األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية بالغة التكرار وداللته يف ديوان "األرواح الشاغرة" لعبد احلميد بن هدوقة The Rhetoric of Repetition and its Significance in Abdelhamid Ben Hadougua s Collection of Poems: The Vacant Spirits Dr. Hanane BOUMALI University centre of Mila - Algeria- املركز اجلامعي عبد احلفيظ بوالصوف مبيلة -اجلزائر- boumalihanan@yahoo.fr ملخص يلجأ الشاعر عبد الحميد بن هدوقة إلى مجموعة من الوسائل الفنية لتشكيل لغته الشعرية على نحو يكسبها قيمة إيحائية وتعبيرية أغنى تجعلها أقدر على اإليحاء بتلك العوالم النفسية الرحيبة التي يحاول أن يعبر عنها في خطابه الشعري الذي أقامه جسرا قويا مع الواقع الجزائري المتلبس بالسياسي على أشده وخاصة في تركيزه على عالقة المستدمر الفرنسي والشعب الجزائري وعملية التنوير التي أرادها ضرورة حتمية جادة لفهم هذا الواقع. ثم إن الشاعر يثور على السلطة االستدمارية بثورته على سلطة اللغة والتحرر من كل منطق لغوي مألوف عن طريق التكرار الذي يمثل في واقع األمر نزعة قومية تحررية ثورية.والكلمة الشعرية عنده ال تعرف الهزيمة واليأس فقد استطاع أن يعبر عن إنسان العصر منغرسا في أعماق الالوعي أحيانا وراصدا للحياة الظاهرة أحيانا أخرى. الكلمات الدالة :عبد الحميد بن هدوقة اإليحاء الواقع الجزائري التنوير سلطة اللغة التكرار الكلمة الشعرية. Abstract Turn the poet Abdel Hamid ibn haddouka a range of technical means to form a poetic language earned value revelatory and expressive singing, making them better able to suggest that mental worlds the wide which tries to be expressed in his poetry, which establish a bridge strong Algerian reality with the highest political, particularly in its focus on the relationship French Algerian people; and the process of enlightenment that he intended it as imperative to understand this reality.the poet is power with the language revolution; and freedom from all linguistic logic familiar through repetition which is indeed revolutionary liberalism, nationalism. The poetic Word has not known defeat and despair; it could be reflected by the word you don't know defeat the human era be implanted deep in the subconscious sometimes mandate will for life phenomenon. Keywords: Abdel Hamid ibn haddouka, to suggest, Algerian reality, the process, the language revolution, repetition, The poetic Word. 39
مقدمة قطعت القصيدة العربية احلديثة يف مغامرتها اجلمالية أشواطا مهمة على طريق التعدد والتنوع والتحديث وسلكت يف ذلك سبال بلغت فيها التجربة آفاقا مدهشة حققت هلذه القصيدة مكانة الئقة يف املشهد الشعري العاملي وليس أدل على ذلك من االهتمام الكبري الذي حيظى به الشعر العربي عامليا على أكثر من صعيد بالرغم من تلك احملاوالت املضادة الساعية إىل تهميشه وعزله داخل منظور ضيق. ويعرض النص الشعري العربي احلديث شعريته مستنهضا يف املتلقي كل طاقات االستقبال