اسم المادة: تأريخ القرآن اسم التدريسي : أ.د.فراس يحيى عبدالجليل القسم : التفسير وعلوم القرآن المرحلة: األولى عنوان المحاضرة: المحاضرة الخامسة: نزول القرآن جملة نزول القرآن جملة واحدة مصادر المحاضرة : اإلتقان في علوم القرآن للسيوطي البرهان في علوم القرآن للزركشي مناهل العرفان في علوم القرآن : الزرقاني. يقول هللا تعالى في كتابه العزيز: }ش ه ر ر م ض ان ال ذ ي أ ن ز ل ف يه ال ق ر آن ه د ى ل لن اس و ب ي ن ات م ن ال ه د ى و ال ف ر ق ان {. ويقول: }إ ن ا أ ن ز ل ن اه ف ي ل ي ل ة ال ق د ر } ويقول: }إ ن ا أ ن ز ل ن اه ف ي ل ي ل ة م ب ار ك ة { وال تعارض بين هذه اآليات الثالث فالليلة المباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان إنما يتعارض ظاهرها مع الواقع العملي في حياة رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- حيث نزل القرآن عليه في ثالث وعشرين سنة.. وللعلماء في هذا مذهبان أساسيان: 1- المذهب األول: وهو الذي قال به ابن عباس وجماعة وعليه جمهور العلماء: أن المراد بنزول القرآن في تلك اآليات الثالث نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا تعظيم ا لشأنه عند مالئكته ثم نزل بعد ذلك م ن ج م ا على رسولنا محمد -صلى هللا عليه وسلم- في ثالث وعشرين سنة حسب الوقائع واألحداث منذ بعثته إلى أن توفي صلوات هللا وسالمه عليه حيث أقام في مكة بعد البعثة ثالث عشرة سنة وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات: فعن ابن عباس قال: "ب ع ث رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- ألربعين سنة فمكث بمكة ثالث عشرة سنة ي وحى إليه ثم أ م ر بالهجرة عشر سنين ومات وهو ابن ثالث وستين". وهذا المذهب هو الذي جاءت به األخبار الصحيحة عن ابن عباس في عدة روايات: أ- عن ابن عباس قال: "أ نزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر. ثم أ نزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ: }و ال ي أ ت ون ك ب م ث ل إ ال ج ئ ن اك ب ال ح ق و أ ح س ن ت ف س ير ا{ 3.. }و ق ر آن ا ف ر ق ن اه ل ت ق ر أ ه ع ل ى الن اس ع ل ى م ك ث و ن ز ل ن اه ت ن ز يال } ب- وعن ابن عباس -رضي هللا عنهما- قال: "ف ص ل القرآن من الذكر فو ض ع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى هللا عليه وسلم" ج- وعن ابن عباس -رضي هللا عنهما- قال: "أ نزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان هللا ي نزله على رسوله -صلى هللا عليه وسلم- بعضه في إثر بعض" د- وعن ابن عباس -رضي هللا عنهما- قال: "أ نزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أ نزل ن جوم ا"
2- المذهب الثاني: وهو الذي ر و ي عن الشعبي : أن المراد بنزول القرآن في اآليات الثالث ابتداء نزوله على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- فقد ابتدأ نزوله في ليلة القدر في شهر رمضان وهي الليلة المباركة ثم تتابع نزوله بعد ذلك متدرج ا مع الوقائع واألحداث في قرابة ثالث وعشرين سنة فليس للقرآن سوى نزول واحد هو نزوله م ن ج م ا على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- ألن هذا هو الذي جاء به القرآن: }و ق ر آن ا ف ر ق ن اه ل ت ق ر أ ه ع ل ى الن اس ع ل ى م ك ث و ن ز ل ن اه ت ن ز يال } وجادل فيه المشركون الذين ن ق ل إليهم نزول الكتب السماوية السابقة جملة واحدة: }و ق ال ال ذ ين ك ف ر وا ل و ال ن ز ل ع ل ي ه ال ق ر آن ج م ل ة و اح د ة ك ذ ل ك ل ن ث ب ت ب ه ف ؤ اد ك و ر ت ل ن اه ت ر ت يال و ال ي أ ت ون ك ب م ث ل إ ال ج ئ ن اك ب ال ح ق و أ ح س ن ت ف س ير ا{ وال يظهر للبشر مزية لشهر رمضان وليلة القدر التي هي الليلة