الفلسفة العربية الا سلامية إشكالية ونقد د. طيب تيزيني ننطلق في ھذا البحث من أمرين اثنين نرى فيھما تعبيرا عموميا عن خصوصية الفلسفة العربية وتطورھا ما بين القرنين التاسع والثاني عشر أو- إذا اعتبرنا علم الكالم اإلسالمي العربي الفلسفة العربية إياھا في مرحلة اإلرھاص بھا- مابين السابع والثاني عشر. أما األمر األول فھو ذو طابع تكويني يفصح عن الكيفية التاريخية التي كان على الفلسفة المذكورة أن تسلكھا في حين ظھر األمر الثاني بمثابة اإلشكالية الكبرى أو بمثابة إحدى اإلشكاليات الكبرى لتلك األخيرة. فلقد واجه المفكرون العرب اإلسالميون منذ بواكيرھم وضعية فكرية معرفية وأيديولوجية فرضت نفسھا عليھم بحيث تدخ لت في نسيج الفكر الذي أخذوا ينتخبونه ويعملون على تعميمه بقدر ما تسمح بذلك آليات تقسيم العمل السائد سوسيو ثقافيا وسياسيا. وقد تمثلت تلك الوضعية في أن المنظومة االعتقادية والثقافية اإلسالمية كانت قد أعلنت عن نفسھا بوصفھا مق دمة وتمھيدا للفكر العربي كما سيتجلى الحقا في حركتي "أھل السنة والجماعة" و "أھل الرأي". وفي عملية "التدوين" الواسعة النطاق إضافة إلى "علم الكالم" و "الفلسفة" وما اقترن بھا من أنساق ذھنية من نمط التصوفي والمنطق. ونعني بالمنظومة االعتقادية والثقافية اإلسالمية خصوصا الخطاب اإلسالمي المتصل ب "العقل" و "العلم". إن الخطاب اإلسالمي المذكور أتى ليؤكد على أھمية العقل والعلم في الحياة اإلنسانية عموما وعلى صعيد الخيار االعتقادي على نحو مخصص بغض النظر عن أنه (أي الخطاب) يضع اإلسالم والعقل والعلم ضمن عالقة تقوم على التواشج والتوازن. ويظھر ذلك تحديدا في واحدة من القراءات المتعددة والمحتملة للنص الديني األساس (القرآن الكريم) ھي القراءة العقلية". نقول بذلك دون أن نستنبط من مفھوم "العقل" في الخطاب المعني أكثر من كونه داال على صفحة "التعق ل" في شؤون الكون وارتباطه ب "مبدعه أو خالقه" أي الله. وربما نضيف تحديدا أقرب لذلك أن الصفة المذكورة ذات بنية "بسيطة- غير مركب ة" ھي أقرب إلى التأمل الفاحص العضوي منه إلى ممارسة عمليات عقلية تستند إلى المالحظة والفرضية والتحليل والتركيب. إن ذلك مجتمعا صادر-باالعتبار المنطقي- على احتمال سير الفكر العربي اإلسالمي (وض منه الوجه الفلسفي منه) بعيدا عن الخطاب اإلسالمي وأقل من ھذا بصراع معه ذي طابع مكشوف على األقل. لقد أخذ األمر يبدو وكأن النسقين الديني اإلسالمي والفلسفي يمثالن وجھين لمسألة واحدة أو طريقين اثنين يفضيان إلى ھدف واحد وحقيقة واحدة. وفي ھذه الحال كان على الفكر الكالمي والفلسفي أن يدخل "دائرة" تاريخية شبه مغلقة عمل على فتحھا شيئا فشيئا وبكثير من "التقي ة" كي يحقق لنفسه حد ا أوليا وضروريا من "االستقاللية" التي تجعل منه ما ھو عليه أو ماھو صائره. ١
ھكذا كان على اإلرھاصات الفلسفية العربية (اإلسالمية) أن تلف على الخطاب الديني اإلسالمي بھدف االستحواذ على مشروعيتھا باالنطالق من موقع من يستحوذ على عصب المشروعية الذھنية الفكرية استحواذا حاسما. كان عليھا أال تقول "ال" من خارج الخطاب المذكور. بل لم يتح لھا ذلك بوضوح ودون غمغمة حتى من داخله. وھذا ماأسھم باطراد وبصيغ آخذة في الترك ب والتعقد والطرافة في إنتاج نمط من القراءة الفلسفية للنص الديني مفعم باتجاھات مفتوحة من "التأويل" بل من "التفسير" كذلك عمال على تشظية الدالالت البعيدة لذلك النمط وإقصائھا إلى البنية الخفي ة. وكان من نتائج ذلك أن خلق أطيافا من اإلشكال واللبس والتعددية الفھمية المفتوحة جعلت من النص الفلسفي العربي اإلسالمي نصا ولعلنا في "البساطة- تركيبية" ذلك النص امتدادا ل "التقية" التي تحدثنا عنھا بوصفھا أحد أشكال الحقل التاريخي والسوسيو ثقافي الذي تحرك فيه ذلك األخير (أي النص). فمن موقع جدلية السلطة والثقافة التي ھيمنت في بواكير إنتاجه عربيا إسالميا ماكان لنص فلسفي أو مقول فلسفي أو خطاب فلسفي أن يفصح عن نفسه إال وعينه الحذرة المتحفظة على االتجاھات األساسية من ھذه الجدلية. لقد قبع السلطوي (السياسي تحديدا ) في الخلفية البعيدة على اإلنتاج الفلسفي بشخص منتجه أن يضع في حسبانه حضور السلطوي األيديولوجي ممثال خصوصا بفئة الفقھاء. فھؤالء وعلى نحو مخصص في المغرب العربي