج بة بغالف»وطني«من جهة أخرى جعل من هذا التعدد»الطبيعي«قابال لالنفجار واإلظهار والتحو ل إلى صرخة علنية. وبدل أن تبقى تلك الهويات العمودية جزءا من تعي نات أخرى غير مختارة للهوية أصبحت بفعل الضغط والكبت ومن ثم العنف املنفلت من عقاله والتسييس الطائفي املقيت بعد الثورة تطوف نحو السطح لت جذ ر حضورها وتستغرق هوية السوريني مبا هو دون سوريتهم في ظل االنقسام االجتماعي والسياسي الذي عززه عنف النظام وغياب الهوية الوطنية الدستورية اجلامعة التي لم يعمل النظام السوري إال على متزيقها وتفكيكها. منذ عام 2007 كتب ياسني»إن من شأن أية سياسة أو ممارسة ثقافية ترجع السوريني إلى هوية فوق سورية )عربية أو إسالمية( أو حتت سورية )طائفية أو إثنية..( أن تتسبب في تشوه نظري في متثيل واقع املجتمع السوري وأن تثير مشكالت وطنية كبيرة عمليا. وليس أقل هذه األخيرة االستبداد الذي أصبح تفكيكه مخيفا بدرجة ال تقل عن دوامه وهذا يسبب مخاوف من أن يقترن تفكيك االستبداد مع تفكك البالد على أسس إثنية وطائفية

79 على غرار ما نراه يتجلى في العراق.«من أجل تأسيس هوية وطنية جامعة... نقاش نقدي في صفحته على الفيس بوك كتب ياسني جملة من سطر واحد مفادها»أن ديكتاتورية وطنية قد تكون هي احلل«. وقد جاء هذا الطرح»املفاجئ«برد ات فعل هائجة من قبل متابعي صفحته وأصدقائه على الشبكة العنكبوتية إال أن طرح ياسني»اجلديد«)في الشهر الثامن من هذا العام( ليس جديدا في احلقيقة بل يعود إلى تفكير جدي مكتوب تناول فيه مناذج الديكتاتوريات املشرقية وممكنات التفاضل بينها أو اخلروج عنها. ففي عام 2007 أيضا نشر ياسني مقاال مطوال في موقع األوان بعنوان»منذجة تاريخية مقترحة للنظم السياسية املشرقية«وفيه يطرح أربعة مناذج للنظم السياسية املشرقية باالستناد إلى معياري الدميقراطية والوطنية وهي: منوذج الديكتاتورية الوطنية منوذج الديكتاتورية الطائفية منوذج الدميقراطية الطائفية ومنوذج الدميقراطية الوطنية. وباالستناد إلى هذه النماذج تعد مصر الناصرية منوذجا للديكتاتورية الوطنية بينما عراق صدام )كما»سوريا األسد«( هي مناذج للديكتاتورية الطائفية أما لبنان فهو منوذج الدميقراطية الطائفية ويبقى منوذج الدميقراطية الوطنية هو املأمول إال أنه في أوضاعنا املشرقية احلالية )بعد وضوح النموذج العراقي( من غير املمكن الوصول املباشر للدميقراطية الوطنية قفزا دون املرور بديكتاتورية وطنية مرحلية إجرائية. إذا كانت»مصر الناصرية«هي منوذج الدكتاتورية الوطنية فإن عراق صدام هو منوذج الدكتاتورية الطائفية باملعنى الذي ذكرناه للتو ملفهوم دكتاتورية طائفية. وكان 9 أبريل 2003 هو 5 حزيران/يونيو هذا الصنف من األنظمة أي دخولها في مرض موتها الذي ال تخرج منه مهما طال إال إلى قبرها. والعراق اليوم هو طليعة الدول العربية نحو ما بعد الدكتاتورية الطائفية كما كانت مصر السادات هي الطليعة في التحول نحو ما بعد الدكتاتورية الوطنية. من املهم لذلك أن نراقب ما يجري في العراق بدقة ألنه قد يعطينا فكرة عن اجتاهات تطور بلدان مشرقية أخرى.)...( والواقع أنه لم يظهر أبدا خوف على مصير الدول العربية القائمة حروبا أهلية ومخاطر تقسيم إال في عهد الدكتاتوريات الطائفية في الربع األخير من القرن العشرين.«ولكن»هل يجعل ذلك من»الدميقراطية التوافقية«التي جتعل من الطوائف واإلثنيات وحداتها السياسية هي احلل هذه الصيغة ترتبط بضعف الدولة إن في املجال الداخلي حيث تقوم الوحدات السياسية املعترف بها بأدوار كبيرة ثقافية وتعليمية واجتماعية على حساب الدولة أو في املجال اخلارجي حيث تعجز الدولة عن احتكار السيادة والدفاع الوطني. كي تنجح ينبغي أن تكون الدولة محايدة حيادها محمي أو مكفول دوليا وأن تكون مقتدرة اقتصاديا أشبه مبشروع اقتصادي ناجح كي يرتضي السكان االستمرار في العيش معا.

80 قد ينطبق ذلك على سويسرا وبلجيكا وهولندا.. لكنه ال ينطبق في منطقة متقلبة بشدة واقتصادياتها غير متطورة وثقافتها السياسية تدخلية ودمجية أو انفصالية وحياد أي منها صعب جدا. ما يعني أن»الدميقراطية التوافقية«متعذرة في»الشرق األوسط«. ومحاولة فرضها قد تفتح الباب النفراط وتبعثر الدول القائمة ال لدمقرطتها. وما قد نستخلصه من املثال اللبناني أن بيئة إقليمية غير مستقرة ميكن أن تفجر الصيغة هذه املرة تلو املرة. الدميقراطية الوطنية املتعذرة في العراق ال تبدو متيسرة في بالد املشرق األخرى. ليس العائق الوحيد هو الدكتاتوريات الطائفية القائمة بل كذلك التطييف االجتماعي الذي ولد أو تنش ط على يديها. على أن فترة متوسطة من حكم وطني عقالني قد يكون من شأنها تسهيل عملية دمقرطة الدولة في بلدان مثل مصر واألردن وحتى سورية إن واتى احلظ. هل يتميز حكم وطني عقالني عن دكتاتورية وطنية نشعر أحيانا أن مرورا وجيزا بدكتاتورية وطنية قد يكون جسرا لالنتقال من الدكتاتوريات دون الوطنية القائمة إلى دميقراطية وطنية شيء أشبه بقانون التلخيص في البيولوجيا: مير اجلنني البشري قبل أن يشبه جنينا إنسانيا مرورا وجيزا باملراحل التطورية األساسية التي آلت إلى تكو ن البشر. نريد إن مرورا وجيزا بدكتاتورية وطنية منظورا لها كإجراءات ال كنموذج حكم قد يكون ضروريا قبل التحول نحو دميقراطية وطنية قابلة لالستدامة. نقول ذلك ألنه يبدو لنا أن الدرس العراقي يفيد بأن التحول املباشر من دكتاتورية طائفية إلى دميقراطية وطنية أي حل مشكلتي الدكتاتورية والطائفية معا أمر دونه صراعات عنيفة وسنني طويلة رمبا بالعقود. منوذج»الدميقراطية التوافقية«)أو الطائفية( الذي يحل مشكلة الدكتاتورية وحدها معرض الختالالت خطيرة كما يثبت املثال اللبناني. أال ميكن أن تكون املشكلة في منوذج الدميقراطية الوطنية الذي نتطلع إليه نستبعد ذلك. فالدميقراطية الوطنية ال تعني غير نظام للدولة دون دكتاتورية ودون طائفية.«هذه الفقرة من مقال ياسني تلخص ما نود نقاشه حول آفاق الهوية الوطنية السورية. فإذا كانت الديكتاتورية الطائفية التي مثلها نظام األسدين متضي في طريقها احلتمي نحو املوت فإن ما ينتظر سوريا هو في أسوأ حاالته ديكتاتورية طائفية جديدة تقودها اليوم حركات من مثل»داعش«والنصرة اإلسالمية وفي أحسنها دميقراطية وطنية متضي باجتاه حتقيق االندماج الوطني وقيادة»الشعب السوري«إلى الدولة األمة. ولكن كال األمرين مستبعد في املرحلة املقبلة بالنسبة لكاتب هذه السطور كما أن حلول ديكتاتورية وطنية مكان النظام ال يبدو إمكانا واقعيا بالقياس إلى التعدد الطائفي واإلثني املوجود في سوريا واالنقسامات العامودية التي يتركها طول ثورة السوريني ونكبتهم الكبرى بنظامهم الدموي. منيل مرة أخرى إلى نقاش دميقراطية توافقية مث لها لبنان بني عامي 1943 1975 أي قبل احلرب األهلية الطويلة ودخول اجليش السوري»محتال «إليها ثم خروجه منها بتركة

81»حزبالالوية«كإسفني سوري إيراني في ظهر لبنان يهدد أمنه بقوة السالح والعقيدة املتطرفة واإلرهابية ورمبا شك ل وسيشك ل أهم مشكلة معاصرة للبنان. وعلى الرغم من إدراكنا للصعوبات التي تطرق إليها ياسني فيما نقلناه أعاله أو فيما ذكره في مواضع أخرى تعبيرا عن رفضه»املعقول«لهذا النموذج فإن نقاشا هادئا وعقالنيا وعلنيا البد أن يتناول هذا اخليار من بني خيارات أخرى مطروحة لسوريا املستقبل ولكن بدل اللجوء الدائم لسياسة األمر الواقع أي نقاش احلدث بعد حصوله ند أن نقاشا مسب قا للمكنات من هذا النوع يغني التفكير السياسي ويوسع دائرة العمل السياسي مستقبال. إن النموذج اللبناني»السيء«لم يكن سيئا باملاهية وخارج التاريخ بل إن تراكب الظروف التاريخية واجليوسياسية في سبعينيات القرن املاضي وما تالها كان عامال حاسما في سوئه على الرغم من مرور فترة طويلة نسبيا )منذ االستقالل عام 1943 حتى بداية احلرب األهلية عام 1975( كانت فيها الدميقراطية التوافقية قائمة وقابلة للتشذيب والتطوير واالستمرار إال أن تغير الوضع الدميغرافي نتيجة تزايد دخول الالجئني الفلسطينيني بعد نكسة حزيران ونشاط حركة املقاومة الفلسطينية انطالقا من أرضه كما الالاستقرار اجليوسياسي الذي شك له وجود الكيان العنصري اإلسرائيلي في منطقة الشرق األوسط عامة ودخول الالعب السوري كطرف متاجر بالقضية الفلسطينية وكالعب قوي في»الصراع على الشرق األوسط«بعد مرحلة»الصراع على سوريا«السابقة حسب حتقيب باترك سيل في كتابيه املشهورين وأخيرا خروج حزب اهلل بوصفه املنتصر الوحيد تقريبا من احلرب األهلية اللبنانية وتشكيله اليوم دولة م عط لة ضمن دولة م عط لة. كل تلك العوامل جعلت من الكالم عن دميقراطية توافقية بلبنان أشبه بالكالم عن توافقية دولية بوكالء محليني لبنانيني معظمهم أمراء حرب وهو ما ميكن أن نسميه»مجموعة دول في الالدولة". متيل األدبيات النظرية حول التنمية السياسية وبناء األمة إلى رسم تقابل ثنائي سطحي بني املجتمعات التعددية في العالم الثالث واملجتمعات املتجانسة املزعومة في العالم األول والتغافل عن وجود عدة مجتمعات غربية بالغة التعددية وجتاهل كون البعض القليل من هذه املجتمعات قد أفلح في إقامة أنظمة دميقراطية من النمط التوافقي وإهمال العبر املعيارية للمثال التوافقي. ولكن املرء يجانب الدقة إذا ما وصف كتلة نظريات التنمية السياسية كلها بأنها ال مبالية أو معادية باستمرار إلمكانيات الدميقراطية التوافقية. فثمة شذرات وإملاعات في أنحاء متفرقة من هذه األدبيات ولكنها غير متبلورة في معظمها. من ذلك أن روبرت ملسون وهوارد ولب يختتمان حتليلهما لسياسة الطائفية أي التعددية املقط عة في البلدان النامية بالعظة التالية:»يجب إيجاد الترتيبات السياسية التي متنح كافة الطوائف دورا هاما في احلياة الوطنية والتي تستطيع أن تبقي النزاع الطائفي ضمن حدود ميكن التحكم بها. فاستمرار املجتمعات املتعددة الثقافات ال تهدده الطائفية بحد ذاتها بل إخفاق املؤسسات الوطنية عن االعتراف الصريح باالنقسامات واملصالح الطائفية القائمة وحسن التعامل معها".

82 ويلفت آرنت ليبهارت إلى أنه على رغم املشاكل السياسية التي تعانيها العديد من الدول النامية والناجمة عن االنقسامات العميقة بني قطاعات من سكانها وغياب اإلجماع املوحد لها فإن»األدبيات النظرية حول التنمية السياسية وبناء األمة والتحول الدميقراطي في تلك الدول تتعامل مع الواقع بطريقة ملتبسة الفتة. فمن جهة يرفض كثير من الكتاب ضمنا االعتراف بأهميتها. ويذهب واكر كونور إلى أن»معظم املنظرين البارزين لبناء األمة قد مالوا إلى التقليل من شأن املشاكل املتعلقة بالتنوع العرقي إن لم يتجاهلوا هذه املشاكل أصال «. ومن جهة ثانية فإن املؤلفني الذين يعاجلون املسألة معاجلة جادة مييلون إلى ايالئها أهمية غالبة". ميكن تعريف الدميقراطية التوافقية استنادا إلى أربع خصائص.»العنصر األول واألهم هو احلكم من خالل ائتالف واسع من الزعماء السياسيني من كافة القطاعات الهامة في املجتمع التعددي. ومن املمكن أن يتخذ ذلك عدة أشكال متنوعة منها حكومة ائتالفية موسعة في النظام البرملاني مجلس»موسع«أو جلنة موسعة ذات وظائف استشارية هامة أو ائتالف واسع للرئيس وسواه من كبار أصحاب املناصب العليا في نظام رئاسي. أما العناصر الثالثة األخرى في الدميقراطية التوافقية فهي )1( الفيتو املتبادل أو حكم»األغلبية املتراضية«التي تستعمل كحماية إضافية ملصالح األقلية احليوية )2( النسبي ة كمعيار أساسي للتمثيل السياسي والتعيينات في مجاالت اخلدمة املدنية وتخصيص األموال و) 3 ( درجة عالية من االستقالل لكل قطاع في إدارة شؤونه الداخلية اخلاصة.«إن االستعاضة عن الوالءات القطاعية بالوالء لألمة يبدو جوابا منطقيا للمشكلة التي يطرحها املجتمع التعددي إال أن محاولة تطبيقها قسريا هو أمر في غاية اخلطورة. ذلك ألن»الوالءات األولية ملا كانت شديدة الصالبة فمن املستبعد أن تنجح أية محاولة الستئصالها ال بل إن من شأن محاولة كهذه أن تؤدي إلى نتائج عكسية ورمبا نش طت التماسك القطاعي الداخلي والعنف بني القطاعات بدال من التماسك الوطني. إن البديل التوافقي يتحاشى هذا اخلطر ويقدم طريقة واعدة أكثر لتحقيق الدميقراطية املقرونة بقدر كبير من الوحدة السياسية«. والوحدة السياسية في إطار مشروع االندماج الوطني وبناء الدولة األمة هو ما يفترض أن يكون موضوع السياسة األول في سوريا القادمة. ما يشبه اخلامتة... نرجح بأن سوريا ما بعد نظام األسد سوف تنحو موضوعيا )وحتى إراديا ( باجتاه التخلص من دورها اإلقليمي الوظيفي الذي لعبته طوال احلقبة األسدية ولهدف جوهري وحيد هو بقاء العائلة األسدية على رأس السلطة ومن املعروف أن الدور الوظيفي السابق اعتمد بشكل رئيسي على التشابك األمني السياسي بقضايا املنطقة مع بقاء العالقة مع إسرائيل معل قة في حال الالسلم والالحرب مع االستفادة من هذا الوضع بإغالق الداخل وإحكام

83 القبضة األمنية العسكرية عليه ثم اللعب حرا في اخلارج بخدمات مأجورة للدول الكبرى واإلقليمية ضمن احمليط العربي. وحري بالدور اجلديد أو املأمول لسوريا أن يستبدل التشابك األمني السياسي في محيطها العربي بتشابك اقتصادي سياسي وتنموي وثقافي وهذا الدور قد يساعد سياسي ي الداخل على إنتاج نظام دميقراطي توافقي يساهم في عملية االندماج الوطني وبناء الدولة األمة على أسس تعاقدية ودستورية تكون مصلحة السوريني كأفراد وجماعات وطوائف واثنيات هي الرائز األساسي لبنائها واألولوية القصوى لطموحاتها بعد أن كانت مصالح السوريني العيانيني ت لغى بالشعارات األخالقوية»من فوق«ونهب الثروة الوضيع»من حتت«بشعارات الوحدة الوطنية»من فوق«وصيانة االنقسام الطائفي»من حتت«بشعارات القومية العربية»من فوق«وإعمال الطائفية واالمتياز الطائفي»من حتت«بالكالم عن املواطنة واالنتماء مقابل خلق الرعية واالستزالم والوالء..الخ الخ. وهذا كله ال يصنع هوية وطنية وال يصنع وطنا. الوطن هو ما علينا البدء بصنعه اليوم وال ميكن للوطن أن يسعنا ويضمنا جميعا إال إن كنا فيه... مواطنني أحرار. - ياسني احلاج صالح: السير على قدم واحدة- سوريا املقالة دار اآلداب بيروت الطبعة األولى 2012 ص.285 - ياسني احلاج صالح: في اجلذور االجتماعية والسياسية للفاشية السورية موقع احلوار املتمدن العدد رقم 3819 تاريخ 2012-8-14. / http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=319932"http://www.ahewar.org» HYPERLINK.debat/show.art.asp?aid=319932 - ياسني احلاج صالح: املصدر ذاته. - ياسني احلاج صالح: السير على قدم واحدة- سورية امل قالة املصدر ذاته ص 275 - ياسني احلاج صالح اجلذور االجتماعية والسياسية للفاشية السورية ذاته. - ياسني احلاج صالح السير على قدم واحدة املصدر ذاته ص 268 - ياسني احلاج صالح املصدر ذاته ص 271 - املصدر ذاته ص 258-257. - هناك مادة طويلة جلاد الكرمي اجلباعي حول هذا املوضوع حتت عنوان»مسألة األقليات«انظر الرابط. //: http://arabsfordemocracy.org/democracy/pages/view/pageid/1713"http» HYPERLINK.arabsfordemocracy.org/democracy/pages/view/pageId/1713 - ياسني احلاج صالح: السير على قدم واحدة املصدر ذاته ص 263. - خرجت السيدة بثينة شعبان منذ األيام األولى للثورة للتخويف والتحذير من الطائفية في الوقت الذي كان فيه الشعب السوري يغرد في شعاره»واحد واحد الشعب السوري واحد«وفي الوقت الذي لم يعرف الشعب السوري اندماجا وطنيا كما في تظاهراته السلمية بداية الثورة حيث كان يجتمع الشباب من الطوائف كافة في املظاهرات املطالبة بإسقاط النظام كما في جبلة ودوما وحرستا والقابون وحمص والالذقية وبانياس وغيرها. - املصدر ذاته ص 265.

84 - نشر املقال بتاريخ 22 تشرين األول/أكتوبر 2077 على هذا الرابط html.منذجة-تاريخية/ http://www.alawan.org - ياسني احلاج صالح املصدر ذاته. - انظر في هذا الصدد تناول ياسني للموضوع في كتابه السير على قدم واحدة مرجع مذكور سابقا في الصفحات 268 و 273 و 276 277 و 288. - تشترك في هذا الرفض األكثرية املطلقة للنخبة السياسية السورية على ما نخمن بحيث لم يكن هذا اخليار مطروقا أو حتى قابال للتخيل قبل تداعيات الثورة السورية دون أن يكون استبعاده ايجابيا بالضرورة وعلى العموم لم يكن في سوريا سياسة في ظل املركزية املطلقة للسلطة األسدية مع أنه كان هناك الكثير بل الكثير جدا من التسييس. - انظر في هذا الشأن كتاب آرنت ليبهارت: الدميقراطية التوافقية في مجتمع متعدد ترجمة حسني زينة منشورات معهد الدراسات االستراتيجية الطبعة األولى 2006 بغداد- بيروت. ويتناول الكتاب في فصله اخلامس»الدميقراطية التوافقية في العالم الثالث«متخذا من لبنان وماليزيا مناذج ناجحة نسبيا ضمن مراحل زمنية محددة. - ليبهارت املصدر ذاته ص 218. -آرنت ليبهارت: املصدر ذاته ص 33 - املصدر ذاته ص 47. - املصدر ذاته ص 45.

85 عن اإلصالح الديني في»أساطير اآلخرين«راتب شعبو في مقدمة كتابه )أساطير اآلخرين( يحدد الكاتب الصديق ياسني احلاج صالح الغرض من جهده الفكري بالقول إنه»حتويل اإلسالم من مشكلة وضع مختلط ومشوش وفاقد الشكل إلى مسألة أي وضع ذي شكل ميكننا صوغه في أسئلة محددة ومفاهيم واضحة«. يسعى الكاتب أن يكون أمينا ملا ألزم نفسه به ويعرض أفكاره بأملعية غير أن القارئ يخرج من الكتاب دون أن يرى اإلسالم قد حتول من»مشكلة«إلى»مسألة«. ولعل التدقيق في املقدمة يكشف أن الكاتب يضيق ليس فقط مبشكلة اإلسالم بل مبشكلة الدين أساسا فيطمح إلى ثورة إنسانية إلى»حتويل جوهري للسيادة من السماء إلى األرض«ليس باملعنى الذي حققه الرسول محمد بأن استمد السيادة من السماء ع ب ر ق ر ن الشهادتني بل مبعنى»االنقالب على اهلل«إذا صح القول ألن»التبعية الدينية هي الشكل القياسي لكل تبعية. والعباد هم مثال العبيد«كما يقول ياسني. واحللول اجلذرية والعالية وشبه املستحيلة التي سيقترحها الكاتب مثل اإلصالح املؤسسي املتمثل بخلق سلطة دينية مركزية بدال من تبعثر نقاط السلطة الدينية في املجتمعات العربية نابعة برأيي من هذا الضيق.

86 مالحظتان شكليتان سوف أذكر في البداية مالحظتني شكليتني: األولى: أخطأت في التشكيل حني قرأت عنوان الكتاب فقرأته )أساطير اآلخ رين( بفتح اخلاء وإذا هو )أساطير اآلخ رين( بكسرها. غير أني استسغت خطئي أكثر فقد بدا لي أكثر إيحاء. ورأيت أن النسج على منوال مجادلي الرسول محمد في بداية دعوته حني أرادوا الطعن في أصالة أقواله قائلني»إن هي إال أساطير األولني«ال تخدم سوى في إعطاء نكهة إسالمية للعنوان. الثانية: الكتاب جتميعي يوحده موضوع اإلسالم ولكن تعدد اجلوانب يجعل من الصعب تناول الكتاب ككل في دراسة واحدة لذلك اخترت أن أركز على عنوان القسم الثالث فيه وهو )اإلصالح اإلسالمي( مع تناول العناوين األخرى ما خدمني ذلك ولكن في السياق ذاته. إصالح الدين يشعر املرء بصدمة هذا التعبير: )إصالح الدين(. هل يحتاج الدين الذي من طبيعته أن ال يرقى إليه شك إلى اإلصالح ومن يصلحه البشر العاديون أقصد املتروكني في دنياهم لعقولهم احملدودة بال وحي أو نبوة أليس إصالح الدين إذا كان يحتاج إلى إصالح من شأن املعبود وليس العبد أليس اهلل من راح يرسل الرسل متالحقني»ليصلح«محدوديات الرساالت السابقة وانحرافات أهلها هل ميكن للعباد أن يصلحوا بعقولهم ما أنزله اهلل من لدنه عبر مالئكته يبدو تعبير )إصالح الدين( صادما ويحيل إلى ما ال يطيق املسلم بالتحديد أن يحال إليه أقصد األصنام. قبل اإلسالم كان اإلنسان يصنع صنما ثم يعبده. يصنعه بيديه ثم يعليه عليه. فهل ميكن للمسلم مثال أن يجد نفسه في حال كهذه مع فارق أنه اليوم يصنع عقيدته بدال من أن يصنع صنمه هل ميكن أن يعد ل املسلم في دينه أو أن يعيد صناعة دينه )بصرف النظر عن الدافع واحلاجة( ويبقى على عالقته السابقة به ألن يشعر حينها أنه يلتزم عقيديا بشيء من صنع يديه أو أنه يصنع معتقداته أال ميكن القول إن الدين الذي يحتاج إلى إصالح ليس بدين وإذا كان الدين اليوم يحتاج إلى إصالح فهل يعني هذا أن هذا الدين كان في السابق أقل صالحا وكيف يكون أقل صالحا وهو األقرب إلى املصدر األول واألصل والنبع )حامل الرسالة وقطفتها األولى( ثم كيف ميكن للمسلم أن يستوعب فكرة إصالح الدين اإلسالمي وهو الدين األخير الذي ارتضاه اهلل للعاملني ووعد بحفظه إلى يوم الدين جتد هذه األسئلة معناها في املجال املعرفي الذي ينظر إلى الدين على أنه جوهر خالد متطابق مع ذاته عبر الزمن مستقل عن التجربة وعن التاريخ. مستقل حتى عن طقوسه وجتلياته الدنيوية التي ميكن أن تخضع للتعديل واإلصالح وميكن للزمن أن يترك بصمته

87 عليها أي ميكن أن تكون قابلة للتبدل وتاريخية. الدين اإلسالمي بهذا املعنى يرتد إلى املكو ن األولي فيه وجوهره العقيدي أقصد اإلميان باهلل الواحد األحد وبأن محمدا رسوله أي بنطق الشهادتني الذي اكتفى به الرسول العتبار الفرد مسلما وجزءا من األمة. ولكن إصالح الدين ضمن هذا اإلطار ال معنى له في الواقع وال شيء يستدعيه بعد أن ارتضاه اهلل لعباده. لكن قبل أن نكمل سوف نالحظ أن هذه اللحظة )نطق الشهادتني( على بساطتها الظاهرة ترت ب على الفرد ما بعدها. ربط شهادة»ال إله إال اهلل«بشهادة»محمد رسول اهلل«هو العالمة الفارقة في وجه اإلسالم. إله في السماء ورسول على األرض في صلة ال يطالها شك. رجل من حلم ودم )ما أنا إال بشر مثلكم( يرتفع فوق اجلميع بصلته السماوية هذه ال لينقل رسالة فقط بل ليكو ن أمة ويقودها في الطريق إلى مجد دنيوي قل نظيره. فعلى هذا اجلسر الرابط بني الشهادتني انبنى اإلسالم مبفهومه الواسع أوال كنواة دولة ثم كامبراطورية وكحضارة. وعلى هذا اجلسر ع ب رت السياسة إلى الدين اإلسالمية فساندته وتشربها وتطبع بها وصار من الصعب أن تفك تداخالت الدين والسياسة في اإلسالم. دائما سيجد أصحاب املصلحة في تسييس الدين وجني ما يدره ذلك عليهم من مغامن ما يسند مسعاهم في الدين اإلسالمي أي سيكون لديهم وجاهة وحق من زاوية نظر إسالمية. ودائما ستجد»ثائرين«مؤمنني بفكرة احلاكمية هلل وجاهزين لكل أشكال التضحية مبا فيها االستعداد»لالستشهاد«من أجل إعادة دينهم إلى موقعه السائد ال املسود كما يرون اليوم السائد سياسيا والظاهر على غيره كما كان في فترة ازدهار احلضارة اإلسالمية. غير أن األسئلة أعاله تفقد مسوغاتها حني ننظر إلى الدين على أنه جتربة إنسانية تاريخية راكمت على مر العصور كما هائال من التفاسير واالجتهادات واالنقسامات والعادات..الخ. حينها نكون على أرض قابلة للحراثة. بشر مثلنا أضافوا إلى اإلسالم أفهامهم ولنا أن نضيف عليهم نقدا أو اجتهادا. ثمة قوانني عقلية واحدة تنظمنا مع كل من سبقنا ومن سيلينا من هؤالء مبا يسمح للجميع اخلوض في هذا املضمار. غير أن كل ذلك لن يعدو كونه تراكما على تراكم. ذلك أن أيا من التصورات أو التحاليل التي تتناول الدين ال ميكنها مهما بلغت أن حتوز على قوة»علمية«كافية لدحض بقية التصورات مبا يجعلها تفوز بإجماع املسلمني. دائما هناك آراء وأحزاب ولكل منها وجاهتها وليس ألي منها تأييد من لدن اهلل كما كان للرسالة احملمدية فتسود على غيرها. وال بد للتصور الذي يصبو إلى السيادة من أن يتحالف مع القوة املادية. ال يختلف األمر في ذلك عن مسعى الرسول نفسه حني قرن الدعوة اللطيفة»بالتنظيم احلديدي«ثم باحلرب واملواجهة حتى ظهر على جميع القوى القبلية في شبه اجلزيرة العربية ودانت له القبائل كافة بالقوة قبل اإلقناع. ونقول بالقوة قبل اإلقناع ألنه من الصعب على عاقل أن يطمئن إلى أن 23 سنة من الدعوة متكنت دون معجزة )واإلسالم ليس دين معجزات( من قلب معتقدات عرب شبه اجلزيرة وال سيما في حدود وسائل االتصال املتاحة حينئذ.

88 وتأكيدا على هذا ميكننا أن نالحظ كيف أنه ما إن شاع خبر وفاة الرسول حتى ارتد ت غالبية القبائل العربية عن اإلسالم قبل أن تعود إليه بقوة السيف فيما عرف بحروب الردة التي استمرت أكثر من عامني. وكانت املفارقة الالفتة والدالة فيها أن آخر القبائل التي أسلمت )قريش وثقيف( كانت على رأس من حارب املرتدين إلى جانب األنصار )أهل يثرب( في داللة واضحة على أن الدافع السياسي الذي أوجدته ووح دته الدعوة احملمدية وأعطته املسوغ والشرعية شك ل منذ بواكير الدعوة اإلسالمية )دينمو( التطور الذي أفضى بطبيعة احلال إلى سيطرة أهل السياسة )بني أمية( على مقاليد األمور فيها وإلى نشوء االمبراطورية اإلسالمية فيما بعد. تاريخية والتاريخية الدين يأخذ ياسني على كت اب مثل علي عبد الرازق وعادل ضاهر»الفصل املجرد والالتاريخي بني الدين والتاريخ«رافضا القول»إن اإلسالم تكون واكتمل بوفاة النبي محمد«فاإلسالم ليس»الرسالة«برأيه كما»أن املسيحية ليست تعاليم املسيح«. صحيح أن اإلسالم ليس الرسالة ولكن صحيح أيضا أن للرسالة متيزها عما سواها أوال وأن لها ثانيا موقعها املرجعي األساس مبا يسمح لباحث أن يبني عليها ولو على الضد مما هو شائع في الثقافة اإلسالمية العامة. ثمة غرابة هنا في أن ياسني الذي يخوض في متييزات دقيقة )قد تستعصي على القارئ( بني الدين احلقيقي والدين احملض والدين فحسب ثم طبع الدين وتطبعه وجتربته املكونة... الخ دون أن يلمس القارئ لهذه التمييزات من فائدة عملية ت ستفاد في اخلروج من أزمتنا العامة في الدين اإلسالمي ومعه يرفض متييزا واضحا بني الرسالة )القرآن( وما تراكم عليها من مخلفات التاريخ له غاية إصالحية مفهومية تسمح باحلد من متدد الدين إلى عموم مجاالت احلياة. ويأتي وضوح التمييز بني الرسالة وما عداها من الفارق النوعي الوحيد في مسار الدين اإلسالمي أقصد بذلك وجود الصلة مع اهلل عبر الوحي ثم انقطاعها. من احلق أن نقول إن اإلسالم املقدس اكتمل بوفاة الرسول الذي قال في خطبة الوداع الشهيرة»اليوم أكملت لكم دينكم«. ما قبل محمد ليس كما بعده. انقطع الوحي فصار الناس سواسية ال أنبياء بينهم متساوين في حقهم في قراءة الرسالة )القرآن( وفهم معانيها. هذا هو الفارق النوعي الوحيد في مجمل التاريخ اإلسالمي. الفارق بني ما أثمرته فترة الوحي )القرآن( وكل ما عداه. ياسني يستخف بهذا التمييز ال بل يعتبره خلال عند من يعتمده. ويرى أنه»فصل مجرد«)وهل هناك فصل غير مجرد ( و»ال تاريخي بني الدين والتاريخ«ص 35. ميكن القول إن القراءات املتعددة لنص القرآن واستنطاقه مبا يخدم متطلبات اجتماعية واقتصادية وسياسية متغيرة عبر العصور هو ما يجعله نصا تاريخيا رغم ثباته النصي. وهو ما يجعل اإلصالح

89 الديني ممكنا مبا يعني إعادة قراءة القرآن مبناهج تتيح احلفاظ عليه من جهة»إنا له حلافظون«فهو املرجع األساس ونقطة االلتقاء في اإلسالم وتتيح من جهة أخرى جتاوز املعيقات التي تشكلها قراءات أخرى لها غاياتها وحدودها. هذه عملية تاريخية أيضا وجزء صميم من عملية تشكل الدين وال معنى لوضع هذا الفصل بالتعارض مع تاريخية الدين. املميز الوحيد في هذه التاريخية هو ثبات النص القرآني وهذه ميزة إسالمية أصيلة. وتنبع قيمة اجلهود الفكرية الكبيرة التي قام بها إصالحيون مسلمون أمثال علي عبد الرازق أو محمد شحرور أو نصر حامد أبو زيد أو محمود محمد طه وغيرهم من أنها تزيد قدرة اإلسالم على املرونة والتكيف واستيعاب الضرورات التاريخية كبديل عن التشدد واالنغالق والرفض العدمي الذي متثله السلفية اجلهادية بأنواعها اليوم. ولكن ياسني يرى في تشدد اإلسالم املعاصر»تبد يا ملبدأ املرونة«هكذا تتبدى األشياء بنقائضها إذن فهو يرى في أحد الهوامش أن»ما منع سمير أمني من تبني مبدأ املرونة هذا في اإلسالم املعاصر هو مفهومه اإليديولوجي للعصر ومفهومه املعياري للمرونة«. هل ميكن أن تكون املرونة بال معيار بالفعل إذا لم يكن للمرونة معيار ميكن أن ن ظهر التشدد على أنه مرونة. عندئذ لن ند ما هو غير مرن في الوجود سوى ما نريد أن نعتبره غير مرن لغاية أو لهوى. أي مرونة يراها ياسني في»اعتصاب املسلمني حول دينهم«اعتصاب يجده هو نفسه»مخفقا حتما «ثمة نفور عام عند ياسني من املعايير وهذا ما يجعل من طريقة تفكيره ممتعة ومحر ضة وال سيما أنها مشفوعة بلغة جميلة ولكن ذلك إلى حد ما على حساب احملصول. وسوف نرى ذلك الحقا في االقتراح الذي يقدمه عن»اإلصالح املؤسسي«للدين. كما يتبدى ذلك في مقترح آخر أكثر جرأة وحتررا بشأن الكونفدرالية الدينية الع لمانية. هذا التمييز )بني الرسالة وما تراكم عليها( هو النافذة التي ميكن أن يتحقق من خاللها احترام الدين من جهة وصده عن التهام ما له وما ليس له في احلياة العامة للمجتمع من جهة أخرى. وهي في احلق نافذة مشروعة ال يسع أحد من اإلسالميني أنفسهم أن يعترض عليها بوجه حق. كيف لهم أن يعترضوا على من يسند»علمانيته«مثال إلى القرآن فيراه ال يتنافى مع دستور علماني وهو بعد متييز ضروري يفرضه علينا الطابع الفريد لإلسالم أقصد االختالف فيه على كل شيء سوى القرآن الثابت واحملفوظ إلى يوم الدين. ما يجعل القرآن مصدر توليد دائم للمعاني وميدان صراع أبدي. وقد ال تنجح أي عملية إصالح ديني ما لم تسند ذاتها على تفسير متسق للقرآن أي على ما سماه ياسني»مقاربة مضمونية«ال يتعاطف معها ياسني كما سنرى الحقا أو األصح إنه يجعلها مرهونة باإلصالح املؤسسي الذي يقترحه. صحيح إن اإلصالح الديني واالجتهاد في حل املعضلة بني ثبات النص وتبدل األحوال هي مشكلة إسالمية وأن النزول إليها هو مقارعة لإلسالميني على أرضهم لكن وزن اإلسالم في