اليت يتحرك عليها شريط الواقعة الشعرية. )1( حيث أدخل الشاعر العربي املعاصر كثريا من األساليب اللغوية اجلديدة اليت مل يعرفها هذا الشعر من قبل وكان كثري من هذه األساليب حامال لدالالت ثرية أسهمت يف تعميق التجربة الشعرية ويعد التكرار أحد أهم هذه األساليب اليت اتكأ عليها عبد احلميد بن هدوقة يف منجزه الشعري" األرواح الشاغرة" ولعل هذه املقاربة أن تكشف عن بالغة التكرار وداللته يف هذه املدونة عن طريق رصد أهم أنواع التكرار وداللتها. بنية التكرار وأمناطه يعد أسلوب التكرار répétition من الظواهر األسلوبية اليت عاجلها البالغيون والنقاد من العرب واألوروبيني واملراد به»إعادة ذكر كلمة أو عبارة بلفظها ومعناها يف مواضع أخرى غري املوضع الذي ذكرت فيه ألول مرة مبا ميثل ظاهرة يف نص أدبي واحد«)2( أو هو «عبارة عن اإلتيان بشيء )3( مرة بعد أخرى.«وحني يدخل التكرار يف اجملال الفين فإن قدرته على التأثري يف هذا اجملال تتجاوز اإلتيان بالداللة على املعنيني املختلفني إذ يعمل على إنتاج فوائد جديدة داخل كيان العمل الفين ليتحدد مفهومه يف «اإلتيان بعناصر متماثلة يف مواضع خمتلفة من العمل الفين والتكرار هو أساس اإليقاع جبميع صوره«)4( أما يف النقد احلديث فإن التكرار يعد»ظاهرة لغوية من حيث اعتماده يف صوره البسيطة واملركبة على العالقات الرتكيبية بني الكلمات واجلمل وهو يعد وسيلة بالغية ذات قيم أسلوبية.«)5( بل إنه يضطلع بوظيفة جوهرية يف السياق الذي يرد فيه. وهو ما دفع إىل االهتمام به ودراسة فاعليته يف القرآن الكريم والشعر العربي يف خمتلف عصوره. ويقوم التكرار يف القصيدة العربية احلديثة بوظيفة إحيائية بارزة وتتعدد أشكاله وصوره بتعدد اهلدف اإلحيائي الذي يعهد به الشاعر إليه وترتاوح هذه األشكال ما بني التكرار البسيط وبني أشكال أخرى أكثر تركيبا وتعقيدا يتصرف فيها الشاعر يف العنصر املكرر حبيث تغدو أقوى إحياء )6( وبهذا التصور األسلوبي التعبريي والبنائي نقرأ ديوان "األرواح الشاغرة" الذي متثل فيه ظاهرة التكرار ظاهرة أسلوبية هلا وظيفة بنائية وفنية. يشكل التكرار يف شعر عبد احلميد بن هدوقة ظاهرة بارزة هلا حضورها على صعيد النص الشعري وهو يسعى إىل تشكيل نصه معتمدا على هذا اإلجراء األسلوبي الذي»مينح النص بناء متماسكا وإيقاعا موسيقيا ال يتوقف عند حدود الظاهرة بل يتجاوز ذلك إىل أن يتعانق التشكيل التكراري مع إبراز رؤية الشاعر اليت يسعى إىل تأكيدها وجتذيرها عرب أداء )7( شعري متميز.«وميكن من خالل قراءة ديوان عبد احلميد بن هدوقة أن نقسم التكرار يف أشكاله املختلفة إىل أقسام عديدة منها: تكرار الكلمة وتكرار العبارة وتكرار الصيغة... وغريها وستحاول هذه الدراسة أن جتلي فاعلية هذه الظاهرة والكشف عن دورها يف تباين مجاليات املنجز الشعري ألنها ظاهرة تشكل نسقا ونظاما يسهم يف تبيان معمارية النص وهيكله وترابطه. وجيب النظر إىل التكرار يف ضوء هذه الفاعلية اليت يقوم بها على أنه ليس جمرد تقنية بسيطة ذات فائدة بالغية ولغوية حمدودة إمنا جيب النظر إليه على أنه»تقنية معقدة حتتاج إىل تأمل طويل يضمن رصد حركيتها وحتليلها«)8( انطالقا من معطياتها ومستويات أدائها وتأثريها يف القصيدة فضال عن»دورها الداللي التقليدي الذي أطلق عليه القدماء "التوكيد" وفائدتها يف مجع ما تفرق من األبيات واملقاطع )9( الشعرية.