استطاعوا أن يمارسوا سلطة ذات حدين ح د يتجه نحو الجمھور الواسع من الناس العديمي أو القليلي التمرس بالقضايا الفكرية النظرية عموما والمك ونين أساسا من موقع األيديولوجية الدينية في احتمالھا الجبري وحد يستمد مقوماته من رأس السلطة السياسية. وبمقتضى ذلك كان الفقھاء المعنيون في الموقع الذي يسمح لھم أن يؤل بوا ذلك الجمھور وبمقتضى ذلك كان الفقھاء يؤلبون القيادة الفكرية عموما بقدر ماكانوا كذلك قادرين على تأليب السلطة السياسية وأعوانھا على أولئك. بل إن األمر كان يصل إلى درجة يتمكن فيھا الفقھاء أن يؤلبوا الجمھور على السلطة السياسية ذاتھا بحيث يظھرون وكأنھم أسياد الموقف برمته. وواقع الحال المشخص بتناقضاته وصراعاته وتحالفاته والمصالح المادية والسياسية واالجتماعية الكامنة وراءھا ھو الذي كان من وراء ھذه الصيغة أو تلك التي تظھر في إطار جدلية السلطة والثقافة. إن اإلنتاج الفلسفي العربي اإلسالمي والحال كذلك كان عليه أن يلف عن النص الديني اإلسالمي (القرآن والسنة) بھدف امتالكه مشروعية ظھوره مما امتلك- في األساس- المشروعية األولى والعظمى وھو في ھذا وجد نفسه أمام ثالثة أنماط من "السلطة" تعي ن عليه أن يحاذرھا ويطلب ودھا ويفصح عن نفسه في ضوء اعتبارھا ذات حضور فاعل وھي السلطة السياسية العليا وفئة الفقھاء وجمھور المؤمنين الواسع. ومن ثم فالمنتج الفلسفي وجد نفسه ضمن شرط تاريخي أيديولوجي ومعرفي مزروع ب "قنابل موقوتة" يمكن أن تنفجر مع أي "خلل" قد يحدث على صعيد ھرمية السلطة وفئة الفقھاء وجمھور المؤمنين. وھذا يتضمن احتمال نشوء مثل ذلك الخلل على صعيد العالقة المعقدة والمشحونة غالبا بين الفريقين األولين (السلطة السياسية والفقھاء) دون أن يكون لمنتجي الفلسفة العرب المسلمين دور مباشر في ذلك. ولكن كان على ھؤالء أن يدفعوا ثمنا باھظا حيال ذلك حيال الفقھاء ضد السلطة السياسية المعنية. وإذا وضعنا في اعتبارنا أن الفقھاء من أمثال ابن مسر ة وابن الصالح برزوا بمثابة فز اعة تدميرية في وجه ٢
المتعاملين مع الفكر الفلسفي (في المغرب) فإنه سيغدو في مقدورنا أن نتبي ن كم كان حرجا ومعقدا وقابال لالختراق موقف ھؤالء اآلخرين. لقد ترتبت على ذلك نتائج ذات أھمية حاسمة وذات طابع مرھف في حقل اإلنتاج الفلسفي في المغرب العربي. ھذه النتائج قد نتبي نھا في نسيج النص الفلسفي والخطاب الفلسفي في حينه أي في بنية ھذين اآلخرين وفي اآللية التي كمنت وراء إنتاجھا. ھاھنا يجري الحديث على " صن خفي" و "نص احتمالي" و "نص مسكوت عنه" كلھا ت حيل إلى داللة مركزية تتمثل في أن إنتاجھا لم يتم في حاالت منبسطة ومفتوحة ووفق استقاللية ضرورية- وإن نسبية- تحققھا حيال واقع الحال االجتماعي المشخ ص. بل إن واقع الحال ھذا تد خل في آليات إنتاجھا وفي كيفيات تبنينھا على نحو ضاغط وجامح وعبر إرغامھا على اللھاث وراءه متسق طة احتماالته ومطب اته ومفاجآته وعواقبه. ھكذا تبلور اإلنتاج الفلسفي في المغرب العربي مل وثا بقوة بھوس الواقع المباشر واحتمال لي عنقه وإحالته إلى قبضة الفقھاء أو السلطة السياسية أو كليھما وفق معطيات الجدلية المفتوحة بين السلطة والثقافة والجمھور. وحيث كان األمر كذلك فقد أفضى إلى أن وجد الفالسفة ھناك أنفسھم أمام ضرورة إنتاج فلسفتھم في إطار "وعي مراوغ" يلف على المسائل دون أن يواجھھا عينا الجئا -في ذلك- إلى نسقي ة ترميزية إشارية تطالب متلقي ھا بفك دالالتھا والكشف عن احتماالتھا المفتوحة بكثير من الرھافة والحذر المنھجي المعرفي واأليديولوجي. لقد جاء موت ابن باجه مسموما كما يجمع كثير من الباحثين تحذيرا لمعاصريه وأخالقه وخصوصا منھم ابن طفيل وابن رشد. فاألول منھما لم يترك إمكانية إال توس ل بھا للتأكيد على أن "ال لبيب" وحده ھو الذي يتمكن من استنطاق النص الفلسفي الذي كتبه ومن فھمه وتفكيكه وبالتالي وضع اليد على مراميه "الحقيقية" أما ابن رشد فقد صاغ "نظرية الحقيقتين" بوصفھا واحدة من المحاوالت الكبرى في التاريخ الفلسفي لل ف على الدين (األكثر شرعية ومشروعية في حياة األكثرية في حينه) بھدف استجرار ح د ما من الشرعية النصية الدينية والمشروعية االجتماعية للفلسفة. وبرأينا سوف تبقى ھذه المسألة منتصبة أمام أعين الباحثين ومؤرخي الفلسفة