90 املجتمع يجعل من هذه املشكلة مشكلة اجلميع وتقدمي حلول»علمانية«لها هو جزء من قضية حترير املجتمع ككل. ال أظن أن االعتراض على التمييز بني»الدين والتاريخ«وجيه نظريا كما أنه غير مفيد سياسيا أقصد من الناحية العملية. هذه اجلهود الفكرية الرامية إلى فتح آفاق قرآنية كان قد أغلقها الفقه ميكن أن تخفف من عسر انتقال املجتمعات املسلمة إلى مرحلة يكون للدين فيها مجاله اخلاص فال يعيق تشكل رابطة وطنية منفتحة وال يقيد االنفتاح على جتارب اآلخرين ومتثلها. بكلمة أخرى إن اجلهود الفكرية التي تنصب على إعادة قراءة القرآن مبناهج مبتكرة وحتررية إمنا حترر الدين نفسه فتحرر املجتمع من سيطرة دينية تغلق عليه. وأغتنم الفرصة هنا كي أتفاعل مع نقد ياسني في كتابه هذا ملقالة لي بعنوان )علمانية على هدي الرسول محمد( حني يقول إنني»أطابق بني الدين والرسالة«وأن هذه الفكرة»غير مقنعة«وهي أوثق صلة بتفضيالت الكاتب السياسية واالجتماعية املعاصرة منها ب»طبائع«اإلسالم والدين عموما «. في املقالة التي يحيل إليها ياسني دافعت عن فكرة تخص في الواقع النشاط العملي للرسول محمد أكثر مما تخص العقيدة والدين والرسالة النشاط الذي بال شك آزرته الرسالة وكان يسير بهديها. قلت إن الرسول في محصلة مسعاه خلق مركزا أعلى جامعا لعرب شبه اجلزيرة الذين كانت تلتهمهم احلروب واملنازعات حتى باتوا مطم عا للقوى الكبرى وصارت أرضهم جاذبة للغزاة كما هو حال العرب اليوم فالتفوا حول هذا املركز الذي يعلو فوق توزعهم القبائلي وتوحدوا وتذوقوا قيمة وحدتهم قوة ظهروا بها على امبراطوريات عريقة. فيما أتباع الرسول اليوم )أو من يحسبون أنفسهم أتباعا له ويهتدون بسنته( يقومون بجهد معاكس في االجتاه جلهد الرسول وهم بذلك خصوم له في املضمون واملعنى. فاليوم ميكن تشبيه تنوع املذاهب اإلسالمية بتنوع القبائل العربية آنئذ وتشديد اإلسالميني على سيادة مذهب واحد )مذهبهم( يعادل سعي قبيلة عربية إلى السيطرة على باقي القبائل في حينها. وهو إلى جانب كونه مسعى تفتيتيا وعقيما فإنه كان سيعني العمل على الضد مباشرة من النشاط واملعنى الذي تواله الرسول. وإذا كانت اليوم فكرة املواط ن ة هي الفكرة التي تعلو فوق التوزعات الدينية واملذهبية فإنها تشكل على املستوى السياسي الرابط الذي شكلته»الدعوة«في فترة الرسول. من هذا استنتجت أن العلمانية مفهومة على أنها إعالء الرابطة الوطنية على الرابطة الدينية واملذهبية هي اليوم املكافئ التاريخي للمضمون السياسي الذي أضمرته الدعوة احملمدية ضمن الشروط اخلاصة بشبه اجلزيرة العربية قبل أربعة عشر قرنا من اآلن. ومن هنا جاء عنوان مقالي املذكور. متيز الدين اإلسالمي بأنه حمل رسالته على رافعة سياسية كان ذلك هو السر الذي مك ن رسول اإلسالم من إنفاذ رسالته. واليوم حني نواجه إسالميني يندبون أنفسهم عن اهلل ويطالبون بحاكمية إلهية هم ممثلوها على األرض يتعني على الباحث أن يفكك األرضية

91 الفكرية التي يقفون عليها لكي يفرز ما فيها من دين عما فيها من دنيا. انتهت النبوة بوفاة محمد وما عاد ألحد أن يتنطح إلى القيام بدوره كصاحب رسالة وزعيم حلركة سياسية ودولة في آن ألنه ببساطة ما كان حملمد أن ينجز هذه املهمة الثقيلة والفريدة لوال نافذة الوحي التي كثيرا ما تدخلت وصوبت ونصحت في مسار الرسول السياسي. حني يفصل الباحث الرسالة عن حاملها ورافعتها السياسية فإنه يوهن احلبال التي يتمسك هؤالء اإلسالميون بها ويضعضع ادعاءاتهم. لذلك تراهم يتمسكون بكل ما يفضي إلى جعل»سنة الرسول«تضاهي الرسالة في األهمية لكي يغذ وا طموحاتهم الدنيوية بأن يكونوا أسيادا للدين والدنيا معا أسوة بالرسول. مطابقة الرسالة والدين أو تبيني أن الرسالة جوهر الدين هو نقطة صراعية لها خلفيات سياسية واضحة. طبعا لتحليلي هذا صلة»بتفضيالت سياسية واجتماعية معاصرة«على ما يقول ياسني بحق كما أن ملن يرفض هذا التحليل تفضيالته أيضا. هذا أمر طبيعي واإلسالم كدين وكتاريخ ميدان كبير للصراع الفكري ذي الغايات السياسية. لكن ملاذا يقول ياسني إن طرحي هذا قليل الصلة»بطبائع«اإلسالم والدين عموما يجيب ياسني ألن»هذا الطرح ال يوفر إجابة على السؤال: ملاذا تعجز أجيال املؤمنني عن تبني الصلة العارضة بني الدين والسياسة التي يراها اليوم بسهولة مثقفون علمانيون أو كيف يحدث أن يرى مثقف عصري الطابع اجلائز لهذه العالقة بينما تخفى على اإلسالميني «ص 41. سؤاال ياسني مختلفان. فأجيال املؤمنني شيء واإلسالميون شيء آخر. أجيال املؤمنني نشأت على تاريخ طويل يسمي احلاكم )خليفة اهلل(. واستقر في ذهنهم هذا التالزم بني الديني والسياسي إلى حد بات في وعيهم أن من يرث أباه على عرش امبراطورية املسلمني إمنا هو وكيل اهلل في أرضه. هذا وعي عام يتشكل عبر العادة والتكرار وميتلك قوة من شيوعه ال من صحته أو عقالنيته. حني تولى أبو بكر شأن املسلمني بعد وفاة الرسول لم يطلق عليه أحد لقب )خليفة اهلل( بل خليفة رسول اهلل. وحني تولى عمر بن اخلطاب األمر من بعده س مي خليفة خليفة رسول اهلل. إلى أن لق ب نفسه أمير املؤمنني كحل عملي رشيق ملنع تكرار كلمة خليفة. الالحقون وألسباب سياسية غير خافية وبقوة السيف ال بقوة املنطق كرسوا لقب )خليفة اهلل(. واستقر هذا في الوعي العام عند أجيال املؤمنني وخرج عندهم عن دائرة املساءلة. فهل ميكن أن نأخذ وعي أجيال املؤمنني حجة على فكرة بحثية أما عن اإلسالميني و»كيف يرى مثقف عصري ما يخفى على إسالميني«فهذا ألن كل فئة سياسية أو اجتماعية تعمى عما يهدد األسس الفكرية التي تقوم عليها. وهذا العمى ليس إراديا أي إن اإلسالمي ال يرى ما يراه»املثقف العصري«وينكره بل إنه ال يرى في احلقيقة إال ما استقر في ذهنه وسوغ له نشاطه وسند تصوراته بأنه أو أنهم وكالء اهلل على األرض. أخيرا ال شك أن األفكار في مجال الصراعات الفكرية السياسية ال تفرض صحتها على الناس كافة باستقالل تام عن توزعاتهم السياسية والطبقية والفكرية والدينية وهي لذلك

92 ال تخضع ملبدأ الصح واخلطأ كاألفكار العلمية وال تكتسب أهميتها إال مبقدار قدرتها على كشف السياسي املخبوء )إراديا وعن وعي أو عفوا ( في األفكار الدينية أو النظرية أو سواها. اإلصالح املؤسسي للدين يقترح ياسني في مقالة»تأمالت في السلطة الدينية والسلطة السياسية ومعنى العلمنة في عالم اإلسالم السني«توحيد وم ركزة وم أسسة السلطة الدينية في عالم اإلسالم السن ي كنوع مرجتى من اإلصالح الديني. ويقول سلفا إن املقالة هي»مترين في التخيل الفكري احلر... تستمد شرعيتها من كسر املألوف الفكري وتغيير محتمل ملنظور التفكير قد تسهم في إحداثه وليس من متانتها العلمية«. ويلزم نفسه بالعودة الحقا إلى فرضيته هذه»حتقيقا أو ضبطا أو تعديال أو رمبا تخليا تاما عنها«ص 180. وبالفعل ينشر ياسني عودته املوعودة هذه كملحق في نهاية املقالة ص 196. وفي هذه العودة ليس ثمة تعديل أو تخل بل يبدو أن ياسني يتمسك بهذه الفرضية ويجد لها ما يشد من أزرها. على أنه في النهاية كما سنرى سوف يتخلى عنها معتبرا أن قيمتها ليست في واقعيتها بل في حتريضها على التفكير. في هذه الدراسة الوجيزة سوف أقدم مناقشتي لفكرة اإلصالح املؤسسي للدين املعروضة في املقال املذكور. أوال : شك ل اإلسالم دائما مأخوذا كرسالة وكثقافة عامة مبنية حول الرسالة غطاء»إيديولوجيا «حلركات سياسية معارضة في مجتمعاتنا إلى يومنا هذا. ولم تكن اخلالفات الفكرية في حقل الثقافة اإلسالمية منفصلة يوما عن صراعات دنيوية سياسية مبا في ذلك اخلالفات الفكرية الشهيرة بني األشاعرة واملعتزلة. وسيبقى اإلسالم منجما ال ينضب لشتى التفاسير اجلهادية واالعتراضية وسيبقى موردا فكريا لكل املظلومني الذين سيجدون فيه سندا حلق هم في رد الظلم عنهم. وباملقابل سيبقى اإلسالم مجال ترويض عام للجمهور تسعى السلطات املستبدة للسيطرة عليه وخلق مؤسسات دينية»شرعية أو رسمية«تؤازرها في مسعاها. اإلسالم دينا وثقافة وتاريخا هو- بالنسبة ملجتمعاتنا - املرجع الذي يسعى اجلميع إلى استقاء الشرعية واألحقية منه. السلطات والدول كما اجلماعات واألحزاب واألفراد. أي إنه ملكية عامة يصعب خصخصتها في مؤسسة دينية مركزية. وجتربة مشيخة األزهر في مصر مثال على هذا. ثانيا : لن ميكن ألي مؤسسة دينية مركزية لو افترضنا وجودها جدال أن تضبط حاالت االنشقاق عنها إلى اليمني أو إلى اليسار مهما حازت من شرعية مما سيعيدنا إلى حالة تناثر السلطة الدينية مجددا هذا التناثر الذي يوسع من نطاق احلرية الدينية في الواقع ألن هذه املراكز املتناثرة تلجم بعضها بعضا. وميكن القول إن السعي إلى هذا النوع من اإلصالح املؤسسي )توحيد ومركزة ومأسسة بحسب تعبير ياسني( يحرم املسلم من مجال حرية متاح هو حريته بالعالقة مع دينه احلرية التي ضمنها له اإلسالم )الرسالة( بالفعل حني

93 ألغى التوسطات بني الفرد وخالقه بنص قرآني. وبديهي أن وجود مؤسسة مركزية معنية بشأن الدين سوف يعترض طريق حرية الفرد. صحيح أن هناك سلطات دينية مبعثرة غير أن هذه السلطات في معظمها سلطات أدبية أما تشكيل سلطة دينية مركزية )لو أمكن ذلك عمليا ( فإنه سوف يضيف إلى هذه السلطة األدبية سلطة أخرى هي سلطة»مؤسسية«ثقيلة. ثالثا : يقول ياسني»في مجالنا السياسي الديني املعو ل عليه هو استقالل الدين أو حمايته من الدولة أي احلد من تسييسه والتالعب به«ص 187. التالعب السياسي بالدين ال يقتصر على الدولة. اجلهات املعارضة لسلطة الدولة تتوسل الدين أيضا. ويزداد توسلها للدين بقدر ابتعاد )استقالل( الدولة عن الدين على العكس من أطروحة ياسني. بل إن حتدي النظام العاملي )الذي ميثل فعليا ما ميكن اعتباره بشيء من التجاوز دولة عاملية( يأتي اليوم من تنظيم عاملي يستلهم الدين اإلسالمي في أكثر صيغه تطرفا أقصد تنظيم القاعدة. وفي سوريا اليوم تشكل التنظيمات اإلسالمية اجلهادية )جبهة النصرة ودولة اإلسالم في العراق والشام وغيرهما( شكال بارزا من استخدام الدين )تسييسه والتالعب به( في ميدان الصراعات السياسية. طبيعي أن تتصارع األطراف السياسية على الدين في سياق صراعها على املكاسب السياسية. وليس من الطبيعي أن توجد سلطة دينية قادرة على احتكار املشروعية الدينية وباألخص بوجود استبداد سياسي يدفع جزءا مهما من املسلمني إن لم نقل غالبيتهم إلى التمرد انتصارا لذاتهم السياسية املقموعة وحتت عباءة دينهم الذي يعتقدونه ويؤمنون به على أنه دين العدل واملساواة. ولم تبني لنا التجربة أن تشكيل املؤسسات التي حتاول مركزة الدين األزهر الشريف االحتاد العاملي لعلماء املسلمني يحد من تسييس الدين أو من التالعب به. وبالنظر إلى الثورة السورية وقدرة التنظيمات اجلهادية على اختراق صفوف الثائرين ميكن أن نقول إن املسلمني السوريني حتولوا بنسبة كبيرة عن اإلسالم الوسطي الشامي الذي بدا لهم محابيا لالستبداد ومرتبطا به. وقبلوا االنضواء حتت راية إسالمية متطرفة غريبة عن طابع تدينهم ألنهم يريدون لدينهم أن ينصرهم على املستبد فكان أن نصرهم بصيغته املتطرفة. وتقع املسؤولية األولى في ذلك على كاهل اإلسالم املعتدل املتحالف مع االستبداد السياسي ألنه خذل أنصاره حني مس ت حاجتهم إليه. القصد إن الناس ميكن أن تتخلى عن أي مركز ديني موحد أو مؤسسة دينية مركزية حني تدفعهم حاجاتهم السياسية إلى ذلك. أي حني يبدو لهم هذا املركز الديني عائقا في سبيل رد الظلم عنهم. والنتيجة التي ميكن أن نخرج بها من هذا أن التقدم على طريق اإلصالح السياسي وحتقيق مستويات متقدمة من العدالة السياسية واالقتصادية واالجتماعية يشكل الصب ة األساسية التي يقوم عليها أي إصالح ديني. ولعل التجربة التركية مثال مناسب لهذا املنطق حيث تأقلم الدين وأصلح ذاته وحتدث حتت تأثير املتغيرات السياسية القسرية والتي

94 أتت من خارجه. رابعا :»من شأن استقالل الدين أن يكون عامل توازن في املجتمعات اإلسالمية التي يكاد معظمها يكون اليوم مجتمعات قطب واحد قطب السلطة السياسية«. ص 189. ميكن قبول هذا الكالم لو أن أقطاب املجتمع تتوزع بني الدين والسياسة والثقافة.. الخ وليس بني فئات ذات مصالح تنعكس في السياسة والدين والثقافة فتحيل السياسة إلى سياسات والدين إلى أديان والثقافة إلى ثقافات. ففي السياسة أقطاب وكذا في الدين وفي الثقافة.. الخ. ال ميكن ملؤسسة دينية أن تستقل عن دولة مستبدة فالدولة املستبدة سوف تعمل على إخضاع هذه املؤسسة )إذا تخيلنا تشكلها( فإن رضخت فقدت استقاللها وإن رفضت دخلت ميدان الصراع السياسي وتعرضت بطبيعة احلال لتجاذبات وأثقال القوى االجتماعية والسياسية في املجتمع وفقدت استقاللها أيضا. ومرة أخرى اإلصالح السياسي وتفكيك االستبداد هو شرط أساسي لإلصالح الديني وليس العكس أي ليس اإلصالح الديني املؤسسي الذي يقترحه ياسني هو ما سيفتح طريق اإلصالح السياسي بخلق توازن في املجتمع. خامسا : يستدرك ياسني في هامش امللحق الذي يرفقه مبقالته حول النطاق املكاني للمؤسسة الدينية املركزية املقترحة. هل هي مؤسسة وطنية تنشأ في إطار الدول القائمة أم أن نطاقها العالم اإلسالمي السني أم العالم اإلسالمي ككل وفي استدراكه ينسف فرضيته وكأنه تاه. يقول إن النطاق هذا هو»حقل تصوراتنا وتفكيرنا الثقافة... فإن أدركنا أن شرط استقالل الدين عن الدولة هو استقالل الدين مبفهومه ونطاقه حتقق لنا تقدم مهم على طريق عقلنة أوضاعنا العامة. والنقطة هذه مهمة ألن الفصل الواقعي بني الدين والدولة محقق في بلداننا )ال يحكمها رجال دين وال يفتي أو يؤم الصالة فيها رجال سلطة والقوانني أكثرها غير دينية وكذلك املؤسسات( لكن الفصل الثقافي أي الصياغات املفهومية والقيمية والرمزية التي تضبط هذا الفصل الواقعي وتثبته ومتأسسه هي املفتقدة«ص 197. أليست الصياغات املفهومية والقيمية والرمزية هي )إصالح مضموني( للدين سبق أن اعتبره ياسني مرهونا بتحقق اإلصالح املؤسسي ص 188. وسبق أن اعتبره مقاربة»تعكس شعورا بالنقص جتاه احلداثة من جهة وتفتح بابا للتالعب بالدين من جهة أخرى«. ص 187. وحني يضطرب حتديد النطاق املكاني لهذا اإلصالح املؤسسي ويجد الكاتب نفسه يتحول به إلى نطاق التصورات رمبا كان يتعني عليه أن يدقق أكثر في أطروحته فال أظنه يريد لقارئه أن يفهم أن هذه املؤسسة الدينية املركزية»احملتملة واملرغوبة«سوف تنشأ في حقل التصورات. رسالة جديدة احلق أن اإلصالح املؤسسي الذي يطمح إليه ياسني متعذر عمليا. وإذا كانت ستنفتح إمكانية فعلية له فليس علينا الرجاء مبا هو أدنى من رسالة سماوية جديدة. ال يخفى ذلك على الكاتب فهو يقول في مقالة له متضمنة في الكتاب بعنوان )وضعية معاصرة: من النبي

95 محمد إلى املثقف املعاصر(:»نحن اليوم في وضعية محمدية إن جاز التعبير كما كان نبي اإلسالم في وضعية معاصرة قبل أكثر من 1400 عام«. وبقدر ما تعتبر الرسالة السماوية ثورة في عالم البشر ميكن القول إن كاتبنا يضيق باإلصالح املمكن ويشتد طموحه إلى ثورة بحجم الرسالة. غير أن هذا الطموح يصطدم بحقيقة أنه ال رسالة سماوية بعد اإلسالم وال أنبياء بعد محمد فيرتد إلى»موقف متواضع: إصالح ما بأيدينا من دين ولغة وثقافة«. تكاد تشعر أن ياسني املندفع في عرض أطروحته عن اإلصالح املؤسسي غير ياسني املرتد إلى»موقف متواضع«. من يتحدث عن نقطة بدء تأسيسية وعن تركيب جديد يعادل بزوغ اإلسالم ويستوعب إسالمنا اليوم )أي تركيب جديد»يجب ما قبله«على غرار اإلسالم( غير من يتحدث عن واقع غير نظامي ومختلط ومجنون وال جتدي لتنظيم إدراكه أفكار»عاقلة«ولعلنا نحتاج إلى أفكار غير نظامية ص 200. ميكن لقارئ مشاكس أن يسأل ياسني: وما هو الواقع النظامي واألفكار النظامية التي يقيس عليها لكن القارئ على كل حال لم يصل في نهاية الكتاب إلى حتول ميكنه من صوغ اإلسالم»في أسئلة محددة ومفاهيم واضحة«كما وعده الكاتب. بل يصل إلى قول يعبر في احلقيقة عن عسر املهمة وتعثرها حني يقول الكاتب بعد أن ينسب مقاربته إلى ضرب من»العصف الذهني«:»إن معيار احلكم على األفكار ليس»واقعيتها«وال»التاريخ أثبت أو يثبت صحتها«بل باألحرى خصوبتها أو طاقتها التحريضية على توليد أفكار أخرى". بهذا املعنى ال ينكر قارئ منصف قيمة ما قدمه ياسني في كتابه بشأن إصالح الدين اإلسالمي. املركزية التنظيمية للدين واملرجعية اإللهية الدائمة الدينان اللذان يتمتعان مبركزية مؤسسية أقصد املسيحية واملذهب الشيعي في اإلسالم يحتفظان بعالقة ما ورائية مستمرة مع الغيب تشبه النبوة الدائمة. يلفت النظر هذا التالزم بني املركزية التنظيمية وبني دخول عنصر دميومة النبوة أو ما يشبهها في منت العقيدة. غير أن املركزية التنظيمية التي يطمح إليها ياسني في عالم اإلسالم السني ال ميكنها أن تنطوي على أي فارق نوعي أو امتياز الهي يتمتع به شخص ما بحيث ميكنه بالتالي أن يشكل محور مركزية التنظيم. ذلك ألن املذهب السني في اإلسالم لم يطور في العقيدة ما ميكن أن يعو ض عن مكانة النبي بحيث يتيح اصطفاء شخصية تشكل مركز إجماع وبالتالي ميكن أن تتشكل حولها مؤسسة موحدة ومركزية. وهذا مما ميكن اعتباره وفاء للرسالة احملمدية من جانب أهل السنة. غير أن هؤالء بالغوا )ألسباب سياسية ذكرناها من قبل( في تقدير سنة الرسول حتى جعلوها مبنزلة الرسالة. وميكن تفسير هذا الفارق املهم بني املذهبني اإلسالميني الكبيرين )السنة والشيعة( بقرب املذهب األول من اخللفاء ما جعله )دين الدولة( فما كان له بطبيعة احلال أن يطور أي فكرة تسمح بوجود من ينافس احلاكم في املكانة. على خالف

96 املذهب الشيعي الذي طور في إقصائه املديد عن السلطة معادال دينيا للسلطة الزمنية كان من املنطقي أن يكون»خليفتها«فوق اجلميع دينيا وال يكون ذلك إال بفتح نافذة له مع الغيب تعليه على من س واه. إن غياب هذه النافذة وتعذ ر فتحها ألسباب عقيدية في املذهب السني جتعل من املتعذر أيضا تأسيس مركزية تنظيمية للدين اإلسالمي السني. واحلق إن هذا الفهم وهذه املمارسة»السنية«أقرب إلى الدين اإلسالمي احملمدي. على أن حالة العسر التي يعيشها املسلمون في عالم يغتصب حقوقهم ويهمشهم ويحط من قيمة معتقداتهم الدينية بأن يعزو إليها سبب تخلفهم وأشكال متردهم تدفع املسلمني للدفاع عن دينهم )ذاتهم( بالقوة العارية التي ال ميلكون غيرها. وتدفعهم للبحث عن خالص لهم في دينهم وعن سند لهم في كتابهم الذي يؤمنون به ويوقنون أنه ينطوي على كل احلكمة واملعرفة وعن سند لهم في تاريخهم وفي سنة نبيهم. الدافع موجود ومتجدد ومتصاعد. اليوم ميكن النظر إلى»تنظيم القاعدة«على أنه محاولة إسالمية سنية من خارج األطر الرسمية حتاول استعادة التجربة اإلسالمية األولى حتى بالتفاصيل من تسميات وأزياء ولغة )واحلقيقة إنها أمينة لتلك التجربة العظيمة بالتفاصيل الشكلية أكثر من أي شيء آخر( ولكن دون روح تلك التجربة التي تتمثل بالرسالة األصيلة. وغياب الروح يهدد بالفشل وبوادر الفشل تولد النزوع إلى التشدد والالعقالنية على ما نرى من ممارسات وأفكار»قاعدية«. والالفت أن هذا التنظيم املركزي والعاملي والذي ينتصر لدين اإلسالم ولألمة اإلسالمية هو األبعد في الواقع عن روح الدعوة احملمدية وعن جوهر رسالة اإلسالم. أخيرا نكرر القول: إن مفتاح حل هذا العصاب السياسي اإلسالمي يكون من خارج اإلسالم. إنه بالضبط في إصالح املجال السياسي داخل املجتمع بحيث يفتح للمجتمع منافذ للتعبير املتعدد األشكال مبا يحقق مقدارا أكبر من العدالة. العدالة السياسية واالجتماعية واالقتصادية هي املدخل إلى ما ميكن تسميته»العقالنية الدينية«املفتقدة اليوم. ومن شأن حتديث مناهج تفسير القرآن أن توسع صدر اإلسالم لضرورات تطوير املجتمع حني يكون املجتمع قد حقق تقدما على املستوى السياسي فيه كما هي احلال في تركيا اليوم. التأييد الذي حظيت به الدعوة احملمدية من لدن اهلل لم يتبد في معجزات وخوارق بل في مالءمة الدعوة ووسائل بسطها وإنفاذها لشروطها التاريخية. ليس مبعنى أن اإلسالم هو أرض اإلسالميني وليس أرض العلمانيني فاإلسالم أرض مشتركة كدين وتاريخ وثقافة بل مبعنى أن اإلسالميني يسندون مشروعهم وشرعيتهم إلى اإلسالم وعليه فإن محاججتهم في امليدان اإلسالمي نفسه تعني مقارعتهم على أرضهم. دافعت في كتابي»دنيا الدين اإلسالمي األول الدين نافذة على الدنيا«دار شرق وغرب دمشق 2013 عن هذه الفكرة التي تشكل برأيي مدخال مثمرا لفهم الكثير من أحداث الدعوة احملمدية أو ما سميته»الدين اإلسالمي األول«. )اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا(. اإلسراء 14.

97 السجن الكتابة الثورة: شهادة في جتربة ياسني احلاج صالح بكر صدقي الكتابة عن ياسني بالنسبة لي تنطوي على كتابة عن الذات أيضا. فهناك»شراكة«مديدة بيننا على حد تعبيره الصداقة جزء منها وحسب. وأنا أقرأ كتابه»باخلالص يا شباب«كنت أستعيد ذكريات تخصني بقدر ما تخصه. وأنا أقرأ مقاالته أتذكر نقاشات كثيرة دارت على مدى سنوات فيما بيننا. أريد القول إن الشراكة هذه وعمرها ثالثون عاما تضم جتربة سجن مشتركة وتفاعال فكريا لم ينقطع بعد اخلروج من السجن وحساسيات متقاربة في النظرة إلى احلياة والسياسة والثقافة وطبعا الكثير من األصدقاء املشتركني. رأيته للمرة األولى حني دخلت املهجع السابع في جناح األمن السياسي في سجن حلب املركزي. شابا نحيال أسمر قليل احلركة داخل املهجع يستغرق في القراءة ساعات طويلة مبا في ذلك جزءا من الوقت املخصص للنوم حتت إضاءة شحيحة. كان قد سبقني إلى السجن بسنتني وبضعة أشهر وسبقني في اخلروج بسنة ونصف. تنقلنا معا من سجن حلب إلى سجن عدرا بدمشق إلى سجن تدمر الصحراوي الرهيب حيث افترقنا لبضعة أشهر بني مهجعني ثم عدنا إلى االجتماع معا في مهجع»املستوصف«. قبل خروجه بفترة دار بيننا حديث عبر فيه عن رغبته بإصدار جريدة األمر الذي حققه وحده في دمشق حني أصدر

98 جريدته»قنطرة«. كانت جتربة فريدة وغريبة. جريدة بكاتب وحيد توقفت بصورة محتومة بعد ثالثة أعداد ليشق ياسني طريقه بعد ذلك في عالم الصحافة التي سيواظب على النشر فيها بانتظام طوال العقد السابق. جمع ياسني في كتاباته بني احمللل السياسي واملثقف املنغمس نقديا في أبرز اإلشكاالت الفكرية املطروحة على السوريني والعرب والكاتب ذي النبرة الشخصية الواضحة في الكالم عن جتربته اخلاصة في احلياة. لم يحل ق ياسني فوق غيوم اإليديولوجيات أو التنظير املنقطع عن الواقع فخرجت كتاباته من عمق التجربة احلية. وإذا كان قد غادر صفوف احلزب الذي دخل السجن بتهمة االنتماء إليه فقد حرص على بناء عالقات واسعة مع جيل جديد من الشبان املهتمني بالشأن الوطني العام واستطاع أن يتفاهم مع حساسياتهم اجلديدة فتعلم منهم بقدر ما تعلموا منه. ال ميكن الفصل بني نتاج ياسني الفكري وبني جتربته اخلاصة في احلياة. بل هو يغالي في تثمني جتربة السجن بالذات التي يعيد الفضل إليها في مكتسبه الثقافي كما في العثور على مالمحه الشخصية اخلاصة. الواقع أن ياسني خاض رحلته الشاقة الطويلة باملعنى الفكري في سنوات السجن بصورة أساسية لكنه لم ينقطع عن جتديد نفسه في السنوات التالية خلروجه. في كتابه»أساطير اآلخرين«الذي يعالج فيه قضايا اإلسالم املعاصر تشبيه الفت يعكس هذا التمازج العضوي لديه بني الفكر والتجربة. إسالم حسن البنا ويوسف القرضاوي الذي وصفه ياسني ب»الالشكل«يريد للمسلم املعاصر أن ميشي مغمض العينني في متاهة احلياة فيتعثر في كل خطوة ويخطئ دائما مهما أخلص في إطاعة وكالء الدين احلصريني الذين ميسكون باحلقيقة ويريدون استعباد الناس مدفوعني بشهوة السلطة وامتيازاتها. فحني يفقد اإلسالم متايزه وميسي عصيا على التعريف يصبح كل شيء أو مرادفه احلرفي»ال شيء«فيتعذر فهمه وتشق معرفته إال على من أوتي امتياز املعرفة واإلبصار. أليس هذا وصفا حسيا دقيقا للمتاهة الهندسية في سجن تدمر الذي أفنى فيه أشقياء القرن العشرين في سوريا أعمارهم مغمضي العيون»مطمشيها«ال يعرفون من أين تأتيهم الضربة التالية. كان ذلك في شهر رمضان. وكان على أحدنا أن يخرج من املهجع ليدفع فاتورة املشتريات. تطوع أبو طارق الذي كان ميلك بعض املال في رصيده احملتجز عند إدارة سجن تدمر. حني أعادوه بعد نحو ساعتني كان قد دفع فاتورتني األولى من رصيده املالي في»األمانات«رقما طرح من رقم على الورق في عملية»افتراضية«وفقا للتعبير الشائع اليوم. أما الفاتورة الثانية فكانت شديدة الواقعية واحلسية دفعها من جسده: فلقة بسبب نقاش فرض عليه من السجان املجهول االسم والوجه ككل السلطة في سجن تدمر. سأله املساعد عما إذا كان صائما. فأجابه أبو طارق بالنفي وفي ذهنه حفلة تعذيب رهيبة جرت قبل أيام في مهجع مجاور ملهجعنا بسبب اكتشاف السجانني لصيام نزالئه. سأله املساعد عن سبب امتناعه عن

99 الصيام فقال أبو طارق إنه شيوعي. وهنا انقلب مانع الصيام عن املؤمنني إلى منافح عنيف عن الدين في وجه امللحد الذي استحق العقاب. فتلقى أبو طارق املفطر حصته املتأخرة من حفلة التعذيب التي سبقه إليها زمالء املهجع املجاور الصائمني. هذه هي»سلطة االعتباط«كما يسميها ياسني في وصف أشياء تبدو في ظاهرها متنافرة: نظام احلكم األسدي املديد واإلسالمية املعاصرة و»قواعد السلوك«في سجون األول كما في بعض»املناطق احملررة«اليوم الواقعة حتت سيطرة منظمات جهادية ك»داعش«أو جبهة النصرة. مدينة الرقة التي يتحدر ياسني من إحدى قراها كانت أول مركز محافظة يتحرر من سيطرة قوات النظام في سياق الثورة السورية ربيع العام 2013 وهي اليوم حتت سيطرة منظمة»الدولة اإلسالمية في العراق والشام«املعروفة إعالميا وشعبيا باسم»داعش«. حتتجز هذه املنظمة اإلرهابية التي انشقت عن منظمة القاعدة بقيادة أمين الظواهري فراس احلاج صالح األخ األصغر لياسني أسيرا في معتقالتها وال تعترف بوجوده فيها. سبق للمنظمة نفسها أن أسرت أخاه األكبر أحمد الذي أطلقت سراحه الحقا بعدما»ثبتت براءته«من التهم املنسوبة إليه فمنح»شهادة براءة«من الهيئة الشرعية التابعة لداعش نفسها كحال محكمة أمن الدولة التابعة للعائلة األسدية احلاكمة التي سبق وحكمت على ياسني بخمسة عشر عاما من احلبس. هكذا شاءت األقدار أن يختبر ياسني وجهي النظام االستبدادي األسدي واإلسالموي الذي واظب على االجتهاد الفكري لفهمهما في كتاباته. نشر ذات مرة في عام 2007 في موقع»األوانمترينا ذهنيا «كما وصفه على سورية منقسمة إلى دولتني األولى علمانية والثانية إسالمية بسبب استحالة العيش املشترك بني تيارين في الثقافة واالجتماع السوريني )والعربيني( متنافرين متباغضني متصارعني صراعا وجوديا يشترط بقاء أحدهما فناء اآلخر. لن أقول: إن نبوءته املشؤومة حتققت في السنة الثالثة من عمر الثورة السورية بل أريد فقط اإلشارة إلى نفاذ قراءته لالجتماع السوري والثقافة السورية والعربية بعني مترست في القراءة النقدية وجسد اكتوى بالنار. ليس فقط بنار السلطة الغاشمة لنظام األسد وال فقط بنار اإلرهاب اإلسالموي بل أيضا بنار بيئة ثقافية موبوءة أكلت من حلم ياسني حيا ظنا منها أن تقويض الغير هو سبيل ناح الوضاعة. نعم أريد أن أخصص بضعة أسطر هنا لظاهرة غريبة في الثقافة السورية اسمها»املرض بياسني احلاج صالح«. املرضى بياسني كثر وهم أنواع منهم من يصدرون عن هوان شخصي يغيظهم حضوره الثقافي املميز فيغوصون بأيديهم في وحل التفاهات ومنهم»علمانيون«طائفيون يدركون عن حق أن عدوهم احلقيقي ليس اإلسالم السياسي الرث بل علمانية دميوقراطية حتررية ال تعادي الدين ومنهم ممانعون يساريون أو قوميون خدم ألشنع األنظمة واحلركات الفاشية وأشدها بدائية يدركون عن حق أيضا أن عدوهم احلقيقي ليس الليبرالية الرثة بل فكر حترري مييز بني غرب احلضارة احلديثة وغرب العنصرية الطائفية

100 املنغلقة على حداثتها. وإذا كان السجال الفكري مع النوعني األخيرين أمرا ال مفر منه أمام ياسني فأنا آخذ عليه دخوله من حني آلخر في مناوشات كريهة مع النوع األول الذي ال يستحق حتى املالحظة. أخيرا اشتد الهجوم على ياسني بعد انطالق الثورة السورية فأصبح بعض أعدائها يستهدفونها من خالله. ال بد في هذا السياق من اإلشارة أيضا إلى ظاهرة مضادة قد ميكنني تسميتها ب»مريدي ياسني«الكثر وهي ظاهرة مؤذية أيضا لهم أمتنى لياسني أال يصاب بآثارها عليه. هذه الظاهرة من جهة أخرى متنح»املرض بياسني«أسباب العدوى واالستفحال. فإذا جمعنا املرض املذكور بالظاهرة املذكورة أمكننا القول: إن هذا اجلانب غير الصحي من احلضور الثقافي لياسني إمنا سببه أن نتاجه النقدي املميز إمنا يتناول املوضوعات»الكاوية«. فهو يحشر أصبعه كثيرا في أعشاش الدبابير. يستعد ياسني اليوم لبدء مرحلة جديدة من رحلة حياة قادته من السجن إلى الكتابة إلى الثورة. وبعد رحلة أخرى غريبة من دمشق إلى دوما والغوطة الشرقية احملاصرتني فالرقة احملتلة من داعش خرج أخيرا عبر احلدود. في أثناء هذه الرحلة األخيرة توقف عن الكتابة املنتظمة رمبا ألنه أصبح بحاجة إلعادة نظر فكرية على ضوء معاينته اجلديدة لواقع الثورة.