المباركة إال إذا كان المراد باآليات الثالث نزول القرآن على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- وهذا يوافق ما جاء في قوله تعالى بغزوة بدر: }و م ا أ ن ز ل ن ا ع ل ى ع ب د ن ا ي و م ال ف ر ق ان ي و م ال ت ق ى ال ج م ع ان و للا ع ل ى ك ل ش ي ء ق د ير {. وقد كانت غزوة بدر في رمضان. ويؤيد هذا ما عليه المحققون في حديث بدء الوحي عن عائشة قالت: "أول ما ب دئ به رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان ال يرى رؤيا إال جاءت مثل ف ل ق الصبح ثم ح ب ب إليه الخالء فكان يأتي ح راء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة -رضي هللا عنها- فتزوده لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار ح راء. فجاءه الم ل ك فيه فقال: اقرأ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم: "فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغط ن ي حتى بلغ مني الج ه د ثم أرسلني" فقال: اقرأ فقلت: "ما أنا بقارئ فغ ط ن ي الثانية حتى بلغ مني الج ه د ثم أرسلني" فقال: اقرأ فقلت: "ما أنا بقارئ فغ ط ن ي الثالثة حتى بلغ مني الج ه د ثم أرسلني فقال: }اق ر أ ب اس م ر ب ك ال ذ ي خ ل ق {.. حتى بلغ: }م ا ل م ي ع ل م { ". فإن المحققين من الشراح على أن الرسول -صلى هللا عليه وسلم- ن ب ئ أوال بالرؤيا في شهر مولده شهر ربيع األول ثم كانت مدتها ستة أشهر ثم أ و حي إليه يقظة في شهر رمضان ب "اقرأ" وبهذا تتآزر النصوص على معن ى واحد. 3- وهناك مذهب ثالث: يرى أن القرآن أ نزل إلى السماء الدنيا في ثالث وعشرين ليلة قدر في كل ليلة منها ما ي ق د ر هللا إنزاله في كل السنة وهذا القدر الذي ينزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك م ن ج م ا على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- في جميع السنة. وهذا المذهب اجتهاد من بعض المفسرين وال دليل عليه. أما المذهب الثاني الذي ر و ي عن الشعبي فأدلته -مع صحتها والتسليم بها- ال تتعارض مع المذهب األول الذي ر و ي عن ابن عباس. فيكون نزول القرآن جملة وابتداء نزوله مفرق ا في ليلة القدر من شهر رمضان وهي الليلة المباركة. فالراجح أن القرآن الكريم له تنزالن: األول: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا. والثاني: نزوله من السماء الدنيا إلى األرض مفرق ا في ثالث وعشرين سنة. وقد نقل القرطبي عن مقاتل بن حيان حكاية اإلجماع على نزول القرآن جملة واحدة من الل و ح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. ونفى ابن عباس التعارض بين اآليات الثالث في نزول القرآن والواقع العملي في حياة الرسول -صلى هللا عليه وسلم- بنزول القرآن في ثالث وعشرين سنة بغير شهر رمضان: عن ابن عباس: "أنه سأله عطية بن األسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: }ش ه ر ر م ض ان ال ذ ي أ ن ز ل ف يه ال ق ر آن { وقوله: }إ ن ا أ ن ز ل ن اه ف ي ل ي ل ة ال ق د ر } وهذا أنزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم وصفر وشهر ربيع فقال ابن عباس: إنه أ نزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أ نزل على مواقع النجوم ر س ال في الشهور واأليام"