ألمد ليس قصيرا بحيث يتمكنون من استقصائھا والتدقيق فيھا على نحو تحليلي وتركيبي يبي ن اآللية المنھجية التي كمنت وراء إنتاج تلك "النظرية" واألھداف القصي ة "المراوغة" التي أفضت إليھا. ومن ھنا فإن مااستنتجه رھط أو أكثر من الباحثين ومؤرخي الفلسفة من أن الفالسفة العرب المسلمين عامة وبعضھم على نحو التخصيص مثل ابن رشد إي اه قد ذھبوا إلى التمييز بين حقيقتين اثنتين واحدة ل "العامة" وأخرى ل "الخاصة" من باب احتقار أولئك معرفيا وأيديولوجيا وتبجيل ھؤالء كذلك معرفيا وأيديولوجيا أمر اليستقيم مع نتائج القراءة المنطلقة من جدلية السلطة والثقافة والجمھور. ولعلنا ندلل على ذلك بمثل واحد على صعيد ابن رشد وھو أنه في كتابه المھم ش لدى معظم الباحثين العرب والمستشرقين "شرح جمھورية أفالطون" اليربأ بنفسه عن مثل ذلك التحقير ل "العامة" فحسب بل يسعى لتقديم مجتمع فاضل خال من الملكية الفردية االستغاللية ومن االضطھاد االجتماعي للعامة وخصوصا النساء منھم. ٣
ومن طرف مقابل بإمكاننا األخذ بالتمييز بين الحقيقتين المذكورتين من باب ذلك التحقير للعامة ولكن في أوساط الفالسفة والمفكرين الذين رفضوا القول بثنائية الحقيقة وأكدوا على أحاديتھا من موقع الالعقلية. وقد يكون الغزالي في مقدمة من أنجزوا ھذه "األحادية" ضمن الباب األيديولوجي "التحقيري" المذكور. والالفت الد ال ھاھنا يقوم على أن أمثال الغزالي أنتجوا نصوصا مرك بة من نمط الخفي والمسكوت عنه الخ.. فھي نصوص منبسطة تشير ظواھرھا إلى بواطنھا وھذه إلى تلك دون توس طات شائكة. ومن ثم فھي في انبساطھا ذاك تعي نت في بنيات معلنة مكشوفة ومباشرة وصريحة وناجزة (مقابل احتمالية). وليس عصي ا على الضبط ذلك النمط من اإلنتاج الفلسفي حين نضعه في سياق الجدلية المأتي عليھا جدلية السلطة والثقافة والجمھور. فھذا اإلنتاج غالبا ماتم إنجازه في فضاء سلطوي سياسي وجماھيري معلن ومفتوح. بل لعله نظر إليه على أنه حصيلة الفئة المثقفة التي ظھرت بمثابة المدافع الشرعي الحقيقي عن "صفاء العقيدة اإلسالمية" بحيث صودر على ماقد يتشكل من معارضة محتملة من األدبي (الجمھور المؤمن الواسع) ومن األعلى (السلطة السياسية المھيمنة). وفي ھذا السياق بالضبط تبرز المقولة الفقھية والفلسفية الغزالية- وھي ھنا ذات طابع نموذجي تمثيلي عمومي في حقلھا- والتي يمكن وضعھا مقابل "نظرية الحقيقيتين" الر شدية كما حددنا دالالتھا التاريخية واأليديولوجية المشخ صة آنفا : لجم العوام عن علم الكالم (ناھيك عن الفلسفة والعلوم الطبيعية)! وإذا ھاھنا التقي ة وال لف ا وال دورانا على دالالت النص واحتماالت تبنيه. وإذا كان األمر كذلك فإنه يغدو من الوضوح بمكان أن تتم عملية إنتاج النص الفلسفي العربي اإلسالمي ذي البعد المركب وغير المنبسط ضمن شرطين أساسيين كبيرين تدخ ال فيه بحيث تحو ال إلى لحظة من لحظات نسيجه ذاته. األول منھما تمثل في ثالثية السلطة السياسية المھيمنة وفئة الفقھاء والجمھور الواسع من المؤمنين في حين أفصح ثانيھما عن نفسه بصيغة منفتحة باطراد من التناص بين النصوص المنتجة. ومن شأن ذلك وخصوصا الشرط الثاني أنه أسھم بإنتاج عملية من الت راكب بين النصوص أضافت إلى تعقيدھا تعقيدا وإلى فضائھا الخاص فضاءات أخرى مما جعل الباحثين والمؤرخين في تاريخ الفكر عموما والفكر الفلسفي بصورة خاصة يواجھون باطراد السؤال التالي: أين مكمن النص الموضوع تحت مبضع البحث من النصوص األخرى المخترقة له أو المتواطئة معه أو المتممة له على نحو أو آخر وراح األمر يبدو وكأن النص المطلوب تبد د في لجة النصوص المتناص ة معه مما دعا مفكرا مثل ميشيل فوكو إلى التمييز القطعي باالعتبار االبيسيتمولوجي بين "االتصال" و "االنفصال" في التاريخ رافضا األول (االتصال) لصالح الثاني بمس وغ أن من يبحث في حدث تاريخي ماليس بحاجة للبحث فيما "وراءه" من مكونات تاريخية أفضت إليه. وھو بھذا يطالب ب "الحفر" عميقا شاقوليا وليس سطحيا أفقيا للوصول إلى "الحدث- النص" من حيث ھو دون عوالق تحيله إلى ماسبقه. وتابع الباحث (اللسني بارت) ذلك الخط بأن يعلن "موت" منتج الحدث -النص داعيا إلى رؤية ھذا األخير مجتزءا ومنتزعا من سياقه التاريخي واالجتماعي. إن نمطا من ذلك التنظير الالتاريخي قمين بإسدال حجب كثيفة حيال البحث في تاريخ الفلسفة العربية اإلسالمية في مرحلتھا المغربية بكيفية خاصة. ألنه يشطب باستسھال التاريخي ملفت التعقيد الفكري والفني واإلشكاليات الكبرى والصغرى في ھذه الفلسفة ويحرمھا من عملية نشوئھا وتبنينھا وتعضي ھا التاريخية بحيث يطاح بجدلية المتصل منفصال والمنفصل متصال. ٤