«أوال- تكرار الكلمة تتكرر بعض الكلمات يف قصائد ابن هدوقة وتكرارها يشكل عنصرا فاعال ألنها متثل إشارة وعالمة أسلوبية بارزة يسعى الشاعر إىل إبرازها والتأكيد عليها يقول يف قصيدة "أزرق العينني": ركب املرياج وطار يف السماء مل يدر أن السمر يعرفون السماء مل يدر أن دمشق مدينه فيها األطفال والشيوخ والنساء... كان يف السماء وزهور الورد تنتظر الرجوع )10( رجوعه يف احلني. يكرر الشاعر يف هذا املقطع القصري من القصيدة كلمة "السماء" ومجلة "مل يدر" وتكرار الكلمتني حيمل بنية دالة على صعيد السياق الذي وردتا فيه فعلى الصعيد األفقي تتكرر كلمة "السماء" ليؤكد أن العدو متعالي على السوريني متكرب عليهم ال حيسبهم بشرا وقد جاء هذا التأكيد مقرونا بتكرار آخر وهو مجلة "مل يدر" اليت جتسد عمق اهلوة أو املسافة الفاصلة بني اإلسرائيليون والسوريون. 40
وتتكشف حدة التعالي من خالل تعميق املوقف الشعوري الذي ينفتح على القهر والتجرب والدمار الذي حلق فئات الشعب كلها "األطفال والنساء والبنني والشيوخ" حني يكرر الشاعر مجلة "مل يدر" يف مقطع آخر ليشي باجلو املأساوي لسوريا البعيد عن األمل والفرح: أفرغ القنابل والذخرية حتته يف األرض ال يدري أين... ما ذنبه إن قتل النساء والبنني مل يدر أن دمشق مدينة فيها األطفال والشيوخ والنساء ما ذنبه وهو يف السماء مل يدر أن السمر يطلقون إىل السماء )11( "صاما" لعني!. وملا كان التكرار من»الوسائل اللغوية اليت ميكن أن تؤدي يف القصيدة دورا تعبرييا واضحا... يوحي بشكل أولي بسيطرة هذا العنصر املكرر وإحلاحه على فكر الشاعر أو شعوره أو الشعوره )12( ومن ثم فهو ال يفتأ ينبثق يف أفق رؤياه من حلظة ألخرى.«فإن تكرار الكلمة يف شعر ابن هدوقة ميأل أفق رؤياه ويشكل عنصرا فاعال يف جتربته الشعورية ففي قصيدة "جندي القنال"يستخدم الشاعر أسلوب تكرار الكلمة قائال: إن الرمال عطشى كاجلبال لدما الرجال حسيبة ال تبكي وتذكري فاألرض لن تلد الرجال بال رجال حيث الرصاص يعرب كاخليال )13( واملوت حلم حتلمه الرجال. جيعل الشاعر من كلمة "الرجال" املكررة يف هذا املقطع كلمة حمورية فهي تشري إىل أن الرجال هم طريق احلرية وسالحها ففي كل مرة يرتبط مصطلح الرجال مبظهر جديد للثورة والتحدي فاألرض عطشى لدماء الرجال والرمال واجلبال كذلك واألرض لن تلد الرجال إال باستشهاد رجال آخرين يضحون من أجلها واملوت حلم خاص بالرجال األفذاذ األبطال فقط وهو تكرار يلح فيه الشاعر كل مرة على أن الرجال هم اإلمكانية الوحيدة اليت تستطيع حتقيق حلم كل اجلماهري اجلزائرية وهو"احلرية" و"االستقالل". وتتجلى فاعلية تكرار الكلمة عندما جيعل الشاعر الكلمة تتكرر يف بداية كل مقطع فقد قال يف قصيدته "جندي القنال": بالغة التكرار وداللته يف ديوان "األرواح الشاغرة" لعبد احلميد بن هدوقة حسبية! يا ابنة احلقول. يا حلم اجلبال يا ابنة قرييت ال تبكي وتذكري أنى هنا هنا بالقنال )14( أن األرض تأخذ منا ماهلا. تربز هذه القصيدة يف مقاطعها بشكل جلي شخصية حسيبة بن بوعلي وهي شخصية سعى الشاعر