101 فجوة محفورة في اللحم سلوى النعيمي»تشكلت على نحو مغاير في السجن رغما عن السجن ال بفضله... كنت مشتت الذهن والكيان قبل اعتقالي وعرضا للتحطم لو لم أسجن. وكان السجن فرصة إلعادة تشكلي بصورة أقل تعثرا أقل تبعثرا أيضا وأنسب توجها في العالم.«يقول ياسني احلاج صالح في كتابه»باخلالص يا شباب: 16 عاما في السجون السوري«)عن دار الساقي( خالل أكثر من مئتي صفحة نعيش معه هذا التشكل التدريجي في»جتربة انعتاق حقيقية. انعتاق عبر الصراع مع السجن ومع النفس ومع الغير وعبر التعلم من الرفاق ومن الكتب«. اعتقل ياسني احلاج صالح عام 1980 وهو في العشرين من عمره. كان طالبا في السنة الثالثة في كلية الطب بجامعة حلب وعضوا في احلزب الشيوعي السوري/ املكتب السياسي. أفرج عنه عام 1996 وهو في السادسة والثالثني. بني التاريخني في صفحتني فقط في أول الكتاب يلخص لنا ياسني ما يراه محطات أساسية خالل فترة سجنه منها مثال : صيف 82 سمح لنا بإدخال الكتب. ربيع 83 صرنا نخرج إلى باحة السجن ونتريض. عام 85 توفرت لنا مواقد كاز للطبخ والشاي. عام 86 حصلنا على جهاز تلفزيون. ربيع 94 نلت حكما بالسجن ملدة 15 عاما.

102 في صباح 96/1/3 نقلنا إلى سجن تدمر. بالطريقة التي يورد فيها التواريخ ويربطها باألحداث تبدأ الغصة تنعقد في احللق. اجلمل جافة تقريرية وكأنها ملعلق محايد. ثم تأتي اجلملة النهائية البسيطة في آخر الصفحتني اللتني تفتحان احلكاية تأتي كالصفعة:»قضيت في السجن 16 عاما و 14 يوما «. تتنبه أكثر إلى الغصة في حلقك وتكاد تختنق. ميسك ياسني بك ويقودك عبر رحلة اكتشاف مشتركة وال يخطر لك أن تتركه حلظة واحدة. برغم الغصة في حلقك. برغم اختناقك. تقرأ الفصول املتنوعة واحدا بعد األخر بكثير من املتعة. هل ميكن أن تكون املتعة جارحة إلى هذا احلد رمبا كان علي أن أجد كلمة أخرى غير املتعة. أدب سجون ال يندرج كتاب ياسني في هذا التصنيف برغم أنه يدور حول جتربة السجن ويخترقها ويفصفصها ويستقصي توابعها. إنه يعي هذا املكان القلق الذي يحتله كتابه متفلتا عن التصنيف فهو يريد أن يحول السجن إلى موضوع ثقافي كما يقول رغبة في»نزع السحر عنه واملساهمة في تقويض ما يتصل به من أساطير أسطورة السجني السياسي خاصة.«نعم مع تتابع الصفحات شيئا فشيئا نعرف أنه محق فيما قاله في مقدمته: هذا ليس أدب سجون. وندرك أنها ليست حكايات محبوكة ميكن لنا أن نتساءل عن نسبة التخيل فيها. ال. إنها»فجوة محفورة في اللحم ال تقبل االمتالء«الشيء الوحيد الذي نتعلمه في السجن هو أننا سجناء.«عندما سألت الشاعر والفنان برينت بريتنباك في حوار معه ملجلة»الكرمل«الفلسطينية بعد أن أمضى ثمانية أعوام خلف قضبان نظام األبارتايد قي دولة جنوب افريقيا عما نتعلمه في السجن أجاب:»السجن عمل همجي بربري وعلى املجتمع أن يفهم هذا«. ند اجلواب نفسه بكلمات أخرى يقولها ياسني عندما يسأله أحمد احلجيري: ماذا يعني أن متضي اجلزء األهم واألجمل من حياتك في السجن «يعني:»أكل هوا«. شيء ال ميكن إضفاء قيمة نسبية عليه. خسارة مطلقة. ال تتوافر قطع غيار لسنوات السجن«. يجيب ياسني. بلى كان للسجن فائدة في تلك الفترة بالذات في سورية الثمانينيات وأكثر التسعينيات.»أيام كان املجتمع السوري يسحق وكان كل فرد مضطرا لتقدمي تنازالت متعددة وإجراء تسويات كثيرة مع أوضاع لئيمة«في ذلك الزمن البغيض الذي لم يكن ممكنا أن يصون فيه املرء بقاءه إال إذا تخلى عن كرامته. يصبح السجن وقتها»مكانا أكرم من أي مكان آخر ألي شخص مستقل الضمير ومعارض للنظام.«وال ميكن ألي منا نحن السوريني إال أن يعود بذهنه مستعيدا تفصيالت تلك السنوات التي يحيلنا إليها ياسني في جمل سريعة متتالية:»كان ذلك الزمن هو العصر الذهبي للمخبرين وكتاب التقارير زمن»املسيرات الشعبية

103 العفوية«املذلة واالستفتاء وبرقيات الوالء بالدم وصعود الوضعاء وانتشار مسلحي النظام.. وبث الشعور في احملكومني بأنهم الغرباء في»سورية األسد«.. وأن تبعيتهم شرف لهم وأن خوفهم هو أمانهم«. وهنا ال ميكن لنا ونحن نقرأ كلمات ياسني السجني إال أن نتذكر من كان خارج السجن»حرا«ومع ذلك انتهز وانبطح وهادن وتواطأ دون أن يكون مجبرا بل فعلها مهروال متطوعا راغبا. النتيجة املنطقية أن تأتي كلمات ياسني بعدها:»كنا في السجن نونا من أبشع هذه املظاهر. احلمد هلل.«تقرأ الكتاب وال ميكن لك إال أن تتساءل: ما هي هذه السلطة التي تسجن شابا في العشرين من عمره ألنه منتم إلى حزب سياسي لم يكن وحده كانوا كثيرين ومن اجتاهات سياسية متعددة. يسكنك السؤال برغم أن هذه السلطة نفسها حاولت أن تفرض على مجتمع بأكمله أن يرى هذا»طبيعيا «وأن يتعامل معه دون أسئلة. إذا كنت ال تعرف الذنب الذي اقترفته فإن السلطة تعرفه وتعاقبك عليه بكل ما متلك من طرق العسف واإلذالل وحتى القتل وال تنساك حتى بعد أن تلفظك خارج سجونها لتعيش في املجتمع:»كان السجن شاقا علينا جميعا فظيعا أحيانا. لقد ضربنا وعذبنا وأهنا واحتقرنا وأذللنا وجعنا ومرضنا وضربنا ثانية وأهدرت سنوات ثمينة من أعمارنا وعوملنا ونعامل اليوم معاملة متييزية وضيعة«. لم يكن ياسني وحده كانوا عشرات اآلالف على خلفيات سياسية مختلفة. صار االعتقال السياسي قضية وطنية عامة في سورية األسد. لقد اعتقل الشيوعيون وعذبوا وكانت ظروفهم قاسية»لكنها مع ذلك ال تقاس بالظروف التي عرفها اإلسالميون«من لم يقض عليه منهم أثناء التحقيق أو لم ميت بعده قضى كل مدة سجنه في هذا املكان الهمجي»عار سوريا«. يؤكد ياسني على أوضاع السجناء من اإلخوان املسلمني معتبرا أن الواحد منهم كان»السجني املطلق«وما عاشوه بخاصة في سجن تدمر»السجن املطلق«الميكن إلنسان أن يتحمله إذ ال سجن ميكن أن يضاهيه في التعذيب اليومي واحلرمان وسلب اإلنسانية وحتى القتل.» فقد أعدم آالف اإلسالميني في تدمر واألرقام التي ت عطى على اختالفها تظل مرعبة. في احلاالت القليلة التي جتاور فيها اليساريون واإلسالميون في السجون األسدية»كانت العالقات ودية عموما. كنا نحترم إميانهم وكانوا متقبلني الختالفنا. على كل حال لم يكن لهم وال لنا خيار آخر. كنا سجناء ومضطرين لتحمل بعضنا. كان في عالقتنا عنصر إيجابي يتجاوز هذا االضطرار نابع من خصومتنا املشتركة للنظام«املؤسف أنهم لم يكتبوا عن جتربتهم هذه إال قليال هم الذين تعرضوا للوجه األكثر فظاعة من جتربة السجن املتاح من كتاباتهم»قليل ويفتقر إلى املالمح الفردية«يكتب ياسني.»ملاذا«يحاول ياسني أن يجيب»ألن إيديولوجيتهم حتد مما يلزم من التباعد عن النفس ومن الاليقني الالزم لتناول السجن كتجربة ال تستأنف في تأكيد مذهب أو عقيدة أو نظرة سابقة إلى العالم«.

104 ولكن ما يؤكد عليه ياسني عبر تناوله حلالة السجناء من اإلخوان املسلمني هو اخلسارة لقد فقدت سورية»بحرمانهم من ظروف مماثلة لظروفنا غنى ثقافيا ممكنا أضيف إلى خسائر إنسانية وسياسية باهظة.«ونعرف بوضوح ماذا تعني هذه اخلسارة التي نتحمل جميعا نتائجها. إن السلطة األسدية ال تكتفي مبحوك سياسيا بتعطيل حياتك ببترها بل تريد انتصارا آخر تعتبره أساسيا :»كان النظام حريصا على هزميتنا أخالقيا ال سياسيا فقط«يؤكد ياسني وهذه الهزمية األخالقية هي املعركة التي سيخسرها النظام مع ياسني ومع الكثير من املعتقلني. برغم ذلك كله يعتبر ياسني سنوات السجن الطويلة فترة»طفولة ثانية«كان بحاجة إليها ليصل إلى»طقس التنسيب«ويصير راشدا. كان بحاجة إليها كي يصل إلى طريق النضج التي مهدها السجن له:»لقد مثلت تلك السنوات جتربتي األساسية واملكونة.. لقد خلصني السجن من انراف في احلياة أظنني كنت مهيأ له وهشا أمامه كل الهشاشة.«عاش ياسني في السجن االنشغال بالذات والعمل على نحتها تشذيبها وتخليصها من شوائب ش باك دخلها في البداية بإرادته سلسلة من دوائر متداخلة كان عليه أن يعمل بصبر عنيد على فك ارتباطاتها والتحرر من أفخاخها.»أفضل طريقة للتحرر من السجن هي جعله إطارا للتحرر من سجون أخرى نحملها في أرواحنا وعقولنا: سجن اإليديولوجية وسجن احلزب وسجن األنا.«جتربة انعتاق يسميها ياسني. كانت ضرورية كي يولد من جديد. ذهب الشخص الذي دخل السجن قربانا لذلك الذي خرج منه.»مات أحدنا ليعيش اآلخر«يقول ياسني وعنف اجلملة مير خفيفا ألننا عشنا معه عبر كلماته سيرورة تلك الوالدة الثانية وفهمنا ضرورتها له ولنا. رمبا كانت أحلى صفحات الكتاب تلك التي يتحدث فيها ياسني عن املثابرة والنفور من احلياة املبددة. عن الكتب والقراءة والتعلم والكتابة التي تدرب عليها في السجن واختارها مهنة. تأتي الصفحات وكأنها قصائد في حب الكتب التي تضاعف احلياة وتوسعها:»تعلمت االنحناء أمام الكتب واحترامها والتعلم منها والتغير العميق حتت تأثيرها. لقد وسعت الكتب إلى درجة ال تقاس املكان الضيق الذي كنت رهينه«. في احلياة املضافة هذه نحن أحرار وكل قضبان العالم تتساقط وتتهاوى وتتكسر. كم أحببت وصفه لتلك التجربة النادرة التي تعيش فيها جسديا صحوة خاليا دماغك وهي تتمطى لتنهض من رقادها:»كنت أتوقف عن القراءة نحو الثالثة صباحا. وخالل الوقت الفاصل عن االستغراق في النوم كنت أشعر بتنميل شديد في باطن جمجمتي. كأن دماغي يغلي أو يحدث فيه عدد ال يحصى من االنفجارات الصغيرة. أو كأمنا ينفض عنه الغبار وينتفض«. يتحول كل ما تعلمناه من اآلخرين إلى ذرات مسحوق نهضمها ونتمثلها وتسير في دورتنا الدموية. تصير ملكنا تصير نحن. يخطر لي وأنا أقرأ الكتاب وأعيد قراءته أننا نحن السوريني نتلقاه بشكل مختلف

105 عن القراء اآلخرين. قراءة السوري للكتاب ترى وراء كل تاريخ كل جملة من جمل ياسني الدقيقة مرجعها خالل تلك السنوات الغادرة في احلياة الشخصية لكل واحد منا من جهة وفي تاريخ املجتمع السوري كله من جهة أخرى. والفجوة في اللحم فاغرة جرحها في جتربة كل سوري. تتنوع ألوانها وتفاصيلها ولكنها تبقى حقيقية محفورة بوجعها فينا جميعا مستمرة النزيف حتى اآلن و»طغيان اليوم هو سليل طغيان األمس«. يدرك ياسني أن فك قيد احلكاية عنصر أساسي من أي جتربة ممكنة للتحرر من القيود ولذلك يؤكد أكثر من مرة ضرورة الكتابة عن هذه التجربة وتوثيقها بجميع األشكال والوسائل و»بقدر ما ميحو السجن الفردية فإن واجب الكتابة عن السجن هو بالعكس شق بطن هذا الوحش واستخراج األفراد منها واحدا واحدا. أسماؤهم صورهم قصصهم سيرهم أزمنتهم الضائعة كلها ثمينة وكلها فذة.«يقولها ياسني عن السجناء ومتتد الفكرة مباشرة إلى حكايات الشهداء اآلن إلى أسمائهم إلى قصصهم سيرهم حياتهم املبتورة. سيكون علينا أن نشق بطن الوحش ونخرجهم واحدا واحدا اسما اسما حكاية حكاية كي تكتمل الثورة. هناك من يهمه أن يؤكد أن الثورة في سورية اندلعت من العدم من جيل شاب منقطع عما قبله وعمن قبله. ولكننا نعرف منذ اآلن وسنكتشف أكثر فأكثر إن كتابا مثل ياسني احلاج صالح قاموا بدور فاعل في تشخيص األوضاع السياسية واالجتماعية وقد ن شرت كتاباتهم وانتشرت وناقشها وتأثر بتحليالتها الفكرية من قرأها ومن لم يقرأها وكانت أساسية في التغير الذي عاشه املجتمع السوري بطيئا في نهاية التسعينيات ليتسرع أكثر فأكثر مع القرن احلادي والعشرين وكانت هذه الكتابات واحدا من محركات النقلة التي عاشها املجتمع في سورية متفاعال مع املجتمعات األخرى في البالد العربية وفي العالم. يقولون إن كل كتاب يخبئ وراءه كتابا آخر وخلف كتاب ياسني عن السجن ينبض كتاب عن احلرية:»كان سجني سيرورة تعلم وبفعلها توسع عاملي وصرت حرا أكثر. نعيش في السجن حياة مبتورة ربع حياة أو أقل. ال نتغلب على انبتار حياتنا إن لم نتغير نغير حياتنا وذواتنا. يضاعف التعلم احلياة ويقلل البتر«. حرية تلفح القارىء كما تصورها الكاتب محقا :»أحب أن أتصور أن ما كتبته عن السجن هو كتابة عن احلرية أو سيرة حترر ذاتي. نعم في السجن تغيرت وانعتقت من أغاللي الداخلية وفي السجن تصاحلت مع نفسي وفي السجن كانت ثورتي الشخصية.«باخلالص يا شباب ليس كتابا عن السجن بل عن جتربة حارقة صهرت صاحبها وشكلته بقامة انسان وهي األعلى. وأجمل غنيمة في رأيي اكتسبها عبر هذه السنوات هي الكتابة. حتدثت عن املتعة نعم. الكتاب صفحات تعادل في جمالها برغم قسوة موضوعها أجمل الكتابات»األدبية«وأكثرها نفاذا إلى النفس بعيدا عن البذاءة العاطفية واإلسفاف اللغوي.»باخلالص يا شباب«ليس كتابا عن السجن إنه كتاب نتعلم فيه احلياة:»التحرر من السجن

106 هو أن نرى أن نسمي أن نعرف«. نتعلم كيف نفتح أعيننا على كل صغيرة وكبيرة في تصرفاتنا وتفكيرنا ومواقفنا مع من يحيطون بنا ومع أنفسنا. نتعلم أال نخادعها. أال منالئها نتعلم أن نتصالح معها أن نحترمها ورمبا أن نحبها. نكتشف قدراتها التي ال تتفتح إال باجللد واملثابرة والتعلم والتأمل أيا كان الوسط الذي نعيش فيه. السجن هنا هو احلياة بعينني مفتوحتني على سعتهما على الذات وعلى اآلخرين على العالم. منذ أيام في الرابع من تشرين االول/أكتوبر بعد مرور أكثر من ثالثني شهرا على الثورة السورية أقرأ كلمات احلر ياسني احلاج صالح على صفحته في الفيسبوك:»التذكر مقاومة النسيان منع االندثار إبقاء األشياء حية وحاضرة أفعال مقاومة للموت والغياب واملضي بال رجعة.«وأعرف أن هذا ما أراد أن يحققه دائما في حياته وكتاباته وما يعيشه اآلن يوما بيوم.

107 بني سجني االحتالل واالستبداد ياسر خنجر لم ألتق يوما بياسني احلاج صالح لم نتبادل الرسائل إال على عجل لم جتمعني به تفاصيل خاصة ولم نكن أصدقاء مميزين. في الزنزانة التي كنت محتجزا بها ورفاقي في سجون االحتالل اإلسرائيلي شب اك صغير يسمح مبرور الضوء واألمل. ال نقيس املكان بالبالطات. والرسائل التي تصل متأخرة دائما تستطيع أن حتمل إلينا بعض الفضاء الذي ننتمي إليه. وصلتني رسالة من زوجتي هو الفرح الطفولي الذي يتكرر دائما عند استالم الرسائل. لم تكتب رندا شيئا وخط يدها غاب عن كل شيء عدا العنوان على ظرف الرسالة ولكن خط قلبينا كان باديا على األوراق امل رس لة مقاالت وكتابات عن الثورة السورية كتبها سوريون أعزاء ومن بينهم ياسني احلاج صالح كيف يقرأ معتقل سوري في سجون االحتالل اإلسرائيلي ما يكتبه معتقل سوري آخر في سجون االحتالل األسدي. من زنزانتي هنا هجست بزنزانته هناك. ياسني اخلارج من مدافن تدمر مغبر الثياب ناصع الروح نابضا باحلياة. بني أصابعه قلم ي صيب وقد يخطئ ثم صار بوصلة تدل التائهني إلى خفقة القلب السوري. هو اخلارج من مدافن تدمر حامال جراح الناس واثقا من الوصول إلى غد مشرق.»باخلالص يا شباب«يقول ياسني.

108 ال ميكن إال ملن قضمت سجون األسد بعض عمره أن يدرك بشاعة هذه السجون والسجن»وحش» كما يقول ياسني»ال ميكن للمرء أن يعايشه إال إذا روضه وسيطر عليه«مضيفا»على أنه يبدو لي أن املرء ال يروض وحش السجن إال بقدر ما يرو ض نفسه للوحش أيضا أعني أن يعترف بالسجن ويعترف بنفسه سجينا منفصال عما كان قبل السجن أن يسمح للسجن بتأليفه«. تلك طريق النجاة التي خاضها ياسني وانتصر تلك طريق النجاة التي رسمت الكثير من مالمح هذا اإلنسان وشك لت في وعيه نهجا استطاع من خالله أن يكون فاعال ومؤث را في املجتمع السوري هو ال يتذم ر من نشاز الوقت بل ميضي إلى ما يجعل التغيير ممكنا... هو ال يلوم اجلهل املعشش في التفاصيل بل يبحث عن الفراغات ليغلق منافذ العتم... ثم ال يسند رأسه إلى وسائد الشكوى ولكن يقاوم. وهنا... في اجلوالن السوري احمل تل كان لياسني احلاج صالح حضور مميز هو واحد من املثقفني والسياسيني القالئل الذين متردوا على احتكار النظام احلاكم في سوريا للعالقة مع اجلوالن وسكانه السوريني فكتب لصحيفة محلية صدرت في اجلوالن على مدار عامني أو يزيد تواصل مع الناس هنا وصار له أصدقاء لم تسمح األسالك الشائكة وخيانات حرب حزيران بلقائهم. نذكر ياسني في العام 2004 حني فضح تزوير صحيفة»تشرين«للقاء أجرته مع األسير احملرر هايل أبو زيد الذي أمضى في سجون االحتالل اإلسرائيلي 19 عاما وخرج مصابا بالسرطان ليستشهد بعد أشهر قليلة في السابع من متوز/يوليو شهر احلصاد. يومها كان ياسني احتمالنا الوحيد رمبا إليصال صوت هايل ورفضه امتداح نظام األسد حني ابتدع أحد صحفيي اجلريدة الصفراء حتيات حلاكمه وأدرجها على لسان هايل فكتب ياسني في مقال بعنوان: اإلعالم الفضيحة: ماذا فعلت جريدة»تشرين«باحلوار مع األسير احملرر هايل أبو زيد»تبرهن كذلك أنها لفرط ما حتدثت زورا عن النضال والكفاح والبطولة والصمود والكرامة والتضحية لم تتعرف عليها حني التقت بها فعال مجسدة في شخص هايل أبو زيد. تبرهن أنها معنية بأرضنا احملتلة ال كحياة ملموسة لبشر ملموسني بل كتجريد برسم الدعاية للسلطة ومتجيدها. باملناسبة أية جدارة أخالقية ووطنية في أن متتدح السلطة ذاتها ورجالها في وسائل إعالم حتتكرها هي «. هايل أبو زيد يلتحف تراب اجلوالن السوري احمل تل وموقفه م شر ف برفضه التملق لنظام أهمل اجلوالن طيلة عقود وأهمل مقاوميه وأسراه ما عدا قل ة أغواها كذب املمانعة. شكرا ياسني شكرا ألنك حفظت اسم هذا املقاوم احلر من كذب إعالم النظام وفساده وتزويره. ثم صارت سوريا ثورة ألجل احلرية وإذا كان امل ثقف العضوي كما يقول غرامشي»هو املثقف املؤث ر والفاعل في مجتمعه ومحيطه«فإن لياسني حصة بالغة في هذا التأثير على احلراك السوري الثوري ليس بدءا من

109 مشاركته احلراك املدني وخروجه للتظاهر مع أهالي حرستا مرورا بتشكيل جلان التنسيق احمللية وعشرات املقاالت والدراسات في الصحف واملواقع اإللكترونية وأيضا ليس انتهاء برأيه وموقفه الواضح من األصولية مبخالبها كاف ة. م نح ياسني جائزة»األمير كالوس«التي وصفه القي مون عليها بأنه»الصوت الذي ميث ل التحليل احلكيم والهادئ للثورة السورية والذي يقد م استبصارات واسعة في شت ى املجاالت السياسية واالجتماعية والثقافية سوريا وعربيا «. أم ا ياسني فرد عن نفسه كل مجد شخصي»احلقيقة أن اجلائزة إشارة احترام للثورة السورية وتكرمي للشعب السوري. الكفاح البطولي لشعبنا من أجل احلرية هو الذي فرض على العالم أن يلتفت إلينا ويشعر بنا ويقف معنا. أتشرف أن أهدي هذه اجلائزة ألرواح شهدائنا حلمزة وهاجر وتامر وغياث وباسل ولني واملقدم حسني الهرموش... وفوق 24 ألف شهيد آخرين )زادوا مئة ألف حتى اليوم( سوريني وفلسطينيني. وألسرانا محمد ويحيى ووائل ومازن وحسني وعروة... وعشرات ألوف اآلخرين«. هل من اندماج في املجتمع والشارع والثورة أجمل من هذا وأخيرا فقد تتفق مع ياسني فيما يطرح من رؤية وحتليل وموقف تفصيلي وقد تختلف معه لكن طريقته املنسجمة ذاتيا ومجتمعيا في التعامل مع الشأن العام والثورة السورية خصوصا جتعل قراءة الواقع السوري عقيمة إن لم تنتبه ملا يخط قلمه.»باخلالص يا شباب«يقول ياسني احلاج صالح ونقول معه»باخلالص يا سوريا«.

110 املؤرخ الفوري واملثقف املختص زياد ماجد ينتمي ياسني احلاج صالح الى قل ة من الكت اب والباحثني السوريني والعرب الذي»يعرفون«بالدهم سياسيا واجتماعيا على نحو متعد د األبعاد واملستويات. يعرفون ظاهر البالد وأحوالها العامة ويعرفون الباطن فيها أو»احلياة السر ية«وما تعكسه من سيرة موازية لسيرتها العلنية أو الرسمية ويعرفون كذلك جوفها عاملها السفلي حيث السجون واملساجني والسج انني وحيث اإلنسان إنسان آخر في عالقاته وفي مقدرته الهائلة على التكي ف كما على التوح ش واالنهيار. وقد أضافت الثورة الى معرفة ياسني مبجتمعه بعد العام 2011 بعدا أو مستوى رابعا مرتبطا مبسالك التحو الت والتبد الت في ظاهر هذا املجتمع وباطنه في فترة إستثنائية من تاريخه مع ما يعنيه األمر من تغي ر ملالمح وظهور أل خرى أو من تكثيف لعناصر وتراجع لغيرها وسط عملي ة هدم وبناء شاقة ومتواصلة. بهذا املعنى يجوز اعتبار ياسني في كتاباته السورية منذ سنوات ما قبل الثورة وحتى اليوم»مؤر خا فوري ا «من ناحية و»مثق فا مختص ا «)أو»مثق فا محد دا «( من ناحية ثانية. التاريخ الفوري أو كتابة الزمن الراهن ميكن تنسيب أكثر كتابات ياسني السياسية حول سوريا حتى العام 2011 الى شكل

111 من أشكال»التاريخ الفوري«الذي يتعاطى مع األحداث بوصفها مسارات تترافق والكتابة أو تسبقها بزمن قصير جاعلة منها عمال توثيقيا وحتليليا ملرحلة يعيشها الكاتب مباشرة ويراقبها ويشهد عليها. ويختلف مذهب الكتابة التأريخية هذا عن املذاهب الصحافية التوثيقية التي تشمل وظائفها أيضا التقص ي والسرد واملواكبة ليس جلهة توس عه في البحث والتعم ق في التحليل فحسب بل كذلك جلهة ضبط العمل منهجيا وضبط املصطلحات واألحكام وبناء مادة يتكو ن مع تراكمها املضمون التأريخي. والتأريخ الفوري يقوم على كتابة ما اعتبره عالم االجتماع البلجيكي فرهيغن»الزمن الراهن«أي الزمن الذي ال يد عي كاتبه مسافة عاطفية ت بعده عن أحداثه بل يسعى الى مقاربتها بوقائعها املباشرة ودينامي اتها مستغنيا عن البرودة املفترضة جتاه موضوع بحثه ومتحو ال أحيانا الى فاعل أو مؤث ر في املوضوع نفسه. وكتابة التاريخ الفوري في سوريا ترتدي أهم ية استثنائية. فهي مع كونها مهم ة علمية ذات مقاييس ومواصفات تبقى فعال ال ميكن جتريده أو حتييده عن االلتزام السياسي واحملمول القي مي لصاحبها لسببني. األول االنحيازات في ظل واقع يستحيل التعامل معه بحياد والثاني مواجهة جدار الصمت املسدل على املجتمع منذ أكثر من نصف قرن. وهذا يعني أن تصدير كتابة التاريخ الفوري مبنتهى الصعوبة إن لم تكن مستحيلة وال عجب بالتالي من ندرة إقبال السوري ني عليها. فعسف النظام ومخزون عنفه اجلاهز جتاههم وإجراءاته االستباقية سجنا وإبعادا واغتياال منذ بدء حقبة البعث وتكر س ضراوتها في املرحلة األسدية الطويلة لم تترك من الكت اب الكثيرين. وفي طليعة من بقي من هؤالء ياسني الذي ي قرأ كتابه»سوريا من الظل نظرات داخل الصندوق األسود«)2010( ربطا بهذا الفراغ من جهة وربطا بحرصه من جهة ثانية على التركيز على الداخل السوري وسي ره التي غالبا ما تغيب في سردي ات ال ترى من سوريا إال موقعا إقليميا وسياسة شرق أوسطية وأدوارا خارجية. وي فيد القول إن الداخل السوري دفع وما زال ثمن تغييبه وخنقه وندرة الكتابات حوله واإلقفال عليه في»الصندوق األسود«على مدى عقود. ذلك أن اندالع الثورة السورية ونزول مئات ألوف املتظاهرين الى الشوارع مطال بة باحلر ية وانتزاعا للكرامة ثم حتو ل األلوف منهم واأللوف غيرهم الى مقاتلني في وجه آلة النظام الطاحنة وسقوط عشرات ألوف الضحايا واستخدام األسد للطيران والصواريخ واألسلحة الكيماوية لم يغي ر كثيرا في نظرة قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ومن مواقف حكومات وجماعات في العالم جتاه سوريا بوصفها دورا وسياسة خارجية وليست مجتمعا وبشرا... وفي مواجهة التغييب قد م ياسني منذ بدء الثورة عام - 2011 وهو في قلب سوريا ثم متنق ال عبر مناطقها في حلظة يخرج باطنها بكامل أحشائه الى العلن وفي حلظة ت ضم ر ظواهر وتختفي وتلد أخرى وتتمد د - كم ا من النصوص التي تتابع األحداث ثم تتخط اها استعادة ملقد ماتها أو بحثا في تداعياتها احملتملة. كل ذلك وسط واقع سوري متحر ك يشك ل

112 استشراف أطواره املقبلة مغامرة محفوفة باملخاطر وال يؤث ر جتن بها في أي حال على كتابة»الزمن الراهن«وعلى املوقف أو االلتزام جتاه مجرياته. وهذا ينقلنا الى شأن آخر ولو وثيق الصلة هو الشأن املعقود على دور الكاتب-املثق ف والتزامه أو»استخدامه«ملعارفه من أجل قضية محد دة يعتبرها في حلظة معي نة قضي ته األولى ورمبا الوحيدة. املث قف املختص يتطر ق ميشال فوكو في العديد من نصوصه حول املثق ف وأدواره وعالقته مبجتمعه وبالسلطات واملؤسسات املهيمنة الى مفهوم»االختصاص«أو ما يسم يه»التحديد«بوصفه توظيفا من قبل املثق ف املعني ملعارفه وجهوده في سبيل قضية ليست بالضرورة كونية معزولة عن ظرف أو مجال أو مكان بعينه. ويرى أن لألكادمييني أو للباحثني»امللتزمني«أثرا كبيرا على املعركة أو النقاش اخلاص بالقضايا التي يقر رون الدفاع عنها. ويسم ي فوكو هؤالء باملثق فني املختص ني أو احملد دين مبعنى أن دورهم العمومي بوصفهم فاعلني في احلي ز الفكري-السياسي العام محد د في حقول اختصاص وعمل ينطلق جانب أساسي من أثرهم من مدى متل كهم لعلومها. ولعل ياسني في كتابته عن سوريا منذ العام 2000 وبشكل خاص منذ العام 2011 مث ل العديد من أدوار املثق ف املختص كما رآه فوكو من خالل تكريس بحثه ونشاطه وتوظيف معرفته املعم قة بسوريا مجتمعا ودولة في سبيل دعم الثورة والعملية التغييرية التي ي فترض أن تنتج عنها. وهو بهذا لم يتخل عن أدوار أخرى ميكن للمثق ف االضطالع بها لكنه آثر في حلظة تاريخية تقدمي معرفته لتشريح واقع وإشهار موقف منه وتوظيف املعلومة واحلج ة لدعم هذا املوقف والناس الذين ينحاز إليهم والتأثير في الرأي العام جلذبه جتاههم. باخلالص يا شباب يضاف الى كل ما ذ كر أن ياسني نح في كتابته وفي عمله التأريخي كما في دوره كمثق ف مختص بالتمس ك باألمانة الفكرية وبعدم التفريط بها لتبرير أمر أو إرضاء طرف أو تقدمي إرادة سياسية على وقائع. وهذا ي سج ل له كرصيد ويحص ن الكثير من كتاباته ويؤم ن انسجامها حتى ولو طرأت تبد الت على املواقف في بعضها نتيجة سرعة التحو الت التي ترصدها أو تتعامل معها.... ياسني احلاج صالح هو اليوم إذا مثق ف سوري بامتياز. وليست»السورية«في هذه احلالة هوي ة ميالد أو سمة توصيف بل هي جتسيد لعالقة اختصاص بشأن صراعي وبانحيازات معلنة وبأثمان مدفوعة وبتجربة إنسانية حدثت وحتدث في سوريا اآلن لكن ها تصلح على األرجح ألمكنة وحتى ألزمنة أخرى. ومقولة»باخلالص يا شباب«التي ات خذ منها عنوانا

113 لكتابه )2012( الذي حكى عن ست ة عشر عاما من عيشه داخل السجون السورية تصح أيضا عنوانا لرحلته املتواصلة: رحلة للبحث عبر التأريخ اليومي وااللتزام املعرفي السياسي عن خالص خاص وعام. خاص للكاتب وكتاباته الراهنة وعام للمجتمع الذي دافع عن قضايا ثورته وجراحه املفتوحة.