من ھنا تتكشف األھمية المنھجية القصوى للبحث في الكيفية التاريخية التي سلكتھا الفلسفة العربية في تاريخھا في الفترة المحددة آنفا تلك الكيفية التي اعتبرناھا أحد التعبيرين الحاسمين لخصوصيتھا بحيث نرى أن الكيفية المذكورة لم تنحصر- مع تقادم إنتاج تلك الفلسفة وتعاظمه عمقا وسطحا - في حدود كونھا إطارا سوسيو ثقافيا خارجيا لھذه األخيرة (الفلسفة) في مرحلة اإلرھاص بھا خصوصا. فمن المالحظ المدھش ماحدث الحقا من انغماس ذلك اإلطار في النسيج الفلسفي المنتج بحيث أفضى إلى أن يتحول ھذا اإلطار إلى لحظة من لحظات النسيج المذكور في ثنائية متجادلة بين طرفين يشير الواحد منھما إلى اآلخر ويقتضيه ويشترطه وھما المعرفي الفلسفي واأليديولوجي (السوسيو ثقافي). وعلى سبيل المقارنة التاريخية الفلسفية قد نقول بأن األمر إذا كان كذلك على الصعيد العربي اإلسالمي فإنه في الحقل اليوناني الفلسفي مغاير في أنه قامت بين المعرفي واأليديولوجي فيه عالقة غير مباشرة وغنية مترعة بالتوس طات مما اليسمح بالنظر إلى تاريخ الفلسفة متماثال في العالم بقدر مايتيح النظر إليه عموما في تشخيصه التاريخي الوطني والقومي. وإذا كان األمر في إطار من اتخذوا من "التقي ة" عنصرا بارزا في إنتاجھم الفلسفي (العربي اإلسالمي) فإننا نواجه حالة أخرى مث لھا ذلك الطراز من الفالسفة (والمفكرين) الذين اختاروا ضمن واقع الحال العربي اإلسالمي المشخص- مواجھة الموقف من حيث ھو وبما ھو دونما لجوء للتقي ة بما أنتجته من وعي فلسفي مراوغ (لدى أولئك) وبعيدا عما يقتضيه الل عب على جدلية السلطة الرسمية المھيمنة والفقھاء والجمھور وما تفرضه ھذه من مراوغة أيديولوجية ومعرفية ومنھجية. وقد برز من ھؤالء أمثال ابن طالوت وأبو عيسى الوراق وابن الوراق وابن الرواندي ومحمد بن زكريا الرازي. ھاھنا في ھذا الحقل الفلسفي نتبين أمامنا نصا منبسطا مفتوحا كما ھو الحال في النص الذي أنتجه أمثال الغزالي ولكنه -إلى ذلك- نص "م الح ق" يعتبر في عداد "المطلوبين الھاربين أو المھر بين". وبھذا االعتبار فھو يقوم على بنية متوترة وأميل إلى السجالي ة. ومن ثم يغيب عنه النفس الطويل في إنتاجه وإعادة إنتاجه والتدقيق فيه وتعميقه فضال عن إشاعته وتعميمه وتسويقه. إذ ھاھنا قد يتحدد حقل التعميم والتسويق في نخب ثقافية مفكرة تنحو نحو المعارضة السياسية واأليديولوجية لأليديولوجيا السلطوية والفقھية المھيمنة أو نحو االستقالل الفكري والفلسفي. إن ذلك النص المنبسط المفتوح والمتوتر والم الح ق لم ت ت ح له إمكانية فعل فكري تاريخي واسع عمقا وسطحا أو ربما سطحا بصورة خاصة على مستوى الجمھور المؤمن الكبير. فقد ظل في عموم الموقف حبيس المجموعات المثقفة المعارضة والمناھضة ل "النص المھيمن" و "السياسة المھيمنة" و "الفقه المھيمن". ومن ثم فإن الفعل التاريخي في التاريخ الفلسفي العربي اإلسالمي كان من نصيب أولئك الذين تماھوا مع السلطة السوسيو ثقافية وأولئك الذين راوغوا في ھذا وعملوا على اختراق ھذه السلطة في األعلى السياسي المھيمن" واألوسط الفقھي والقاع الجماھيري) واآلن حين نتجه نحو األمر الثاني الذي يعبر تعبيرا عموميا عن خصوصية الفلسفة العربية ويظھر في الوقت ذاته بمثابته اإلشكالية الكبرى أو إحدى اإلشكاليات الكبرى فيھا فإنه سيفصح عن نفسه من حيث ھو ومن موقع األمر األول من الخصوصية المذكورة المأتي عليه فيما سبق. نعني بذلك محاوالت الفالسفة العرب اإلسالميين الدؤوبة لرفع ثنائية "الفاعل ٥