إىل تصويرها تصويرا بطوليا ألن تكرار امسها يف بداية املقاطع الستة للقصيدة له معنى عميق الداللة فهي امرأة غري عادية ألنها تلهب النار يف صفوف العدو كما تستنهض اهلمم يف نفوس إخوانها الثوريني اجملاهدين بل تدعوهم إىل التسابق حنو الشهادة وحترير البالد من العدو. ولقد استطاع الشاعر أن جيسد طبيعة املوقف أو الصورة احلقيقية للشهيدة البطلة "حسيبة بن بوعلي" عن طريق تكرار امسها ألن التكرار ال تقتصر وظيفته على»إحداث األثر الصوتي يف القصيدة لكنه يسهم يف تدعيم الداللة وإبرازها وتوسيع نطاقها حبيث تتخذ آفاقا جديدة فال شك أن الوحدات املتكررة تعين بتكرارها شيئا إضافيا عما عنته عند ظهورها )15( للمرة األوىل أو املرات السابقة.«ثانيا- التكرار االستهاللي ويتمثل يف تكرار بعض الصيغ أو الكلمات يف مطالع األبيات أو الفقرات ويستهدف التكرار االستهاللي يف املقام األول»الضغط على حالة لغوية واحدة وتوكيدها عدة مرات بصيغ متشابهة وخمتلفة من أجل الوصول إىل وضع شعري معني قائم على مستويني رئيسيني: إيقاعي وداللي.«)16( ففي قصيدة "أزرق العينني" مثال تتكرر عبارة "سيمون تبكي عن سجني" "وضاء اجلبني" يف مستهل كل مقطع من مقاطع القصيدة حيث يقول الشاعر: 41
سيمون تبكي عن سجني وضاء اجلبني أزرق العينني ما ذنبه أن قتل النساء والبنني سيمون تبكي عن سجني وضاء اجلبني قبضته أيدي السمر بعد أن سقط املرياج سيمون تبكي عن سجني ما امسه )17( ما جنسه يتعد ى التكرار الشعري هنا لعبارة "سيمون تبكي" إىل أداء وظائف جديدة أكرب من جمرد التوكيد وحتقيق التناسق اإليقاعي فالتكرار الثالثي للعبارة يسيطر على مقدمة كل مقطع ليشكل مظلة شعرية تهيمن على مناخ القصيدة وحتتويها وهي يف احلقيقة مهداة إىل الكاتبة الفرنسية "سيمون دي بوفوار" اليت كتبت مقاال يف جريدة "لومندmonde "le تندد فيه باملعاملة الرببرية اليت يالقيها املساجني اإلسرائيليون على أيدي السوريني. ويستهدف التكرار االستهاللي أيضا»اإلحاطة بوضع شعري معني ومنحه مسة داللية واقعية حمددة ليس من خالل التكرار نفسه بل ومن خالل ظالله ومتعلقاته اللغوية والداللية كذلك«)18( ففي قصيدة "الشمس املفقودة" تتكرر مجلة االستهالل "أيتها الشمس اليت أحببتك" أربع مرات يف تضاعيف القصيدة ومتتد صورة التكرار إىل آخر مقطع منها: أيتها الشمس اليت أحببتك وكنت فالي السعيد يف املنفى البعيد أيتها الشمس اليت أحببتك وكنت رفيق الذكريات والغدوات والروحات أيتها الشمس التيأحببتك هل تدركني وأنت تغيبني أيتها الشمس اليت أحببتك وأضعتك حدثي املبصرين يف كواكب أخرى أن عيون من يف األرض مفتوحة يف الظالم )19( تتعذب. يؤدي التكرار االستهاللي للجملة االفتتاحية رسالة داللية غري صرحية ويوفر مناخا من اإليقاع التنويري املتسارع الذي ينشر ظالله يف القصيدة كلها بل يدفعها على املستوى الداللي باجتاه معنى البحث عن األمل الضائع يف غيابات الظلم والقهر واالستبداد الذي يتوازن مع سرعة حركة القصيدة وشكلها اإليقاعي. ثالثا- تكراراجلملة الشعرية إذا كان تكرار الكلمة الواحدة يقوم بوظيفة بنائية ومعنوية ونفسية يف نسيج النص الشعري فإن تكرار العبارة ميثل»حضوره أكثر بروزا وفاعلية يف خلق أنساق