وأشار بعض العلماء إلى حكمة ذلك في تعظيم شأن القرآن وتشريف المنز ل عليه قال السيوطي: "قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه وذلك بإعالم سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل ألشرف األمم قد قربناه إليهم لينزله عليهم. ولوال أن الحكمة اإللهية اقتضت وصوله إليهم م ن ج م ا بحسب الوقائع لهبط به إلى األرض جملة كسائر الكتب المنز لة قبله ولكن هللا باين بينه وبينها فجعل له األمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرق ا تشريف ا للم ن ز ل عليه". وقال السخاوي في جمال القراء: "في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنه عند المالئكة وتعريفهم عناية هللا بهم ورحمته لهم ولهذا المعنى أمر سبعين ألف ا من المالئكة أن ت ش ي ع سورة األنعام وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإمالئه على الس ف ر ة الكرام وإنساخهم إياه وتالوتهم له" 4- ومن العلماء م ن يرى أن القرآن نزل أوال جملة إلى الل وح المحفوظ مستدال بقوله تعالى: }ب ل ه و ق ر آن م ج يد ف ي ل و ح م ح ف وظ {.. ثم نزل من الل وح المحفوظ جملة كذلك إلى بيت العزة ثم نزل مفرق ا فهذه تنزالت ثالثة. وهذا ال يتعارض مع ما سبق أن رجحناه فالقرآن الكريم مثبت في الل وح المحفوظ شأن سائر المغيبات المثبتة فيه والقرآن الكريم نزل جملة من الل وح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا -كما ر و ي عن ابن عباس- في ليلة القدر والقرآن الكريم بدأ نزوله م ن ج م ا -كما يرى الشعبي- على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- في الليلة المباركة ليلة القدر من شهر رمضان إذ ال مانع يمنع من نزوله جملة ومن ابتداء نزوله على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- مفر ق ا في ليلة واحدة وبهذا ينتفي التعارض بين األقوال كلها إذا استثنينا المذهب االجتهادي الثالث الذي ال دليل له. المدة التي نزل فيها القرآن الكريم: نزل القرآن الكريم منجما على محمد في ثالث وعشرين سنة وهو القول الراجح والصحيح في ذلك تبعا للقول بان مدة إقامته عليه السالم في مكة بعد البعثة ثالث عشرة سنة. أما اقامته بالمدنية عشر سنين اتفاقا. بمكة ثالث عشرة سنة يوحي اليه ثم أمر بالهجرة عشر سنين ومات وهو ابن ثالث وستين(. فعن ابن عباس قال: ( بعث رسول هللا ألربعين سنة فمكث بمكة ثالث عشرة سنة يوحى اليهم ثم أمر بالهجرة عشر سنين ومات وهو ابن ثالث وستين( نزول القرآن م ن ج م ا: يقول تعالى في التنزيل: }و إ ن ه ل ت ن ز يل ر ب ال ع ال م ين ن ز ل ب ه الر وح األ م ين ع ل ى ق ل ب ك ل ت ك و ن م ن ال م نذ ر ين ب ل س ان ع ر ب ي م ب ين {. ويقول: }ق ل ن ز ل ه ر وح ال ق د س م ن ر ب ك ب ال ح ق ل ي ث ب ت ال ذ ين آم ن وا و ه د ى و ب ش ر ى ل ل م س ل م ين } ويقول: }ت ن ز يل ال ك ت اب م ن للا ال ع ز يز ال ح ك يم }.. ويقول: }و إ ن ك ن ت م ف ي ر ي ب م م ا ن ز ل ن ا ع ل ى ع ب د ن ا ف أ ت وا ب س ور ة م ن م ث ل ه{. ويقول: }ق ل م ن ك ان ع د و ا ل ج ب ر يل ف إ ن ه ن ز ل ه ع ل ى ق ل ب ك ب إ ذ ن للا م ص د ق ا ل م ا ب ي ن ي د ي ه و ه د ى و ب ش ر ى ل ل م ؤ م ن ين {. فهذه اآليات ناطقة بأن القرآن الكريم كالم هللا بألفاظه العربية وأن جبريل نزل به على قلب رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- وأن هذا النزول غير النزول األول إلى سماء الدنيا فالمراد به نزوله م ن ج م ا ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون اإلنزال على أن المقصود النزول على سبيل
التدرج والتنجيم فإن علماء اللغة ي ف ر قون بين اإلنزال والتنزيل فالتنزيل لما نزل مفرق ا واإلنزال أعم. وقد نزل القرآن م ن ج م ا في ثالث وعشرين سنة منها ثالث عشرة بمكة على الرأي الراجح وعشر بالمدينة وجاء التصريح بنزوله مفر ق ا في قوله تعالى: }و ق ر آن ا ف ر ق ن اه ل ت ق ر أ ه ع ل ى الن اس ع ل ى م ك ث و ن ز ل ن اه ت ن ز يال } أي جعلنا نزوله مفرق ا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت ونز لناه تنزيال بحسب الوقائع واألحداث. أما الكتب السماوية األخرى -كالتوراة واإلنجيل والزبور- فكان نزولها جملة ولم