والمفعول- الله والعالم" وتجاوزھا باتجاه توحيدية. ويالحظ أن ذلك أفصح عن نفسه بصفتي نسقين اثنين واحد فلسفي وآخر صوفي نظري. وفي كلتا الصفتين نضع يدينا على محاولة حثيثة ولكن غالبا مضم نة إلبراز اإلنساني إزاء اإللھي وللنظر إلى الواحد منھما في ضوء اآلخر. لقد برز الصراع السوسيو ثقافي والسياسي الذي دارت رحاه بين المنافحين عن "الحق اإللھي المقدس" في الحاكمية (الخالفة أو اإلمارة) وبين خصومھم مم ن قالوا عموما وإجماال بحاكمية تنتمي للبشر في نظامھم االجتماعي الوضعي لقد رك ز في ھذا المضمار على المقولة التالية بعد استبدال أخرى بھا وھي "الوجود وال موجود إال الله" مقابل تلك: "ال إله إال الله". ولعلنا نقرأ في عملية ذلك التحول خطابا أيديولوجيا يحيل -ھنا أيضا عموما وإجماال - إلى المعارضة السياسية واأليديولوجية التي راحت تنتشر في معظم أمصار الدولة العربية اإلسالمية إن أنسنة إإلله وتأليه اإلنسان باعتبار أخالقي قيمي لدى البعض ووجودي لدى بعض آخر كان من مقتضيات الرد على واقع الحال الفكري والعقيدي األيديولوجي في أوساط اإلسالم السلطوي السياسي المھني. فإذا كان من عناصر األلوھية في فھم ھذا األخير "المفارقة" و "العلوية" فإن الرد عليه أتى بمثابة إقصاء لھذين العنصرين بھدف دفع األلوھية باتجاه اإلنسان واالقتراب الحميمي منه. وبھذا االعتبار كان ذلك الرد- كذلك- تعبيرا عن مواجھة الفقھاء وفريق من الكالميين في تفقيھھم وتعقيدھم الص ارمين الالإنسيين لمبادئ اإلسالم وشرائط التعامل معه. ويالحظ أن نمطا آخر من مواجھة ذلك تبلور في أوساط "اإلسالم الشعبي" وذلك عبر التركيز على شخصية النبي بصورة رئيسة وحاسمة وتحويلھا إلى حالة حميمية (إلھامية ملھمة) متصلة بالناس دون حجب مع النظر إلى "الله" كقوة عليا علوية ومفارقة. وإذا قلنا إن اإلشكالية المذكورة في الفلسفة العربية اإلسالمية لم تظھر من حيث ھي ) يأ كمنظومة فلسفية لھا بنيتھا المنطقية ھكذا علنا وجھارا ودون توسطات إال في أوساط من أخذھا من الفالسفة كثنائية مطلقة بين الفاعل والمفعول والله والعالم. أما على صعيد الفالسفة اآلخرين أمثال الكندي (جزئيا ) والفارابي وابن سينا وأبي بكر الرازي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد فلم يكن لھا أن تفصح عن شخصيتھا واتجاھھا خارج نص مرك ب وربما كذلك خفي ومسكوت عنه. ذلك ألنھا - في ھذه الحال- كانت قد مثلت في نظر الم ھ يمن من القراءات ضمن األوساط الفقھية خصوصا - قراءة "باطنية مؤبلة" باعتبار عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه "تلبيس ابليس". ولذلك كان ل "التقية" نصيب أو لي في عملية اإلفصاح عنھا وفي إشاعتھا وتسويقھا. ومن ھنا كذلك أتت قابلة قبوال واسعا ل "تعددية قرائية تأويلية" بل وربما أيضا وفي أحوال معنية ل "تعددية قرائية تفسيرية". وقد كان من شأن ذلك في معظم األحوال أن أنتج التباسات خطيرة في أوساط الباحثين ومؤرخي الفلسفة العربية اإلسالمية بحيث غدا واردا أن نقول عن ھذه األخيرة ماقاله علي ابن أبي طالب عن القرآن الكريم من أنه "حم ال أوجه". وإذا كان األمر المعني ھنا يتصل خصوصا باإلشكالية الفلسفية المركزية المحددة فوق إال أنه قد ينسحب على مشكالت عديدة نواجھھا في الفلسفة المذكورة مثل النفس والرؤية (رؤية الله) والذات والصفات والعل ية الخ... وھذا يفضي بنا إلى مزيد من التعميم في المسألة إذ نعلن أن الفلسفة العربية اإلسالمية اخترقت من ذلك الخطر خطر التقية والحذر والتحفظ فغدت لوحة معرفية وأيديولوجية تحفز على أن تقرأ بأنحاء متعددة ٦
وفي ضوء تعددية تأويلية مفتوحة مع اإلشارة إلى أن ھذا الحكم نسبي ومختلف في انطباقه على مشكالت الفلسفة إياھا. ولكن ھل على الباحث أن يأخذ عملية االختراق المذكورة وما تفضي إليه من تعددية تأويلية على محمل الجد بكيفية مغلقة بحيث ينتقي الحديث على احتمال الوصول إلى "النص األصلي" أي المنظومة الفكرية المعرفية التي أرادھا الفالسفة العرب اإلسالميون تعبيرا عن مقاصدھم لقد طالب ھؤالء قراءھم بشحذ عقولھم وربما كذلك ملكاتھم التخيلية الكتشاف شبكة الدالالت التي قصدوا إليھا والتي ظلت تناور وتراھن على الخروج من حلوقھن والتحرر منھا. ذلك ألن ھذه الدالالت "األصلية" التي تشكل لديھم "الحقيقة" النادرة ندرة "الكبريت األحمر" تمثل ھدف الباحث المؤرخ الفلسفي ورھانه في استنباط مالم يقل علنا وجھارا فظل أسير الغمغمة والتلعثم والجمجمة. وإذا فعلى "من أراد الحق دون جمجمة" كما سيقول ابن طفيل أن يسبر غوره ضمن قاعه المعرفي ولكن دون التنك ب لما يشكل حصارا منھجيا وأيديولوجيا لعملية سبر الغور ھذه لدى الباحث المؤرخ المعني. إن البحث