114 أسئلة الثورة الفكرية: أعمال ياسني احلاج صالح منوذجا عمر قدور مع دخول الثورة عامها الثالث نود أن نفتح ملف الفكر الذي رافق الثورة ودوره فيها. يحاول املفكرون واملثقفون السوريون فهم مجتمعهم وتغيراته كما يحاولون التفاعل مع ما يجري على األرض والتأثير عليه كما تأثروا هم به. هذه العالقة املتبادلة بني األحداث اليومية وبني محاولة فهمها وحتليلها والتأثير عليها هي املدخل الوحيد لكل محاولة جدية لبناء فكر للثورة وملا بعد الثورة. من هذه العالقة وما يرتبط بها من تساؤل محوري حول دور املثقف تنبع مجموعة أسئلة يبدو لنا أن اإلجابة عليها سيسهم بشكل مباشر في فهمنا ألنفسنا ولثورتنا وملستقبلها. تتوزع هذه األسئلة على عدة محاور. احملور األول هل قدمت الثورة فكرا يستطيع جتاوز الديكتاتورية ومنظومتها الفكرية هل هناك ثورة على مستوى الفكر تتناسب مع الثورة القائمة على األرض هل قدمت الثورة بديال دميقراطيا فكريا وهل الثورة تقطع مع ما قبلها هل القطيعة كاملة أم أن هناك نوعا من االستمرارية بني العمل الفكري والسياسي قبل الثورة وبعدها احملور الثاني ما هو التفاعل املطلوب بني الفكر والثورة هل على الفكر تقدمي حلول للمشاكل التي تواجه الثورة وبأي معنى هل هناك نظرية للثورة مقياس ما للثورات

115 نستطيع به أن نفهم ونحلل ونقي م األحداث اجلارية أم أن الثورة بحد ذاتها تقدم لنا ما يجعلنا نقيس به ناحها هل يحاول الفكر التأثير على احلراك الثوري هل يقوده هل يبقى منفعال به احملور الثالث حلظة الثورة مفصلية مبعنى أنها ال تترك أرضية مشتركة بني الثوار واألنظمة القائمة. ولكن من جهة أخرى كما نرى في سوريا بوضوح بني الثوار أنفسهم. هكذا تصبح كل اخليارات قابلة للنقاش مرة أخرى. رمبا كانت هذه أقصى درجات احلرية في تاريخ البلد. من إحياء اخلالفة إلى تقسيم البلد على أسس طائفية وعرقية إلى احللم ببناء دولة دميقراطية تعددية إلى دولة دينية سنية إلى دولة ليبرالية إلى حلول جتمع بني بعض مما سبق تعيش سوريا على وقع برامج مختلفة ومتناقضة أحيانا وبرامج توفيقية في أحيان أخرى. ما الذي يقدمه الفكر في هذه املعمعة ما الذي قدمه وما الذي يستطيع تقدميه وماذا عن االنحيازات التي ينقسم إليها السوريني بني يساريني وليبراليني وإسالميني وعلمانيني وقوميني... إلخ. هل هذه انحيازات دائمة هل لها دور تفسيري هل يقوم املفكر في ظل الثورة بإعادة قراءة النحيازاته وخياراته أم أن هذه االنحيازات ستساعده على فهم الثورة وإخفاقاتها وإمكانياتها احملور الرابع يشكل انقالب مصر في 3 يوليو/ متوز 2013 ذروة الصراع املفتوح بني قوى اإلسالم السياسي واجليش املصري ويبدو أن القوى الليبرالية واليسارية والشبابية انحازت إلى اجليش في هذا الصراع. في سوريا كما في املنطقة بأكملها يبقى دور اإلسالم السياسي وطريقة التعاطي معه اإلشكالية األكبر. إلى اليوم لم تنجح ثورات الربيع العربي في تقدمي حل ملعضلة اإلسالم السياسي. بني ديكتاتورية اإلسالم السياسي نفسه ومحاوالت قمعه الديكتاتورية بدورها هل من مخرج يعود بعض هذه األسئلة بنا إلى التساؤل القدمي حول عالقة النظرية بالتطبيق فيما يبدو بعضها وكأنه ما زال بال إجابة منذ القرن التاسع عشر. البعض اآلخر مرتبط بأسئلة عاملية حول الدين والدميقراطية والقومية. كما أن احملاور مترابطة ومتداخلة بشكل كبير. ال يوجد أجوبة سهلة لهذه األسئلة كما ال يوجد أجوبة قاطعة. جملة هذه األسئلة هي ما سندعوه بأسئلة الثورة. لتقدمي قراءة في فكر الثورة سنأخذ أعمال الكاتب السوري ياسني احلاج صالح كمنصة للنقاش. في عمله يجسد ياسني إشكالية العالقة بني متابعة احلدث اليومي الثوري ومحاولة فهمه وحتليله والتأثير عليه وكيفية التأثر به. لذا رأينا أن نخصص ملف فكر الثورة ألعماله. عمل ياسني احلاج صالح كأحد تعبيرات فكر الثورة لم يكتمل عمل احلاج صالح بعد فهو ما زال في بداية خمسينياته في منتصف جتربته الفكرية واحلياتية. لذا ال يسعى امللف إلى تقييم جتربته واحلكم عليها. الهدف من امللف

116 مناقشة جوانب معينة من أعماله وطرحها للنقاش والنقد. احلضور الطاغي لألسئلة التي يطرحها احلاج صالح ومحاولته احلثيثة اإلجابة على أكثر األسئلة صعوبة من الطائفية إلى الهوية الوطنية إلى دور املثقف إلى مشكلة اإلثنيات واإلسالم السياسي ونقاده جتعل من عمله املادة األغنى للنقاش. تتكث ف في جتربته الشخصية والفكرية اليوم جملة األسئلة التي طرحناها أعاله. حاول احلاج صالح أن يبقى ملتصقا باحلراك الثوري وأن يتابع يومياته بدقة. هذه املتابعة جعلت عمله في سياق الثورة يسعى إلى هدف مستحيل: ما يبدو أنه توثيق للحراك الثوري بتعقيداته اليومية املتعددة واملتكاثرة بهدف فهم وحتليل ونقد الثورة من داخلها. هذا التشابك بني اليومي وامل عاش والعياني وبني محاولة الفهم النظرية مع طرح حلول وتصورات ملا ستؤول إليه األمور وكيفية الوصول إلى دولة دميقراطية جعلت من أعمال احلاج صالح أحد احملاور الرئيسية الفكرية خالل الثورة. أصبحت مقاالته ودراساته مادة رئيسية لكل املتابعني للشأن السوري سياسيا وإعالميا وملن يحاولون فهم األحداث والتأثير عليها. اليوم هو أحد أكثر الكتاب السوريني إثارة للجدل واألكثر قراءة بني املتابعني واملثقفني واجلمهور العام. من خالل وجوده اليومي على األرض طرح ياسني معظم األسئلة في احملاور الواردة أعاله. األسئلة إذن مستمدة من احلياة اليومية للسوريني على األرض ولكنها أيضا أسئلة عامة في ماهية اإلنسأن وطبيعته ورغبته وقدرته على الوصول إلى حياة كرمية وسبل الوصول إليها في ظل ظروف استبداد محلي وقوى عاملية غير مكترثة لهذه اآلمال. التفاعل مع الثورة من داخلها وربط احمللي بالكوني كأن ديدن أعمال احلاج صالح. معظم هذه األسئلة كانت حاضرة في أعماله قبل الثورة. في»السير على قدم واحدة«ند قراءات إلشكالية الهوية الوطنية ولليبرالية واليسار في سوريا. في»أساطير اآلخرين«ند نقدا لإلسالم السياسي ونقدا لنقاده. مع بداية الثورة حتولت هذه األسئلة إلى أسئلة مصيرية مطروحة للنقاش العام على كل سوري في اللحظة التي حترر فيها السوريون نظريا على األقل بشكل كامل. معاجلة ياسني السابقة لم تكن مكتملة ولم تهدف باألصل إلى أن تكون مكتملة. كانت محاولته طرح األسئلة واإلجابة عليها بطرق غير تقليدية ترفض التسليم باألساطير املؤسسة واألجوبة النهائية واجلاهزة واألنحياز حلرية الناس الفعليني أوال وأخيرا هي ما سيجعله الحقا الصحفي - الباحث الذي يعيش الثورة على مستويني يومي - عياني ونظري - بحثي. لم يسل م ياسني بنهائية الكيان السوري ولم يسل م أيضا بأية أسطورة أخرى مؤسسة لهذا الكيان. كما أنه لم يسلم بأية أسطورة حول اإلسالم السياسي من أتباعه أم من نقاده. ينطبق األمر على ليبراليته ويساريته. هذا النحيازه للناس الفعليني وإصراره على التواجد بينهم يرافقه حس نقدي يرفض األجوبة النهائية واجلاهزة سيجعل ياسني أحد الناطقني باسم فكر الثورة.

117 رفض األساطير واألجوبة النهائية اجلاهزة ينبع من أنه ال توجد إيديولوجيا نظرية موج هة لعمله. أقصد باإليديولوجيا النظرية مجموعة تعاليم يقبلها الكاتب وتساعده على تفسير العالم من حوله وعلى طرح حلول للمشاكل التي تواجهه. ال ميلك ياسني مثل هذه النظرية. فقد تخلى مبكرا عن الشيوعية كمذهب مكتمل وبقي يساريا مدافعا عن األخالق التي شدته مبكرا إلى الشيوعية. هكذا يبدو أن عمله الفكري يعتمد على االنحياز إلى مجموعة قيم أخالقية وليس إلى نظرية مكتملة. أعتقد أن هذه القيم تبدو أقرب إلى قيم التنوير: الدفاع عن العقالنية واحلرية واملساواة. من انحيازه إلى هذه القيم ينبع عمل ياسني املتعدد االجتاهات. في كل محاوالته يضع ياسني هذه القيم نصب عينيه وليس اإليديولوجيا. من جهة أخرى هذا االنحياز يجعل األولوية دوما في صف الناس العيانيني وليس النظريات الكبرى. هذه اخلصال جعلت ياسني األقرب إلى الثورة في حلظتها املفصلية هذه. منذ ما قبل الثورة كان ياسني قد اكتسب هذه اخلصال مع اشتعال الثورة كان وجود ياسني اليومي على األرض واستعداده لطرح كافة األسئلة على تنوعها دون رسم حدود ملا ميكن أن تسفر عنه ضروريا للتعبير عن الثورة. عمل ياسني متشعب على كذا صعيد. باإلضافة إلى األسئلة الكبرى التي طرحناها أعاله عمل ياسني على قضايا وعوالم املساجني السياسيني في سوريا وجمع أعماله في»باخلالص يا شباب«. كما ساهم مع مجموعة من الشباب في تأسيس موقع»اجلمهورية«خالل الثورة وأجرى العديد من التحقيقات حول قادة اجليش احلر. بعد خروجه من السجن في منتصف التسعينات عمل في الترجمة لفترة قصيرة. هذا الغنى والتنوع في االجتاهات يعود إلى الرغبة في الفهم القائمة على االلتصاق بالعياني على تقدمي أقصى ما ميكن تقدميه في كافة االجتاهات وعلى إميان ثابت بالدور البن اء للفكر. اكتسب الرجل من األصدقاء واملريدين واخلصوم واألعداء خالل الثورة ما جعله شخصية عامة. ال يتسع املجال هنا للحكم على أعمال ياسني ونقاط قوته أو ضعفه وأهمية أعماله اليوم وغدا. ال تسعى هذه املقدمة إلى الدخول في تفاصيل إجابات ياسني على أي من األسئلة الكبرى حول الهوية الوطنية والطائفية والليبرالية واليسار واإلسالم السياسي وغير ذلك. الدراسات في هذا امللف ستتناول بعض هذه األسئلة بالتفصيل. حتاول هذه املقدمة اإلضاءة على الترابط بني عمل احلاج صالح وجملة األسئلة التي تطرحها الثورة. هذه اخلصال الواردة أعاله محاولة ربط اليومي- العياني بالنظري- البحثي ورفض األساطير املؤسسة في اإلجابة عن األسئلة الكبرى والتخلص من اإليديولوجيا النظرية مبعنى االنحياز إلى مجموعة قيم أخالقية وإلى الناس العيانيني وليس إلى النظريات هي ما سيجعل قراءة معظم أعماله جتربة فكرية مثيرة وما سيجعله الشخص املناسب للتعبير عن الثورة في معارجها الطويلة واملتشعبة. ال حتتاج الثورات إلى أيقونات فكرية ولكن التعبير عن الثورة ال يحتاج بالضرورة إلى

118 أيقونات فكرية. تعبر الثورة عن نفسها بطرق متنوعة يتجس د أحدها في أعمال ياسني احلاج صالح. ند هذه اخلصال عند العديد من املفكرين العرب و الغربيني أفكر هنا ببرترأند راسل ونعوم تشومسكي و طه حسني, على سبيل املثال, أي املفكرون اللذين ال يبحثون عن أنظمة فلسفية فكرية مكتملة. وند هذه اخلصال في املقالني اللذين مت اختيارهما في هذا امللف لتقدمي أعماله.

119 باخلالص يا شباب! أمجد ناصر»لم يف ما ك ت ب عن السجن السوري حتى اليوم التجربة حقها. س جن آالف ومر بتجربة السجن عشرات اآلالف ولم ت كتب أو ت نشر غير بضعة كتب«! هذا ما يقوله الكاتب السوري ياسني احلاج صالح في كتابه»باخلالص يا شباب: 16 عاما في السجون السورية«)دار الساقي بيروت 2012(. هناك خانة في املكتبة األدبية العربية تدعى»أدب السجون«وهي حديثة نسبيا في الكتابة العربية نظرا لكونها ثمرة خبرات مباشرة أو غير مباشرة حديثة العهد أيضا. ميكننا أن نلحظ بروز هذا النوع من الكتابة بالترافق مع ما يسمى»الدولة الوطنية«التي جاءت بعد االستعمار األجنبي هناك نصوص كثيرة عن السجن ك تبت في فترة االستعمار األجنبي )مشرقا ومغربا ( ولكنها لم تتمكن ألسباب عديدة من استيالد هذا املصطلح فظلت أعماال منفردة ت د ر ج في سياق أدبيات الكفاح الوطني العام ولكن من دون أن توضع في خانة»أدبية«خاصة بها. ال أعلم من هو صاحب أقدم نص في هذه اخلانة الكتابية ولكني أرج ح أن يكون مصريا وأن يكون النص عن سجون العهد الناصري. إنها ملفارقة أن تولد»كتابة السجن«في عهد»الدولة الوطنية«العربية وليس االستعمار األجنبي وأن يكون كاتبوها أقرب على املستوى األيديولوجي الى سج انهم من سواهم

120 وأعني هنا الكتاب ذوي اخللفيات االشتراكية )املاركسية حتديدا (. ففي عقدي اخلمسينات والستينات زج ت أجهزة أمن النظام الناصري عددا كبيرا من الكت اب واملثقفني املصريني في السجون بسبب معارضتهم بعض برامج نظام عبد الناصر وليس»جوهر«سياسات عبد الناصر.. قد يكون الفارق في»فهم«موضوع احلرية والدميقراطية هو الذي أدى إلى أن تشهد السجون املصرية موجة من املثقفني االشتراكيني. كان هؤالء الذين ينتمون في معظمهم إلى احلزب الشيوعي املصري يؤيدون للمفارقة أيضا سياسة عبد الناصر اخلارجية املعادية لإلمبرياليات الغربية تصد يه للمشروع الصهيوني موقفه من الرجعيات العربية مساندته حلركات التحرر العاملية كما كانوا على وفاق مع إجراءاته»االشتراكية«الداخلية حتى إن احلزب الشيوعي املصري قد حل نفسه بطلب كما هو رائج من االحتاد السوفييتي حليف عبد الناصر في ذلك الوقت ورمبا ألن ه لم يجد أيضا فوارق كبيرة بني برنامجه وبرنامج عبد الناصر ولكن ذلك لم مينع أجهزة عبد الناصر األمنية من اعتقال املثقفني الشيوعيني ناهيك بالطبع عن كوادر اإلخوان املسلمني الذين كانت احلرب بينهم وبني نظام عبد الناصر معلنة على رؤوس األشهاد. هكذا ميكن لنا القول: إن كتابات صنع اهلل ابراهيم وفتحي عبد الفتاح وطاهر عبد احلكيم وشريف حتاتة )وغيرهم( هي التي دش نت هذا النوع من الكتابة األدبية في الثقافة العربية احلديثة. ريادة الكتابات املصرية على هذا الصعيد ال تعني أن نظام عبد الناصر انفرد عربيا في قمع احلريات وتكميم أفواه املختلفني فما حصل في عهد عبد الناصر ال يقارن البتة بسجالت حزبي البعث السوداء في كل من العراق وسورية ال من حيث نطاق القمع ومداه وال من حيث نوعيته. ال متكن املقارنة انطالقا من مدونات املعتقلني املصريني أنفسهم مبا عرفه هذان البلدان العربيان»القوميان«. ومبا أن مدخلي الى هذا املوضوع هو كتاب ياسني احلاج صالح األخير سأقصر كتابتي بهذا اخلصوص على»التجربة السورية«انطالقا منه. يحد د ياسني احلاج صالح هوية كتابه منذ األسطر األولى بأنه ال يتوض ع براحة تامة في خانة»أدب السجون«كما أنه ليس بحثا اجتماعيا عن السجون أو حتى سيرة سجني سابق كما أنه )وهذا ما ال ي غفل ياسني اإلشارة إليه( وثيقة سياسية أو حقوقية تفضح النظام السوري وتظهر جرائمه على العموم. ففي أي خانة نضع كتاب ياسني احلاج صالح»باخلالص يا شباب«إن ه يتفلت في الواقع من أي تصنيف وبهذا املعنى ميكنني القول: إنه خليط من شظايا السيرة والتأمل والتحليل النفسي والوثيقة السياسية واحلقوقية ذو نزعة أدبية ملجومة.

121 في نظام منعدم الشفافية تغيب فيه األرقام واإلحصاءات لصالح اإلنشاء والشعار كما هو عليه النظام السوري يصعب حتديد عدد الذين مت اعتقالهم ألسباب سياسية في عهدي األب واالبن لكن بالوسع القول من دون مبالغة: إنهم في خانة عشرات اآلالف. أحتدث بالطبع عن الفترة التي سبقت الثورة السورية الراهنة حيث يكاد يكون مستحيال معرفة أعداد الذين تغي بهم اليوم آلة القمع السورية عن األنظار. بني عشرات آالف الذين عرفوا سجون النظام األسدي هناك عدد من الكتاب والشعراء والفنانني والصحافيني لكن قلة من هؤالء جترأوا على تدوين جتربتهم «جتاربهم«االعتقالية أو التأمل فيها وعندما أقول: جترأوا فأنا أعني الكلمة في وجهني األول يتعلق باستحالة كتابة هذه التجارب ونشرها في سورية أو حتى نشرها في اخلارج مع وجود كاتبها في سورية والثاني رغبة بعض املعتقلني في التغليق على جتربة السجن بإحكام في محاولة تصعب معرفة مدى ناحها جلعل كل ما يتعلق بالسجن وراء ظهورهم. فرغم أن السجن ألسباب سياسية شارة متي ز اجتماعي على عكس السجن ألسباب جنائية إال أن كثيرا من السجناء السياسيني يفضلون نسيان تلك األيام )أقصد السنني بالطبع!( القاسية لئال تقف حائال أمام مواصلة حياتهم على نحو»طبيعي«. استعادة»طبيعية«احلياة أمر مير به قلم ياسني احلاج صالح ويلح عليه. لكن ليست الرغبة في النسيان هي التي جعلت كتابات السوريني عن السجن شحيحة قياسا بعدد السوريني الذين مروا بتجربة االعتقال السياسي ولكن اخلوف من السجن. ال أقصد اخلوف من مواجهة أشباح السجن وكوابيسه بل العودة الى السجن مجددا. هذان السببان يفسران ندرة الكتابات املوضوعة عن جتربة االعتقال السياسي في سورية.»باخلالص يا شباب«)وهذا باملناسبة هو التعبير الذي يقوله املعتقلون السوريون لبعضهم بعد االنتهاء من الطعام فيما يقول الناس الطلقاء: دامية!( ال يأتي ليذكرنا بهذه احلقيقة وال ليفضح االستبداد الذي قذف وراء الشمس أعدادا يصعب إحصاؤها من النشطاء السياسيني واحلقوقيني واملثقفني السوريني رجاال ونساء بل يأتي ليصنع فارقا في مجاله. ورغم صدور الكتاب في حمأة الثورة السورية وفي ذروة جرائم بشار األسد ضد شعبه املنتفض إال أنه ال»يستثمر«مادته الرهيبة كي تكون أداة حتريض سهلة ضد النظام وال ليصنع من نفسه بطال وهو الذي قضى ستة عشر عاما من شبابه في سجون األسدين بل للغرابة كي ينقض»بطولة«السجني السياسي ويفكك أسطورته. ومثلما ال يندرج كتاب احلاج صالح في خانة»أدب السجون«فإن مادته ال تندرج بدورها في أي سياق قرأناه عن جتارب االعتقال السياسي في السجون العربية. إنها قراءة فريدة في جتربة مريرة. قراءة متخلصة من املرارة ومتطلعة بقوة إلى حيث تستعرض احلياة معجزاتها اليومية خارج القضبان. وأختم بكلمات من ياسني احلاج صالح نفسه تؤكد هذا املسعى»التفكيكي«:»لنا قضية هي الكفاح ضد االستبداد ضد السجن السياسي كما ضد السياسة التي تسجن

122 هذا يوجب حترير قصص السجناء وسيرهم من أيديولوجية السجن اخلاصة. وبقدر ما ميحو السجن الفردية فإن واجب الكتابة عن السجن هو العكس شق بطن هذا الوحش واستخراج األفراد منه واحدا واحدا. أسماؤهم صورهم قصصهم أزمنتهم الضائعة كل ها ثمينة وكل ها فذ ة«!.

123 ذكريات أكثر منها شهادة فرج بيرقدار ياسني احلاج صالح! يصعب على مثلي أن يقد م عنه شهادة موضوعية وذلك العتبارات عديدة أولها أن شهادتي مجروحة... فأنا متعاطف معه سلفا كسجني رأي سابق ومتعاطف معه ككاتب وأيضا كصديق أو رمبا كفرد من أسرتي. هناك تشابه بني أسرتينا على أكثر من صعيد مبا في ذلك كثرة املعتقلني السياسيني من كل أسرة مع رجحان الكفة لصالح أسرة ياسني إذ لم تعتقل سلطات األسد من أسرتي سوى ثالثة إخوة من أصل ستة... أما أسرة ياسني التي تفوق أسرتنا عددا فال أدري إن كان نا أحد منها من االعتقال. لقد أحرجني الزمالء في هيئة حترير»أوراق«املجلة التي تصدرها رابطة الكتاب السوريني )جميع السوريني وليس العرب منهم فقط( أحرجوني في طلبهم تقدمي شهادتي وأنا في احلقيقة قابل لإلحراج حني تكون األمور تتعلق باخلير الوطني أو العام وياسني احلاج صالح بالنسبة لي أحد التجليات املشخ صة للخير الوطني أو العام. بعد خروجي من السجن التقيت بياسني في بيت أحد األصدقاء»أحتاشى ذكر اسمه اآلن إذ ال أعرف ظروفه«. أعطاني ياسني نشرة أو جريدة ورقية عنوانها»القنطرة«أو شيئا قريبا من هذا االسم. كانت اجلريدة تنطوي على حلم مشروع سياسي تنويري يشرف عليه ياسني ويكتب أغلب مقاالته ورمبا جميعها. في البداية لم أصد ق أن سجينا سياسيا ملدة تقارب 16 عاما قادر على فعل ذلك في وقت كانت السيادة فيه لظلمات طاغية»تأكل

124 حتى نومها«. كأنه أجرى قطعا نهائيا مع دراسته وتخر جه كطبيب وقر ر أن يكون سياسيا ومفك را ومحف زا ملشروع ط موح يحتاج إلى حركة أو ظاهرة أو تيار. الحقا رمبا أدرك ياسني أن عليه توسيع إطار نشر أفكاره وهواجسه وطموحاته فانتقل إلى النشر في كبريات الصحف العربية وقد ملع اسمه سريعا ملا تنطوي عليه مقاالته من ج د ة وجد ي ة وغنى وعمق ووضوح وجرأة في الطروح واملعاجلات. الحقا بدا كتحصيل حاصل أن ياسني أحد أبرز الكت اب أو الصحفيني أو السياسيني الذين رفعوا سقف اخلطاب اإلعالمي الذي ظل لعقود محكوما باخلوف أو االلتباس واملراوغة والتقي ة. ورغم غزارة إنتاج ياسني باملعنى الكتابي أو املعرفي إال أن ذلك لم يؤث ر على سوي ة ما يكتب إال باملعنى اإليجابي كنتيجة لتراكم جتربة الكتابة مضمونا ومهاراتها شكال. كأنه كان يستهلك من القراءة والتفكير والتأم ل واحلوار ومراقبة شؤون احلياة وهموم الناس ما يحمي كتابته من أن تغدو مستهلكة. لياسني حسب رؤيتي مهارات متنوعة ال أدري كيف ومتى حصل عليها فأنا أعرف أنه اعت ق ل وهو في بداية العشرينات من العمر وأمضى في السجن ما يقاربها إذا بالغت قليال وهو ال يقص ر مع أهل وأصدقاء وكتابة ومشاركة في أنشطة متنوعة. لم أش ر لزوجته لقناعتي أنهما أكثر من زوجني. ينبغي أن أعترف أن ياسني شخص استثنائي بالنسبة لي وألمثالي على األقل االستثناء ليس مديحا بل هو توصيف وأرى أن احلقيقي أهم من االستثنائي. ياسني بالنسبة لي حقيقي بكل ما تعني اللفظة من دالالت ومن انسجام بني القول والفعل ورمبا هذا ما جعله كثير األصدقاء وقليل األعداء لدى الشرفاء سوريني وعربا. ومن كانت حاله هكذا فمن السهل عليه أن يشر ف على خطوط أفق ال تنتهي. ذات يوم اتصلت بي الصديقة الشاعرة هاال محمد وأخبرتني عن نيتها تصوير فيلم لقناة اجلزيرة يضم ياسني احلاج صالح وغسان جباعي وفرج بيرقدار. فكرة كانت كما لو انها هدية من غامض علمه فنحن في اعتقادي خلطة موف قة مؤلفة من ثالثة معتقلني سياسيني سابقني خاضوا جتارب متشابهة في سجن تدمر وثالثتهم في احملصلة كت اب على تنو ع ميادين كتاباتهم. كانت دعوتي ككاتب ضيف على مدينة ستوكهولم قريبة أو موشكة.. حتضيرات وترتيبات واتصاالت سريعة ورمبا تزويرات واحتياطات أمنية إلخ. مترمرت ومتر مطت هاال كثيرا الحقا بسبب الفيلم وموقف املخابرات السورية منه ولألسف لم أكن أفهمها حني قالت: أنتم معتقلون سابقون وأنا ال أريد أن أتعر ض لالعتقال مثلكم! على أية حال كسبنا هاال كصديقة مؤب دة على ما أظن وكسبتنا كأصدقاء مؤب دين بعد تلك املغامرة. أنهينا تصوير فيلم»رحلة إلى الذاكرة«خالل يومني... كنت على وشك السفر لتلبية دعوتي إلى السويد... لم نستطع تعديل بعض لقطات الفيلم فقررت هاال أن نعيد في االستوديو تسجيل الصوت في بعض املشاهد. كان غسان أبرعنا في الدوبالج فهو مخرج مسرحي ويزيد... وأنا كنت واثقا من قدرتي على تطبيق شروحات هاال بشأن الدوبالج

125 وذلك بسبب عالقتي باملوسيقا وأوزان الشعر وكنت قلقا على ياسني في البداية. بضع بروفات ثم»كرج«ياسني وأصبح دوبليرا ت رى... هل جتربتنا املتشابهة في السجن هي التي جعلتنا نتناغم ونحل املشكلة أم هناك سبب آخر! منذ حوالي عشر سنوات وأنا أحاول إقناع ياسني بضرورة استخراج جواز سفر وبأهمية صوته في أوروبا ال سيما أنه يتقن اإلنكليزي ة وكان دائما يتمل ص بلطف شديد من جميع حججي التي كنت أسوقها إليه. قلبي عليه ومعه... وال أدري ماذا ميكنني أيضا. منذ سنوات أعني قبل الثورة قرأت مقاال لياسني يتحدث فيه عما تعر ض له من قبل الشبيحة أثناء مشاركته في اعتصام للمعارضة أمام القصر العدلي في دمشق. كان ياسني يتحدث عما يريده الشبيحة من استهدافه وإهانته وضربه ومحاولة استجراره ألي ردة فعل كي يجهزوا عليه وكيف كان هو يحاول أن ال يعطيهم ذريعة التصعيد الذي انتظروه أو افترضوه... باختصار بكيت قهرا وحزنا وأنا أقرأ املقالة وفي الوقت نفسه كنت أشعر أن قامة ياسني تعلو وحكمته أيضا. لم أقل شيئا بعد عن ياسني الذي أنصف ته وكر مته مؤسسة األمير كالوس الهولندية بجائزتها املرموقة عامليا وقد كتب بعدها ياسني على صفحته في الفيسبوك»شكرا يا أصدقاء على التهنئة بجائزة األمير كالوس. احلقيقة أن اجلائزة إشارة احترام للثورة السورية وتكرمي للشعب السوري. الكفاح البطولي لشعبنا من أجل احلرية هو الذي فرض على العالم أن يلتفت إلينا ويشعر بنا ويقف معنا«. هكذا هو ياسني. يرى ما يرى وال يكاد يرى نفسه. وياسني ليس مثقفا عضويا فقط حسب فهم غرامشي. نحتاج إلى غرامشي جديد ليصن ف لنا ياسني وأمثاله وقد صاروا بعد انطالقة الثورة السورية كثرا وما زال ياسني بينهم ومن أقدمهم وفي طليعتهم. سعيد بأن ياسني ما زال يدهشني باستمرار في قدرته على تفكيك أعقد املسائل الشائكة ليقطف لنا منها عنقود الفكرة أو جوهرها. ال أدري كيف يستطيع ياسني وأمثاله التفكير والكتابة بتركيز وغزارة وهم حتت القصف! أخيرا اسمحوا لي أن أحزن قليال بعد هذه الشهادة... فياسني ما زال في الداخل وأنا أصبحت خارجا منذ ثماني سنوات وقد كنا سابقا في كثير من املواقع واحملط ات معا. لم أمتلك اجلرأة األخالقية كي أطلب من ياسني مغادرة سوريا رغم قناعتي بأهمية دوره واحلاجة إليه في اخلارج إعالميا على األقل. لي أهل وأصدقاء كثر في سوريا وقلبي عليهم وعلى جميع شرفاء شعبنا ولكن ينبغي علي إدراك أنهم ليسوا جميعا مستهدفني على النحو الذي فيه ياسني اآلن وليسوا جميعا أيضا قادرين على االضطالع بالدور الذي يقوم به ياسني. وهكذا كانت األمور سابقا... أعني لم يكن اجلميع سابقا مهي أ أو مهي أة ظروفه لتحم ل تبعات االعتقال واملجاهرة في الرأي

126 واملوقف قوال وممارسة وكتابة مثلما كان ياسني. أعرفتم اآلن ملاذا لم أرغب في أن تطلب مني رابطة الكت اب السوريني كتابة شهادتي عن ياسني احلاج صالح! )كتبت هذه الشهادة قبل خروج ياسني احلاج صالح من سوريا(

127 ياسني احلاج صالح على كوكب»األمير السجني«أحمد عمر»باخلالص يا شباب«.. عنوان مناسب ألم يكن جائزا أو مندوبا أن يكون»باخلالص يا سوريا«مثال أن يكون العنوان»الذبابة«قياسا على رواية شهيرة اسمها»الفراشة«أو»البعوضة«التي تدمي مقلة األسد في عنوان»وقائع أساسية«االستهاللي يؤرخ ياسني احلاج صالح ألهم املراحل أو للتغييرات في دزينة وثلث من السنني على كوكب السجن الذي يقع خارج مجرة درب التبانة: العصر البرونزي في حياة ياسني العصر النحاسي في حياة ياسني العصر احلديدي في حياة ياسني ثم اكتشاف النار وبداية عصر التدوين والقراءة في»صيد نايا«التي تقع في املجموعة الشمسية! وقائع أساسية»مختصر تاريخ الرمم واملستعبدين«للطبري حيث تأكل النملة الفيل على عكس ما حدث في قبعة األمير السعيد. تعتري القارئ قشعريرة مع كلمات عادية: قضيت في السجن 16 سنة و 14 يوما. إنها كلمة تقلى بني شفتني من جمر»احلكي ببالش«قول شائع في وقت يستغرق قوله أقل من طرفة عني أو قومة من مقام! باحلكاية نت شهرزاد من املوت ياسني يحكي قليال مييل إلى التشخيص أحيانا إلى