تنزل مفرقة يدل على هذا قوله تعالى: }و ق ال ال ذ ين ك ف ر وا ل و ال ن ز ل ع ل ي ه ال ق ر آن ج م ل ة و اح د ة ك ذ ل ك ل ن ث ب ت ب ه ف ؤ اد ك و ر ت ل ن اه ت ر ت يال } 4 فهذه اآلية دليل على أن الكتب السماوية السابقة نزلت جملة وهو ما عليه جمهور العلماء ولو كان نزولها مفرق ا لما كان هناك ما يدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن م ن ج م ا فمعنى قولهم: }ل و ال ن ز ل ع ل ي ه ال ق ر آن ج م ل ة و اح د ة { : ه ال أ نزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب وماله أ نزل على الت ن ج يم ولم أ نزل مفرق ا ولم يرد هللا عليهم بأن هذه س نته في إنزال الكتب السماوية كلها كما رد عليهم في قولهم: }و ق ال وا م ال ه ذ ا الر س ول ي أ ك ل الط ع ام و ي م ش ي ف ي األ س و اق { 5 بقوله: }و م ا أ ر س ل ن ا ق ب ل ك م ن ال م ر س ل ين إ ال إ ن ه م ل ي أ ك ل ون الط ع ام و ي م ش ون ف ي األ س و اق { 1 وكما رد عليهم في قولهم: }أ ب ع ث للا ب ش ر ا ر س وال } 2 بقوله: }ق ل ل و ك ان ف ي األ ر ض م الئ ك ة ي م ش ون م ط م ئ ن ين ل ن ز ل ن ا ع ل ي ه م م ن الس م اء م ل ك ا ر س وال } 3 وقوله: }و م ا أ ر س ل ن ا ق ب ل ك إ ال ر ج اال ن وح ي إ ل ي ه م { 4 بل أجابهم هللا تعالى ببيان وجه الحكمة في تنزيل القرآن م ن ج م ا بقوله: }ك ذ ل ك ل ن ث ب ت ب ه ف ؤ اد ك } أي كذلك أنزل مفر ق ا لحكمة هي: تقوية قلب رسول هللا }و ر ت ل ن اه ت ر ت يال } أي قدرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض أو بيناه تبيين ا فإن إنزاله مفرق ا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ والفهم وذلك من أعظم أسباب التثبيت. والذي استقرئ من األحاديث الصحيحة أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل وقد صح نزول العشر آيات في قصة اإلفك جملة وصح نزول عشر آيات في أول المؤمنين جملة وصح نزول: }غ ي ر أ ول ي الض ر ر } وحدها وهي بعض آية". حكمة نزول القرآن م ن ج م ا: نستطيع أن نستخلص حكمة نزول القرآن الكريم م ن ج م ا من النصوص الواردة في ذلك. ونجملها فيما يأتي: 1- الحكمة األولى: تثبيت فؤاد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم. لقد وجه رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- دعوته إلى الناس فوجد منهم نفور ا وقسوة وتصدى له قوم غالظ األكباد ف ط روا على الجفوة وج ب لوا على العناد يتعرضون له بصنوف األذى والعنت مع رغبته الصادقة في إبالغهم الخير الذي يحمله إليهم حتى قال هللا فيه: }ف ل ع ل ك ب اخ ع ن ف س ك ع ل ى آث ار ه م إ ن ل م ي ؤ م ن وا ب ه ذ ا ال ح د يث أ س ف ا{ 1. فكان الوحي يتنزل على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- فترة بعد فترة بما يثب ت قلبه على الحق وي ش حذ عزمه للمضي قدم ا في طريق دعوته ال يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه. فإنها سحابة صيف عما قريب تنقشع. يبي ن هللا له س نته في األنبياء السابقين الذين ك ذ بوا وأ وذوا فصبروا حتى جاءهم نصر هللا وأن قومه لم يكذبوه إال علو ا واستكبار ا فيجد عليه الصالة والسالم في ذلك الس ن ة اإللهية في موكب النبوة عبر التاريخ التي يتأسى بها تسلية له إزاء أذى قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه }ق د ن ع ل م إ ن ه ل ي ح ز ن ك ال ذ ي ي ق ول ون ف إ ن ه م ال ي ك ذ ب ون ك و ل ك ن الظ ال م ين ب آي ات للا ي ج ح د ون و ل ق د ك ذ ب ت ر س ل م ن ق ب ل ك ف ص ب ر وا ع ل ى م ا ك ذ ب وا و أ وذ وا ح ت ى أ ت اه م ن ص ر ن ا{ }ف إ ن ك ذ ب وك ف ق د ك ذ ب ر س ل م ن ق ب ل ك ج اء وا ب ال ب ي ن ات و الز ب ر و ال ك ت اب ال م ن ير }.