في الفلسفة العربية اإلسالمية ينطلق من أنھا في تجل ييھا الجغرافيين في المشرق العربي ومغربه وفي خصوصيتھا الفلسفية تكو ن وحدة مؤسسة ابيسيتمولوجيا على وحدة إشكالياتھا وآلياتھا والشروط السوسيو ثقافية والتاريخية التي أحاطت بھا وأسھمت في إنتاجھا. وفي ھذا الحقل تندرج ضرورة "الفلسفة األندلسية" بوصفھا تعبيرا عن الفكر الفلسفي المغربي العربي. نقول ھذا وذاك دون غض النظر عن أن ذلك الفكر الفلسفي ظل بطبيعة الحال بخصوصية "مغربية" ھي تعبير عن تشخ ص العام خاص ا. ويھمنا ھنا تناول الفيلسوف ابن طفيل من حيث ھو أنموذج مكثف لما أتينا عليه من ضبط للنحو الفلسفي العربي اإلسالمي ذي الطابع المرك ب وغير المنبسط والمثقل بھواجس "التقية". فھو اليكتفي بتقديم نص من ھذا النمط بل يعلن ھو ذاته بوضوح أن نصه يحتاج قدرة متمرسة لتبي ن أغواره وقاعه وذلك بسبب من أنه أنتجه في ظل تلك الھواجس. يقول ابن طفيل في آخر سفره "حي بن يقظان": "ولم نخل... ما أوعناه ھذه األوراق اليسيرة (من األسرار) عن حجاب (رقيق وستر) لطيف ينھتك سريعا لمن ھو أھله ويتكاثف لمن ال يستحق تجاوزه حتى ال يتعداه". ونالحظ في سياق البحث في نظرية الوجود ونظرية المعرفة عند ابن طفيل أن حديثه عن النظرية الثانية أكثر انبساطا وأقل تركيبا وأحيل إلى الجھر واإلفصاح. فعلى العكس من نظريته في الوجود التي تتعلق بمبادئ كلية تمس أسس التفكير الفلسفي كما الديني بشيء من المباشرة تبدو نظريته في المعرفة حقال قابال للخوض فيه. ذلك ألن مثل ھذا الحديث متحرر عموما من حساسية الميتافيزيقا وما تستتبعه من الھوتيات من الطراز اإلسالمي. عاش ابن طفيل ردحا من الزمن في عھد المنصور يعقوب بن يوسف (وھو من الموحدين الذين حكموا من ١١٤٦ إلى ١٢٦٩). وكان قد ولد في وادي آش من إقليم غرناطة ١١١٠ ومات عام ١١٨٥. وإذا المنظور ھذا قد عمل على التأسيس لنھوض فلسفي عاصره ابن طفيل نفسه وأسھم فيه إال أن الحالة العامة تمثلت في تسلط الفقھاء على السلطة الخالفية وعلى الجمھور المؤمن ٧
الواسع. ومن ھنا ندرك القولة التي أطلقھا أبو يعقوب يوسف في وجه من عارض مذھبه الديني: إما المصحف وسنن أبي داود وإما السيف! ومع ذلك صمد ابن طفيل الذي دخل باب الخالفة من باب الطب (طبيب الخليفة) والحكمة (الفلسفة ھنا). بيد أن صموده ذاك الذي حققه في وجه الوشاة المحافظين المناھضين للفكر العقلي بعامة والفلسفي بخاصة ظل مشحونا بالقلق والتحس ب حيال ماقد يحدث له وھو الطبيب طبيب الخليفة وفيلسوفه. أما اإلنتاج الذي قدمه ابن طفيل على صعيد الفلسفة فلم يتبق منه سوى قصته الفلسفية الشھيرة ب "حي بن يقظان" والتي أتى عنوانھا الكامل على النحو التالي: "رسالة حي بن يقظان في أسرار الحكمة المشرقية استخلصھا من درر جواھر ألفاظ الرئيس أبي علي بن سينا اإلمام الفيلسوف الكامل العارف أبو بكر بن طفيل". في ھذه يسلك ابن طفيل طريق النقائض. ففي المسألة الواحدة يقدم اطروحتين أو احتمالين يضعھما أمام القارئ على نحو تبدوان فيه وكأنھما متساويتان في األھمية والجدارة المعرفية. وعلى القارئ "اللبيب" أن يستنبط مايرى أنه أقرب إلى الترجيح لدى المؤلف ابن طفيل. إن ذلك يظھر بوضوح في مسألتي المعرفة والعالقة بين الفلسفة والدين. فعلى صعيد المسألة األولى تواجھنا إشكالية "مصدر المعرفة" تلك اإلشكالية التي تصفح عن نفسھا بصيغة السؤال التالي: ماھو مصدر المعرفة التي تفضي إلى "الحقيقة" العالم الطبيعي أم العالم "الماورائي- اإللھي" ويلحق بذلك سؤال آخر متمم ھو التالي: ھي من مس وغ للحديث عن مصدر للمعرفة وموضوع لھا في تركيب وجودي (انطولوجي) من نمط "العالم اإللھي" أو "اإلله العالمي" ھاھنا نالحظ تقاطعا في الخطوط بين المسألة المعرفية والمسألة الوجودية (األنطولوجية)! مما يشير إلى استحالة القيام بفصل قطعي بين كلتا المسألتين في اإلطار االبن طفيلي. بيد أن تناول المسألة المعرفية من مدخل آخر غير ذلك الوجودي قد يضع يدنا على اللحظة التي ترجح ھذا أو ذاك من األطروحتين أو ذلك من األطروحة التركيبية الثالثة. أما المدخل الذي نعنيه فيتمثل في تحديد ثالثة أمور ھي األدوات المقوالتية والمفاھيمية المستخدمة في إنتاج المعرفة أوال ومستويات المعرفة القابلة للتحقق ثانيا والسياق أو السياقات