128 التحليل باملقارنة املقارنة م سع ر»بارومتر«جيد للمعرفة جاذبية احلكايات والقصص ضعيفة في الكتاب أقوى القصص هي قصة آرام الذي شتم رئيس فرع احلسكة! ال يتوقف ياسني عندها كأن يقول: إن الوحيد الذي جترأ وقالها هو»أرمني«خالل عشرين سنة! باحلرف ينجو ياسني أيضا من نوع من العبودية واحلديد ياسني كان من الذين يعدون باآلالف األحرار في سوريا املاليني كانت ساكتة في بنوك الصمت واالختالس. الكتاب محاولة للتحرير... التحرر إدانة ضامرة. نحن خونة وهو في ذلك السجن الرهيب أكثر حرية منا وعسى أن نتألم قليال ونشقى كثيرا لكننا دفعنا ثمنا باهظا... فياسني هو من القليلني الذين ميدحون السجن محمود السعدني عزيز نسني يوسف ادريس مدحوه بطرق أخرى. موسوليني يضع شرط السجن لتكوين شخصية الرجل بني ستة شروط مثل: الفقر احلب خدمة العسكرية السفر العبودية ليست من بينها.. لكن السجن السوري ال يشبه أيا من تلك السجون وياسني يسبغ على السجن وصف الرحم احلجري مدائح مثل إعادة اخللق الوالدة الثانية... نادرا ما يكرر ياسني في سرده عبارات شائعة ومنطية مثل»دجاجة تشوى«ولكنها قليلة فمن منا ينجو من سلطان الكالم السائر إنها أغبرة ووعثاء سفر ووعثاء سرد. لكن له أيضا قدرة على سك كلمات ومصطلحات مثل التشرير االستحباس هذه بتلك. الكتاب يرثي تدمر»التي أصلها تثمر«زنوبيا التي قلبها األسد إلى جحيم دانتي. السجن السوري هو مبرد كلبتان: مطرقة منجنيق... الوجه ممنوع اللسان سالح تدمير شامل العني ليست للبصر وإمنا زائدة دودية الشرف شحاطة فرج األم خدمة العلم. إرغام على احلالقة )بشفرة مفلولة أما النصل فهو مدخر لقطع األلسنة( الش عر ممنوع... هو سير على سنة فرعون مبذهب أخبث أو هو جمع بني»يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم«سيكون هؤالء الذكور نساء»حرمي«ال ش عر إال في الطعام )هذه من شهادة أخرى(. الطعام هو الفحل الوحيد. األنني أغنية ال تنتهي انظر في داخلك أيها املعارض. هذه صوفية إجبارية الكاتب السوري عماد شعيبي قال»كرة«بعد إجفال وهو مين على املساجني عطايا األسد: فقد حولهم إلى مترجمني وكتاب ومتصوفة ومستشرقني في النفس املستعمرة! إذا لم ال نحول سوريا إلى بيت احلكمة كما فعل املأمون إلى مكتبة االسكندرية إلى جامعة مثل السوربون وكامبردج.. لم يكن دانتي بعثيا لم يكن من الساحل السوري في اجلحيم اكتشف ياسني أنواعا من الذهب املنضب الرغام اإلبريز الذهب الصحي الذي ليس له تفسير )عدم إصابته بالرشح في تدمر(. ذهب املعرفة أغلى أنواع الذهب يسجن السوري ألنه اقترب من الشجرة احملرمة فيحفر في أعماقه ليجد أن الغرفة احملرمة في نفسه! قسمة ضيزى! كلب بافلوف الروسي يغدو شعبا في كتاب ياسني. دانتي لم يكن من الساحل لكن بافلوف دكتاتور في سوريا. تتفاوت املقاالت أجملها هو الطريق إلى تدمر يقول ياسني:

129 هذا سجن ال يجوز هدمه ويقترح حتويله إلى متحف ليس إلى مبكى لن تتحق أمنيته فقد حتولت سورية كلها إلى متحف وهذا من طبائع االستبداد كما لن تتحول أمنيتي مبسلسل وثائقي تلفزيوني للمساجني السياسيني القادرين على التعبير عن جتاربهم في التلفزيون الرسمي السوري كأول إصالح. املساجني اآلن باآلالف األسد هو الذي يحقق شعاره»األسد أو نحرق البلد«. االثنان يتحققان اآلن!. األسد وحرق البلد. )األسد= حرق البلد( يتحدث ياسني عن ترويض األلم وقتل الزمن بصنع اخلرز والنرد من العجني لعل ياسني نح في نحت خرزة بهذا الكتاب من مادة الزمن أحيانا يقول شعرا من غير بديع: وهو أنه يحب كل أنواع اللعب! إنها أعذب قصيدة قالها ياسني. الذ املأكوالت هي حلوى النرد وثريد الشطرجن. في الكتاب»شذرات«من الهايكو السوري التدمري أو احلكمة مثل»نعيش بفضل قدرتنا النسيان على أننا سجناء«و»الزيارة وتد تربط إليه خيمة الزمن«و»اعمل لسجنك كأنك مسجون أبدا واعمل حلريتك كأنك مطلق السرح غدا«أجمل الشذرات على اإلطالق: السجن»عالم بال نساء«:... بال رجال. وأحيانا باللجوء إلى االستعارة والبديع: ذهب الفجأة يتحول إلى نحاس على يد السنني. هل ميكن أن يدرس كتاب ياسني في إحدى مراحل التدريس أو تعمل عنه حلقات بحث في األكادمييات. هل ميكن البحث في نصوصه عن اليورانيوم املشع عن مادة قابلة للتصدير مفيدة في دعم االقتصاد الوطني املدمر الفحم الذي يتحول إلى ماس في مدة قياسية قدرها 16 سنة. ياسني كاتب عادل منصف ينصف جالده كاحلديث عن آثار اللحم في مرق الطعام في السجن! ال نعرف أي حلم هو أهوحلم اخلنزير أم حلم احلمير أم حلم األصدقاء.. داء النقرس في السجون الذي يصيب املساجني باخلصاء أيضا من عطاءات احلركة التصحيحية املجيدة. إحدى أجمل القصص واللحظات اخلالدة في الكتاب: السيدة احملجبة الصافية الوجه التي قتل زوجها بعد اعتقاله وأخذوها للتعرف على جثته نظرت إلى عمق مهجعنا كان في نظرتها ثقة وشراكة وعرفان«.. أين أنت أيتها السيدة احملجبة الصافية الوجه هل ميكن أن نرى عينيك مرة أخرى هل وقعت في حب جثة زوج من أول نظرة. من يستطيع أن يخلد تلك النظرة في لوحة. في فلم قصير. في فلم طويل من يخلدها في حامض الكلوروفوم للتدريس في املخابر. هل ميكن أن نرى فايز النوري معترفا باكيا كما في القصص النمطية مثل شرق املتوسط أو العسكري األسود أو في االوكواريوم. الكتاب: شعر قص سرد حتليل اعتراف حتليل تأريخ.. نحت ياسني خرزته. اخليل والليل والبيداء جتهلني والزيف والرسف والقرطاس و»األلم«.. رمبا خرزة ياسني أجمل من لؤلؤة تيتانيك: كيت وينسلت»روز ديويت بوكاتر«التي قذفتها في أعماق احمليط وال ندري إن كانت قد بلغت القاع.

130 يضع ياسني لؤلؤة أمله على قلوبنا التي هي أشد من احلجارة باخلالص يا شعوب.

131 ياسني احلاج صالح عبر»الفيسبوك«سليم البيك شك لت مواقع التواصل االجتماعي إحدى الوسائل األساسية واألكثر تأثيرا وتأث را في الثورات العربية منذ انطالقتها في تونس إلى يومنا هذا واستمراريتها بحجم تضحياتها األعظم في سوريا. وباحلديث عن سوريا حتديدا والسوريون أمي ل الستخدام»الفيسبوك«دون بقية وسائل اإلعالم - اجتماعية جلأ العديد من املثقفني السوريني لهذه الوسيلة اإلعالمية احلديثة ملا تؤم نه من نشر فوري وسهل وواسع االنتشار وأخذا بعني االعتبار التضييقات بل أساليب القمع التي اتبعها النظام السوري مع وسائل اإلعالم املكر سة كالتلفزيون والصحف من االعتقال والترحيل إلى إقفال املكاتب الصحافية. من بني الصفحات األكثر متابعة واألكثر تأثيرا واألنشط على»الفيسبوك«في هذه الثورة هي صفحة أحد أبرز املعارضني التاريخيني لنظام آل األسد بحافظه وبشاره ياسني احلاج صالح املثقف العضوي الذي رو ض وسيلة اإلعالم - اجتماعي هذه ليمارس من خاللها»عضويته«في الشعب الثائر على أحد أعتى األنظمة في قمعيتها ودمويتها في التاريخ )أقل ه األعتى في التاريخ املعاصر(.

132 أصبحت صفحته مرجعا يوميا آلراء سياسية مكث فة يطرحها عبر أكثر من»بوست«يوميا )في حال لم يغب ألسباب تخص وجوده في سوريا متخفيا ( إضافة إلى إعادة نشر مقاالته املنشورة في الصحف أو مقاالت آخرين أو أي مواد لوسائط أخرى من صور وفيديو ونصوص يرتئي أهمية إعادة نشرها فيفعل آلالف املتابعني املعنيني بالثورة )واملتربصني بها(. من غيرهم سيتابع احلاج صالح! لست هنا ألكتب عن تاريخ الرجل ومواقفه األخالقية والسياسية والثقافية والفكرية من النظام السوري والدكتاتوريات باملجمل واإلسالم السياسي وقضايا احلرية واحلريات أن ى كانت وال عن جتربته الطويلة في املعتقل وهي جزء من جتربة شعب بأكمله على كل حال له في كل ذلك كتب ومقاالت عديدة قد ترشد صفحته على»الفيسبوك«لبعضها. أما احلالة شبه االستثنائية التي مث لها الشكل اجلديد للعطاء الثقافي والسياسي الذي ميكن أن مينحه احلاج صالح لقضايا وطنه والتي مث لتها الوسيلة احلديثة املضافة إلى كل ما قد مه كمثق ف فهي اجلديرة بدراسات موس عة تطول تأثير»الفيسبوك«باملجتمع وتأثيره خاصة مبجتمع وشعب يخوض ثورة والتأثير الذي ميكن أن حتدثه هذه الوسيلة بأشكال ومضامني مشاركات املثقفني بثورة شعبهم والتأثير الذي ميكن أن يحدثه هؤالء املثقفني بأفراد هذا الشعب من خالل»الفيسبوك«هذا وغيرها من األمور التي تشير إلى جتربة احلاج صالح في ذلك كأحد أبرز مثقفي الثورة السورية وكصاحب صفحة بارزة على هذا املوقع. ل»أوراق«وضمن امللف اخلاص به حد ث نا احلاج صالح عن»الفيسبوك«الذي يبدو كاملقهى يوفر فرصة للدردشة والنميمة والفرجة وهذا مهم له منذ بداية الثورة كونه مضطر للتخفي عن أعني النظام وجتن ب ارتياد أماكن عامة. و»الفيسبوك«مثل املقهى ال ميكن القراءة فيه وال الكتابة متاما كما ال نستطيع القراءة أو الكتابة في مقهى الروضة مثال. ثم هو مساحة خاصة أو أقرب للخصوصية يتكلم فيها احلاج صالح براحة أكبر وبقيود أقل مما في مقالة أو بحث كما أخبرنا. الالفت أن هذا ي واجه مبقاومة وينتظر منك في كل حال وحني أن تتصرف ك»شخصية عامة«هنالك كثيرون مستعدون لتوبيخك إن لم تفعل أو للومك على أنك ال تطابق الصورة املفترضة للشخصية العامة. يخبرنا أن صفحته هذه تضعه حتت الرقابة وأنها أحيانا تشعره بأنه محاصر. لكنها وبكل األحوال تتيح له نشر مواده التي يظنها مقروءة عن صفحته أكثر مما هي عن الصحف. عن التأثير السلبي الذي ميكن أن حتمله طبيعة هذا املوقع إلى الرأي املنشور فيه يقول إن له في ذلك أكثر من جتربة فمرة قال شيئا بصيغة حتتمل سوء الفهم لكن»ساق«في األمر كثيرون حتى بعد أن وضح املقصد ووجدوه دليال على ما يخفيه في أعماقه. وكتب أحدهم مقاال يستشهد مبا قاله ويستخدمه لفضح»تفكيره اخلاطئ«. وهناك كاتب مهذار يعمل وكالة أنباء ويكتب في جريدة ممانعة ال يكف عن اقتباس ما يقوله احلاج صالح على»الفيسبوك«ويحرض جمهور مدونته واجلريدة عليه وعلى الثورة. وقبل فترة كان احلاج

133 صالح قد كتب»بوست«من بضع كلمات أثار فضيحة وتعرض بسببه لتنديدات كثيرة يخبرنا. وفي مرة واحدة على األقل قال شيئا كان يتمنى أال يكون قد قاله إلى درجة أنه حذف»البوست«ونادرا ما فعل ذلك. شئنا أم أبينا فإن»الفيسبوك«منبر عام وليس مجرد مساحة شخصية وما نقوله وكيفية قولنا له يحسب علينا. أما عن اإلضافة التي قد يحملها هذا املوقع للمثقفني املتفاعلني مع الثورة يعتقد احلاج صالح أنه ضي ق املسافة بني املثقفني وبني طيف واسع من الناس املسافة النفسية واملسافة اجليلية وكسر عزلة املثقفني ووضعهم حتت ضغوط أكبر متارسها عليهم توق عات اجلمهور»الفيسبوكي«. ولعل ه عر ى عند بعضنا نوازع االستعراض وحب الظهور أو»الشوفونية«)من شوفوني أي انظروا إلي سليم..( حسب تعبير سوري بديع اخت رع أثناء الثورة لوصف هذا النازع املميز للمثقفني والفنانني أكثر من غيرهم.»الفيسبوك«بهذا املعنى نازع للخصوصية ومول د لضرب من األلفة يبلغ حد االبتذال. ولعله كذلك مساحة التقاء بني متقاربني في الرأي والتوجه شكلوا ما يشبه جتمعات سياسية صحيح أنها افتراضية لكنها مؤثرة فعال. ال يرى احلاج صالح أهمية في جتميع إلدراجاته وأفكاره ومواقفه املكثفة واملؤث رة املنشورة في صفحته على»الفيسبوك«كان آخر أسئلتي عن ذلك كونها ترسم سيرورة الثورة وتوث ق لها في يوميات أشبه بعمل تأريخي قد يكتمل مع اكتمال املرحلة األولى من الثورة هي إسقاط النظام كامال من رأسه ألساسه. إن كان تواضع الرجل قد غلبه اآلن أرجو أن ال يفعل الحقا أن يكون سقوط النظام محف زا لتوثيق هذه اليومي ات املشك لة مع ما نشر من مقاالت وحوارات منذ انطلقت الثورة أحد األصوات األصدق واألكثر حكمة لشعب هذه الثورة ومثقفيها.

134 أوراق األسير

135 املكان وحدة لقياس األلم دارا عبداهلل )ذاكرة القتيل ق بيل الذبح هي حياة القاتل بعد الذبح( )»امل سخ«( سوء التغذية وق ل ة الهواء وعدم وجود أشع ة الشمس مينع التئام اجلروح في فروع املخابرات أي جرح حت ى ولو كان بسيطا سيتعف ن ويلته ب. أبو سمير مقاتل مسل ح من»اجليش احلر«في مدينة دوما بريف دمشق مت حتويله إلى»فرع اخلطيب«بعد انتهاء التحقيق. اجلرح عميق في قدمه اليمنى والطعن بحربة»الكالشينكوف«مت بإصرار وبرود وصبر كصبر من يحفر مبسمار في قطعة خشب لم يك ن ج رحا متول دا من ع راك مستعجل أو اشتباك عابر كان ج رحا مدروسا وم خط طا له. دخوله حر ك الركود العام في السجن ت رحاب حار وتقدير كبير»امل قاتل البطل«و»االستشهادي امل ضح ي«كما يقولون كر موه بأفضل مكان في السجن سيل األسئلة ينهال عن الوضع امليداني في دوما عن عدد احلواجز ومساحة املناطق احمل ر رة. من الروائح الالذعة التي ال تطاق في الطبيعة رائحة اجلسد املتعف ن غريب كون البشري مصدر ك ل جميل ومصدر كل قبيح في آن رائحة اجلرح املتعف ن تفوح في كل أرجاء املهجع رائحة حاد ة الذعة تخرج بكثافة وتركيز من القدم املتعف نة إلى الدماغ مباشرة اقتربت من

136 اجلرح بياض عظم الشظي ة في ساقه يشو ش على بياض قطيع من الدود السارح هو نفسه ذلك النوع من الدود الذي ينهش في جسد املوتى كان دود املوتى يعيش في جسده احلي. صراع نفسي يندلع خفي ة في دواخ ل اجلميع الرائحة الكريهة املستحيلة من جهة والتعاط ف اإلنساني النبيل من جهة أخرى بني اإلحساس اليومي العادي وطهراني ة البطولة امل طلقة. تزايدت حاالت اإلقياء وبعضهم لم يعد يستطيع األكل بسبب الرائحة التأف ف فاضح وآخرون أبدوا التقز ز وأعلنوا القرف علنا قسم منهم كانوا من رح بوا وس ع دوا بقدوم»البطل«في البداية انتفخ جسد أبو سمير وانتقل اإلنتان إلى دمه سائل أبيض ذو رائحة فجائعي ة فادح ة كقيء الرض ع ينز من قدمه التعاطف انعدم تقريبا وانتقل التأف ف والتذم ر من احلي ز اخلاص اخلجول إلى النقاش العام صار البعض يطلب من رئيس املهجع أن يطلب من»املساعد أو ل«لنقل أبو سمير إلى»املنفردة«ألن»احلياة أصبح ت م ستحيلة«بشاعة تلك الرائحة أظهر ت ك ل أناني ة جواني ة بشعة وتعل ق بدائي غريزي بسيط الرائحة شف ت أجسادنا إلى ز جاج ي ظهر كل قبيح م ختبئ في دواخلنا ألم تكن»احلياة مستحيلة«قبل تلك الرائحة! كان بني من يطلب بطرده من املهجع أشخاص هل لوا وس ع دوا لقدومه في البداية لم يعد أحد يساعده ليخرج إلى دورة املياه جسده املنتفخ شال ل من سوائل قامتة البول والسائل االلتهابي املتعفن باإلضافة إلى رائحة اخلراء احمل ض. كانت رائحته تسب ب لي ص داعا حادا صب حس الكراهية لدي في شعور الرفض اجلماعي امل شتر ك عندما تأك دت من أن الرائحة ال ت غل ب سوى بالرائحة ( كنت أتذكر جملة كتبتها على دفتر ضائع»الطير ال ي صط اد سوى بالطير«( كنت أضع يدي في احلي ز الفاصل بني خصيتي وفخذي وأشم أصابعي رائحة العفن املتراكم جلث ث نطاف سجينة د ل ق ت في احتالمات ليلي ة لم تكتم ل لدي من الع فن ما يكفي ألن تصب ح رائحة أبو سمير زكي ة عفن ك أحب إلى قلبك من عفن اآلخرين. بعد ثالثة عشر يوما مات أبو سمير من الصدمة اإلنتانية العامة حزن البعض صمت البعض وفرح البعض اآلخر وكان من بني املسرورين أشخاص رح بوا به في البداية. عندما نقلوا ج ث ته كان بعض السجناء يقومون بالدعس على الديدان التي كانت تسقط من جسده. )تالشي البعد( أرضي ة ممر السجن حائط نائم واحلفر كان ت نوافذ. لم أكن أعرف بالضبط أن تلك احل فر كانت ق بورا على شكل منفردات كاالنطباعات الغائرة التي حتفرها حبوب الشباب في وجوه املراهقني. في الطريق من»املهجع اجلماعي«إلى غرف ة التحقيق في»فرع اخلطيب«بدمشق كان بياض بؤبؤ العني يلمع في قتامة ظالم تلك احلفر تأك دت وقتها أن فيها ب شرا!.

137 حجم املنفرد ة-القبر م صم م بدق ة وعناية طول ها ال يسمح بالتمد د الكامل وعرض ها يعيق التكو ر اجلنيني حيرة برزخي ة بني الراحة والتعب حتى التعب املطلق غير مسموح به ألن األلم النهائي األقصى تتبعه راحة جزئي ة كانت تلك احلفر أكبر انتهاك لكرامة القبور. )عبارات عل قت في ذهني كانت مكتوبة على حائط املنفردة رقم 1 في فرع»اخلطيب«(»- ثالثون يوما بسبب»اليك«لقناة اجلزيرة. - اليوم عرف أهلي أن ي على قيد احلياة أجهش والدي بالبكاء بعد االتصال به من موبايل شرطي في احملكمة قال لي والدي أن هم قد نصبوا خيمة عزاء رسمي ة لي ظن ا منهم أنني قد استشهدت أنا حي في السجن ومي ت خارج السجن. - السفاح أبو املوت 2011-7-17. - اسمع الصمت جي دا. أبو خالد الساعور. -دعس األزهار لن يؤخ ر مجيء الربيع. أبو خالد الساعور. - مررت من هنا. - إذا كنت تريد أن تكتب على احلائط هنالك مسمار حتت»الكرتونة«في الزاوية اليمنى أعده إلى مكانه بعد االنتهاء من الكتابة. )م نفردة م ه ج ع( املنفردة تفضح الفرق األساسي بني الوحدة والع زلة في الوحدة أنت ال ترى أحدا في العزلة ال أحد يراك أشد ما يوجع في وحدة املنفردة أنها ال تفيد أحدا الوحدة بحاجة إلى شاهد عليها. في املهجع اجلماعي املسحوق يغار من تفو قك املتفو ق يسحقك والذي يشبهك يتجن ب ك. )املكان في الس جن(»البالطة «هي وحدة لقياس الق دم في السجن ك ل ما كان لك»بالطات» أك ثر كنت أكثر عراقة األقدم هو األكثر راحة ألنه ميلك مكانا أوسع. األكثر راحة هو األكثر تعاسة البالطة هي وحدة لقياس األلم. املكان الوحيد الذي ي قاس فيه ع مق الز مان بات ساع املكان هو الس جن أحد الس جناء القدماء اعترف لي بأن ه عندما يبني بيته سيجعل أرضي ته قطعة واحدة م ت صلة لن يسم ح لتقاسيم البالط أن تظهر انتقاما من ذاك رته. )من عدم احلري ة إلى حري ة العدم( مفتاح صغير فتح باب السجن الكبير املسافة الزمني ة بني م هجع السجناء و»حي القصور«كالغ بش الفاصل بني اليقظة والنوم ثوان قليلة تفصل مكانا ميوت الناس فيه ببطء وصمت عن مكان يضج باحلياة الفارهة.

138 السيارات م صطف ة على حواف الطريق مثل سالحف نائمة. نظرت إلى السماء شعر ت بدوار الذ ع أدهشني ارتفاع األشياء عن األرض. ال أبعاد في السجن. اكتشفت أثناء املشي أن املسافة بني فخذي قد ات سعت. سألت فتاة مارقة في الشارع عن الوقت خافت وابتعدت كأن ها رأت كائ نا خ رافي ا تفر ست وجهي في مرآة سي ارة واقفة. أخف ت ني أشبه بعجوز ميشي جيئة وذهابا م حتضرا حتت مصباح ميع ن في التوه ج ارتداد تام إلى حالة الهيولى األولى أنفاسي سريعة ومتقطعة صوت صرير عميق أسمعه من صدري كالصوت الصادر من قطعة حديد يحاول حد اد بعبث أن يك ش ط الصدأ عنها سي ارات األجرة ترفض الوقوف بعد أكثر من نصف ساعة وقفت إحداهن قلت للسائق أن يأخذني إلى»ساحة امليسات«الدم املتخث ر على ظهر يدي اليمنى مثل بحيرة من صقيع أحمر سألني إن كنت في السجن أجبته بنعم مر ت فترة صمت طويلة نظرت إلى مالمحه املتعبة كانت الدمعة م ستقر ة على خد ه األمين مسار الدمعة على وجهه ترك انطباعا في داخلي كاألخدود الغائر الذي تتركه مياه النهر في صلب األرض. إن ها هزمي ة. على عكس الدخول ال يخرج املرء من السجن دفعة واحدة اإلفراج النهائي ي خ رج أقل كمي ة منك. أو ل ليلة في البيت لم أجتر أ على التمد د الكامل على السرير ولم أبق في»التواليت«أكثر من 30 ثانية ثالث ساعات وأنا أشاهد مباريات كرة قدم خليجي ة في الساعة الرابعة صباحا كنت على وشك أن أجهش بالبكاء وأقول لهم أن يعيدوني إلى السجن لم أعد أصل ح سوى أن أكون سجينا. )جرذ( خارج السجن اجلرذان تهرب من البشر داخل السجن البشر يهربون من اجلرذان عصبي تك في مواجهة ال مباالة اجلرذ تتجر د بسبب ممارسته حلياته اليومي ة هدوء اجلرذ أكبر حتد لقلقك. )النرجسي ة داء السجني( تشاو ف امل غرور عالج الكتئاب السجني كل إخفاقات الثاني ستذوب في طاقة تقديس األو ل لنفسه نرجسي ته تبتلع خيب تك كل من يستخف بأملك يجعلك تنساه شعور اآلخر بحزنك يؤج جه. )رائحة االستبداد( ث ل ة من العناصر املخمورة اقتحم ت املهجع مساء في فرع األمن العسكري بدمشق أخرج أحد العناصر ورقة من جيبه وحد د مجموعة من األسماء وطلب منهم حتضير طقوس آخر العمر ألن حكم اإلعدام قد مت إقراره همهمة مذعورة عم ت املهجع وضجيج قلق انتشر

139 بني السجناء قام املطلوبون بالوضوء والصالة والد عاء أحدهم تكو ر في زاوية ما وأجهش في البكاء وآخر كان يطلب بالضبط أن يقولوا البنه الكبير أن يعتني بوالدته جيدا. مت اقتياد السجناء إلى ساحة السجن اخلارجي ة وجوههم ملتصقة باحلائط لق م العناصر بنادق الكالشينكوف وأطلقوا الرصاص في الهواء لقد كان أمرا في غاية التسلية بالنسبة لهم. )أحد القتلى األحياء كان تباغته نوبة صرع انفجاري ة في كل مر ة يسمع فيها صوت تلقمية البارودة(. في حلظات التوت ر الشديد واالنهيار النفسي ترتخي كل املصرات العضلي ة في اجلسم مبا فيها املصر ات الشرجي ة أحد الناجني من املجزرة الكاذبة أحد القتلى األحياء ارتخت كل مصر اته حلظة إطالق النار. رائحة الفودكا املنبعثة من العناصر املخمورة جتذ ر»علماني ة«النظام في مواجهة»اإلسالميني املتشددين«رائحة الكحول تعني بالضبط رائحة الس لطة واالستبداد في تلك الليلة بالذات أزاحت رائحة خ راء السجني رائحة فودكا عنصر األمن. مقاطع من كتاب نثري صدر عن دار»مسعى«بعنوان»الوحدة تدلل ضحاياها«.

140 مذكرات معتقل في السجون السورية د. محمد جمال طحان في 2011/7/18 كان موعد اعتقالي من نظام اإلجرام. كان يوما ال ي نسى. اثنان متخل فان من حطب السلطة املجرمة يشبهان اجلدار األصم اختطفاني من باب البيت مساء حني كنت أمد يدي للسالم عليهما وضعاني في سيارة أجرة ولم أدر إلى أي جهة يتبعان. سأالني: هل تعرف الدكتور مروان اخلطيب قلت: هناك اثنان مروان اخلطيب أي واحد تقصد قال واحد من النذلني: بال فزلكة. وأول ما نزلت القبو حملت في املمر وجه الفتى عمر عكام متور ما ومتأل قميصه الدماء وما يزيد على عشرة أشخاص يجلسون في املمر منهكني وفي أيديهم أوراق يكتبون عليها. عرفت حينها أنني في مقر الشيطان وال مالذ لي سوى باللجوء إلى اهلل. املمر أدخلوني إلى مكان لم أتبني معامله ألن عيني معصوبتان. أوقفوني أمام طاولة وحملت من حتت العصابة يدي رجل يرت ب أكياس ورق قدمية عسلي ة اللون يدو ن عليها اسم الشخص

141 أو رمبا رقمه ويضع أشياءه اخلاص ة داخلها. قال لي: اش معك قلت: ما معي شي. قال: هوية. قلت: ما معي. أدارني.. ملص اخلامت من إصبعي.. وضعه في الكيس وقال للشخص الذي يقف خلفي: شيلوه. شد ني اآلخر من ياقة كالبيتي أجلسني في املمر ورأسي إلى اجلدار... أعطاني ورقة وقلما وقال لي: اكتب كل شيء عن نشاطك التخريبي واكتب أسماء كل من كانوا معك من بداية حياتك حتى هذا اليوم واكتب بالتفصيل كل حتر كاتك من أول األزمة حت ى اآلن. جلست مذهوال ولم أكن قد صحوت بعد من غفوتي املسائية التي حتدث كل ثالثة أشهر مر ة واحدة. ولسوء حظي حدثت اليوم فاقتادوني من فراشي إلى مكان تبي نت جزءا من عتمته اخلانقة حني فكوا العصابة عن عيني. لم أكن أدري متاما كم الساعة. ولم أتبني مصدر بصيص الضوء اخلافت ألنني أسمع كل من يرفع رأسه من اجلالسني مثلي ويكتبون يقولون له: وط ي راسك يا حيوان. وأسمع صوت أكف تنهال على الرقاب. هذا غير األصوات التي تأتي من بعيد عقب أصوات سياط وعصي تنهال على من يصرخون وتتداخل أصواتهم: واهلل يا سيدي ما عملت شي.. واهلل ما لي عالقة.. اقسم باهلل العظيم ما لي خبر... أبوس ايدك يا سيدي اش بدك بقول... تناولت الورقة والقلم وبدأت الكتابة: إفادة أولى كتبت سيرة حياتي منذ طفولتي في باب األحمر حيث ولدت حتى دخولي روضة العباسية بحلب ثم دراستي للصف األول االبتدائي في مدرسة الكواكبي حيث كنا نسكن في بستان الزهرة ثم انتقالي إلى مدرسة عمرو بن العاص. أما املرحلة االعدادية فقد درستها في األمني والثانوية في املأمون لم تكف األوراق التي أعطوني إياها فرفعت يدي منتظرا أن يراني أحد. سمعت صوتا يسأل: اش بدك والك خلصت قلت: ال...بس خلص الورق. سمعت أصواتا مختلطة قادمة من إحدى الزنزانات خي ل إلي أنه صوت الدكتور ياسر. تابعت الكتابة: درست في جامعة دمشق قسم الفلسفة وعلم النفس. عملت في مديرية الصحة واملالية ثم تابعت دراستي العليا في اجلامعة اليسوعية ببيروت وفي اجلزائر. در ست فترة من الوقت ثم انتسبت إلى جمعيات كثيرة كنت عضو مجلس إدارة في بعضها ومدير حترير مجلة العاديات منذ إنشائها حتى عام 2008. ثم تفرغت ملؤلفاتي واشتغلت في القسم الثقافي في جريدة اجلماهير ثم مدير املركز اإلعالمي حللب عاصمة الثقافة اإلسالمية وأعمل اآلن في القسم الثقافي بجريدة تشرين. صدر لي أكثر من ثالثني كتابا في الفكر واألدب والثقافة والقصة والشعر. ذكرت لهم أربعة أو خمسة منها ونسيت الباقي. صرخت بصوت

142 عال : خلصت. جاء السجان... أخذ األوراق والقلم.. وضع يدي خلف ظهري وقي دني. وضع العصابة على عيني واقتادني من رقبتي... مشينا في املمر وانعطفنا يسارا. سمعت صوت قفل يفتح وصرير باب حديدي. فك القيد ودفعني إلى الداخل قائال : شيل الطم اشة. رفعت ما يغط ي عيني وأعطيته له. كان في الغرفة شخص بلباس عسكري قال له السجان: هات غراضك وتعا. مللم الشاب حاجياته وخرج. أ غلق الباب علي.وسط ذهولي في الغرفة الضي قة ذات اإلضاءة املنعدمة رحت أفك ر: ما كتبته ال قيمة له.. وقد كتبت مثله عشرات املر ات حني دخولي اجلامعة وحني توظف ت وحني طلبت رخصة ملعهد. سيطلبون مني مزيدا من املعلومات فما الذي ينجيني من براثنهم وكيف ميكن أن أكتب ما ال يضر سواي. ولكن علي أو ال أن أعرف ما الذي أتى بي إلى هنا من حتد ث عن ي أو من وشى بي إنني أحتر ك في حدود ضي قة وكثيرون ال يعرفون عن ي إال معلومات عام ة. لم يكن في مقدروي العمل باسم مستعار ألن كل من يراني يعرفني ولهذا حرصت أال يعرف عنوان بيتي غير أصدقائي قبل الثورة. لم ي د ر في خلدي سوى م هربني اثنني هما»نداء حلب من أجل الوطن«ومقهى الشباب. لم ميهلوني طويال وأنا أقل ب األفكار ألحتد ث عم ا هو مكشوف ال ميكن إخفاؤه وال تشك ل معرفته فرقا لديهم حيث ال يتور ط أحد. س حب مزالج الباب بقو ة وبدا خلفه رجل ضخم ال يحمل إال القليل من املالمح البشري ة صرخ: تعا. وقفت. أدارني بعنف. وضع القيد في يدي وأحكم العصابة على عيني ودفعني أمامه. لم يطل سيرنا حتى قال لي: قف هنا. وضعني في مواجهة جدار وذهب. صارت أصوات السياط واستجارة من ي ضرب بها أكثر قربا. يصلني صوت صارم: يا... بدك حري ة بدك تطلع مظاهرات مو عاجبك السيد الرئيس مو هيك شو مو عاجبك فيه يا حقير ال شك أنه الضابط احملقق يعن ف موقوفا ويحاول احلصول منه على املعلومات. دب ت حركة مفاجئة حولي. حملت من حتت عصابتي خيال شب ان يساقون وي دف عون تباعا إلى املمر واألكف تنهال عليهم بالضرب وبعضهم يتلق ى ركلة وآخرون يحمون رؤوسهم من العصي املختلفة التي تأتيهم من حيث ال يعلمون. حملت أيضا لدى رجل غاية في الضخامة جنزيرا من سالسل متصلة تزن أكثر من خمسة كيلو غرامات يلهو بها في ضرب أرجل الطاولة اخلشبية التي وضعت عليها األمانات. طال بي االنتظار ساعة أو أكثر ولم أعد أقوى على الوقوف ولم تزل وفود املتظاهرين تتوارد ويتكرر مشهد الضرب والتحقير ويزداد الصوت القادم من غرفة التحقيق علو ا ويزداد صراخ من يتلقى الضرب الذي بدا لي أنه جلد لئيم بالسياط ما ذك رني بفيلم كنت قد رأيته أكثر من عشر مر ات وأنا في املرحلة االبتدائية اسمه