وبنى تتعاضد لتشكل معمارية النص وبنائيته«)20( ففي قصيدة "أغنية ال تلحن" يكرر عبد احلميد بن هدوقة بعض العبارات من مثل " أتبحث عن خبز" و" ال تصلح الرمزية وال السريالية خلواطري" و" يف كل مكان" ويبدو أن مثل هذا التكرار قد»أدى رسالة ال حتملها األبيات مباشرة وال تؤديها مفردة بعينها فالتكرار يقوم بدوره الداللي عرب الرتاكم الكمي للكلمة أو للجملة أو للحرف وعرب اإلحلاح على هذا املوضع أو ذاك ينبه املتلقي إىل غاية داللية أرادها الشاعر وارتأى تأديتها عرب التكرار«)21( فقد مكن الشاعر من التعبري عن رؤيته حيث يقول: أتبحث عن خبز عن أحالم عن ليلي مجيلة متلؤها أنغام ماذا أقول ال تصلح الرمزية والسريالية خلواطري الليل واجلدران وأغنية بائع الثلج والفتاة اجلميلة كل هذه أشياء تدور يف رأسي )22( ال تصلح الرمزية وال السريالية خلواطري. يشكل الشاعر بنية تكرارية من خالل تكراره عبارة "ال تصلح الرمزية وال السريالية خلواطري" لتكون هذه اجلملة الشعرية 42
رابطا بني مقاطع القصيدة كلها ففي كل مرة يؤكد مذهبه احلقيقي بأنه ال رمزي وال سريالي ألنها ال تصلح خلواطره وهو باملقابل يريد أن يبني أن مذهبه هو مذهب اجلماهري املسحوقة اليت تبحث يف شتات الضياع عن أحالمها ولياليها اجلميلة تبحث عن احلرية والنوم يف كل مكان فكان هذا التكرار عامال من العوامل اليت تعني على التمحور حول قضيته األساس وهي البحث عن اهلوية الضائعة واحللم الضائع. ويظهر تكرار اجلملة الشعرية أيضا يف قوله "يف كل مكان" اليت تتكرر مخس مرات لتوحي باللهفة إىل االنتقام السريع والتخلص من عوامل الظلم وأسباب االنكسار فيقول: العبيد تسيل عيونهم بالدماء باحلرية يف كل مكان يف كل مكان حظهم موفور يف القبور يف كل مكان صارت القلوب مستودعا للقنابل بدل األحالم )23( يف كل مكان. يشكل الشاعر بنية تكرارية من خالل تكراره لعبارة "يف كل مكان" لتكون هذه العبارة رابطا بني مقاطع القصيدة وقد عرب بتكرار هذه اجلملة عن البؤس والشقاء والضياع واألمل املنتشر يف كل ناحية والذي يالحق العبيد ويسيل دموع عيونهم وهذا التكرار يعرب من جهة أخرى عن الرغبة امللحة يف الفرار من لزوجة هذا الواقع وفساده. ويف قصيدة "ال تقف أيها الشاعر " يتناغم تكرار اجلملة الشعرية "ال تقف أيها الشاعر" مع العنوان حيث يعرب هذا التكرار عن احنصار الذات الشاعرة يف دائرة التمين والتحليق يف جو األحالم بعد أن ضاقت ذرعا بهذا الواقع الذي يرتصد العابرين باملوت املتربج يف كل حلظة وحياصرهم باألمل من كل ناحية: ال تقف أيها الشاعر ذلك الذي يلوح بكلتا يديه للعابرين هو املوت متربج! بالغة التكرار وداللته يف ديوان "األرواح الشاغرة" لعبد احلميد بن هدوقة أولئك عبيد بيض يغازلون املستقبل بأحالم املاضي ال تتأمل دع األرض لألرض سر ولو طال السفر )24( إن رأيت يف السماء أشعة سوداء تتأسس بنية التكرار يف هذه القصيدة على خماطبة الشاعر وهي خماطبة قائمة على الكشف عن رؤيته حبيث يتساوى الوقوف والسري وهما نقيضان إذ يطلب من الشاعر أن ال يتوقف عن املسري ألن الزمن الذي يعيش فيه هو زمن الرتاجع والنكوص واجلرم كل اجلرم أن يقف الشاعر يف مكانه فغدا سيطلع الفجر ومتحي لعنة األجيال