التي لتحقق المعرفة فيھا ثالثا. إن قصة حي بن يقظان تضع يدنا على مجموعة من المعقوالت والمفاھيم التي تتم بواسطتھا وتحقق تراكما يجعل من تاريخ المعرفة أمرا ممكنا. من ذلك تبرز "المالحظة" و "التأمل" و"التساؤل" و "المقارنة- الموازنة" و "التجربة" و "الفرضية المضمرة". وجدير باالھتمام العميق أن الشخصية الرئيسة في القصة وھي "حي" حققت من ضروب المعرفة ما أتاح لھا إنتاج عالقات متنامية مع المحيط الطبيعي بمساعدة آخذة في التقدم من "اآلالت المادية". وعلى ھذه الطريق تمكن حي من تحقيق معرفته الحسية بمحيطه الطبيعي لينطلق منھا باتجاه نمط آخر من المعرفة أكثر عمقا وشموال ھو المعرفة العقلية. وإذا كانت المعرفة األولى ذات بعد جزئي مشخص فإن المعرفة األخرى تتحدد بكونھا مجر دة وتنحو نحو العموم والشمول. ومن ثم فھي (أي األخيرة) أكثر إحاطة وجوھرية بحيث تعتبر طريقا إلى المعرفة العلمية والفلسفية. بيد أن ابن طفيل يصل على يدي بطله حي إلى نمط آخر من المعرفة قد يكون جماع القول في نمطي المعرفة السابقين وفي إجمالي المعرفة عامة وھو ماقد ندعوه ب "المعرفة الروحية". وربما كانت ھذه األخيرة لدى فيلسوفنا شكال من أشكال الشعور باالندماج الروحي (العاطفي ٨
النفسي) ھذا االندماج الذي يكتسب طابعا وجوديا كونيا. وبذلك يتضح نوع من التواشج بين تلك المستويات الثالثة من المعرفة انطالقا من أنھا جميعا "معرفة بالوجود المعطى". وھا ھنا تبرز واحدة من سمات نظرية المعرفة لدى ابن طفيل وھي انطالقھا من موقع "إسمي "Nominalism مخالف ومناوئ ل "الواقعية "Relism من حيث األساس االبيسيتمولوجي. فالمفاھيم والمقوالت والفرضيات والمبادئ إن ھي- بحسب ذلك- إال "أسماء" ال وجود لھا إال عبر مسمي اتھا (األشياء والعالقات الطبيعية). ذلك أن الواقعية ترى في تلك األسماء موجودات جوھرية في ذاتھا ناحية في ذلك نحو المثالية األفالطونية. في ھذه المسألة يدل ل ابن طفيل على إدراك "واقعي"- ھنا بمعنى مادي- باألشياء والعالقات الطبيعية كما يعبر عنھا من "أسماء - مقوالت...". ولعلنا نتعمق أكثر في النظرية المعرفية االبن طفيلية إذا وضعنا نتائجھا في السياقات التي تحققت فيھا وھي االجتماعي والتاريخي والتراثي. أما ما يتعلق بسياقھا االجتماعي فيالحظ أن ابن طفيل أراد لشخوص قصته أن تتحرك فيما يبدو أنه موقف عدائي أو رفض للعالقات االجتماعية عموما (وھو كناية مضم نة على الحصار الذي كان يعيشه في مجتمعه بالرغم من منصبه في القصر). فإذا أريد ل "حي" أن ينشأ في عالم طبيعي ال اجتماعي فإن المقصود من ذلك لم يكن رفض المجتمع عامة بقدر ما كان تعبيرا عن رفض لنمط معين من المجتمع (ھو الذي عاش فيه) أوال وعن اإلشارة إلى إمكانية استفتاء البشرية عن "الوحي والنبوة" باكتفائھا بما تحققه من معارف وضعية ثانيا. وھذا ما أشار إليه بحق جميل صليبا وكامل عياد في مقدمة لقصة "حي بن يقظان". وتبرز أھمية ما أنجزه "حي" من تحصيل للمعرفة حيث نضعه في سياقه من تاريخية المعرفة وجدليتھا. فلقد نما "حي" في إطار صيرورة تاريخية حقق فيھا تقدما متصاعدا عبر تماس ه العميق مع محيطه وبواسطة ما أنتجه من آالت مادية. وبھذا تمت عملية أنسنة محيطه وإعادة بنائه من موقع اإلنسان: إن جدلية الذات والموضوع تبرز ھنا بمثابة ضابط بشري تاريخي لعملية األنسنة تلك. ومن ثم فإن ظھور حي بمظھر من يبدأ من "صفر ال تاريخي وال اجتماعي" ھو كما أشرنا تعبير عن رفض خفي للمجتمع في حينه وفي قمته السلطوية والفقھية خصوصا إضافة إلى كونه تعبيرا عن رفض "التقليد- النقل" كمصدر للمعرفة. ومن شأن ذلك أن يضع العملية المعرفية التي أنجزھا حي في سياقھا التراثي. فھي ھنا بمثابة قطع من السابق إلمكانية البدء دونه. ولكنه -مع ذلك- استند في عمليته إلى مالحظته المتدفقة والمتطورة للطبيعة وآلياتھا الفاعلة والمج سدة خصوصا في الكائنات الحية من الحيوان. فكأنما األمر يظھر ھنا بوصفھا تأكيدا على أن البشر قادرون دائما على البدء ب " بدء جديد". وھذا نمط من اإلشارة إلى خلود البشر ضبطه وعبر عنه فالسفة عرب إسالميون أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وكذلك ابن طفيل وذلك بصيغة "العقل الفعال" التي ظھرت لدى ھؤالء بدالالت مختلفة. ولكن موح دة في مسألة الوجود تلك. *** ٩