143»اجلال د القرمزي". في تلك املرحلة كان والدي باإلضافة إلى معمل النسيج الذي ميلكه في منطقة املغاير بحي الكالسة يشارك في تعه د عروض بعض األفالم في سينما فؤاد وسينما الشرق وسينما اجلماهير ما يتيح لي أن أقضي فترات طويلة في مشاهدة األفالم مج انا. ذلك الفيلم كان يثير لدي الرعب في كل مر ة أشاهده فيها. اآلن أرى الرعب ذاته متجس دا في أصوات أولئك الذين ي جل دون. ت رى حني يحني دوري هل ميكن أن أطلق صرخات استجارة أم أكتفي بالصراخ الذي كنت أكبته على مدى التاريخ إفادات متوالية بعد انتظار طويل قادني شخص من ياقة الكالبي ة وهو يقول: تاع. مشيت أمامه وأنا أمد يد ي متحس سا دربي كي ال أصطدم بشيء ما. من يدفعني من اخللف لم يقص ر في كشف الطريق لي بصوته األجش: ميني.. يسار.. وق ف. بعد برهة دفشني إلى داخل غرفة. مألت أنفاسي رائحة زريبة أبقار مختلطة برائحة كحول.. هناك رائحة أخرى داهمتني لم أتبي نها جي دا إال عندما سمعت أحدا ما يشفط سائال مبتعة ثم يتنحنح ويسعل لينب هني إلى وجوده. هااا. إن ها مت ة. سمعت صوت إشعال سيجارة قبل أن يحد ثني صاحبها بلكنة لشد ما كرهت ها الرتباطها بالتسل ط. كان لدي معارف وزمالء من جبلة يتحدثون بلكنة تشبهها كنت أحب هم لكنني أكره لكنتهم التي سمعتها أو ل مر ة عندما كنت أؤدي اخلدمة العسكرية. بادرني من أظن أنه ضابط مسؤول قائال : شو يا دكتووور.. ع بنا انت مسقف وفهمان. والالاله.. بتعرف أني احنا منعر ف عنك أكتر من اللي بتعرفو عن حالك. بتعرف اال ما بتعرف قلت: بعرف.. طبعا. قال: بقى ال تخبي شي وقول كل اللي بتعرفو.. رفقاتك اعترفو عليك.. وما رح تستفاد شي. اللي كتبته كل ه مالو قيمة. ب دنا منك تقول كل اللي بتعرفو وكل العمليات اللي قمت فيها وكل اللي تعرفت عليهم بهالفترة. نحنا حتى اآلن محترمينك ومقدرينك بقى ال تخلينا نغي ر معاملتنا معك. معك عشر د ق ايق.. بتكتب كل شي بالتفصيل وبتكتب أسماء شركاتك بالتخريب إذا حابب تطلع ونسامحك. إذا ما اعترفت رح متوت عن ا. صمتت. قال: شو لم أرد. سمعت نقرا على الطاولة ينم عن عصبي ة فهي أت نفسي لتلق ي صفعة من مكان ما. سادت برهة صمت حني جر ني شخص من وسط كالبيتي عرفت أن محد ثي أومأ إليهم: خذوه. قادني الشخص عبر املمر.. كانت شحاطتي تنزلق بني حني وآخر من آثار الدماء التي نسير عليها. صفعتني رائحة تشبه سوق العتمة بحلب. كنت أمر فيه سريعا وأنا بطريقي إلى املعهد. وصلنا إلى الغرفة املعتمة حر رني السج ان من القيد ومن عصابة العينني. قال وهو يغلق الباب باملزالج: معك عشر د قايق.. متل ما قال سيادة الرائد...عبتفهم واال ان ت غبي

144 بعد أن أغلق الباب فتح الطاقة الصغيرة التي يظهر منها وجه الواقف أمامها رمى إلي قلما وبضعة أوراق وكرر: عشر د قايق. لم ينتظر ألكمل جملتي وبالكاد سمعني وهو يغلق الطاقة أقول: العتمة كثيفة هنا.. كيف ميكن أن أكتب من غير أن أرى اعترافات خطيرة تناولت األوراق والقلم وبدأت أكتب ما أغفلت ه. سيادة احملقق اعذرني فظروف اعتقالي أنستني نقاطا مهمة ينبغي ذكرها. فحني كنت في الصف األول مبدرسة الكواكبي كنت من التالميذ الشاطرين ودفتري كان في غاية النظافة واألناقة.. وأذكر ذات يوم طلب املعل م من ي أن أدور على تالميذ صف ي وأريهم أناقة دفتري وخط ي اجلميل. حني وصل الدفتر إلى أحد التالميذ الكسالى بصق على الدفتر و... أجلس القرفصاء وأكتب من غير أن أتبني ما الذي أكتبه من العتمة. أسندت ساعدي على األرض ووضعت كف ي على وجهي: يا اهلل كم أنا جائع ت رى كم الساعة اآلن أال يقد مون هنا وجبة عشاء ال شك أن الوقت تأخ ر وقد جيء بي بعد أوان العشاء. مددت يدي إلخراج لفافة من علبة دخاني فلم أجدها... تابعت الكتابة بتوج س خشية أن تنتهي العشر دقائق ولم أنته بعد من كتابة ما طلبوه من ي. سأدخل في املوضوع مباشرة»سيادة احملقق كي ال آخذ من وقتكم الكثير: في بداية ال... توقف ت.. ماذا أكتب بداية الثورة بداية األحداث بداية األزمة املؤامرة التخريب كتبت: في بداية املظاهرات قلت في نفسي ال بد من أن نبني رأينا في ما يجري. اتصلت ببعض األصدقاء وات فقنا على اللقاء كي نفك ر بدورنا في ما يحدث لنجن ب حلب مشكالت هي في غنى عنها. نعم تريدون بعض األسماء سأكتب من أذكره منهم... أوردت أسماء بعض األشخاص الذين أعرف مواقفهم السلبية من الثورة... وبخاص ة ذوي املراكز املهم ة واحلساسة من معارفي. تابعت الكتابة: لم نتوص ل إلى موقف مما يحدث فقلت في نفسي إن املطالب التي يريدها املتظاهرون محق ة ولكنني ال أعرف طريقتهم في التظاهر. فال بد لي من معاينة األمر عن قرب ألعمل مع أصدقائي على توجيه املظاهرات بشكل سلمي وعقالني للمطالبة مبا هو ممكن وال يؤذي البلد. بعد فترة من األحداث اتصل بي مدير األوقاف السابق الدكتور محمود أبو الهدى احلسيني وقال لي: ال بد أن نتمع... أرجو منك االتصال مبن تثق من معارفك وبخاص ة من احملامني لنت فق على موعد نلتقي فيه في مكتبي ونبحث ما نحن فاعلني. اجتمعنا أكثر من مرة في مقاه مختلفة لنت فق على موعد اللقاء املنتظر الذي انبثق عنه ما سم يناه... نداء حلب من أجل الوطن.

145 نداء حلب من أجل الوطن ما أزال في عتمة خانقة... وما أزال أكتب اعترافاتي: كان اجتماعنا األول في عيادة الدكتور محمود أبو الهدى احلسيني مدير األوقاف السابق بحلب. احلسيني شخصية معروفة وله ثقله واحلديث عن جتمع»نداء حلب من أجل الوطن«ال يضر أحدا وبخاص ة أن املوق عني عليه وافق معظمهم على احلوار الذي دعت السلطة إليه فغدا جتم عا للحكواتية ال يؤث ر على السلطة بشيء وإمن ا قد تتخذه السلطة ذريعة ملوافقة الشعب على بوادر اإلصالح التي أوحت بأنها تعتزم إجراءها. آآآآه يا لهذه العتمة اخلانقة.. أسمع صراخا متكر را من أناس ي جلدون بقسوة.. أسمع صوت السوط ينهال على أجسادهم فيستجيرون بحرقة. يتوس لون باهلل ورسوله للخالص وبعضهم يصل إلى مرحلة التوس ل ببش ار ليكفو ا عنه العذاب. لكن هم يستمرون في الضرب ويصلني صوت ضرب تناوبي بني شخصني كأن أحدهما يبدأ واآلخر يرفع العصا ليعزفا معا أحلان املتعة في تعذيب اآلخرين. يتوسلون أذكر أن أبي- رحمه اهلل- زار مرة قريب أمي في فرع فلسطني وأنزله ليريه الزنازين. قال له: أترى هذه السياط وهذه العصي كل منها له اسم. عندما يستجير السجني باهلل تضربه العناصر بهذه. وعندما ينادي للرسول يضربونه بهذه. لدينا كل أنواع السياط التي يستجير باسمها السجني! أفك ر: وماذا سأكتب بعد نعم... توق فت عن الكتابة. تأم لت املكان الذي أنا فيه. هل يعقل أنني وصلت إلى هنا وملاذا ما الذي يعرفونه عني ليعتقلوني ترى من الذي وشى بي حتى الذين أعمل معهم ال يعرفون ماذا أعمل وكيف. ليس هناك ما يبدو على السطح سوى ورشة صياغة الدستور ونداء حلب وهما عمالن نقوم بهما في العلن ألننا وق عنا البيانات بأسمائنا. أشعر بألم في رأسي.. هنا بزغت فكرة إيصال اخلبر ألهلي كي يعرفوا أين أنا. طرقت الباب بحذر غير مر ة حتى جاءني صوت من بعيد: مني عميدق واله قلت هون.. هون. يبدو أنه عانى للوصول إلى مصدر الصوت فتح الطاقة الصغيرة أعلى الباب وقال: شو بدك واله حيوان وقفت وبيدي اآلوراق والقلم قد متها له وقلت: خلص. قال: يا تيس.. تاني مرة ملن تدق قول رقمي حداعش... احفظو يا بهيم. قلت له بلهجة حلبية عفوية وأنا أناوله األوراق: بس في شغلة مهمة بدي أئلك عليها. سخر مني: أئولللك.. أئووولك!!... اجلدار لم آبه لسخريته. كنت أرك ز طوال الوقت على الكلمات التي سأقولها له بطريقة مقنعة. قلت: أنا مريض بالقلب معي تسارع وضغط مرتفع وإذا ما أخدت دوا ممكن جتيني نوبة قلبية مفاجئة. قاطعني قائال : فطيسة.. جلهنم.

146 لم أكترث بتعليقه وتابعت الكالم: والدوا عندي بالبيت ممكن لو سمحت جتيبولي ياه. أغلق الطاقة وهو يتمتم. رفعت صوتي أكثر كي يسمعني: الزم كنت آخد الدوا من املغرب وهلء راسي راح ينفجر من األلم. ترب عت على األرض وأنا أبتسم.. املهم استطعت أن أوصل رسالتي. هكذا حني يسألون عن دوائي ميكن أن يعرف أهلي أين أنا ويخبروا أصدقائي ومعارفي فينقذونني مما أنا فيه. كنت في غاية اإلرهاق والتعب لكنني لم أستسلم للنوم. علي أن أستكشف املكان على ضيقه رمبا يساعدني شيء ما في هذه املساحة الضي قة. حملت البطانيات البني ة القامتة التي كنت أعرفها أثناء اخلدمة العسكرية. نفضت ها.. كانت ثالث بطانيات.. طويت إحداها لتكون وسادة. بني البطانيات عثرت على قطعة صغيرة من احلجر وعلى قطعة صغيرة من سلك معدني قاس وعلى قطعة معدنية انت زعت من مغالق سحاب بنطال... أعدت ترتيب البطانيات مبا يالئم طولي. ورحت أبحث عن استعماالت تلك األدوات التي أعدت إخفاءها حتت البطانيات بإحكام. بدأت من اجلدار املقابل للباب. عبارات كثيرة مكتوبة بطريقة شفافة ال تلفت النظر: ما شاء اهلل كان.. السجن للرجال.. هناك قلب مرسوم يخترقه سهم ونقاط تسيل. قلب كيف ملن يكون هنا أن يفك ر باحلب احلب حب م ن أشعر بجوع يعتصر أمعائي. لم أزل أبحبش في اجلدار املقابل لباب الزنزانة. أعلى الباب ومبحاذاة السقف العالي هناك طاقة محمي ة بشبك حديدي يتخلله أسالك حديدية ممو جة وبللور مكسور تراكمت عليه فضالت احلشرات واألتربة التي ينقلها الغبار ما جعل الرؤية من خالله ال تسمح إال بتسلل خيط ضعيف من ضوء نيون يأتي عبر املمر الطويل الذي تصطف حوله الزنزانات اخلارجية. أما زنزانتي فهي خلف ذلك املمر مباشرة ويفصل بينها وبني املمر باب حديدي كبير. ت فتح زنزانة محاذية لي.. أسمع صوتا بغيضا يقول: تاع والك.. صرير قيود حديدية حتدث طق ة قاسية حني يحكم السج ان القفل على يدي أحد املوقوفني. صوت ارتطام كف بخد... سقوط شيء ثقيل على األرض. أسمع صوت السج ان مر ة أخرى: قووم وققف والااا. خطوات تقترب من زنزانتي... أدق الباب بشكل ال شعوري. أسمع صوتا : مني احليوان اللي عما يدق والااا... أجمد في مكاني. يعود الصوت: مني مايدق والاا. أقف أمام الطاقة الصغيرة.. أقرب فمي وأقول: احدا عش.. الليلة العصيبة يذهب الصوت.. أسمع خطوات متثاقلة. أعود إلى اجلدار... ثمة من استعمل أداة احلفر تلك وكتب التاريخ واأليام وعد األيام من خالل خطوط مائلة. لم ميض علي في هذا املكان يوم كامل بعد. أعود للتفر س في اجلدار.. أعد تلك اخلطوط التي دو نها موقوفون قبلي.. اثنا عشر يوما.. التاريخ منذ أيام مضت. هل هذا يعني أن مدة

147 االحتجاز هنا لن تتجاوز ذلك أفت ش عن تواريخ أخرى: منذ عام عشرة أيام.. منذ عامني ثالثة أيام. يا لطيف هذا شهر ونصف. ال..ال ميكن ذلك ال أعرف من ذكر أمامي ذات مر ة أنه ال ميكن احتجاز الشخص أكثر من خمسة عشر يوما. ولكن.. ماذا أسبوعان... أكيد سأجن خاللهما إن لم أختنق من قل ة الهواء هنا. لم أزل أبحبش في اجلدار الثاني لكن ما شت ت انتباهي صوت السياط وهي تنهال على شخص ما في غرفة التحقيق. يبدو أن تناوبا في الضرب يحدث وذلك يبدو جلي ا من خالل التناغم الصوتي بني ثانية وأخرى. يصل صوت من تقع السياط عليه مخنوقا وهو يصرخ: واهلل يا سيدي ما بدي أنشق..سيدي أبوي مريض وما عطوني إجازة نزلت يوم واحد...آآآآخ يا يوووم.. واهلل التوبة.. كرمال اهلل حاج... حاااج دخيلكن.. أبوس ايدك حااااج... رايح أموت. أنا مريض. وقع السياط كأنه ينصب في روحي... لم أعد قادرا على االستماع إلى كل هذا العذاب. يتوق ف الصوت فجأة. حلظة ترق ب تبدو كأنها دهر: ما الذي حدث األكل واملرحاض هل ميكن أن يكون...ال.. ال.. ال ميكن أن يحدث ذلك. هل مات من التعذيب بعد قليل سمعت خبطات غريبة تدنو... وضعت أذني على الباب الستكشاف ما يجري. كأن هم يجر ون شخصا : قوووم وق ف والااا اشو انت مرا كل ن كم فلقة. تضرب في نيعك. اقترب أكثر صوت يشبه صوت سحب كيس من اجلبس على أرض اسمنتية متعر جة. صوت آخر يقول: ليك العجي بيمسح الدم بكم القنباز... بح تو بح تو لهالكر. ي فتح باب زنزانة قريبة.. خبطة شديدة.. ي غلق الباب احلديدي بقو ة... طق ة قفل. طوال الوقت كنت أسمع أنينه وأنا أفك حروف الكتابة على احلائط الثالث: سأصبر حتتى يعجز الصبر عن صبري.. سأصبر حتتى ينظر الرحمان في أمري. هكذا بأغالطها ك تبت لتدل على مستوى التعليم لدى كاتبها. ثمة جملة ك تبت بخط جميل جد ا على حرف اجلدار املوازي للباب احلديدي: زنزانة األحرار. تأم لت جمال اخلط ملي ا وأراحتني تلك العبارة التي تذك رني بأنني لست مجرما وإمنا طالب حري ة. رمبا يوم أو يومان مضيا وأنا أسمع أصوات التعذيب والوالويل يفتح باب الزنزانة علي ثالث مر ات لوجبات الطعام ومرتني للذهاب إلى املرحاض بعد اإلفطار وبعد العشاء بنصف ساعة. أم ا املر ات األخرى التي كان يفتح فيها الباب فكنت أساق معصوب العينني ومقي د اليدين ليعطيني احملقق درسا مقتضبا في الوطنية واإلخالص ويهد دني بعذاب شديد ينتظرني إن لم أكتب شيئا جديدا مفيدا في إفاداتي. يعودون إلى السيرة ذاتها أوراق وقلم... وأعيد كتابة ما كنت قد كتبته أكثر من عشر مر ات بكلمات مختلفة ولكن من غير أن أغي ر إفادتي إال بإضافات أعرف أنها تتضمن تفاصيل أكثر سخافة مما كتبته من قبل. الفطور كان رغيفا من اخلبز مع حالوة أو بدونها. بعد أربعة أيام اكتشفت أن الرغيف الذي كان يأتي مجر دا وفي طعمه شيء من املذاق احللو كان يحتوي على نصف ملعقة صغيرة من سائل مربى املشمش.

148 أم ا احلالوة فمن أول قضمة لم يخطر في بالي سوى أنني أتناول شحاطة بالستيكية فيها شيء من السك ر. كنت أنظ ف الرغيف من احلالوة ثم أتناوله مع املاء. أفك ر في جدوى العبارة التي كن ا نتداولها مرحني: خبز وماء أكل العلماء. املاء كان في إناء بالستيكي يشبه طاسة احلم ام منلؤه باملاء عندما نخرج للمرحاض مبا اليتجاوز دقيقتني. املرحاض كان قريبا من زنزانتي يأتي السج ان ومن أصوات فتح الباب وإغالقها أعرف متى يحني دوري يفتح الباب ويقول بلهجة صارمة مستعجلة: طالع. أجت ه مباشرة إلى اليمني أسير في ممر ضي ق قصير في املمر األساسي احملاذي لطاقة زنزانتي يواجهني باب املرحاض فسحة صغيرة ثم بابان أدخل في أحدهما. أجلس وماء مواسير تواليت الطابق العلوي القذرة تسيل فوق رأسي أو على كتفي. أخرج وليس مسموحا إال بغسل اليدين والوجه. ومن يخالف ذلك يتلقى لطمات بخيزرانة مدببة الرأس يستعني بها السج ان على تطويع املساجني كي ال يتأخروا وال يتجاوزوا الوقت املسموح به. كل ثالثة أو أربعة أيام أجد بروة صابون صغيرة أحتفي بها أمي ا حفاوة أستعملها وأستمتع بنظافة ال نظير لها. وألنني كنت أتقن اإلسراع كان السج ان يغتاظ من ي ويضرب اجلدار بخيزرانته ضربات متتالية كي ال يفو ت على نفسه متعة االستمتاع بوقع أحلانها التي تفر ق الهواء وهي تهوي على جسم ما. إزعاج ليلي متواصل الغداء له حكاية أخرى إناء يشبه طاسة املاء فيه شيء من البرغل أو األرز مع مرق يقبع في قعر اإلناء لم أكن أتبي نه لشد ة انخفاض الضوء لكن الرائحة كانت تدل ني عليه قبل أن أكتشف فتحة مبقدار نصف سنتيمتر على طول أسفل الباب فما إن أسمع حركة توزيع الطعام حتى أستلقي بحيث أرى محتويات الصحن الذي يقد م للزنزانات األخرى. كما أنني اكتشفت فرجة صغيرة في طرف طاقة الباب حيث بدأت أتلص ص عندما أسمع حركة في اخلارج. كنت أكتفي برغيف اخلبز مع قليل من املاء وأبقى أعاني حتى موعد اخلروج إلى احلمام من رائحة طاسة الطعام التي حتتوى ماء البندورة أو الفاصولياء البيضاء أو البطاطا املطهوة من غير غسيل أو تقشير. أحيانا كنت أمللم قطعا من الفاصولياء من غير مرق وأدرجها في رغيف اخلبز وهي بنصف طهو. طبعا لم أكن أستهلك الرغيف لكنني كنت أخفي بقاياه ألنني عادة أجوع في آخر الليل. كانت وجبتي األساسية في البيت هي وجبة العشاء وذلك ألنني أنام بعيد الفجر. وال أذكر أنني استهلكت رغيفا كامال في أي وجبة باستثاء زيارتي لبيت أهلي فكنت أفخر بأنني أقضي على رغيف كامل إذا كان الطعام حلمة بالفرن أو باذنان مكمور. في العشاء أيضا يأتينا رغيف خبز مع نصف حبة بطاطا بنصف نضج أو نصف قطعة بندورة من احلجم الصغير. يا لسعادتي! لم أكن أعرف أوقات الصالة إال إذا كان الهدوء سائدا حيث يأتيني طيف خفيف من صوت أذان يبدو أنه أقرب إلى الزنزانة املقابلة لي. في البداية استعملت طاسة املاء للوضوء

149 ثم اكتشفت حيلة جديد. حني أذهب إلى املرحاض صرت أغسل رجلي قبل أن أخرج ثم أكمل الوضوء باملقلوب وبطريقة تبدو وكأنني أغسل يدي ووجهي وحسب. نعم قبل أن أنسى.. أتناول النتوء احلديدي من حتت البطانية وأبدأ احلفر على اجلدار كي ال أضيع األيام... دخلت يوم االثنني 2011/7/17 وضعت سطرا يضم أيام األسبوع والتاريخ حتت اليوم احملدد. وفي كل يوم كنت أكتب التاريخ حتت اليوم وأراجعه بني برهة وأخرى. لم يكن يقلقني سوى من هم في اخلارج.. أهلي أقاربي.. أصدقائي... ت رى هل يعرفون كم أحب هم كان يفترض أن أكون أكثر صراحة بالتعبير عن حبي لهم وعن لهفتي عليهم وعن رغبتي في مساعدة أي منهم. من املرج ح أن هذا هو قبري.. لن أخرج من هنا فكيف سيعرفون كم كنت أحبهم. بدأت التركيز على شيء واحد كل مرة أو شخص واحد. أبي أمي زوجي أوالدي من أحببت على مدى أربعني عاما. ماذا عملت وماذا أنزت ترى هل سأدخل اجلنة أم أن خطيئاتي تتجاوز احلسنات استعرضت تاريخي واكتشفت أنني كنت مظلوما على مدى العمر. صحيح أنني نعمت ببعض السعادة من خالل إنازاتي الفكرية والعملية ولكن السمة الغالبة كانت الشقاء الذي أدفعه بالعمل. كنت أدفع عني التفكير السوداوي بالعمل الذي كان معظمه طوعيا بال عائدات ولكنني كنت فيه أحق ق ذاتي. في هذه األثناء ف تحت طاقة الباب الوحيدة وبرز من خاللها رجل قميء تعلو البثور وجهه حليق الشعر والشاربني وله حلية كثيفة وعلى كتفه األمين وشم كتب عليه: رضاكي يا أمي مع قلب يخترقه سهم. وعلى الكتف األيسر جملة لبيك يا علي وفيه وشم سيف معقوف. وفي يده أوراق يدو ن عليها. قال بلهجة صارمة سريعة: قوم وقاف وال... وجهك عاحليط.. ما بتعرف أصول السجن والاا..حيوان. وقفت.. أعطيته ظهري قال أشو اسمك قلت له.. قال قول سيدي والااا. أعدت االسم وختمته ب )سي دي( من غير تشديد ألنني أعرف أن الس ي د هو الذئب وليس السي د. قال وهو يغلق الطاقة: تخوزق... ب د ك ن حري ة بدكن رصاصة تريحنا م ن ك ن. كل ذلك يحدث وسط حركة متهي جة في اخلارج... متظاهرون يدخلون والعصي تنهال عليهم والشتائم املتنوعة... يسل مون أماناتهم... يكتبون تصاريح... بعضهم يخرج بعد كتابة التعهد وآخرون يقضون خمسة عشر يوما على أقل تقدير يرافقه تعذيب دوري. كنت قد تعبت جدا وأردت أن أنام. وفيما أنا على وشك أن أغفو وأنسى أين أنا ف تح الباب بعنف: لم يبد وجه الشخص الذي وقف وراء الباب متخفيا وضع الطم اشة على عيني. شد يدي إلى اخللف ووضع القيد فيهما وقال: مشيي... تعث رت بدرجة واطئة قبل أن يدفع بي مرافقي إلى داخل الغرفة. احترام مريب في التحقيق سألني صوت يبدو أن مصدره واقف: من أولها.. احكيلنا عن املظاهرات وكيف كنت توجهها ومني كان معك ووين كنتو جتتمعو وشو مخططكم لقلب النظام. شوف حلد هلق

150 نحنا محترمينك أنت رجل معروف والك مركزك وكنت مدير مجلة ومالك )جلجوق(! بقى ال تخلينا نغي ر املعاملة معك. عندنا أساليب ما بتخطر ببالك فاختصر على حالك الطريق وقل نا أسماء إذا بدك تطلع من هون وإال ورب اللي خلقك منخليك تتخ هون. بعد ما يزيد على ساعة ونصف وهو يحقق معي وأنا واقف لم أكن أنتبه إلى الرائحة النتنة التي تعج باملكان ولم أكن أشعر بأي تعب ألنني كنت حريصا على التركيز حول ما أقول خشية االنزالق مبا قد يؤد ي إلى فتح ملفات أظن أنهم غافلون عنها متاما. دار حولي بضع مر ات ولم يخترق الصمت من حولنا سوى صوت عصا يبدو أن حاملها يضرب كف ه فيها بانتظام يبعث على اخلوف وكأن ه يهيؤها لشيء ما. مع دوران احملقق حولي كانت تدور في رأسي شخصيات احملققني التي قرأت عنها وعن أساليبهم في انتزاع االعترافات. كم يبعث الصمت على السكينة وهدوء النفس مبقدار ما ينبئ أن عاصفة تلوح في األفق. رحت أعب من هذا الصمت الذي افتقدته يومني أو ثالثة أيام خالل وجودي في هذا املستنقع الذي ال تبدو له نهاية. األمر األساسي الذي كنت واثقا منه لن أسمح لهم بهزميتي. بحركة مفاجئة وضع احملقق يده على كتفي وقال: احكيلنا عن عالقتك بأبو فادي. قلت بتلعثم: أبو فادي.. أبو فادي..)بعد صمت دام ثوان تابعت(: ايه رجل كبير السن طي ب القلب..إنه محام من حماه يقيم في جتميل املشارقة منذ فترة طويلة هو ال يعرف أو ال يحب قيادة السيارة لذلك يستعني بابنه... يتصل به ليأتي ويأخذه من املقهى. قاطعني احملقق بنبرة حاد ة: عبتضحك علينا شو دخلنا بسيارته وابنه قلت بهدوء شديد: سيدي انتو قلتولي احكيلنا بالتفصيل وأنا عبحكي كل شي بعرفو. سمعت صوت ازدراده املاء قبل أن يتحد ث: مو هاد يااااااا بني آدم... فادي اللي بيتعامل مع الدول الغربية وبدو يخر ب البلد. قلت: ما بعرفو سيدي. قال: كيف ما بتعرفو. سماع ألشوف. سمعت وقع خطوات لم أتبني مصدرها ولكن يبدو أن ها حتيط بي من كل جانب. ساد صمت مريب برهة من الوقت ثم سمعت صوتا على بعد مترين من ي: احكي أبو ثائر.. بيعرفو كل شي وأنا حكيتلهم كل شي اعملناه... كن ا عندك في البيت أنا وأبو فادي واتفقنا أنو يجيب العصي الكهربائية وحكينا عالسالح بس ما استعملناه. عندما جاءني صوت الدكتور ياسر دارت بي الغرفة وشعرت بأنني أقف عاريا أمام قبيلة تعرف دقائق حياتي كشريط سينمائي ال ميكن نفي أي شيء فيه! )جزء من مذكرات الكاتب في املعتقل(

أوراق مسرحية

153 حلظة صمت... عبد العزيز كوؤدو )إنارة خافتة في زاوية مقهى وكرسيان وطاولة...( حلظة صمت حلظة صمت... طالت حتى خالتها لن تنتهي وهي تتوضع قبالته... في زاوية املقهى األثيرة لديهما من زمن فات... وهدير املسجلة يكسر الصمت فيما بني مقطعني يتيح لها أن تستجمع أنفاسها قبل أن تصدح من جديد: -»...يعني افترقنا خالص " عادت بها الذاكرة خمس سنوات إلى الوراء في هذه الزاوية بالضبط حينها قال: - أحبك.. - ألف.. أنا... )وشهقة ( - ال بد أن نتزوج!

154 )ابتسمت في صمت وكذلك كان...( وقتها كانت تشتهي أن جتلس إلى جواره متيل رأسها على إحدى كتفيه... وتشاغب أناملها يديه... وقتها كان يحبها ويعرف كيف يجعل تلك اجلذوة تظل ملتهبة أبدا... وقتها ساد صمت أيضا... والصوت األجش ردد في مناسبتني: -»عايز أيامك.. يعني انتهينا خالص «- أفي هذا خالص )قال.. ولم يقل( - ال ترد على سؤالي بسؤال )قالت حيرتها التي فهمت صمته ذاك الذي لم تعد تفهمه منذ زمن!( - ما جدوى اللقاء إذن إذا كنا سنلوكه في صمت )قاال معا في نفسيهما... ولم يجرؤا على البوح بذلك...( كيف سمحنا لكل هذا الثلج أن يتراكم بيننا أن يوغل شرقا حتى السرير ويحيل البيت صحارى من جليد كيف تنمو األزهار في تربة من صقيع كيف وكيف... وكيف تسلل برد العاصفة ليلة بعد أخرى إلى كل زاوية وركن من البيت وأقام فيه أعشاشه يعوي كذئب جائع فترتعد اجلذوة التي كانت ملتهبة ذات زمن وتستحيل ذبالة شمعة تخشى أقل نسيم كيف... )تتساءل وقد وضعت رأسها بني يديها في حلظة تأمل شاردة( كيف... )يتساءل وقد وضع رأسه بني يديه مشلوال عن كل إجابة( ليس هناك اآلن إال برد استقر في الذوات حتى العظام ونفق مسدود شدد عليه الظالم حصاره... ليس هناك إال أنامل مرتعدة تخشى االنعتاق رغم جوعها اجللدي واشتياقها للحظة املالمسة... ليس هناك إال نظرات حيرى كسيرة ال تقوى حتى على مواجهة بعضها بسيوفها التي فل ها الدمع... ثم هناك هذا الصمت... وما يكسر أغالله غير الصوت األجش وهو يردد في مقاطعه احلاسمة:»يا أجمل وهم صادفته.. يا أحلى كذب صدقته.. ما يهمنيش إنك خدعت القلب بعد سنني هنا أنا شفتهم ما تهمنيش النار مادام النار فى جنة كام سنة اناعشتهم«أجل ما عاد أي شيء يهم حقا... ما عاد القلب اجلريح املضطرب كجناحي فراشة يهم أحدا وما عادت النار التي حر قت

155 أنامل الشوق تؤجج الرغبة الكسيحة فيك.. وفي... ما عادت الرغبة هي الرغبة واحلب هو احلب والزمن هو الزمن... ما عدت أنا أنا وال أنت أنت... بعد أن اختنق كل شيء... حتى الصوت األجش الذي ردد في مقاطعه األخيرة قبل أن يبلعه الصمت:»عايز أيامك.. يعني انتهينا خالص...«)إنارة خافتة في زاوية أخرى من املقهى وكرسيان وطاولة...( حلظة صمت حلظة.. صمت... )...(

156 أوراق سردي ة

157 صورة القائد العظيم خطيب بدلة في الثمانينات من القرن املاضي تعامل»احلاج أحمد«وهو صاحب مقلع للحجارة في منطقة أريحا مع أحد شيوخ اجلبل بريف جبلة.. كان ي و ر د له حجارة فخمة ليبني بها ق ص ر ه على تلة مرتفعة في قريته اجلبلية. احلاج أحمد بعد أن و ر د للشيخ عدة طلبيات دون أن يقبض من ثمنها شيئا ركب سيارته )املازدا 929( وذهب لي ح ص ل ثمن حجارته.. ذهب وهو متوجس خيفة ليقينه بأن»الشيخ«رجل مستبد و)م ب ط ل( ال يحب دفع ما عليه من حقوق. استقبل»شيخ اجلبل«ضيف ه الريحاوي في مضافته الكبيرة التي يخصصها ألعماله اإلدارية املتنوعة كالسلب والنهب والتشبيح وع ق د الصفقات. أولم له وبعد الغداء غصت املائدة بالفواكه واحللويات واملوالح والفستق احللبي األخضر الذي أحضره احلاج أحمد معه من أريحا هدية للشيخ.. في املكان مجموعة من عمال الشيخ ومرافقيه. إنهم فتية تتراوح أعمار هم بني الثامنة عشرة والثامنة والعشرين يرتدون القمصان املشلحة التي ت برز زنودهم الثخينة العامرة بالعضالت الفوالذية والوشم. م ن يراهم ألول مرة يالحظ على وجوههم الغباء امل ر ك ز ويستشف وجود استعداد تام لديهم للعدوان على م ن يرتئي الشيخ ضرورة العدوان عليه في الزمان واملكان اللذين ي حددهما.

158»الشيخ«يحب هؤالء الفتية كثيرا وي د ل ع هم مستخدما كلمات تبدو فجة من قبيل: كر وجحش وحيوان... وهم يفرحون حينما يخاطبهم بهذه املفردات ألنها تنطوي على نوع من»اخلصوصية«التي ال يوجهها إلى غيرهم. التفت نحوهم وصاح بهم بنبرة تقصد أن يضمنها شيئا من اللؤم: واله حواوين... تعالوا هن ا... مثلوا أمامه فقال لهم: ال حتطوا ع ر ق على الطاولة اليوم ضيفنا احلاج أحمد ترى مو شريب كاس! قالوا له: أمرك معلم. ونفذوا األوامر بحذافيرها. ساد الصمت على اجللسة بعد الغداء. واحلاج أحمد هم بالكالم أكثر من مرة محاوال البحث عن صيغة أمينة للمطالبة بحقه ولكن نظرات»الشيخ«كانت تتحول عنه إلى صورة حلافظ األسد معلقة في صدر املضافة كأنه يطلب منه أن يشاركه النظر إليها واإلعجاب بها. فجأة قال الشيخ: شو رأيك بصورة هالقائد العظيم يا حاج أحمد الصورة في الواقع عبارة عن نسخة من مئات األلوف من النسخ التي طبعها احتاد الفالحني في أحد مؤمتراته السنوية وفيها حافظ األسد يرتدي الزي العربي ويعتمر باحلطاطة والعقال وحتتها كتبت عبارة )الفالح األول(. قال احلاج أحمد مجامال خائفا : بصراحة رائعة.. قال الشيخ: هه. قلت لي صورة هالقائد العظيم رائعة أي وشو كمان احلاج أحمد في الواقع ثقافت ه على قدها فهو لم يصل إلى الصف التاسع إال بشق النفس وطلوع الروح... ولكن لديه بعض الثقافة العامة.. لذلك وجد نفسه يقول للشيخ: واهلل إنها حتفة فنية رائعة و... و... وم ع ب ر ة... يعني هي تضاهي بجمالها )املوناليزا(. قال الشيخ: ليك.. واهلل أنا مو سمعان بهاي )الليزا( اللي قلت عليها. بس أكيد هي شغلة كيسة.. يعني على قولتك قديش بتسوى صورة هالقائد العظيم هنا أسقط في يد احلاج أحمد وقد فاجأه السؤال وحار مباذا يجيب. في األحوال العادية لو كان احلاج أحمد جالسا يشرب الشاي مع عماله في غرفة املقلع اجلوانية ونط واحد من العمال وقال له: )قديش بتسوى هالصورة (.. ميكن أن يتجرأ ويقول له: بتسوى ضرطة.. ولكن هنا في حضرة هذا الشبيح الكبير يجب توخي احليظة احلذر.. لذلك قال: تسوى كثير يا شيخ... مئات األلوف من الليرات السورية واهلل. قال الشيخ بتركيز كبير: مئات األلوف يعني قديش

159 قال احلاج: يعني مو أقل من مليون ليرة سورية. قال الشيخ: وأكتر. على كل حال وال يهمك. وقال ألحد شبيحته: تعال أنت واله كر. لف صورة القائد لعمك احلجي! قال الشبيح: حاضر شيخ. وقال آلخر: تعال واله جحش الكبير أنت. هات الدفتر شوف قديش حساب احلاج أحمد اخصم عليه مليون ليرة حق صورة القائد حافظ األسد وإذا حسابه أكثر من مليون ادفع له الفرق وإذا أقل من مليون سامحناه بالفرق. يلال ابني يلال... وقال لثالث: تعال أنت وال ابن القحبة. اتصل باجلمعية الفالحية خلي يبعتوا لنا صورة للقائد حافظ األسد... ولك ما هي كيسة بحقنا أن يدخل حدا على هاملضافة وما يشوف بصدرها صورة هالقائد الكبير!