السابقة وهو األمر الذي يؤكده يف ختام القصيدة حيث يقول: ال تقف وسر غدا يطلع الفجر ومتحي لعنة األجيال السابقه وتغين األرض أغنية جديده )25( إلنسان جديد لقد استطاع تكرار اجلملة الشعرية أن يشكل ظاهرة أسلوبية يف شعر ابن هدوقة استطاعت بدورها أن متنح املنجز الشعري تشكيله وبناءه وخصوصيته ففي كل مرة كان الشاعر يكرر عبارته كان يقدم رؤية وموقفا جديدين ومن ثم فإن»العبارة املكررة تؤدي إىل رفع مستوى الشعور يف القصيدة إىل درجة غري عادية وهذا يغين الشاعر عن اإلفصاح املباشر وإخبار )26( القارئ عن مدى كثافة الذروةالعاطفية.«رابعا- تكرار الالزمة يقوم تكرار الالزمة على انتخاب سطر شعري أو مجلة شعرية تشكل مبستوييها اإليقاعي والداللي حمورا أساسا ومركزيا من حماور القصيدة حيث يتكرر هذا السطر أو اجلملة بني فقرة وأخرى على شكل فواصل ختضع يف طوهلا وقصرها إىل طبيعة جتربة القصيدة من جهة وإىل درجة تأثري الالزمة يف )27( بنية القصيدة من جهة أخرى. وحيدث أن يكرر الشعراء جمموعة من الكلمات أو إعادتها بعد فقرات أو مقاطع شعرية بصورة فيها كثري من االنتقاء ورمبا جاءت الالزمة مكررة دومنا تغيري ورمبا أصابها تغيري طفيف 43
فالالزمة»عبارة عن بيت أو جمموعة أبيات تتكرر يف آخر كل مقطع أو دور شعري من القصيدة«)28( وميكن أن يأتي تكرار الالزمة على منطني األول هو الالزمة القبلية واآلخر هو الالزمة البعدية. لقد شكل تكرار الالزمة القبلية يف شعر ابن هدوقة بعدا مهما وذلك من خالل اعتماده على تكرار العبارة الواردة يف بداية القصيدة واستمرار تكرارها يف بدايات مقاطعها حبيث تشكل مفتتحا يلقي بظالله اإليقاعية والداللية على عامل القصيدة كما هو احلال يف قصيدة "قبلتين اليوم أمي": قبلتين اليوم أمي قبلتين قبل العيد!. كانت أخيت الصغرية وأنا وأمي قبلتين اليوم أمي قبلتين قبل العيد!. كانت غاضبة علي أمي مل أجنح يف االمتحان مل أجنح يف التاريخ قبلتين اليوم أمي قبلتين قبل العيد!. كنا مجيعا مسرورات بالفساتني اجلديدة اليت اشرتاها أبي! قبلتين وأرسلتين )29( إىل أبي لقد كرر الشاعر الالزمة "قبلتين اليوم أمي قبلتين قبل العيد" يف بداية القصيدة وبداية كل مقطع عالوة على أنها عنوان القصيدة لتشكل بذلك نسقا تكراريا مينح املنجز الشعري قوة هائلة يف التعبري عن رؤية الشاعر وداللة نصه بل إن هذه العبارة تشكل حمور النص ومرتكزه األساس ألنه بعد هذا التكرار يفسر ويبني ملاذا قبلته أمه قبل العيد فقد كانت آخر قبلة له من أمه اليت مل يرها بعد ذلك: سقطت قنبلة على دار اخلياطة! حيث أمي وأخيت الصغرية والفساتني اجلديدة! مل أر أمي وال أخيت وال الفساتني اجلديدة وال اخلياطة! كانت النار تضطرم )30( يف دار اخلياطة! وجند هذا النوع من التكرار يف قصيدته "الشعر الدائري" وإن كان يقل فيه عددا عن القصيدة السابقة حيث جيعل الشاعر من عبارة "الشعر الدائري موضة جديدة" الزمة قبلية تتكرر يف مطلع كل مقطع فيقول: الشعر الدائري موضة جديدة! لكنها خالدة منذ العهود البعيدة أفهمت الشعر الدائري موضة جديدة. لكنها خالدة مل ختلقها األرواح الشاغرة الشعر الدائري موضة بال فن )31( وال أجراس ترن إن الالزمة املركزية يف التكرار هي عبارة "الشعر الدائري موضة جديدة" وهي تتكرر يف املقطع األولوالسادس والثالث عشر والرابع عشر وتأخذ شكال حموريا يف املقاطع األربعة املذكورة غري أنها تتحول من "موضة جديدة" يف املقطع األول والسادس والثالث عشر إىل "موضة بال فن" يف املقطع الرابع عشر وهو حتول داللي وإن بقيت حمتفظة باتساقها اإليقاعي يف فضاء القصيدة املوسيقى. ولقد أراد الشاعر من تكرار هذه الالزمة أن ينور اجملتمع اجلزائري وينتشله من هوة التقليد والتبعية والقهر واخلوف والقبضة االستعمارية اليت ما تركت مكانا للبطولة والفاعلية العربية إال وطمسته ذلك أنه يف القصيدة ذاتها خياطب اجلموع نفسها وحيرضها على الثورة والتمرد اليت تنهض بها من أزماتها املتعددة. أما الالزمة البعدية فال جند هلا حضورا يف ديوان الشاعر ابن هدوقة ألنه كان يف مرحلة البحث عن االستقرار السياسي والداللي واإليقاعي والالزمة البعدية»تتكرر يف نهايات مقاطع القصيدة لتشكل بها استقرارا دالليا وإيقاعيا مينح القصيدة عنصر االرتكاز والتمحور«)32( والشاعر مل يصل إىل 44
مرحلة االستقرار بعد بل إنهفي منو انفعالي مطرد يدل على تفاقم أزمته الداخلية وصوال إىل ذروة االنفجار. خامتة لقد استطاع عبد احلميد بن هدوقة توظيف أسلوب التكرار يف ديوانه "األرواح الشاغرة" للتعبري عن أبرز القضايا الوطنية والشعرية وتصوير رؤيته املتميزة للواقع االجتماعي واإلنساني وبدا واضحا من حتليل قصائده أن التكرار يتيح داللة جديدة ال يستطاع التعبري عنها إال من خالله وهذا بدوره يدل على أن الشاعر العربي املعاصر تعامل مع هذا األسلوب اللغوي باعتباره منتجا وليس زخرفا أو زينة لفظية. كما شكل التكرار يف منجزه الشعري ظاهرة أسلوبية استطاعت أن تعكس قدرة هذا اإلجراء األسلوبي يف تشكيل بنية هيأت للنص متاسكا وتالمحا عرب جمموعة من األلوان التكرارية املتنوعة مكنت الشاعر من حتقيق رؤيته وتأكيده من خالل التشكيل املوسيقي املتجاوب واملتناغم يف جسد النص الشعري. ولقد سعى الشاعر إىل توسيع الفضاء اللغوي للقصائد عن طريق زيادة االرتكاز على التكرار بسبب الظروف املتأزمة اليت مر بها الواقع اجلزائري مما جعله الوسيلة املثلى للتنفيس عن مكبوتات املبدع يضاف إىل هذا ما قدمه التكرار من مجال فين يتحقق عرب التكثيف إذ إنه تقنية تكثيفية بامتياز ألنه يثري املعنى ويرفعه إىل مرتبة األصالة إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه سيطرة كاملة. اإلحاالت واهلوامش 1- حممد صابر عبيد: املغامرة اجلمالية للنص الشعري.عامل الكتب احلديث: األردن. جدار للكتاب العاملي: األردن. 2008 م ط 1.ص 39 23. 2- عالء الدين رمضان السيد: ظواهر فنية يف لغة الشعر العربي احلديث.احتاد الكتاب العرب: دمشق. 1996 م. ص 61. 3- اجلرجاني: التعريفات.طبعة الشؤون الثقافية والعامة: بغداد. 1968 م. ص 41. 4- جمدي وهبة: معجم املصطلحات العربية يف اللغة واألدب.مكتبة لبنان: بريوت. 1984 م. ط 2. ص 117. 5- سعاد عبد الوهاب العبد الرمحان: الشعر العربي احلديث "البنية والرؤية".دار جرير للنشر والتوزيع: عمان. 2011 م. ط 1. ص 121. 6- علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية احلديثة.مكتبة ابن سينا: القاهرة. 