أخيرا تبرز عالقة الدين بالفلسفة أو الشريعة بالحكمة كما أراد ابن طفيل لھا أن تكون في منظومته الفلسفية. إن ھذه العالقة تفصح عن نفسھا بصيغ إشارية إيمائية في قصة حي بن يقظان وعبر شخصياتھا الثالث حي وأسال وسالمان. فحي المتمرس بالنظر العقلي الذي أفضى بھا إلى درجات عليا من المعرفة وحيدا في الجزيرة يلتقي أسال في مكان ما من ھذه الجزيرة بعد أن يكون ھذا قد غادر جزيرته التي قطنھا مع جمھور واسع من المؤمنين الذي يأخذون ب "الظاھر". أما الشخصية الثالثة وھي سالمان فتمثل الموقف األميل إلى "الظاھر". ويتوافق حي وأسال في أنھما من أھل البحث عن "الحقيقة - الباطن" وعن اآلفاق الخفية للحقائق الخاضعة للتأويل. وتتضح المواقف حين يدعو أسال حي ا لزيارة الجزيرة المنحدر منھا والتي على رأسھا صديقه سالمان. وھناك يشرع حي في محاولة تعليم "الجمھور المؤمن" مبادئ المعرفة "الحقة" وأسرارھا. ولكنه يفاجأ بإعراضھم عنه ومعھم كذلك سالمان نفسه رئيس الجزيرة. ويقرر حي العودة إلى جزيرته ومعه صديقه الجديد أسال. ويتم ذلك حيث يمكث الصديقان المتوافقان في الرأي يتعبدا "على طريقتھما الخاصة وتوجھھما الفكري الخاص". وبذلك تكون الخاتمة حاسمة بالنسبة إلى الجمھور الذي يرفض "التأويل" وبالنسبة إلى حي وأسال اآلخذي ن به. إن ذلك يحمل دالالت مرك زة على الموقف من الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين) عند ابن طفيل. فھو يحسم أمره لصالح األولى تاركا الثانية للجمھور. وينبغي االنتباه إلى أن ھذا الموقف ال يحمل بالضرورة رؤية سوسيولوجية تحقيرية للجمھور بقدر ما يمكن أن يكون داال على الجھود الحثيثة لمنح الحكمة- الفلسفة مشروعيتھا في فضاء إيديولوجي مقصور عموما على الدين. ولذا فربما أراد ابن طفيل أن يحي د "الجمھور المؤمن" في الموقف فيخرجه من دائرة سلطة الفقھاء والسلطة السياسية الھيمنة على حد سواء. لع ل الموقف من العالقة بين الفلسفة والدين لدى ابن طفيل يؤكد ما أتينا عليه في موضع سابق من أن نص ابن طفيل الفلسفي إذ لم تتح له إمكانية التكون على نحو منبسط ومفتوح ومعلن فقد سلك مسلك التقية والترميز الذي إن دل على شيء فإنما يدل على أن "شيئا ما" أراد أال يصرح به وھو مايدخل في تناقض مع المسموح به. وھذا ما يدعم القول بالخصوصية األولى للفلسفة العربية اإلسالمية وھي تلك التي أشرنا بوصفھا الل ف على الموقف األيديولوجي المھيمن وليس مواجھته كما ھو كسبيل النتزاع اإلقرار بالفلسفة وبحد ما من استقالليتھا عن األنساق المعرفية األخرى وعن ذلك الموقف األيديولوجي تحديدا. إن تاريخ الفلسفة العربية اإلسالمية مازال يمثل بنية مفتوحة ومسألة معلقة تحفز على الخوض فيھا وفض مغاليقھا عبر احترام خصوصياتھا أوال ومن موقع السياقات المندرجة فيھا ثانيا. وھذا من شأنه القول بأن البحث في ھذه الفلسفة مدعو لإلقرار بلحظتين اثنتين كبيرتين من لحظات البحث التاريخي الفلسفي عموما وھما االنطالق من داخل الفلسفة المذكورة واستخدام منھج أو مناھج معاصرة في ذلك تستجيب لتلك اللحظة وتتساوق معھا. بل نود القول بأن ما نستخدمه من مناھج وطرائق ھھنا يكون مستجيبا لشرائط البحث التاريخي العلمي بقدر ما يستجيب لمقتضيات مادة البحث (الفلسفة العربية اإلسالمية إياھا) ويسھم في اكتشافھا وضبطھا وقوننتھا. ١٠
وفي مثل ذلك التصور وعبره يصبح واردا التصد ي للنزعات الالتاريخية التي تناولت الفلسفة المذكورة ومنھا بصورة خاصة النزعة المركزية األوروبية وكذلك النزعة المركزية الشرقية. فھاتان كلتاھما تمزق تاريخ الفلسفة وتجزئه وتشطره بحيث ي رفض القول بوجود فلسفة عربية إسالمية حقا (من موقع النزعة األولى) ويرفض القول بوجود فلسفة يونانية حقا (من موقع النزعة الثانية). وفي حالة الفلسفة األولى ينبغي أن يرك ز على ضرورة رفض "نظرية االمتثال" التي ترفض القول بوجود فلسفات خارج الفلسفة اليونانية إذا لم تستجب وتمتثل لمنطلقاتھا األوروبية. وبكلمة إن إقصاءنا نظرية االمتثال ھذه جعلنا نقول بوجود فلسفة عربية إسالمية لھا من الخصوصيات ما يختلف عن خصوصيات الفلسفات األخرى وبصورة خاصة اليونانية مع القول بوجود نواظم عامة بين ھذه مجتمعة تلك النواظم التي تجعل منھا ما ھي عليه أي "فلسفة".... ١١