160 حزب الدكان هشام الواوي ال توجد أية )أ ر ض ي ة( وال )س ق ف ي ة( فكرية أو أهداف محددة ل»حزب الدكان«وال ل)الدكان( نفسه وذلك بسبب بساطة محتوياته وبساطة األشياء التي يبيعها وزبائنه ومالكيه! يقع )الدكان( في أقصى زاوية على حدود الوطن حيث البرد الشديد واملنحدرات احلادة والساحات الضيقة. الناس هناك ميشون اثنني اثنني بسبب ضيق الزواريب. يحشر»الدكان«نفسه حتت إبط ساحة ال ت ش و ش على انتظام املكان. ومبا أنه الدكان الوحيد فإن»حزب الدكان«بالتالي هو احلزب الوحيد. اإلمبراطور»ميدا«)املخلوع في مسرحية»يعيش يعيش«( يختبىء في الدكان تضعه»هيفا«في مكان بارز ليراه اجلميع وال ينتبه إليه أحد. يتعلم اإلمبراطور الذي أصبح اسمه»برهوم«من الدكان ما لم يستطع أن يتعلمه في القصر اإلمبراطوري!. ي خفي برهوم اإلمبراطور القابع في ذاته وي ظهر مقدره عجيبة على»التفتيش«. يعثر على عصابة تهريب ينجح معها في تدبير انقالب يعود به إلى كرسي اإلمبراطور بلبوس برهوم. األمر األول الذي يصدره احلاكم )اجلديد/ القدمي( كان تفتيش الدكان. أراد أن يقلب جميع اخلبايا التي د س ت ها»هيفا«في الزوايا رغم تشبع أنف برهوم بغبار الرفوف واستماعه إلى شطحات»بو ديب«عن التمساح والنهر.

161 عاث برهوم في تالفيف املكان مثل اخللد.. ولكنه لم يعثر على شيء. لم يكن يعرف عما يبحث ولكن حس االرتياب الذي ميلكه أمثال ه يدفعه للتفتيش دفعا. أما األمر الثاني الذي صدر عن الزعيم اجلديد فكان يتضمن توقيف هيفا وبو ديب. وهو أمر ال يعكس تنكرا أو قلة وفاء بل إنه يدل على حس أمني»صحيح«ويخفف من االرتياب.. هذا العالم )الر ح ب اني( املسمى»يعيش يعيش«ليس فيه أثر للواقع ولكنه مفعم بالوقائع. املسرحية ع رضت في عام 1970 وهي السنة ذاتها التي قاد فيها وزير الدفاع السوري حافظ األسد انقالبا سماه»احلركة التصحيحية«فحكم سورية بعدها ملدة ثالثني عاما. كان االنقالب جزءا من سياق تاريخي عاشته دول املنطقة كلها يقوم على»التوازن«. وبعد انهيار نظام القطبني العامل يني اقتات نظام األسد على تناقضات اإلقليم فعاش معزوال تارة ومكروها تارة أخرى ومقبوال على مضض دائما. خالل أعوامه الثالثني فتش نظام األسد»الدكان«مرات عديدة واعتقل أصحابها وكسر رؤوس بعضهم ووطد استمراريته رغما عنهم. لم يغير موت رأس النظام من األمر شيئا فظلت قسماته حاضرة وممسكة بكل شيء بانتقال السلطة إلى»نله«بشار انتقاال أظهر قلة اكترات مبؤسسات وهيئات ابتكرها النظام نفسه بتمزيق إحدى صفحات الدستور و»التعفيس«و»التعجيق«فوق ظهور أعضاء مجلس الشعب بجعل الرئيس أصغر عمرا من أصغر أعضائه! وبعد نوبات البكاء اجلماعي املنتظم على»الزعيم«املضبوط بإيقاعات )يا شباب العرب هيا وانطلق يا موكبي( بقي كل شيء على حاله فتخثرت نظرات املارة على مشهد وحيد واعتادت عليه وتواطأت معه فاستسلمت له ببرود. سأل برهوم هيفا: أنت من حزب اإلمبراطور أم من حزب االنقالب أجابت بسرعة وعفوية: أنا من حزب الدكان! كان اإلمبراطور يتوسل نصيرا في محنته. فقد شاهد من مكانه»البرهومي«مدى جهل اإلمبراطور ومدى بعده عن نبض الشارع ومدى غربته عن الدكان وعندما عاد إلى السؤال ذاته أجابته هيفا بحدة هذه املرة: قلت لك: أنا من حزب الدكان! وكأنها مصرة على وجود مكان ثالث ال يعرفه اإلمبراطور ولم يختبره. عذر هذا اإلمبراطور املخلوع أنه ال يؤمن مبنزلة ثالثة فهو ال يعرف إال مكانني فقط: قصره الفسيح وما يحيط به من خدم وحشم ومرقصي قرود ومقبلي أيد ويعرف مكانا آخر ال

162 يوجد فيه أحد. بعد أربعني عاما وفي حلظة ت ش ك ل وجيب جماعي صاعق لم يعد ي جدي تفتيش الدكان. لذلك قرر»برهوم«هدمه.

أوراق شعرية

165 ال نعرف شيئا عن الشام سوى قبر أبي راجي بطحيش 1 ال نعرف شيئا عن الشام سوى قبر أبي ورحالت وهمية خبرنا عنها نحو سفح القمر رجوعا.. وهؤالء العرائس اللواتي قدمن إلى هنا قبل مئة عام ولن يعدن يوما.. والباب الذي عندما نفتحه ستتدفق الينابيع حتت أقدامنا لتحاكي بعض تأويالت اجلنة... ال نعرف شيئا عن الشام سوى شعر جدتي األسود واملائدة التي ستمتد لنا من اطراف اجلوالن وحتى معلوال.. وهي تزخر بالعرق والتبولة املرصعة بالآللي واحلمص املجبول مبواويل سحيقة والصفيحة املطلية بعجائب بساتني الغوطة واليبرق احملشو بتعاليم غرام مسحورة... ال نعرف شيئا عن الشام سوى حسرة أختي الطويلة...

166 و مخبز»طيبات الشام«القذر في حينا.. وأراجيل الشام وملحمة يا مال الشام ومقهى ليالي الشام للرجال وفرو ج أسرار الشام.. وحانوت ذبح ومعط دجاج أبناء الشام.. ومعسل أيام الشام وغسيل سيارات أبواب الشام. أخرج مغبرا من بني مجسم الركام في مول»أفراح الشام«ورموشي بيضاء وقد نسي مشغل املوقع أن يزيل ذراع الطفل الرضيع التي التصقت على وبر معطفي املصن ع طبيعيا انفض االسمنت عن حاجبي وأوق ع ملعجبة.. كتابي اجلديد حول حلف األلم والغباء.. 2 ال نعرف شيئا عن حلب سوى دندنات أمي.. ورحالتها الوهمية مع صباح فخري في جوالت عروضه عند حواف الصحراء الشائكة فأمي ال تفقه اآلن جمال كاملة اال عندما تصدح في مذياع الشوق... قدود حلبية.. وأمور أخرى تشبه نغمات صوفية.. رمبا... ال نعرف شيئا عن حلب سوى جدائل مرقطة ال تنتهي والكبة نية التي متتد من هناك.. حتى مفترق هضاب ميكننا سماع صوت االنفجارات فيه تلك الكبة نية مجبولة مبادة هالمية ال تستخرج سوى من فروج مغنيات القصور املهجورة وتلك اللحمة النيئة الفستقية التي توسل صاحبها الغزال كي يستعيروه ليكون جزءا من كل هذا اجلمال. وصنوبرا كان في يوم من األيام شذرات ماس ملت من تزيني نهود أميرات قبيحات. ال نعرف شيئا عن حلب سوى روايات خالد خليفة وزقاقات لن تطأها أقدامنا يوما اال لنشتري قوارير مزيفة من ترابها للذكرى ورموش اصطناعية لنجمة الدراما السورية الصاعدة ووصيفتها مع إضافات الشعر املجنونة لم أعد أرى جيدا من شدة الغبار الذي أحدثه البرميل املتفجر اخترق الفقاعة البيضاء امللبدة بالدماء أدخل بني دهاليز الركام واصطحب صبيا تنقصه رجال )ال ضير( معي جنوبا نحو ديار السخرية.. لنبتعد ونبتعد...

167 3 لم نعد نعرف شيئا عن لبنان سوى حلوى تدعى»ليالي بيروت«أو»ليالي لبنان«..ال يهم.. تعدها الفتيات حلمواتهن املتطلبات كنوع من اجتياز اختبارات اإلداء. لم نعد نعرف شيئا عن لبنان سوى بيبي دول أحمر من ريش نعام من ماركة كنزو وهو يتدلى من شرخ في جدار مثقوب...

168 املضارب محمد جميح السالم عليك مضارب أحباب نا. السالم عليك طلوال معر شة في انذابات أرواح نا للزمان اجلميل. السالم عليك رسوما س ف ت ها قصائد نا ال الرياح وجد د ها شوق نا ال السيول. السالم عليك نشيدا يجر ح ذاكرة طال عهد لها بالطلول. السالم السؤال الذي حي ر الواقفني بأوجاعنا والسؤال الذي لم جتب ه الديار بنجد وحي ر نا في الشمال السؤال السؤال أين أهل املضارب أين النسيب الذي رد د العشب ترحال ه واحملبون هل سلكوا صفحة البحر للغرب أم مي م وا وحشة في انسراح الذهول والقصيدة جرح الرمال احلزينة ماذا أ عيد وماذا أقول لم نزل يا مضارب كل مساء نش د الرحال إليك نلتقي والطلول الشجية نسألها قبسا مهلكا أو رمادا يكح ل أرواحنا كل ما أذبلتها الدموع بكاء علينا وحزنا عليك. هل لنا يا مضارب إذ داه م تنا طيور أبابيل تأكل منا القصائد واحل ب أن نختبي في مواويل عتقها العاشقون لديك! يا مضارب : شيئا قليال من احل ل م قعبا من احلزن أو خرقة من قميص لقيس مشى فيه

169 منجذبا في القفار. يا مضارب طال الس فار وشاخت قصائد نا وانحنت في فضاء التول ه أشجان نا والعيون التي سافرت في املدى امتألت بالشجى والغبار يا مضارب : هذي دماء القصيدة من زمن غائر في احلنايا وهذي البراري التي شهدت نبل أحزاننا وتشر د نا هذه أدمع من أريج تفت حها انبلجت سدرة احلزن هذي العيون التي انضج احلزن أطياف ها والقلوب التي قش ر تها مواجيد ها واحلروف التي بعثرتها السوافي وقوفا على زمن من طلول يا مضارب هذي بحور اخلليل حصى شاحب واخلليل على شط ها يتوس د تفعيلة سر بت ماء ها في البراري وهذي القلوب التي أشعلت ليلها لم يع د في حشاها سوى ح ل م بارد أو تراب قليل يا مضارب يا ثروة من حنني القصائد العشب يا فكرة في خيال الغيوم البعيدة يا رحلة بدأت من سنام ل»عوجاء «عاجت على د منتني معل قتني بأرواحنا وانتهت البتداء الرحيل. أي جرح يجول بأحداقنا كل ما أرقلت ناقة في عراء تو ل ه نا أي ماء من الروح ينصب إن أرخت البيد أحزان ها أي برق -إذا جن وجد - يؤر قنا لديار األحب ة في»مهمه» ليس فيه الدليل يا مضارب : ما أبعد الدرب جمر الغضا دون أدناه أبعد ه غائر في املدى واألحبة قهوتهم فوق قلبي العليل يا مضارب : هذي القلوب التي سافرت في الصدى خطفتها طيور تفت ق عنها املدى أي درب سي ب لغ نا عشق نا والبراري سباع خرافي ة والدروب تؤد ي إلى نقطة هي بدء املدى املستقيم خلتم محال يا مضارب : إن أقبل الليل تسري إليك الدروب وتسري احلروف التي أخذت شكل ها يسقط الطيف من شجراحل ل م يبحر في املاء عرش اخليال والندى في مدى الروح منسكب عند أشياء نألف ها بعضها عند م نعرج القلب والبعض وهم ت شد إليه الرحال حد ثينا-إذا - يا دروب عن الساكنني هنالك خلف املدى عن مضاربهم كيف أمست على بعد ق ربني أو قرب ب عدين هإننا اآلن منطرحون على ح ل م جف فته البراري وسف ته ريح الشمال يا مضارب هذا السالم وهذا السؤال. السالم الذي كان»عمت صباحا «وصار صدى في الرمال. والسؤال الذي حي ر الواقفني وضاعت إجابت ه في اغتراب الرحال. السالم السؤال. يا مضارب هذا قليل من البوح لكن أكثره ال يقال

170 للقصائد هنا نكهة املثلجات متارين أولى متام هنيدي ستوكهولم حيث ميكنك أن تسأل ماذا أفعل هنا! مترن نفسك طويال على أن تدهشك الوردة وصوت العصفور وأنواع البيرة الكثيرة مترن نفسك على أال تثار وأنت ترى شابا يقب ل فتاته في محطة القطار تتدرب أيضا على استدراج النوستاجليا من أتفه األشياء مترن نفسك أال يزعجك اللوطيون. هنا ستوكهولم.. حيث البشر يقولون شكرا بقدر تنفسهم ألن عاطفتهم تخضع للقانون.. مترن نفسك على االبتسامة ال الضحك على احلزن ال البكاء على احلب ال القصائد الغزلية على البصيرة ال البصر على االستماع ال الكالم على العزف ال النوتة على القبر الفردي... الفردي جدا. في هذه املدينة الباردة تتمنى أن تشرح للكل.. كيف يزغرد السوريون في مآمتهم.

171 مقد مة يقول املهاجر كان لي بيت على شارع صغير ونافذة وأغنية وح ل م. صار لي حلم فقط... ببيت على شارع صغير ونافذة وأغنية. نافذة تطل على مدينتي البعيدة في العدم الكثيف بين نا ال أرى الظالل وال ترين ني كالنا لم يحاول الن يل من األساطير كالنا لم يحاول قتل ه... ذلك العدم املعل ق بينن ا كالص وت بني الفم واألذن. كنت أعمى أتقف ى املكان بالصوت. يوم غادرت سقطت.. لو تركت لي العك از قبل أن ترحلي. لو لم تكسري الش معدان لو تركت الشعلة أعلى الفتيل لو أن ك لم تأخذي زيت القنديل كنت سأجد عك ازي على األقل. العك از.. زيت قنديل األعمى عزيزي بول إيلوار... تعالي نتخي ل لو أن األيام حتمل سوطا في يديها أو لسانا متد ه لنا أو دفترا للقصاص لتجبرنا على كتابة الوظيفة...

172 تعالي األرض فسيحة لكل هذه األحقاد فسيحة للندم املذبحة جتلس قبالت نا على الشرفة الس كني قوس كمنجة في يد مبتدئ يتقن النشاز!! املذبحة بكامل أناقت ها وأنوثت ها وإغرائها.. االشتهاءات والد م وأنني اللذة املذبحة احتفال جنسي أيضا! تعالي يا صبي ة أخفق ها القلب على ساحل املتوس ط فاختارت لي منفى حقيقيا عند ثلج الشمال وواعدتني على النبيذ حني صار الوعد مستحيال تعالي أيتها احلري ة. أمهات. I عرفت جث ة ابن ها من التماعة عيون العاشقة II ماتت األم.. ألن أطفالها صاروا رجاال مر نهر مرتني على جثثهم.. لكن ه م لم يستحم وا III أم هاتنا الطي بات زوجات آبائنا اللواتي لم يعرفن ثقب األوزون إال من جوارب نا والشمس من حرارت نا في اإلنفلونزا ولم يدركن الوقت إال من انتظار عودت نا ساملني - حني كن ا نيء ساملني - لم يعرفن أن شقيق نا القاتل سيحز بالسكني شعر نا الذي لطاملا مش طنه وغن ني له.»لم نرتكب حماقة لكن جار نا كان يطلق حليته«

173 مر ننا باكرا على هجر احلبيبات وحني غبنا حافظن على رسائلنا معل قة على اجلدران بكني بحرقة في زفافنا وزغردن حني عدنا إليهن أوراقا ثبوتية في صناديق اخلشب.

174 أوراق املقال

175 دقيقة صمت نسرين طرابلسي فتحت الستائر دخل ضوء بهر عتمة غرفتي وعيني. قالت آمرة ساخرة: قومي من حتت الردم. غمرت رأسي باللحاف: اتركيني مابدي. قالت: بال وال حجة الفيلم بجنن وكلو عن دمشق.. خف رفضي. سحبتني صديقتي سحبا مثل عنزة حرون إلى العرض. اجلهة الداعية أعلنت بوضوح وبال مواربة انحيازها أللم الناس. وألن عنوان الفيلم يدغدغ مشاعر املغترب املنكوب ويذكر بالطعم األول حلليب احلنني. جاء السوريون من كل األطياف واملواقف على حد سواء حلضوره بعضهم يحمل علما بنجمتني وآخرون حملوا أعالم النجمات الثالت. كل الوجوه قريبة من القلب. كأنني أعرفهم من زمان. تأخرت صديقتي وهي تتنقل بينهم لتوزع بروشورات الفيلم. وقفت وحيدة أطلق مغناطيس سمعي ليلتقط اللهجات احلبيبة. شو... وماشي احلال... وكيفكن... ويسلمو دياتك... وأهلني وسهلني.. لهجات صافية مخزونة في ذاكرتي جعلتني أشعر بأمان الغريب وسط جموع ال أعرف

176 منهم أحدا. عريفة احلفل أدمعت عيناها وهي تطلب من اجلميع الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء سوريا.. ساد صمت سادر بدا كأنه ممتزج بصور الدم احلار الذي يلطخ الشاشات صمت بامتداد عمر كامل ال يقطعه سوى نكزات صوتية منبعثة من بعض الهواتف احملمولة. 1980 في طابور املدرسة قالت مدربة الفتوة القاسية دقيقة صمت كانت أول دقيقة صامتة أقفها مستغربة عن معنى القيام بذلك. تصاحبها أصوات ما تزال تهمس في ذاكرتي الرخوة نتكركر ونضحك وننكز بعضنا. قالت رفيقتي من بني أسنانها: شوفي شعراتها مثل اجلنفيصة.. قالت أخرى وهي تشد ذراعيها باستقامة على جانبي جسدها: اهلل يخفي حسها بال ميكروفون وبخشتلي طبلة أذني!! 1980: قالت مدرسة اللغة العربية اكتب موضوعا تعبر فيه عن املعاني الوطنية العظيمة السامية والعميقة مستشهدا مبا حتفظه من اخلطاب اخلالد للقائد في حفلة تخريج املظليني. حفظناه صما يقول بصوته املشروخ:»يجب أن تراقبوا بدقة كل نشاط رجعي مشبوه يجب أن تراقبوا بحذر ويقظة كل نشاط عميل مشبوه ويجب أن تتابعوا كل مظاهر التآمر الرجعي للقضاء عليه ولتحطيمه في الوقت املناسب وفي اللحظة املناسبة ويجب أن تبحثوا عن العمالء في كل مكان في كل زاوية وأن جتتثوهم حيثما وجدوا وأن ال ترحموهم قل شأنهم أو كبر «. ومن يومها اختفت الثقة بني جيل كامل. صار الكل ميشي متلفتا خائفا احليط احليط ويارب السترة وانتشرت مقوالت مثل: اإليد اللي ما بتقدر عليها بوسها وادع عليها بالكسر واللي بيتجوز أمي بقلو ياعمي حط راسك بني الروس وقول يا قطاع الروس ألن العني ما بتقاوم مخرز.. وبدأ مشوار طويل من االستخبار فخاف األخ من أخيه والصديق من الرفيق ومن آذان احليطان وامتأل كل فم باملاء. انحنت الظهور ونامت أرواح الناس في سبات طويل. دقيقة الصمت امتدت أربعني عاما. 1981 في اجلامعة قبل بدء احلفل السنوي وقفنا دقيقة صمت: مال رفيق هامسا : حمير ركبوا مظالت وهبطوا فوق كلية الطب..!! كيف حتصل على عالمات تؤهلك لتصبح طبيبا إن هبطت مبظلة وسلخت جلد أفعى والتهمتها نيئة!

177 خفت منه.. ال ميكن الوثوق بأحد. ال نعرف من يكتب التقارير. كيف يرمى لك الطعم لتعض على الشص املعقوف. وتطبق عليك أسنان الفخ. تشاغلت عنه بصمت بعد ثواني الدقيقة الثقيلة ريثما ينتهي هذا الهدوء القاتل. 1994 قال بحزن: مررت أمام املدرسة وتفاجأت أنهم غيروا اسمها!! قال بغضب: أجيال مرت على هذه املدرسة خر جت العديد من املتفوقني. أصبحوا من أهم النخب املثقفة. مات منهم كثر ولم يسمع بهم أحد.. وبقي اسم املدرسة»معهد احلرية«. قال بهياج: طلعت عيناي في حتصيل العلم والشهادات وسجلت باسمي براءتي اختراع. ألفت عشرة كتب علمية. ولم أحظ حتى مبقابلة تلفزيونية. ثم اعتقلت بتهمة حث الطالب على قراءة كتب خارج املنهاج. وخرجت مكسورا ومهزوزا ومريضا. قال بحنق: ال أفهم كيف يصبح الشهيد هو من مات بحادث سير على طريق املطار والقتيل هو كل من قال غير ذلك! قال: سنغادر هذه املزرعة التي تسمى بالدا. 2000 - منشان موعدنا اليوم ال جتوا - ليش - مثل ماعم قلك - فهميني شو صار - مات الكبير - أي كبير - أكبر واحد - مافهمت عليكي - إي افتحي التلفزيون طالع مروان شيخو بتعرفي. وبخمس دقائق من تصفيق مجلس الشعب. مت تغيير الدستور. ن ص ب ابن الكبير رئيسا باستفتاء شعبي شكلي ماتت أحالم الناس ومددت عقوبة الصمت لعشر سنوات أ خ ر. 2011 بن علي هرب.. معش تخافوا من حد. الشعب التونسي حر. الشعب التونسي العظيم.. كان الرجل يصرخ في الليل هائما في شوارع تونس اخلالية. وسادت دقيقة صمت قبل

178 أن نقفز من ذهولنا ونهنئ بعضنا كأن الفرحة فرحتنا. ثالثة وعشرون يوما فقط. بثالثة وعشرين يوما ميكن أن يسقط رئيس عربي. وتقتلع جذور كرسيه الضاربة في أقبية السجون واملتطاولة حتى على هالالت املساجد!! بدأت األحالم احللوة تلح علي وجتثم على صدري مثل الكوابيس متاما. ماذا لو! كان اخلوف غصنا بشعبتني يثبتني من رأسي مثل ثعبان صغير فال أقوى على احلركة. هل ميكن أن.. أتلوى وال أنام. 2011 البيان رقم واحد. ويرجتف القلب. أسمعها بأذني وأشاهد بأم عيني تلك اللحظة التاريخية. كيف متكن شعب خالل ثمانية عشر يوما من إسقاط حاكم بعد ثالثني عاما من القهر املصري. كنت قد قرأت منذ شهرين كتاب»مصر مش أمي.. دي مرات أبويا«ليس لدينا في سوريا كتاب مماثل. ال نرؤ حتى على املزاح في مصائب حياتنا اليومية. ليس لدينا رواية واحدة في األسواق عما عانيناه طيلة حكم األبد. استهديت إلى رواية القوقعة ياه كيف كنا نحيا برفقة الصمت ولم نسمع هذا الصراخ املرعب. سوريا ليست مصر وليست تونس وليست ليبيا. لكنه األمل.. اجليش والشعب إيد واحدة. هتف الناس واستجاب العسكر. ليتني مصرية.. ال ال أنا سورية. جيشنا معتر. أراهم في الطريق كاحلي الثياب معفري الوجوه. ال أحد يوافق على اخلدمة العسكرية. نصف شباب البلد تغربوا ليدفعوا البدل ويتهربوا منها. ومن خدموها و شموا في الظهر بتلك االنكسارات التي ال تنسى. ال خلدمة الوطن وال من أجل الشرف العسكري. الهدف كسر أية فكرة قبل تخلقها بداخل اإلنسان أن له احلق بأن يقول: ال. نفذ ثم اعترض.. ثم ازحف عاريا. وتتسع دائرة القطيع. ولك يا... بدك تنسى املدنية اعتز بنفسك يا حيوان. ظل أخي يتندر بالكثير من هذه اجلمل كذكرى تهكمية سوداء من صفوف اجليش )أبو شحاطة(. 2011 فتاة بيضاء محجبة بنظارة شمسية كبيرة عند مقهى النوفرة بجوار اجلامع األموي تهتف الشعب يريد إسقاط النظام يهجم عليها رجالن.. تصرخ.. وينقطع التصوير.. بدأت الثورة.. وانشعر زجاج الصمت صدى الصراخ املكظوم في أقبية وزارة»احلب«هكذا أسماها جورج أورويل كيف لم أقرأ روايته»1984«أكان يسجل ما يحدث في سوريا حني كتبها عام 48. دخل السوريون جميعا الغرفة 101. هناك حيث كل مواطن يعاقب في وزارة احلب بأن يعيش مع أشنع مخاوفه.

179 2011 حمزة اخلطيب أيقونة في معبد الذاكرة السورية طفل في الثالثة عشرة من عمره خ ردق جسده مبثقب احلائط وقطع عضوه الذكري ألنه تبول على صورة القائد نزعت حنجرة شاعر غنى لرحيل األخ األكبر كسرت أصابع فنان ألنها رسمت حقيقة األخ األكبر فيزداد نزول الناس إلى الشارع يحمل الشاب الوسيم غياث مطر في داريا الورود وزجاجات املياه ليوزعها على اجلند واألمن فيخطف ويعود إلى أهله مبقور البطن. إنها ليست ثورة!.. حسن جدا..إنها ملحمة فيها يخرج الناس للرقص والغناء فيقتلون فيعاودون اخلروج لدفن قتالهم رقصا وغناء.. فيقتلون. سكابا يا دموع العني سكابا.. على شهدا سوريا وشبابا.. إنها رقصة املوج الهادر معجزة كل القرون شعب ميوت راقصا. كان اخلوف مازال مشروخا في الشام. يخيم صامتا في حلب. 2012 عام املجازر. خاض اجليش السوري املعارك املؤجلة منذ أربعني عاما مع فقراء سوريا. ورويدا بدأت جغرافيا البلد التي لم نكن نحفظ منها إال أسماء املصايف تندرز بالقلب وتوشم في الذاكرة خريطة سوريا مرسومة بالدم. مدن وأحياء جتبر التاريخ أن يلوي رقبته ويتوقف عن الصمت. تنهض كرم الزيتون اخلالدية بابا عمرو باب سباع الرسنت تفتناز احلولة زملكا الترميسة حي القدم كفر سوسة امليدان داريا األكرمية الذيابية اجلورة حلفايا دير بعلبة. الشاشة ملطخة.. 2012 فاز اإلخوان املسلمون بالوصول إلى سدة احلكم في تونس ومصر بانتخابات حرة ونزيهة. فشل املثقفون واملتنورون والعلمانيون واملعتدلون والشعب الذي تنادى للثورة وقام بها وسقط منه الشهداء في ميدان التحرير في تشكيل كتلة مضادة. الورد الذي تفتح في جناين مصر.. بدأ بالذبول سريعا. لكن الصمت خرج لألبد عادت اجلموع التي عرفت مكان السر إلى ميدان التحرير. 2012: مفتي اململكة يحر م الوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء ألنها ليست من الزمن اإلسالمي بل هي بدعة من توقيت وساعات الغرب الكافر وكل بدعة ضاللة وكل ضاللة في النار. اجلنة امتألت بشهداء سوريا طفلة مقطوعة الرأس رض ع يردمون حتت الركام شباب يقصفون مثل السنابل قبل أوان احلصاد. :حضرة املفتي.. هال خرست قليال تقول الفتات كفرنبل.

180 2013 حزب اهلل يريد أن يدافع عن مقام السيدة زينب. مقامنا وفي عقر شامنا الذي بناه أهلنا صلوا على سجاده ومتسحوا بقضبانه حزب اهلل في طور التفكك الثورة تقلب اإلنسان رأسا على عقب تغيره بجوهره تكشف له حقائق دامغة كان يزو رها وعقائد متعفنة كان يستطيبها مثل عفن الشنكليش. بلد الشنكليش. كل شيء شنكليش. قالها رفيق طفولتي وأغلق الباب على نفسه.. لينتهي في مذبحة االكتئاب. صوت الرجل الذي فقد ستة من أبنائه في القصير ال يصل إلى الضاحية اجلنوبية:»مبارح رجالك وحرمك ونسوانك كانت نامية عنا بالبيوت يا حسن. نفتح أحلى بيت وأحلى فرشة نعطيهم. نعشيهم ونترك األوالد بدون عشا«. 2013 قالت صديقتي: خلصت دقيقة الصمت حاج تبكي فرجيتي علينا العالم. قلت لها: وخلص الفيلم. خرجت من الصالة. وبدأ العرض.

181 ال أحد يستطيع جتاهل الطني فادي عزام النظام السوري ليس بجسم غريب في جسد الكيان السوري. احلقيقة هي أنه خالصة ما جمع ولفق وأحاط بهذا الكيان الغريب الشكل املبهم احلقيقة الذي يسمى سوريا. حكم املوت في العقود األربعة املاضية بسوريا هو ناجت فعل ونكوص فعل لكل من يسم ون بالسوريني هو حقيقة لم ينتجها الفراغ بل تواف ر اإلرادات اجلماعية بسبب الرغبة اجلامحة بأن يكونوا جزءا من النظام أو الرهبة واخلوف منه. النظام السوري هو أحد أطوار الذات السورية اجلماعية. فحني يشتم أو يشيطن جزء كبير من السوريون اليوم نظامهم ويقفون مبوقف املضاد واملتنصل منه يحاولون بكل بساطة استرداد أنفسهم ونقدها وتشريحها. ال نقده وتشريحه هو فقط. عدم وعي هذه احلقيقة يخلق تشابهات ومشتبهات للنظام وال يقوضه إال رمزيا. قبل الثورة كان هناك قسمان: العائلة احلاكمة وما تبقى من املاليني التي تنوف عن العشرين مليونا. واآلن بعد مرور كل هذه األشهر املفزعة بقيت املعادلة ذاتها بأسماء مختلفة وبصور مختصرة بكنتونات وفضاءات ضيقة. قبل الثورة وبعد كل احملطمات التي هشمت الذات السورية حو لتها عبر سلسلة من املرايا املقعرة واحملدبة إلى هوية شوهاء.

182 استطاعت الثورة أن متسح التضليل والغبار عن الذات. التحديق بالصورة احلقيقية أظهر لنا نوعني من الشخصية السورية: نرسيس وسيزيف. نرسيس السوري يحدق بصورته ليس من أجل التماهي مع جماله فقط بل ومع بشاعته أيضا. وسيزيف السوري ال يعرف إن كان يجر صخرته إلى أعلى أم يقف في األعلى يركل صخور اآلخرين ويعيدهم إلى الوادي. كيف ميوت كل هؤالء بهذه البساطة لم يعرف عن موت عادي وعابر عبر التاريخ كما هو احلال في سوريا. القاتل واملقتول بشر مبواصفات غير عادية لذلك هو املوت األقل استجالبا للتعاطف في التاريخ. املوت السوري غير مقروء كموت بل كحياة عادية يحدث فيها موت صاخب. واملدافعون عن الضحايا من هول الفجيعة ال يتقنون الكالم بلسان الضحية بل بلغة إحصائها. علم إحصاء القتلى هامشي في سوق التجارة الدولية. االستثمار في إيقاف املوت السوري ال يعادل الغنى الفاحش في صناعته واالستثمار الالحق في إعادة اإلعمار. شهوة جني األرباح وحدها قد توقفه فينزل مؤشر الدم. منذ متى كانت سوريا مستقلة حتى ميكن القول إنها أصبحت في يد الالعبني اإلقليميني لكن ألول مرة يكون لقاطني سوريا رأي في الصراع. سوريا عبر التاريخ كانت قيادة وسلطة حتدد لسكان سوريا ما يناسبهم من دون الرجوع إليهم. ألول مرة في التاريخ احلديث للكيان السوري وعمره ال يتجاوز السبعني عاما صوت من األرض. صوت يشبه طني األرض ولوثاته وحرارته وحقيقته. شعب لم يعد يريد املساكنة القسرية مع احلاكم. فقرر أن يخلعه. صحيح لم يكن يقدر حجم الضريبة لكنه دفعها.. وما يزال. نعم ستتم تسوية دولية ما يؤخرها فقط أنه على عكس كل التسويات الدولية التي حتدث في التاريخ ال أحد يستطيع جتاهل الطني. جتاهل من صار له صوت يعلو به. صوت ملغوم بالقهر ومدغوم باإلميان املعطوب مغلول بكنايات األلم ال يعبأ بقواعد اللعبة. إنه صوت الصمت الذي انفجر.