ويأمره القرآن بالصبر كما صبر الرسل من قبله: }ف اص ب ر ك م ا ص ب ر أ ول وا ال ع ز م م ن الر س ل { ويطمئن نفسه بما تكفل هللا به من كفايته أمر المكذ بين: }و اص ب ر ع ل ى م ا ي ق ول ون و اه ج ر ه م ه ج ر ا ج م يال و ذ ر ن ي و ال م ك ذ ب ين أ ول ي الن ع م ة و م ه ل ه م ق ل يال } وهذا هو ما جاء في حكمة قصص األنبياء بالقرآن: }و ك ال ن ق ص ع ل ي ك م ن أ ن ب اء الر س ل م ا ن ث ب ت ب ه ف ؤ اد ك } 2- الحكمة الثانية: التحدي واإلعجاز. فالمشركون تمادوا في غيهم وبالغوا في ع تو هم وكانوا يسألون أسئلة تعجيز وتحد يمتحنون بها رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- في نبوته ويسوقون له من ذلك كل عجيب من باطلهم كعلم الساعة: }ي س أ لون ك ع ن الس اع ة { واستعجال العذاب: }و ي س ت ع ج ل ون ك ب ال ع ذ اب { فيتنزل القرآن بما يبين وجه الحق لهم وبما هو أوضح معنى في مؤدى أسئلتهم كما قال تعالى: }و ال ي أ ت ون ك ب م ث ل إ ال ج ئ ن اك ب ال ح ق و أ ح س ن ت ف س ير ا{ 3 أي وال يأتونك بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة إال أتيناك نحن بالجواب الحق وبما هو أحسن معن ى من تلك األسئلة التي هي م ثل في البطالن. وحيث عجبوا من نزول القرآن م ن ج م ا بي ن هللا لهم الحق في ذلك فإن تحديهم به مفرق ا مع عجزهم عن اإلتيان بمثله أدخل في اإلعجاز وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله ولهذا جاءت اآلية عقب اعتراضهم: }ل و ال ن ز ل ع ل ي ه ال ق ر آن ج م ل ة و اح د ة { أي ال يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن جملة إال أعطيناك من األحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معن ى في إعجازهم وذلك بنزوله مفرق ا ويشير إلى هذه الحكمة ما جاء ببعض الروايات في حديث ابن عباس عن نزول القرآن: "فكان المشركون إذا أحدثوا شيئ ا أحدث هللا لهم جواب ا" 3- الحكمة الثالثة: تيسير حفظه وفهمه. لقد نزل القرآن الكريم على أمة أمية ال تعرف القراءة والكتابة سجلها ذاكرة حافظة ليس لها دراية بالكتابة والتدوين حتى تكتب وتدو ن ثم تحفظ وتفهم: }ه و ال ذ ي ب ع ث ف ي األ م ي ين ر س وال م ن ه م ي ت ل و ع ل ي ه م آي ات ه و ي ز ك يه م و ي ع ل م ه م ال ك ت اب و ال ح ك م ة و إ ن ك ان وا م ن ق ب ل ل ف ي ض الل م ب ين } 1 }ال ذ ين ي ت ب ع ون الر س ول الن ب ي األ م ي { 2 فما كان لألمة األمية أن تحفظ القرآن كله بيسر لو نزل جملة واحدة وأن تفهم معانيه وتتدبر آياته فكان نزوله مفرق ا خير عون لها على حفظه في صدورها وفهم آياته كلما نزلت اآلية أو اآليات حفظها الصحابة وتدبروا معانيها ووقفوا عند أحكامها واستمر هذا منهج ا للتعليم في حياة التابعين عن أبي نضرة قال: "كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالع شي ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات" وعن خالد بن دينار قال: "قال لنا أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي -صلى هللا عليه وسلم- كان يأخذه من جبريل خمس ا خمس ا" وعن عمر قال: "تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي -صلى هللا عليه وسلم- خمس ا خمس ا" 4- الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع. فما كان الناس ليسلس قيادهم طفرة للدين الجديد لوال أن القرآن عالجهم بحكمه وأعطاهم من دوائه الناجع جرعات يستطبون بها من الفساد والرذيلة وكلما حدثت حادثة بينهم نزل الحكم فيها ي جل ي لهم صبحها ويرشدهم إلى الهدى ويضع لهم أصول التشريع حسب المقتضيات أصال بعد آخر فكان هذا طب ا لقلوبهم.