2002 م. ط 4. ص 59. 7- سعاد عبد الوهاب العبد الرمحان: املرجع السابق. ص 121. 8- حممد صابر عبيد: القصيدة العربية احلديثة "حساسية االنبثاقة الشعرية األوىل- جيل الرواد والستينات-".عامل الكتب احلديث: األردن. 2010 م. ط 2. ص 202. 9- حممد بنيس: ظاهرة الشعر املعاصر يف املغرب.دار التنوير للطباعة والنشر بريوت. املركز الثقايف العربي: الدار البيضاء. 1985 م. ط 2. ص 61. 10- عبد احلميد بن هدوقة: األرواح الشاغرة. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع: اجلزائر. 1981 م. ط 3. ص 6. 11- نفسه. ص 7. 12- علي عشري زايد املرجع السابق.ص 58. 13- عبد احلميد بن هدوقة املصدر السابق. ص 15 14. بالغة التكرار وداللته يف ديوان "األرواح الشاغرة" لعبد احلميد بن هدوقة 14- نفسه. ص 15-14-13. 15- سعاد عبد الوهاب العبد الرمحان املرجع السابق. ص 125. 16- حممد صابر عبيد املرجع السابق. ص 204. 17- عبد احلميد بن هدوقة املصدر السابق. ص 5 9 8 7. 18- حممد صابر عبيد املرجع السابق. ص 206. 19- عبد احلميد بن هدوقة املصدر السابق. ص 45 44 43. 20- سعاد عبد الوهاب العبد الرمحان املرجع السابق.ص 130. 21- كاميليا عبد الفتاح: القصيدة العربية املعاصرة "دراسة حتليلية يف البنية الفكرية والفنية".دار املطبوعات اجلامعية: اإلسكندرية. 2007 م. ص 304. 22- عبد احلميد بن هدوقة املصدر السابق. ص 30 29 27. 23- نفسه. ص 28. -24 نفسه.ص.108 105 25- نفسه. ص 108. 26- سعاد عبد الوهاب العبد الرمحان املرجع السابق.ص 136. 27- حممد صابر عبيد املرجع السابق. ص 224. 28- جمدي وهبة املرجع السابق. ص 481. 29- عبد احلميد بن هدوقة املصدر السابق. ص 83-82-81. 30- نفسه. ص 85-84. 31- نفسه. ص 75-68-65. 32- حممد صابر عبيد املرجع السابق. ص 228. القائمة الببليوغرافية 1- اجلرجاني: التعريفات. طبعة الشؤون الثقافية والعامة: بغداد. 1968 م. 2- سعاد عبد الوهاب العبد الرمحان: الشعر العربي احلديث "البنية والرؤية". دار جرير للنشر والتوزيع: عمان. 2011 م. ط 1. 3- عبد احلميد بن هدوقة: األرواح الشاغرة. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع: اجلزائر. 1981 م. ط 3. 4- عالء الدين رمضان السيد: ظواهر فنية يف لغة الشعر العربي احلديث. احتاد الكتاب العرب: دمشق. 1996 م. 5- علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية احلديثة. مكتبة ابن سينا: القاهرة. 2002 م. ط 4. 6- كاميليا عبد الفتاح: القصيدة العربية املعاصرة "دراسة حتليلية يف البنية الفكرية والفنية". دار املطبوعات اجلامعية: اإلسكندرية. 2007 م. 7- جمدي وهبة: معجم املصطلحات العربية يف اللغة واألدب. مكتبة لبنان: بريوت. 1984 م. ط 2. 8- حممد بنيس: ظاهرة الشعر املعاصر يف املغرب. دار التنوير للطباعة والنشر بريوت. املركز الثقايف العربي: الدار البيضاء. 1985 م. ط 2. 9- حممد صابر عبيد: القصيدة العربية احلديثة "حساسية االنبثاقة الشعرية األوىل- جيل الرواد والستينات-". عامل الكتب احلديث: األردن. 2010 م. ط 2. 10- حممد صابر عبيد: املغامرة اجلمالية للنص الشعري.عامل الكتب احلديث: األردن. جدار للكتاب العاملي: األردن. 2008 م ط 1. 45