183 سالم عليك حمص فراس النجار سالم عليك! سالم عليك وأنت جثة تختلج ال حياة ت قيمها وال موت ي ريحها.. سالم عليك! يوم فقدت املعاني كل مبانيها وأضحت املوجودات بغتة خواء في خواء. فلمن أم األنواء ستنتصبني ذات عافية قد تعود يوما.. وملن ستعودين أم األهوال واألنواء التي ال يفوقها إال أحزانك وآالمك املريرات كنت قبل وثبتك موضوعا ألبناء الورق فيك. هذا يراك حلقة صوفية يحضرها ليسبغ عليها إبداعه.. وذاك لوحة إبداعية يشرب عليها كأس عظمته التي لوالها ملا كان اإلبداع.. واحد نقب تاريخك وقدمه كمن يخلقه.. آخر حلل كل نسيج فيك وكأنك عينة في مخبر يعاجلها عبقري ال نظير له.. في النهاية وفي كل األحوال كنت موضوعا لكلمات.. كلمات ال تنتهي.. وما الضير.. ألم يعلمونا أن في البدء كانت الكلمة ألم تنته أبرز تيارات الفكر البشري إلى أن الوجود في الوعي سابق على الوجود في الواقع وأن كل وعي وفكر وشعور ال ميكن تعرفه من غير مظهره احلسي الوحيد من غير اللغة من غير الكلمة.. كثرت كلماتهم. سارت نصوصهم في كل تضاريسك. الباب املسدود السيباط األسواق الفريدة الباقية من عصر توهموا موته فاحتفظوا له بصورة شعرية حتى إذا انفجر حضوره في وجهك تالشى حضورهم واختفوا في الغياب.. ملن صهلت إذا يا سيدة األنواء.. لم ينزل وراقوك يوما إلى أحيائك وأرباضك إال كما

184 ينزل السياح. كتبوا عن وشائج الروح ما بني البشر واحلجر بعني الشعر والشعر أجوده أكذبه ونحن أمة قتلها الشعراء.. كتبوا عن احلصار ومحاصرته أوراقا تكاثرت إلى أسفار وملا ح وصرت ولى جميعهم األدبار.. كتبوا عن احلصان الذي ت رك وحيدا. وحني وثبت فرسا مؤصلة تصهل فيرجت عرش الطغاة تركوك وما كتبوا إلى البعيد اآلمن حيث لن ينسوك! وكلماتهم اجلديدة كما القدمية ستتوالى طوفانا ال ينتهي.. فأنت اآلن موضوعا جديدا أللم مازوخي لذات متورمة ألنا تضخمت حتى صارت الوجود كله وما عداها عدم في عدم.. أنت اآلن أندلس جديدة.. أدرنة حديثة.. بغداد أخرى.. أنت نكبة.. مأساة.. فجيعة تعيش على لهيبها نفوس قوامها أدمنت الوجع. ال تقلقي! ال تخشي عليهم من أملهم.. هم في البعيد اآلمن يتأملون. لكن يأكلون ويشربون يتناكحون ويتناسلون.. يطلقون ويتزوجون يدرسون ويتخرجون.. ويعملون وميارسون الثورة بحسب الظروف. والويل ملن يتفوه بأدنى نقد لهم.. فهم يعملون في البعيد اآلمن.. ويزاولون الثورة بكاء وعويال ونواحا وتنظيرا وحتليال وإغائة وسياسية... أما تقرئني كلماتهم الساخطة على رمال مصر التي لم تخلص للقدم اإلخوانية..! ألم تقرئي حمالت بعضهم على بعض.. ضد اإلسالمية.. ضد العلمانية. ضد املدنية.. ضد السلطانية... إنهم يعملون ويكتبون وكلماتهم تسيل طوفان وإن كان صهيلك القاتل في واد وطوفانهم في واد بعيد.. ال فائدة من صراخك )إنني لم أنتصب وأهدر وأ قتل وأسقط من أجل هذا..( ال فائدة! ال تقنطي من عودتهم. هم يتحرقون شوقا إلى ربوعك.. هم صادقون في شوقهم لك. لكن عليك فقط أن تقومي من الرمادي أن تنفضي عنك أوساخ عامني من املوت وتتزيني بأبهى احللل التي تليق باستقبالهم.. ثم عليك أن تهيئي لهم املنابر والسهرات والنساء حتت كل املسميات.. فهم فرسان الكلمات.. طيور األجواء العالية.. يا عالية أسقطها اجلزار في قعر جهنم.. لك في مقابلتك ب ستالينغراد التفوق.. التفوق بغزارة دمك املهدور وبحطامك وخرائبك وصبرك. ولها التفوق في قوة رحمها وتكتل وراقيها من أجلها.. فال حتتجي.. ال حتتجي عليهم أن لم يتجمعوا ولو في البعيد اآلمن من أجلك.. فبرغم كل املقدرات املتاحة من وسائل اتصاالت يستخدمونها على مدار الساعة هم ال يستطيعون.. ال حتتجي أن بينهم من أكلت الزنازين أجمل سني أعمارهم وأنهم يستطيعون تعلم الدرب منهم.. ال حتتجي فهم ال يستطيعون.. لم تعتد ذات كل منهم التجمع واالحتاد.. فاخللود عندهم للفرد ال للنوع.. ال حتتجي وإمنا أقر ي أنك أنت من أساء التربية من أساء التعليم.. سالم عليك! سالم عليك يا أما جحدها بنوها وهم في جحودهم برا يتوهمون.. أال شدي عليك اجلرح وال تنتصبي! فال دجى يلوح في األفق وال نفاد للتعب.. هاوية العدم

185 بالقرب تفتح لك أشداقها ومن خلفك ركام ال ينتهي من كلمات ظهر أنها لم تكن يوما إال بوال منيا بصاقا قيئا دم عادة شهرية.. شدي عليك اجلرح وأفسحي في جنباتك نوما أبديا ألشالء وجثث لرجال وصبية ونساء وعجائز لم يعرفوك يوما بالكلمات.. بوجيب القلب ونبض الوريد كان شعورهم بك.. وللمعرفة من باب الشعور أحيانا نبل ال يزهر إال نادرا في أكمة معرفة العقل. شعورهم احلي كان وراء بقاؤهم في جحيمك.. ولم يترددوا حني التضحيات.. أفسحي لهم فالطرق إلى املقابر قد قطعها احلصار والهول القادم أعظم وأشد ولكل حي البد في النهاية من راحة أخيرة. راحة أخيرة في زاوية يسترها ترابك وإال في التفسخ في عراء شوارعك وساحاتك احملاصرة بكل صنوف الهالك.. سالم عليك أنبل املدائن.. وال حت زنك مخازي األيام.. سالم عليك حمص.. سالم عليك.. أال شدي عليك اجلرح وال تنتصبي...!

186 أوراق النقد

187»إبرة الرعب«: موسم القصاص السوري رفقة شقور حني كتب الروائي والناقد السوري هيثم حسني روايته»إبرة الرعب«التي أنهاها قبل انطالق الثورة السورية كان يضع مالمح واضحة حلال املجتمع السوري الذي جعل األمور تؤول ملا آلت إليه حالة من الفساد املستشري يرافقه جفاء أخالقي دب في مؤس سات املجتمع من نواتها إلى أكبر أجزائها. كل هذا يصد ره في جتربته األدبية التي وجدت بها إجابات واضحة لكل حاالت العنف اخلارجة عن املألوف التي رافقت مشهد الثورة السورية وكأن كل سوري عنيف هو رضوان بطل روايته يريد أن يقتص لتاريخ عائلته وتاريخ نبذه في زوايا املجتمع الذي ال يرحم بكل بناه السياسية والفكرية والدينية والطائفية واألخالقية. حني حمل رضوان إبرة الرعب التي شفى فيها غليله انتقاما لوالده موسو اللبناني وأخيه كاوا وأم ه كان حال كل سوري حمل سالحا من كال الطرفني املعارض واملوالي ليقتص من آخر. إن ه موسم القصاص إذن للخوف والعزلة والنبذ املجتمعي والسياسي واالقتصادي من السحق والفقر. كما كانت السلطة هي بداية كل رضوان نافذ سياسي ليقتص من مجتمعه بإبرة رعب قراراته السياسي ة التي من شأنها أن تضرب املشهد السياسي السوري في عمقه من نواحي

188 الفساد. كذلك السلطة االقتصادية سمحت لرضوان النافذ في سلطته االقتصادية ليقتص من مجتمعه في إبرة رعبه االقتصادية التي يجري في محلولها سر فساد شرايني االقتصاد السوري. كذلك هنالك رضوان رجل الدين الذي استخدم عمامته أو قمبازه وتعاليمه الدينية أو فتواه وسلطته الزمنية أو تلك ذات احلد ين كما جرت العادة في القرون الوسطى وبركاته كإبرة رعب في االقتصاص من املجتمع الظالم. رضوان هو ليس ذلك املمر ض فقط. يوجد رضوان بني ثنايا املجتمع السوري لكن حامال إلبرة رعب مختلفة حسب ما يقتضيه املكان واملنصب اللذان يشغالنهما. هذا الرضوان هو عنوان لكل سوري اغتصب ونهب وخرج عن العرف والعادات والتقاليد والدين رضوان هو كل سوري استخدم املكان الذي وجد فيه عبر زمام املصادفة لينتقم من كل من حوله قصاصا لوالده الذي صمت ما يقارب األربعني عاما على واقع سياسي واجتماعي متعف ن وعلى جتربة إقصاء مخيفة أو جتربة عشقية فاشلة بحكم الفاقة. رضوان هو كل من مث ل وبش ع في جثث النساء بعد اغتصابهن في أي مكان كان داخل أو خارج القطر السوري حني دار في خلده نفس املونولج الذي عبر رأس رضوان قبل قتله جوال:»سيكون قتلها راحة لها وإنصافا ايضا فلماذا كل هذا الشقاء الذي حتياه ساعطيها فرصة بقتلي لها كي تتحرر من الواقع املنكوب بها وبعد رحيلها«. كل سورية تشر دت وتعذبت وطردت من بلدها هي جوال مغلوبة على أمرها. كل من وقعت بأيادي مشو هني وأمساخ أمثال رضوان هي جوال نساء سوريات كثيرات عاقالت تعر ضن ألفظع وأبشع مم ا تعر ضت له جوال في أرض سورية وأماكن اللجوء. كل خازن لثالجات املوتى هو األعور الدج ال ذلك الذي أوقفه الروائي هيثم حسني بباب ثالجة املوتى بإعطائه فرصة أخرى للتمثيل اجلنسي مبا تبقى من أجساد املقهورين واللقطاء ومن ليس لهم جذور تستقصي عنهم من خالل االستفادة من أعضائهم في زراعتها ألولئك األثرياء كي تتحق ق معادلة املخد ر محمود والدكتور نايف بأنهم يضعون العضو السليم في العقل السليم ومينحون الفرصة لهذا العضو املأخوذ من جسد مقهور وفقير ومسحوق ليحيا حياة ترف في جسد آخر أكثر ثراء. الثورة على اجلهل القدمي في القرى النائية شرارة احلراك السوري وكازه الذي لم ينضب لوال ذلك اجلهل الذي غل ف عقول وقلوب أهل تلك القرية النائية ملا سمحت الفرصة لرضوان من أن يقتص لتاريخ والده املبتور األصابع الصامت أبدا منذ عودته إلى تلك القرية من احلرب األهلية اللبنانية لوال اجلهل ملا أصبح رضوان تلك الشخصية األيقونة في إشباع الكبت اجلنسي لدى نساء الضيعة تلك حتت ذريعة العالج والتداوي. اجلهل هو الذي ساق أهل تلك القرية ألن ميروا باختبار حساسيتهم إلبر رعب رضوان التي لم تهدأ عن الثأر منهم وهم في قم ة االنتشاء والضياع من حيث يدرون وال يدرون. كم رشلمي وكم بردكي وكريزو عاشوا بني السوريني في قراهم ومدنهم وشاة للسلطة واملجتمع

189 وكم تفرز الثورة اآلن من شخصيات شبيهة برضوان حتاول القصاص وتصفية احلسابات مع روايات الرشملي والبردكي وكريزو كم سكني وكم حجر وكم سالح حتو ل بيد حامليه إلبرة الرعب ذاتها تلك التي صف ى بها رضوان حساب عائلته من أهل قريته الواشني املتحشرين في شؤون العباد اجلاهلني. كم سوري عاش حالة االستقطاب املذهبي تلك التي عاشها رضوان حني انتقل إلى املدينة وكم من الرجال أمثال نضال املتحو ل جنسيا ميلكون ذكورة ناقصة بحكم القمع العائلي والكبت املجتمعي الذي عايشه نضال الذي دأب على حتويل جنسه إلى أنثى كاملة بدال من ذكورته الناقصة التي كان يحاول أن يخفي مالمحها لصالح أن يحيا بجسد أنثوي كامل. أسئلة كثيرة أجاب عنها هيثم حسني من خالل روايته»إبرة الرعب«بتواطؤ واضح مع التفاصيل التي لم يوف رها ليعكس غرابة املشهد املجتمعي املريض واملتناقض بأكلمه. كم شخصية سورية ناشطة في حقوق اإلنسان وغيرها في املواالة واملعارضة كشفت وطأة األزمة عن مدى تذبذبها في ات خاذ املواقف الكاملة وكم من سوري كان يتظاهر بقيادة دفة التغيير لك نه كان تغييرا إلى الهاوية كذلك الذي ابتدعته نضال وساندها به رضوان اخلارج من أنياب القضاء باملوت بكفالة التكت م ونسيان أسماء من شاركوه الفساد. انتقال رضوان من مشهد ذلك القروي املنكوب بوضع أخيه كاوا الذي حار فيه األطباء واملشايخ ووالده الصامت على أمر ما مر به خالل إقامته ببيروت في أثناء احلرب األهلية إلى رضوان العاشق املنكوب بإبعاده عن ابنة خالته وعشيقته كي تتزو ج من آخر أكثر ثراء ونفوذا وحتو له إلى ذلك الطالب الفاشل الذي يقضي خدمته العسكرية في إحدى املستوصفات العسكرية حيث كان الفساد العسكري على أوجه واختالس األدوية واملقد رات فن حار به رضوان إلى كونه موز ع تلك األدوية املسروقة إلى الصيدليات ومن ثم إلى ذلك الشاب الشاذ جنسي ا مع املتحو ل جنسيا نضال إلى ذلك الشاب القادر على إعطاء اإلبر في املستوصف ملن يقع في قبضته اإلسعافية بعد أن يفعل به ما يشاء حتت ذريعة العالج إلى ذلك الرضوان الذي استغل جوال الفتاة غريبة األطوار التي كانت حتيا كالقطة بقرب املستوصف إلى ذلك املغتصب القاتل جلوال بدم بارد الى ذلك العائد من خدمته العسكرية كممر ض يحمل في يده إبرة الرعب املخلصة له من ثقل الثأر الذي كان يقض مضجعه من أهل قريته ليبدأ ينتقم منهم واحدا واحدا من خالل الوقوف على عوراتهم اجلنسي ة هم الذين لم يتوانوا عن كشف عوراته العائلية يوما والزج بوالده موسو اللبناني في قفص االت هام والتقو ل عليه بأن ه مجرم خطير ال يعلم أحد مدى خطورته. كل هذه التحوالت على شخصيته املعق دة هي سعي ال متناه للعثور على ذاته في زوايا العالم املتحو ل. كانت إبرة الرعب تلك جواز عبوره إلى عوالم االنتقام والتشف ي يشبه كثيرا تلك النساء الالتي يقعن فريسة الغيرة والكيد فيتحالفن مع الشيطان من أجل إشفاء غليل جهلهن املطبق.

190 رضوان وإبرة الرعب خاصته هو كل مال أيضا يحمل التعاليم الدينية ليقتص بها لكبته من مجتمعه ويسوقها عليهم من أجل شرعنة سلطته في نهب مقد راتهم أو سوقهم نحو النصيحة البالية. رضوان هو كل قروي مشعوذ أو مشعوذة عاد بعد رحلة سفر طويلة وقد تعلم تعاليم السحر من منابعه ليقتص لعائلته كيفما يشاء وبال رحمة من العباد اجلاهلني الذي يقعون فريسة ألسنتهم التي ال شيء يفلح في إيصالهم إلى قم ة النشوة والشعور بالقيمة املجتمعية غيرها. كما صرح بذلك عبر الرواية الواشي ريزان امللق ب بكريزو ناقل األحاديث حول موسو اللبناني والد رضوان. الكبت بكل أشكاله والذعر واخلوف واجلهل بالدين واالقتصاد والسياسة هو املسؤول عن انتشار شخصيات كثيرة كرضوان في املجتمع السوري. لكل من كان يتساءل عن جذوة العنف والتمثيل والسادي ة التي بدت مدرسة بأكملها في ممارسات بعض أطراف الثورة السورية اجلواب لدى هيثم حسني فكم من رضوان مت منحه فرصة بأن يحيا حياة عادية بني أتون املجتمع حني سمح له الضابط في فرع األمن بأن يخلي سبيله ليال شرط أن ينسى كل ما كتبه على أوراق اعترافه أو صرح به عن خيانات الضباط في اخلدمة العسكرية والرشاوى التي كانوا يتقاضونها والكسب غير املشروع من وراء بيع األدوية كذلك املمارسات غير السوية مع املجن دين في اخلدمة العسكرية وإجبارهم على ممارسة كاف ة أشكال الرذائل بهم. رضوان هو كل من سمح له فرع أمني سوري بأن يحيا بحر ي ة بعد أن قام باالعتراف باملمارسات التي وقعت أمام عينه من جتارة باألعضاء البشرية وقتل أرواح مسحوقة من أجل أن حتيا بكامل الصح ة أجساد استغاللية فارهة. كثيرة هي الظروف التي ساعدت رضوان الشخصية احملورية في الرواية على أن يتحو ل من تلك الشخصية إلى تلك كل طرق املجتمع السر ي ة والعلني ة معب دة ملثله كي يعيث فسادا ويعطى الفرصة الرتكاب اجلرائم بشت ى أنواعها مفلسفا احلالة اجلرائمي ة التي يحياها مع كل شخصية وكل مجال أعطاه تلك الفرصة على سبيل املصادفة. كانت رواية إبرة الرعب لتنشر حالة من االستغراب في أوساط النق اد لو مت نشرها قبل األحداث األخيرة في سوريا بحكم أنها تبالغ في إطالق األحكام على املجتمع وتنعته بالظالمية والتخل ف واالنسياق األعمى وراء اإلشاعة الفاضحة وكونها أيضا مقصلة لكل صمت دام فترات طويلة على تفاصيل تقع حتت عني الشمس وحتت جنح الظالم من الفساد واخلروج عن الطبيعة إال أن ها من حيث املضمون تساعد في عمل مسح إنثروبولوجي للشخصيات القروي ة املقموعة من زاوية جتربته األدبية التي ضمنها في تفاصيل الرواية تعيننا على تفسير مشاهد العنف املفرط بكل أشكاله ضمن األحداث األخيرة.

191 إعالم ما بعد النازية: فلسفة الكذب! كرمي عبد - 1 - الذين يعرفون احلقيقة كثيرون لكن الذين ميلكون شجاعة قولها قليلون أما املستفيدون من إخفاء احلقيقة أولئك الذين يتاجرون بحقوق الناس ومصائرهم فهم األكثر سوءا على اإلطالق. - 2 - ابتكار األكاذيب وترويجها بقصد تزييف وعي اجلمهور قدمية قدم الصراعات السياسية في تاريخ االنسانية لكن ومنذ نهاية احلرب العاملية الثانية اقترنت هذه الظاهرة باسم غوبلز وزير اإلعالم النازي الشهير بصفته املرجع األعلى لصناعة األكاذيب. وعباراته األكثر تداوال : )كلما كانت الكذبة كبيرة كلما صد قها اآلخرون( أو )أكذب أكذب حتى يصد قك اآلخرون( حتولت إلى مبادىء اعتمد عليها معمل انتاج األكاذيب الهتلري آنذاك وم ن آمن

192 باساليب الدعاية النازية الحقا. فلسفة الكذب إذا ليست صناعة هتلرية بل هي ظاهرة تاريخية و جدت بحكم قسوة الصراعات واحلروب اإلنسانية واستمرت في ظل غياب العدالة في السياسات الدولية. إن مقولة )احلرب خدعة(! تبدو مقبولة لدى كثيرين لكنها ال تدل على الفطنة والذكاء بقدر ما تدل على ترسخ الكذب والغدر في الثقافة اإلنسانية منذ القدم. إن استمرار مقولة )احلرب خدعة( حلد اآلن يدل بوضوح إن ثقافة املجتمعات احلديثة ما زالت تخضع ألسوء مفاهيم ثقافة املاضي وإن احلداثة كظاهرة وكمفهوم في الغرب الدميقراطي ليس نقيا مبا فيه الكفاية بل هي حداثة تقنية وإدارية أكثر من كونها مقولة أخالقية وحقوقية فهي ما تزال ملوثة بشوائب املاضي الهمجي لإلنسانية. إن ما حدث أيام هتلر هو نوع من تطوير عملي لفلسفة الكذب تطوير ساعدت ظروف املجتمع األملاني وأزماته آنذاك على إناحه. هدف هذه الفلسفة هو التغطية على حقائق معينة ال تنسجم مع أيديولوجيا السلطة اجلديدة التي ي راد تكريسها من خالل إهمال احلقائق األساسية للصراع مبوازة تكبير عناصر معينة من الواقع واملبالغة فيها وتكرارها باستمرار كي ي دمن عليها اجلمهور بحيث ال يرى أو يسمع سواها ليصبح من املمكن الحقا خلق مناخ مالئم لتمرير مزيد من األكاذيب ومراكمتها لتسهيل التالعب مبشاعر اجلمهور والتأثير على وعيه وإرادته حتى يكون من املمكن توجيهه كما تقتضي مصالح السلطة وحتى يكون من املمكن حتويل املجرم إلى بطل حيث ال يعود من السهل اقناع اجلمهور بأن احلقيقة هي عكس ذلك! إن األكثر خطورة في هذا األسلوب هو إن أجياال الحقة في البلد املعني ستنشأ على منظومة من األكاذيب ال تكاد تعرف سواها. هذا ما حدث في سوريا األسد )1970 -...( حيث وجدت جهات م عار ضة فائدة في ترويج مقولة: إن نظام احلكم طائفي علوي بينما الواقع يقول إن النظام هو ديكتاتورية عسكرية ال تختلف عن الديكتاتوريات األخرى في مختلف بلدان العالم حيث يعتمد الديكتاتور على عائلته وأقربائه وحاشيته واملستفيدين من النظام وهم من مختلف الطوائف. لكن ه يرك ز السلطة بيد املقربني بسبب أزمة عدم الثقة باآلخرين بحكم الشرعية نظامه. إن طائفة الديكتاتور هي السلطة ذاتها ومن أجل البقاء بالسلطة فهو مستعد لتصفية أهم شخصيات طائفته إن أقتضى األمر أو من الطوائف األخرى إذا ما شعر بخطرهم هذا ما فعله حافظ أسد والشواهد كثيرة ومعروفة بدءا من صالح جديد وليس انتهاء بغازي كنعان. إن أفقر األرياف السورية هي أرياف العلويني وأفقر األحياء السكنية في املدن الرئيسية هي أحياء العلويني وإن أكثرية السجناء السياسيني في الثمانينات هم من العلويني من احلركات اليسارية أو اليبراليني املستقلني وذلك بسبب معارضتهم العلنية لديكتاتورية حافظ أسد وقد دفعوا أثمانا باهظة جراء ذلك. لكن عندما يسقط النظام فمن احملتمل أن يدفع العلويون الثمن سواء كانوا موالني أم معارضني ألن

193 األكاذيب من جهة والتحليل السطحي للصراع من جهة أخرى أحال التفسير الطائفي لألزمة محل ما عداه! هذه املفارقات املؤملة هي بعض نتائج ترويج األكاذيب ال من قبل النظام فقط بل وأحيانا من ق بل بعض املعارضة. األكاذيب التي تصدقها الشعوب املقموعة بسبب اليأس وقل ة الثقافة السياسية في ظل غياب احلريات واحلقوق جراء طول إقامة الديكتاتور في السلطة. وكذلك في عراق البعث - 1963 2003 حيث سادت نفس الظروف في نفس الفترة فبسبب احلروب والقمع الدموي وغياب احلريات إلى جانب الصراعات الهمجية داخل أجنحة حزب البعث احلاكم لم يبق للعراقيني سوى اإلحباط واخلوف من املستقبل باإلضافة إلى اجلوع واحلرمان جراء احلروب واحلصار. وخالل ذلك قام صدام حسني بتصفية قيادات وكوادر احلزب رافعا من صالحيات األجهزة األمنية على حساب احلزب الذي مت تهميشه بالتدريج مقربا العشائر السنية التي إنخرط أبناؤها في القوات املسلحة واألجهزة األمنية وهذا ما جعلها تعتقد بأن صدام حسني طائفي بينما ما فعله صدام هو توريط هذه العشائر حلماية نظامه وهي في الواقع دفعت أثمانا باهظة خالل حروب صدام وبعد سقوط نظامه لكن األخطر هو إن البعض هيمنة على عقله اللوثة الطائفية وما يزال واقعا حتت سطوة أكاذيب صدام. وجراء هذا املقلب لم يعد أحد يتذكر بأن تكريت واألعظمية هي أول وأكثر املناطق تضررا من حكم صدام وأجهزته التي قامت بتصفية املجتمع السياسي السني بالتدريج وبتهم التآمر والعمالة خالل عقد السبعينات ولو تصدى بعض الباحثني من أبناء هذه املناطق وكتبوا تاريخ حكم البعث وعمليات التنكيل التي تعرضت لها الشخصيات واملناطق السنية من قبل صدام نفسه ألحدث ذلك صدمة عند األجيال اجلديدة من السنة الذين ما يزال بعضهم يعتقد بأن صدام كان يحبهم ويحرص عليهم! ولو تذكر الشيعة بأن ناظم كزار الشيعي أبن العمارة رفيق صدام ومنافسه في القسوة والهمجية هو الذي قام عندما كان مديرا لألمن العام بتصفية احلركات اإلسالمية واليسارية حيث معظم ضحاياه من الشيعة وهو مبتكر عمليات التذويب بالتيزاب ولو تذكروا بأن غالبية شرطة وضباط األمن الذي حولوا حياة الشيعة جحيما هم من املدن نفسها ومن املذهب نفسه. هل نسيتم علي اخلاقاني و)اخلاقانية( طريقته الشهيرة بالتعذيب! لو تذكر العراقيون هذه احلقائق وسواها لكان من الصعب عليهم تصديق التفسير الطائفي للصراع خصوصا بعد استالم )األحزاب الشيعية( احلكم حيث عاثت بالبلد فسادا ونك لت باحملافظات الشيعية قبل السني ة خدميا وأمنيا ألستطعنا أن ند طريقة أفضل لتشخيص هوية الصراع في بلداننا قبل أن يتبدد القرن الواحد والعشرون في هذه الدوامة الزائفة من التفسيرات مثلما تبدد القرن املاضي ولم نحصد منه سوى احلروب والكوارث. إن التفسير الطائفي للصراعات السياسية واالجتماعية هو في الواقع متويه على حقائق هذا الصراع وأول هذه احلقائق هي إن هناك ظلم وهذا الظلم يتجسد بالتوزيع غير العادل للسلطة والثروة وهناك طبقة سياسية تتكون من جميع الفئات االجتماعية قد يحدث صراع فيما

194 بينها فهو صراع على الغنيمة على السلطة والثروة وقد تنفرد فئة بالسلطة ولكنها هي املسؤولة وليست الطائفة أو الدين أو القومية التي تنتمي إليها ليس ألن هناك مثيال لها في جميع الطوائف فقط ولكن أيضا لنتأمل املفارقة التالية: إذا كان الشيعة بالعراق يعتقدون بأن صدام حسني اضطهدهم ألنهم شيعة وأن السنة في سوريا يعتقدون بأنهم مضطهدون ألنها سنة فالسؤال هو: ماذا عن الظلم واالضطهاد في تونس وليبيا بينما احلاكم واحملكوم جميعا من املذهب نفسه ويندر وجود طائفة أو دين مختلف عن املذهب السائد إذا كانت الطائفية هي سبب الظلم فماذا عن زين العابدين بن علي والقذافي وقد اضطهدا شعبيهما وهم ينتمون لنفس املذهب إن إعتماد فلسفة الكذب هو أحد تعابير أزمة احلزب األيديولوجي قوميا كان أم يساريا أم دينيا فهذه األحزاب جميعها متلك جهازا خاصا ل )الدعاية( تبدأ مهمته بتشويه سمعة املختلفني واملنافسني وال تنتهي بتمجيد وأسطرة شخصية األمني العام أو الرئيس القائد واألمثلة كثيرة ومعروفة. فهذه األحزاب سواء أكانت في السلطة أم في املعارضة هي وجوه متعددة لعملة واحدة هي األستبداد. إن جميع هذه األحزاب تنظر للدولة بصفتها غنيمة وليست طرفا محايدا بني املواطنني كما هو احلال في األنظمة الدميقراطية لذلك ندها أي هذه األحزاب- في صراع دائم على السلطة. السلطة هي الهدف وليس حتقيق العدالة كما تدعي فهي أداتها للهيمنة على الدولة والسيطرة على املجتمع للتحكم مبصائر املواطنني حيث يصبح الكذب اإلعالمي والسياسي عمال رسميا منتظما كأحد أدوات البقاء في احلكم وذلك بسبب غياب الشرعية. وهذا ما أدى ويؤدي إلى تآكل الدولة واملجتمع معا.عندما تطول فترة الديكتاتورية فإن صمت الناس عن الكذب ال يعني تصديقهم به بل يؤكد عجز احلكم عن قول احلقيقة وفشله بالتواصل مع املجتمع. إن استمرار الكذب لن يؤدي إال إلى توسيع الفجوة بني الطرفني. ولكن ما لم يفهمه بعض اإلعالم العربي هو إن ناح دعاية سياسية معينة عبر ترويج أكاذيب مرتبة بطريقة يسهل تقبلها أو تصديقها من قبل جمهور معني ال يأتي اعتباطا. إنها لعبة مشروطة بظروف وعوامل محددة فليس بوسع الناس أن يصدقوا األكاذيب في جميع الظروف واألحوال. لقد نحت أكاذيب غوبلز وهتلر ألن املجتمع األملاني وقتذاك كان يعيش أزمة وجدانية وسياسية كبيرة جراء هزمية اإلمبراطورية األملانية في احلرب العاملية األولى حيث فرض احللفاء املنتصرون على أملانيا توقيع معاهدة فرساي 1919 ومت تعديلها في العام الالحق لتتضم ن االعتراف األملاني باملسؤولية عن احلرب وترتب على أملانيا تعويض األطراف املتضر رة ماليا مببالغ كبيرة جدا أنهكت االقتصاد األملاني إلى جانب تقبل القيود العسكرية التي تضمنتها املعاهدة ناهيك عن خسارة أملانيا بعض أراضيها ومستعمراتها لصالح أطراف أخرى ما أدى إلى جرح وجداني جماعي لألملان.

195 كان الرأي العام األملاني يعيش أزمة سياسية تاريخية مع عموم الوضع األوربي باالضافة ملا أحدثه ناح الثورة البلشفية في روسيا 1917 من قلق وبلبلة في الرأي العام األوروبي عموما واألملاني ضمنا. لقد كان املجتمع األملاني بحاجة حلكومة قوية تنقذه من كل تلك األزمات وهذا ما ساعد على فوز احلزب القومي األملاني )النازي( في االنتخابات وبالفعل فقد أستطاع النازيون تطوير الصناعات واستيعاب املزيد من القوى العاملة واملباش رة مبشروع عسكرة املجتمع للخالص من الشعور بالهزمية مع مزيد من األناشيد القومية والدعاية النازية التي رك زت على التفوق املزعوم للعنصر اجلرماني وعلى شخصية الفوهرر باعتباره الزعيم واملنقذ الذي طال انتظاره فقد بشرهم بأن أملانيا ستحكم العالم خالل األلف سنة القادمة. لقد كان الرأي العام األملاني املجروح بحاجة كبيرة ملثل هذا التصعيد الوجداني واملعنوي لذلك كانوا يصدقون أكاذيب هتلر وغوبلز فقد سيطرت أوهام العظمة على خيالهم اجلمعي وحل ت محل حقائق الواقع. إن كل هذه العوامل والظروف هي التي خلقت استعدادا واسعا عند اجلمهور األملاني لتقبل األكاذيب النازية وليست قوة األكاذيب بذاتها والدليل هو عدم إمكانية ظهور هتلر جديد في أملانيا احلالية ألن األملان ليسوا بحاجة لهذا النوع من مجانني العظمة أما )النازيون اجلدد( فهم موجودون اآلن ولكن ال أحد يصدق أكاذيبهم فاألكاذيب ال متلك سحرا خاصا بذاتها واجلمهور ال يتقبلها في كل الظروف واألحوال على عكس ما يتصوره البعض عندنا ممن حتو ل ت أكاذيبه إلى مجرد فجاجة إعالمية مثيرة للسخرية.

جائزة سنوية تشرف عليها رابطة الكتاب السوريني.. مت نح اجلائزة سنويا لثالث روايات فائزة بعد عملية حتكيم من أعضاء حتكيم مشهود لهم باملكانة الثقافية واألدبية واخلبرة في التحكيم األدبي والفكري. حت جب إدارة اجلائزة أسماء املتسابقني وتعطي املخطوطات أرقاما بدل أسماء أصحابها وال يطلع أي من أعضاء اللجنة على األسماء إال بعد اختيار األعمال الفائزة. ي علن عن أسماء الفائزين بالدورة األولى للجائزة في السابع عشر من نيسان )أبريل( 2014. وت نشر أسماء الفائزين وموعد توزيع اجلوائز على املوقع اإللكتروني لرابطة الكتاب السوريني. www.syrianswa.com وفي وسائل اإلعالم ووسائط التواصل االجتماعي. تستقبل النصوص على بريد الرابطة االلكتروني syrian.writerz@gmail.com أو بريد اجلائزة almazraaaward@gmail.com ويقفل باب قبول الطلبات في نهاية يوم 31 كانون األول )ديسمبر(. توزع اجلوائز في حفل خاص تقيمه الرابطة ومانح اجلائزة األستاذ يحيى القضماني في إحدى العواصم العربية إذا تعذر احلفل في داخل سورية وتقوم إدارة اجلائزة بإشراف من املكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريني بطباعة الكتب الفائزة. قيمة اجلائزة ثمانية آالف دوالر للفائز األول وخمسة آالف دوالر للفائز الثاني و 3 آالف دوالر للفائز الثالث. تصدر الرابطة طبعة خاصة بها من الكتب الفائزة وباستثناء هذه الطبعة فإن كل طبعة الحقة هي من حق املؤلف. شروط االشتراك: - ال شروط على اإلبداع. سوى أ ن ال يكون املخطوط قد نشر في كتاب أ و دورية.

كتاب العدد بحسب تسلسل النشر صادق جالل العظم كاتب سوري عزمي بشارة مفكر عربي عدي الزعبي كاتب سوري ياسني احلاج صالح كاتب سوري ماهر مسعود كاتب لبناني راتب شعبو كاتب سوري بكر صدقي كاتب سوري سلوى النعيمي كاتبة سورية ياسر خنجر كاتب سوري زياد ماجد كاتب لبناني عمر قدور كاتب وشاعر سوري أمجد ناصر شاعر وكاتب أردني فرج بيرقدار شاعر سوري أحمد عمر كاتب سوري سليم البيك كاتب فلسطيني دارا عبداهلل كاتب سوري د. محمد جمال طحان كاتب سوري عبد العزيز كوؤدو كاتب سوري خطيب بدلة كاتب وقاص سوري هشام الواوي كاتب سوري راجي بطحيش قاص وكاتب فلسطيني محمد جميح شاعر ميني متام هنيدي شاعر سوري نسرين طرابلسي كاتبة سورية فادي عزام كاتب وشاعر سوري فراس النجار كاتب سوري رفقة شقور كاتبة سورية كرمي عبد شاعر وكاتب عراقي