لقد كان القرآن الكريم بادئ ذي بدء يتناول أصول اإليمان باهلل تعالى ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار ويقيم على ذلك الحجج والبراهين حتى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنية ويغرس فيها عقيدة اإلسالم. وكان يأمر بمحاسن األخالق التي تزكو بها النفس ويستقيم عوجها وينهى عن الفحشاء والمنكر ليقتلع جذور الفساد والشر. ويبي ن قواعد الحالل والحرام التي يقوم عليها صرح الدين وترسو دعائمه في المطاعم والمشارب واألموال واألعراض والدماء. ثم تدرج التشريع باألمة في عالج ما تأصل في النفوس من أمراض اجتماعية. بعد أن شرع لهم من فرائض الدين وأركان اإلسالم ما يجعل قلوبهم عامرة باإليمان خالصة هلل تعبده وحده ال شريك له. كما كان القرآن يتنزل وفق الحوادث التي تمر بالمسلمين في جهادهم الطويل إلعالء كلمة هللا. ولهذا كله أدلته من نصوص القرآن الكريم إذا تتبعنا مكيه ومدنيه وقواعد تشريعه. ففي مكة ش رعت الصالة وش رع األصل العام للزكاة مقارن ا بالربا: }ف آت ذ ا ال ق ر ب ى ح ق ه و ال م س ك ين و اب ن الس ب يل ذ ل ك خ ي ر ل ل ذ ين ي ر يد ون و ج ه للا و أ و ل ئ ك ه م ال م ف ل ح ون و م ا آت ي ت م م ن ر ب ا ل ي ر ب و ا ف ي أ م و ال الن اس ف ال ي ر ب وا ع ن د للا و م ا آت ي ت م م ن ز ك اة ت ر يد ون و ج ه للا ف أ و ل ئ ك ه م ال م ض ع ف ون }. ونزلت سورة األنعام -وهي مكية- تبي ن أصول اإليمان وأدلة التوحيد وتندد بالشرك والمشركين وتوضح ما يحل وما يحرم من المطاعم وتدعو إلى صيانة حرمات األموال والدماء واألعراض: }ق ل ت ع ال و ا أ ت ل م ا ح ر م ر ب ك م ع ل ي ك م أ ال ت ش ر ك وا ب ه شيئ ا و ب ال و ال د ي ن إ ح س ان ا و ال ت ق ت ل وا أ و الد ك م م ن إ م الق ن ح ن ن ر ز ق ك م و إ ي اه م و ال ت ق ر ب وا ال ف و اح ش م ا ظ ه ر م ن ه ا و م ا ب ط ن و ال ت ق ت ل وا الن ف س ال ت ي ح ر م للا إ ال ب ال ح ق ذ ل ك م و ص اك م ب ه ل ع ل ك م ت ع ق ل ون و ال ت ق ر ب وا م ال ال ي ت ي م إ ال ب ال ت ي ه ي أ ح س ن ح ت ى ي ب ل غ أ ش د ه و أ و ف وا ال ك ي ل و ال م يز ان ب ال ق س ط ال ن ك ل ف ن ف س ا إ ال و س ع ه ا و إ ذ ا ق ل ت م ف اع د ل وا و ل و ك ان ذ ا ق ر ب ى و ب ع ه د للا أ و ف وا ذ ل ك م و ص اك م ب ه ل ع ل ك م ت ذ ك ر ون }. ثم نزل بعد ذلك تفصيل هذه األحكام. فأصول المعامالت المدنية نزلت بمكة ولكن تفصيل أحكامها نزل بالمدينة كآية المداينة وآيات تحريم الربا. وأسس العالقات األسرية نزلت بمكة أما بيان حقوق كل من الزوجين وواجبات الحياة الزوجية وما يترتب على ذلك من استمرار العشرة أو انفصامها بالطالق أو انتهائها بالموت ثم اإلرث أما بيان هذا فقد جاء في التشريع المدني. وأصل الزنا ح رم بمكة: }و ال ت ق ر ب وا الز ن ى إ ن ه ك ان ف اح ش ة و س اء س ب يال } المترتبة عليه نزلت بالمدينة. وأصل حرمة الدماء نزل بمكة: }و ال ت ق ت ل وا الن ف س ال ت ي ح ر م للا إ ال عقوباتها في االعتداء على النفس واألطراف تزل بالمدينة. وأوضح مثال لذلك التدرج في التشريع: تحريم الخمر. ب ال ح ق { ولكن العقوبات ولكن تفصيل فقد نزل قوله تعالى: }و م ن ث م ر ات الن خ يل و األ ع ن اب ت ت خ ذ ون م ن ه س ك ر ا و ر ز ق ا ح س ن ا إ ن ف ي ذ ل ك آل ي ة ل ق و م ي ع ق ل ون } في مقام االمتنان بنعمه سبحانه - وإذا كان المراد بالس ك ر ما ي س ك ر من الخمر وبالرزق ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالتمر والزبيب - وهذا ما عليه جمهور المفسرين - فإن وصف الرزق بأنه حسن دون وصف الس ك ر ي شعر بمدح الرزق والثناء عليه وحده دون الس ك ر.
ثم نزل قوله تعالى: }ي س أ لون ك ع ن ال خ م ر و ال م ي س ر ق ل ف يه م ا إ ث م ك ب ير و م ن اف ع ل لن اس و إ ث م ه م ا أ ك ب ر م ن ن ف ع ه م ا{ 1 فقارنت اآلية بين منافع الخمر فيما يصدر عن شربها من طرب ونشوة أو يترتب على االتجار بها من ربح ومضارها في إثم تعاطيها وما ينشأ عنه من ضرر في الجسم وفساد في العقل وضياع للمال وإثارة لبواعث الفجور والعصيان ونف رت اآلية منها بترجيح المضار على المنافع. ثم نزل قوله تعالى: }ي ا أ ي ه ا ال ذ ين آم ن وا ال ت ق ر ب وا الص الة و أ ن ت م س ك ار ى{ فاقتضى هذا االمتناع عن شرب الخمر في األوقات التي يستمر تأثيرها إلى وقت الصالة حيث جاء النهي عن قربان الصالة في حال الس ك ر حتى يزول عنهم أثره ويعلموا ما يقولونه في صالتهم. ثم نزل قوله تعالى: }ي ا أ ي ه ا ال ذ ين إ ن م ا ال خ م ر و ال م ي س ر و األ نص اب و األ ز الم ر ج س م ن ع م ل الش ي ط ان ف اج ت ن ب وه ل ع ل ك م ت ف ل ح ون إ ن م ا ي ر يد الش ي ط ان أ ن ي وق ع ب ي ن ك م ال ع د او ة و ال ب غ ض اء ف ي ال خ م ر و ال م ي س ر و ي ص د ك م ع ن ذ ك ر للا و ع ن الص الة ف ه ل أ ن ت م م نت ه ون }. فكان هذا تحريم ا قاطع ا للخمر في األوقات كلها: ويوضح هذه الحكمة ما ر و ي عن عائشة -رضي هللا عنها- قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من الم فص ل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى اإلسالم نزل الحالل والحرام ولو نزل أول شيء: "ال تشربوا الخمر" لقالوا: ال ندع الخمر أبد ا ولو نزل: "ال تزنوا" لقالوا: "ال ندع الزنا أبد ا" 4. وهكذا كان التدرج في تربية األمة وفق ما يمر بها من أحداث فقد استشار رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- صحابته في أسرى بدر فقال عمر: اضرب أعناقهم وقال أبو بكر: أرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء وأخذ رسول هللا - صلى هللا عليه وسلم- برأي أبي بكر فنزل قوله تعالى: }م ا ك ان ل ن ب ي أ ن ي ك ون ل ه أ س ر ى ح ت ى ي ث خ ن ف ي األ ر ض ت ر يد ون ع ر ض الد ن ي ا و للا ي ر يد اآلخ ر ة و للا ع ز يز ح ك يم ل و ال ك ت اب م ن للا س ب ق ل م س ك م ف يم ا أ خ ذ ت م ع ذ اب ع ظ يم {. وأعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين حتى قال رجل: لن ن غ ل ب من قلة فتلقوا درس ا قاسي ا في ذلك ونزل قوله تعالى: }ل ق د ن ص ر ك م للا ف ي م و اط ن ك ث ير ة و ي و م ح ن ي ن إ ذ أ ع ج ب ت ك م ك ث ر ت ك م ف ل م ت غ ن ع ن ك م شيئ ا و ض اق ت ع ل ي ك م األ ر ض ب م ا ر ح ب ت ث م و ل ي ت م م د ب ر ين ث م أ نز ل للا س ك ين ت ه ع ل ى ر س ول ه و ع ل ى ال م ؤ م ن ين و أ نز ل ج ن ود ا ل م ت ر و ه ا و ع ذ ب ال ذ ين ك ف ر وا و ذ ل ك ج ز اء ال ك اف ر ين ث م ي ت وب للا م ن ب ع د ذ ل ك ع ل ى م ن ي ش اء و للا غ ف ور ر ح يم {. ولما توفي عبد هللا بن أ ب ي -رأس المنافقين- "د عي رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- للصالة عليه فقام عليه فلما وقف قال عمر: أعلى عدو هللا عبد هللا بن أ ب ي القائل كذا وكذا والقائل كذا وكذا ي ع د د أيامه. ورسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- يبتسم ثم قال له: "إني قد خ يرت قد قيل لي: }اس ت غ ف ر ل ه م أ و ال ت س ت غ ف ر ل ه م إ ن ت س ت غ ف ر ل ه م س ب ع ين م ر ة ف ل ن ي غ ف ر للا ل ه م { 3 فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غ فر له لزدت عليها" ثم صلى عليه رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- ومشى معه حتى قام على قبره حتى ف ر غ منه قال عمر: فعجبت لي ولجرأتي على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- وهللا ورسوله أعلم فوهللا ما كان إال يسير ا حتى نزلت هاتان اآليتان: }و ال ت ص ل ع ل ى أ ح د م ن ه م م ات أ ب د ا و ال ت ق م ع ل ى ق ب ر ه إ ن ه م ك ف ر وا ب ا لل و ر س ول ه و م ات وا و ه م ف اس ق ون و ال ت ع ج ب ك أ م و ال ه م و أ و الد ه م إ ن م ا ي ر يد للا أ ن ي ع ذ ب ه م ب ه ا ف ي الد ن ي ا و ت ز ه ق أ ن ف س ه م و ه م ك اف ر ون { فما صلى رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- على منافق بعد حتى قبضه هللا عز وجل". وحين تخل ف نفر من المؤمنين الصادقين في غزوة تبوك وأقاموا بالمدينة ولم يجد رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- لديهم عذر ا هجرهم وقاطعهم حتى ضاقوا ذرع ا بالحياة ثم نزل القرآن لقبول توبتهم: }ل ق د ت اب للا ع ل ى الن ب ي و ال م ه اج ر ين و األ نص ار ال ذ ين ات ب ع وه ف ي س اع ة ال ع س ر ة م ن ب ع د م ا ك اد ي ز يغ ق ل وب ف ر يق م ن ه م ث م ت اب ع ل ي ه م إ ن ه ب ه م ر ء وف ر ح يم و ع ل ى الث الث ة ال ذ ين خ ل ف وا ح ت ى إ ذ ا ض اق ت ع ل ي ه م األ ر ض ب م ا ر ح ب ت و ض اق ت ع ل ي ه م أ نف س ه م و ظ ن وا أ ن
ال م ل ج أ م ن للا إ ال إ ل ي ه ث م ت اب ع ل ي ه م ل ي ت وب وا إ ن للا ه و الت و اب الر ح يم }. ويشير إلى هذا ما ر و ي عن ابن عباس في نزول القرآن: "ونز له جبريل بجواب كالم العباد وأعمالهم" 5- الحكمة الخامسة: الداللة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد. إن هذا القرآن الذي نزل م ن ج م ا على رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- في أكثر من عشرين عام ا تنزل اآلية أو اآليات على فترات من الزمن يقرؤه اإلنسان ويتلو سوره فيجده محكم النسج دقيق السبك مترابط المعاني رصين األسلوب متناسق اآليات والسور كأنه عقد فريد نظمت حباته بما لم ي عهد له مثيل في كالم البشر: }ك ت اب أ ح ك م ت آي ات ه ث م ف ص ل ت م ن ل د ن ح ك يم خ ب ير } 1. ولو كان هذا القرآن من كالم الب شر قيل في مناسبات متعددة ووقائع متتالية وأحداث متعاقبة لوقع فيه التفكك واالنفصام واستعصى أن يكون بينه التوافق واالنسجام: }و ل و ك ان م ن ع ن د غ ي ر للا ل و ج د وا ف يه اخ ت الف ا ك ث ير ا{. فأحاديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم -وهي في ذروة الفصاحة والبالغة بعد القرآن الكريم- ال تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة يأخذ بعضه برقاب بعض في وحدة وترابط بمثل ما عليه القرآن الكريم أو ما يدانيه اتساق ا وانسجام ا. فكيف بكالم سائر البشر وأحاديثهم: }ق ل ل ئ ن اج ت م ع ت اإل ن س و ال ج ن ع ل ى أ ن ي أ ت وا ب م ث ل ه ذ ا ال ق ر آن ال ي أ ت ون ب م ث ل ه و ل و ك ان ب ع ض ه م ل ب ع ض ظ ه ير ا{.